الفصل الأول

سيدة عظيمة على حصان أبيض

يصدع الصباح بجلَبته مع عبور أول قطار سريع لشارع ألين. تُسمع الصلصلة المتزامنة مع ضوء النهار عبر النوافذ، وتهتز منازل الطوب القديمة، فيتناثر الضوء على عوارض هيكل القطار السريع كقُصاصات ورق برَّاقة.

تترك القطط صفائح القُمامة، ويرجع البق إلى الجدران، تاركًا أطراف الأبدان المتصبِّبة عرقًا، تاركًا أعناق الأطفال الصغار الغضة والقذرة في سُباتها. يتقلَّب الرجال والنساء أسفل البطانيات وأغطية الأسرة فوق المراتب في أركان الغرف، وتندلع حشود من الأطفال شارعةً في الصراخ والركل.

على ناصية شارع ريفرتون، يفرش الرجل الهَرِم ذو اللحية الشبيهة بالقِنَّب الذي لا يعلم أحد أين ينام؛ أوعية المخلَّل. أحواض من الخيار، والفُلفل الحلو، وقشور البطيخ، ومخلَّلات الخردل التي تنثر النباتات المعترشة الملتفة والمحالق الباردة برائحة الفُلفل الرطب التي تتنامى كحديقةٍ ذات مستنقعات مع روائح الأسرة المسكية والصخب النتن للشارع المعبَّد بالحصى المستيقظ أهله لتوِّهم.

يجلس الرجل الهَرِم ذو اللحية الشبيهة بالقِنَّب الذي لا يعلم أحد أين ينام؛ في وسط الأحواض كيونان النبي أسفل يقطينته.

صعد جيمي هيرف أربعة طوابق تُصرصر أدراجها، وقرع بابًا أبيض ملطَّخًا بآثار الأصابع أعلى المقبض حيث يظهر الاسم «ساندرلاند» بأحرف إنجليزية قديمة على بطاقة مثبتة بعناية في مكانها بدبابيس نحاسية. انتظر طويلًا بجوار زجاجة حليب، وزجاجتَي قشدة، وعدد يوم الأحد من صحيفة «نيويورك تايمز». كان ثمة حفيف خلف الباب وصرير خطوة قدم، ثم لم يُسمع شيء. دفع زرًّا أبيض في عضادة الباب.

«وقال إنني مغرم بكِ للغاية يا مارجي، وقالت ادخل من المطر، أنت مبتل تمامًا …» أتت أصوات من ناحية الدرَج: قدم رجل مرتدٍ حذاءً ذا أزرار، وقدمت فتاة ترتدي صندلًا، وذات ساقَين ورديَّين ناعمتَين كنعومة الحرير، الفتاة ترتدي فستانًا منفوشًا وقبعة خادمة ربيعية، والشاب يرتدي صدريةً ذات حواف بيضاء وربطة عنق بألوان الأخضر والأزرق والأرجواني.

«ولكنكِ لست من هذا النوع من الفتيات.»

«كيف لك أن تعرف أي نوع من الفتيات أنا؟»

تبعهما صوتهما متلاشيًا نزولًا على الدرج.

رنَّ جيمي هيرف الجرس مرةً أخرى.

أتى صوت أُنثوي ذو لُثغة عبر فتحة في الباب: «مَن بالباب؟»

«أُريد أن أرى الآنسة برين من فضلكِ.»

لمح كيمونو أزرق يصل إلى ذقن وجه منتفخ. «أوه، لا أعلم ما إذا كانت قد وصلت بعد.»

«قالت إنها ستأتي.»

قالت ضاحكةً من وراء الباب: «حسنًا، هلَّا انتظرت قليلًا حتى يمكنني الابتعاد. ثم يمكنك الدخول. عذرًا ولكن السيدة ساندرلاند كانت تظنك محصِّل الإيجار. إنهم يأتون أحيانًا يوم الأحد لا لشيءٍ إلا لتضليلنا.» انفرجت الفتحة في الباب بابتسامة خَجِلة منها.

«هل أُدخل الحليب؟»

«أوه، أجل واجلس في الردهة وسأستدعي روث.» كانت الردهة شديدة العتمة، وتفوح منها رائحة النوم ومعجون الأسنان وكريم التدليك، وكان هناك غطاء في أحد الأركان لا يزال يحمل آثار الجسم الذي كان يغطِّيه فوق مُلاءته المجعَّدة. قبعات قشية، وأغطية سهرة حريرية، ومعطفان رجاليان معلَّقان في تشابكٍ وتزاحم على قرون شماعة القبعات. أزال جيمي قميصًا داخليًّا نسائيًّا من فوق كرسي هزَّاز وجلس. تسرَّبت أصوات نساء، وحفيف ارتداء ملابس خافت، وضوضاء صُحف يوم الأحد عبر الجدران الداخلية لمختلِف الغرف.

انفتح باب الحمام؛ فشق دفق من ضوء النار المنعكس من مرآةٍ الردهة المعتمة نصفين، وخرج منها رأس ذو شعر كسلك من النحاس وعينَين زرقاوَين داكنتَين في وجه بيضوي أبيض مُشقَّق. ثم تحوَّل الشعر إلى اللون البُني في الردهة فوق ظهر نحيل ترتدي صاحبته قميصًا داخليًّا نسائيًّا بلون اليوسُفي، ويظهر عقباها الورديان المسترخيان من شبشب حمامها مع كل خطوة تخطوها.

كانت روث تنادي عليه من وراء بابها: «مرحى يا جيمي … ولكن يجب ألَّا تنظر إليَّ أو إلى غرفتي.» برز رأس عليه لفائف لتجعيد الشعر كرأس سلحفاء يخرج من صدفتها.

«مرحبًا يا روث.»

«يمكنك الدخول إذا وعدتني بألَّا تسترق النظر … فأنا غير مهندمة وغرفتي في حالة فوضى … لا ينقصني سوى أن أُصفِّف شعري. وبعد ذلك سأكون جاهزة.» كانت الغرفة الرمادية الصغيرة مكدَّسةً بالملابس وصور ممثلي المسرح. جلس جيمي وظهره إلى الباب، حيث نغز أذنه شيء حريري تدلَّى من الشماعة.

«حسنًا، كيف حال الصحفي الشاب؟»

«أغطِّي هيلز كيتشن، إنه حي ضخم. هل حصلتِ على وظيفة بعدُ يا روث؟»

«هممم … ربما يتبلور الكثير من الأمور خلال الأسبوع. ولكنَّ شيئًا لن يحدث. أوه يا جيمي، أنا على وشك أن أُصاب باليأس.» هزَّت شعرها لتتخلَّص من مجعِّدات الشعر، ومشَّطت التموُّجات البُنية الخافتة الجديدة. كان لها وجه جافل وباهت، وفم كبير، وجفنان سفليان أزرقان. «علمت هذا الصباح أنه عليَّ أن أستيقظ وأرتِّب حالي، ولكني لم أستطع. من المحبط للغاية أن تستيقظ دون أن يكون لديك عمل … أحيانًا أظن أنني سآوي إلى الفراش ولن أفعل شيئًا سوى أن أظل مستلقيةً حتى نهاية العالم.»

«مسكينة أيتها العجوز روث.»

رمته بإسفنجة بودرة التجميل التي غطَّت ربطة عنقه وتلابيب بذلته الصوفية الزرقاء بالبودرة. «لا تنعتني بالمسكينة العجوز أيها الجرذ الضئيل.»

«يا له من شيء لطيف تفعلينه بعد كل ما عانيتُه كي أبدو محترمًا … اللعنة عليكِ يا روث! ولم تزُل رائحة مُزيل البُقع عني بعد.»

ألقت روث برأسها للخلف بضحكة صارخة. «أوه، أنت فكاهي للغاية يا جيمي. جرِّب استخدام مكنسة الثياب.»

بوجه متورِّد أخفض ذقنه نافخًا المسحوق عن ربطة عنقه. «مَن تلك الفتاة ذات الهيئة المضحكة التي فتحت لي باب الردهة؟»

همست مقهقهة: «صه، يمكنها سماع كل شيء عبر الجدران الداخلية … إنها كاسي. كاساندرا ويلكنز … كانت تعمل في فرقة رقص مورجان. ولكن ينبغي ألَّا نسخر منها، إنها لطيفة جدًّا. إنني معجبة بها للغاية.» أطلقت صيحةً ضاحكة. «أنت مجنون يا جيمي.» نهضت ولكمته في عضلة ذراعه. «أنت دائمًا تجعلني أتصرَّف كما لو كنت مجنونة.»

«بل هذا من صُنع القدر بكِ … اسمعي، أنا جائع جدًّا. لقد جئت إلى هنا سيرًا على قدمَي.»

«كم الساعة الآن؟»

«لقد تجاوزت الواحدة.»

«أوه يا جيمي، ليس لديَّ إدراك بالوقت … أُتعجبك هذه القبعة؟ … أوه، نسيت أن أخبرك. لقد ذهبت لرؤية آل هاريسون بالأمس. كان الأمر مريعًا حقًّا … لو لم أكن قد وصلت إلى الهاتف في الوقت المناسب وهدَّدت بالاتصال بالشرطة …»

«انظري إلى تلك المرأة الطريفة المنظر في الجهة المقابلة. إن وجهها يشبه تمامًا وجه اللاما.»

«بسببها، أُضطر إلى إغلاق ستائري طوال الوقت …»

«لمَ؟»

«أوه، أنت صغير جدًّا على معرفة هذه الأمور. ستُصدَم يا جيمي.» كانت روث تميل إلى المرآة ممرِّرةً أحمر الشفاه فوق شفتَيها.

«كثير من الأشياء يُدهشني، ولا أرى أن الأمر يهمُّ كثيرًا … ولكن هيا، دعينا نخرج من هنا. الشمس مشرقة بالخارج، والناس يخرجون من الكنيسة ويذهبون إلى منازلهم لالتهام الطعام وقراءة صحف يوم الأحد وسط شجر المطاط …»

«أوه يا جيمي، إنك تُحدث ضجة … دقيقة واحدة. انتبه، إنك تُجعِّد أفضل ثوب عندي.»

كانت فتاة ذات شعر أسود قصير وكنزة صفراء تزيل مُلاءات السرير وتطويها في الردهة. لم يستطع جيمي لوهلةٍ تمييز الوجه الذي رآه عبر الفتحة في الباب بسبب البودرة الكهرمانية اللون وأحمر الشفاه.

«مرحبًا يا كاسي، هذا … معذرةً يا آنسة ويلكنز، هذا هو السيد هيرف. أخبريه بالسيدة التي نراها عبر المَنْوَر، تعرفين سابو الناسك.»

لثغت كاساندرا ويلكنز في الحديث وعبست. «أليست مريعةً يا سيد هيرف … إنها تقول أكثر الأشياء المريعة.»

«إنها تفعل ذلك لمضايقة الناس فحسب.»

«أوه يا سيد هيرف، إنني سعيدة للغاية لأني رأيتك أخيرًا، لا تفعل روث شيئًا سوى الحديث عنك … أوه، أخشى أن يكون طيشًا مني أن قلت ذلك … إنني حمقاء للغاية.»

انفتح الباب في نهاية الردهة، ووجد جيمي نفسه ينظر إلى الوجه الأبيض لرجل معقوف الأنف يرتفع شعره الأحمر في تَلَّتَين غير متساويتَين على كلا جانبَي جزء رأسه ذي الفرق المستقيم. كان يرتدي برنس حمام أخضر من الساتان ونعلًا مغربيًّا أحمر اللون.

قال متشدِّقًا بلكنة أوكسفوردية دقيقة: «كيف الحال يا كاساندرا؟ ما الأخبار اليوم؟»

«لا شيء سوى برقية من السيدة فيتزسيمونز جرين. تريدني أن أذهب لرؤيتها في سكيرديل غدًا للحديث عن مسرح جرين … معذرة، هذا السيد هيرف يا سيد أوجليثورب.» رفع الرجل الأصهب أحد حاجبَيه وخفض الآخر ووضع يده مرتخيةً في يد جيمي.

«هيرف، هيرف … دعني أفكِّر، لست من عائلة هيرف في جورجيا، أليس كذلك؟ هناك عائلة قديمة باسم هيرف في أتلانتا …»

«كلا، لا أظن ذلك.»

«خسارة. كنت أنا وجوسايا هيرف في يوم من الأيام رفيقَين مقربَين. وهو اليوم رئيس أول بنك وطني ويقود مواطني مدينة سكرانتون في ولاية بنسلفانيا، وأنا … مجرد محتال.» عندما هزَّ كتفَيه سقط عنهما برنس الحمام كاشفًا عن صدر أجرد أملس وناعم.

«أنا والسيد أوجليثورب سنغنِّي نشيد الإنشاد. سيقرؤه وأُمثِّله أنا بالرقص. يجب أن تأتي يومًا ما وترانا ونحن نتدرَّب.»

«سُرَّتُكِ كأس مُدَوَّرَةٌ لا يعوزها شراب ممزوج، بَطْنُكِ صُبْرَةُ حِنْطَةٍ مُسَيَّجَةٌ بالسوسن …»

«أوه، لا تشرع في الغناء الآن.» أطلقت ضحكةً مكتومة وضمَّت ساقَيها.

جاء صوت فتاة عميق وهادئ من داخل الغرفة: «أغلِق الباب يا جوجو.»

«أوه، عزيزتي المسكينة إلين، إنها تريد أن تنام … سعيد للغاية بمعرفتك يا سيد هيرف.»

«جوجو!»

«نعم يا عزيزتي …»

عبر النعاس الثقيل الذي شنَّج جيمي، أصابه صوت الفتاة بشعور واخز. وقف مُقيَّدًا في الردهة الكالحة السواد بجوار كاسي دون أن يتلفَّظ بكلمة. تتسلَّل رائحة القهوة والخبز المحمَّص من مكان ما. ثم أتت روث.

«حسنًا يا جيمس، أنا جاهزة … تُرى أنسيت شيئًا؟»

«لا يهمني إذا ما كنتِ قد نسيتِ شيئًا أم لا، إنني أتضوَّر جوعًا.» أمسك جيمي بكتفَيها ودفعها برِفق ناحية الباب. «إنها الساعة الثانية.»

«حسنًا وداعًا عزيزتي كاسي، سأتصل بكِ في حوالي الساعة السادسة.»

«حسنًا يا روثي … سعيدة للغاية بمعرفتك يا سيد هيرف.» انغلق الباب وسط لُثغة كاسي المصحوبة بضحكة مكتومة.

«يا إلهي، هذا المكان يجعلني أستشيط غضبًا.»

«حسنًا يا جيمي، لا تتذمَّر لأنك تريد الطعام.»

«ولكن أخبريني يا روث، مَن يكون السيد أوجليثورب؟ إنه يفوق كل ما رأيته في حياتي.»

«أوه، هل خرج المغرم من عرينه؟» قالت روث ذلك مطلقةً صيحة ضاحكة. خرجا إلى ضوء الشمس المُعكَّر. «هل أخبرك أنه من الفرع الرئيسي لعائلة أوجليثورب في جورجيا؟»

«هل تلك الفتاة الجميلة ذات الشعر النحاسي اللون زوجته؟»

«إن شعر إلين أوجليثورب ضارب إلى الحُمرة. وهي ليست بهذا الجمال كذلك … إنها مجرد طفلة وقد أصبحت متكبِّرةً للغاية بالفعل. كل ذلك لأنها حقَّقت بعض النجاح في عرض «أزهار الخوخ» (بيتش بلوسومز). كما تعلم، شيء من تلك النثرات المبهرة التي تثير الجلبة. تمثيلها لا بأس به.»

«من المؤسف أنها تزوَّجت شخصًا كهذا.»

«لقد فعل أوجلي كل ما يمكن تخيُّله من أجلها. ولولاه لكانت لا تزال في الجَوقة …»

«إنهما كالجميلة والوحش.»

«مِن الأفضل أن تنتبه إذا رمقك بعينَيه يا جيمي.»

«لمَ؟»

«إنه غريب الأطوار يا جيمي، غريب الأطوار.»

اخترق قطارُ سكة حديدية مرتفعة القضبان ضوءَ الشمس فوقهما. كان بإمكانه أن يرى فم روث وهو ينبس بالكلمات.

صاح بصوت يعلو صوت القعقعة المتضائلة: «اسمعي. دعينا نذهب لتناول إفطار متأخِّر في نادي كامبس ثم نتنزَّه في طريق باليساديس.»

«هل جُننت يا جيمي، عن أي إفطار متأخِّر تتحدث؟»

«ستتناولين أنتِ الإفطار، وسأتناول أنا الغداء.»

«سيكون ذلك مضحكًا للغاية.» شبَّكت ذراعها في ذراعه تضحك في صراخ. وأخذت حقيبتها ذات الشبكة الفضية تضرب في مرفقه وهما يسيران.

«وماذا عن كاسي، كاساندرا الغامضة؟»

«ينبغي ألَّا تضحك عليها، إنها رائعة … لولا اقتناؤها للكلب البودل الأبيض الصغير الكريه ذلك. إنها تحتفظ به في غرفتها ولا يتمرَّن مطلقًا ورائحته بشعة. إنها تسكن تلك الغرفة الصغيرة بجوار غرفتي … لديها حاليًّا رفيق دائم …» قهقهت روث. «إنه أسوأ من الكلب البودل. إنهما مخطوبان، ويأخذ منها جميع مالها. لا تخبر أحدًا بالله عليك.»

«أنا لا أعرف أحدًا لأخبره.»

«ثم هناك السيدة ساندرلاند …»

«أوه أجل، لقد لمحتها وهي ذاهبةٌ إلى الحمام، سيدة عجوز ترتدي روبًا مُبطَّنًا وغطاء رأس للنوم وردي اللون.»

أجفلت روث، قائلة: «لقد صدمتني يا جيمي … إنها لا تنفك عن إضاعة طقم أسنانها»، خفض مرورُ قطار سريع صوتَ بقية كلامها. انغلق باب المطعم خلفهما حاجبًا دوي العجلات فوق القضبان.

كانت ثمة أوركسترا تعزف أغنية «عندما يحل وقت إزهار شجر التفاح في نورماندي.» كان المكان مليئًا بأشعة الشمس المائلة التي يتموَّج فيها الدخان، والأكاليل الورقية، ولافتات بالعِبارات «يصلنا الكركند يوميًّا»، و«تناوَل البطلينوس الآن»، و«جرِّب بلح البحر اللذيذ المطهو على البخار بالطريقة الفرنسية» (توصي به وزارة الزراعة). جلسا أسفل لافتة مكتوب عليها بحروف حمراء «حفلات شرائح اللحم البقري في الطابق العلوي» ووخزته روث مغازلةً بأصابع الخبز. «هل تظن يا جيمي أنه سيكون من الدناءة أن أتناول الأسقلوب في الإفطار؟ ولكن أولًا يجب أن أشرب القهوة …»

«سآخذ شريحة لحم صغيرةً وبصلًا.»

«ليس إن كنتَ تنوي قضاء فترة ما بعد الظهيرة معي يا سيد هيرف.»

«أوه حسنًا. سأضع البصل عند قدمَيك يا روث.»

«هذا لا يعني أنني سأسمح لك بتقبيلي.»

«ماذا … في باليساديس؟» قهقهت روث مطلقةً صيحة ضاحكة. تورَّد وجه جيمي قرمزيًّا. «يقول إنه لم يسألكِ عن طلبكِ يا سيدتي.»

•••

تسلَّل ضوء الشمس إلى وجهها عبر الفتحات الصغيرة في حافة قبعتها القشية. كانت تسير بخطًى رشيقة بالغة القصر قيدتها تنورتها الضيقة، وقد وخزها ضوء الشمس مخترقًا الحرير الصيني الرقيق كيدٍ تضرب على ظهرها. في القيظ الشديد اجتازت الشوارع، والمتاجر، والناس في ملابس يوم الأحد، والقبعات القشية، والمظلات، وعربات الترام، وسيارات الأجرة وانعطفت وهَّاجةً حولها كاشطةً إياها بوميض لاسع وحاد كما لو كانت تسير عبر أكوام من القُشارات المعدنية. كانت تتلمَّس طريقها دومًا عبر كتلة متشابكة من الضوضاء الحادة المصرصرة للأسنان كحواف المناشير.

رأت في ميدان لينكولن فتاةً تسير الهوينى عبر الزحام ممتطيةً حصانًا أبيض، تدلَّى شعرها الكستنائي في تموُّجات زائفة متساوية فوق الصهوة الطباشيرية للحصان وفوق الحِلْس ذي الحافة المذهَّبة حيث الأحرف الخضراء القرمزية الأطراف للعلامة التجارية «داندرين». كانت ترتدي قبعة دوللي فاردن خضراء بها ريشة قرمزية، وفي إحدى يدَيها قفاز أبيض ترنَّح في غير اكتراث فوق اللجام، وفي اليد الأخرى تمايل سوط خيل قصير ذو مقبض ذهبي.

شاهدتها إلين وهي تمر، ثم تبعت بقعة خضراء عبر تقاطع طرق إلى المتنزَّه. فاحت رائحة عُشب سفعته الشمس ووطئته أقدام صبية يلعبون البيسبول. كانت جميع المقاعد التي تنعم بالظل ممتلئة. عندما عبرت طريق السيارات المنعطف، غاص الكعب الحاد لحذائها الفرنسي في الأسفلت. كان ثمة بحاران ممدَّدان على الشاطئ في ضوء الشمس، طقطق أحدهما بشفتَيه عندما مرَّت، كان بإمكانها أن تشعر بأعينهما الجشعة كالبحر تلتصق دبقةً في عنقها، وفخذَيها، وكاحلَيها. حاولت منع وركَيها من التأرجح طوال سيرها. كانت الأوراق ذابلةً فوق الشجيرات على طول الطريق. جنوبًا وشرقًا، سيَّجت الأبنية المواجهة لأشعة الشمس المتنزَّه، أما في الغرب فكانت بنفسجيةً مظلَّلة. كان كل شيء مثيرًا للحكة، ومتصبِّبًا بالعرق، ومُغَبِّرًا، ومكبَّلًا برجال الشرطة وملابس يوم الأحد. لمَ تستقل القطار السريع؟ كانت تنظر في العينَين السوداوَين لشاب يرتدي قبعةً قشية وكان يدفع سيارة ستوتز خفيفةً حمراء إلى الحافة. تلألأت عيناه في عينَيها، وهزَّ رأسه للخلف مبتسمًا ابتسامةً مقلوبة، زامًّا شفتَيه بحيث بدتا وكأنهما تمران على وجنتها. سحب ذراع الفرامل وفتح الباب باليد الأخرى. انتزعت ناظرَيها بعيدًا وواصلت السير بذقن مرفوع. تمايلت حمامتان بعنقَين باللون الأخضر المعدني وقوائم مرجانية مبتعدتَين عن طريقها. كان ثمة رجل هَرِمٌ يلاطف سنجابًا مرشدًا إياه إلى بعض الفول السوداني في حقيبة ورقية.

كسا اللون الأخضر بالكامل «سيدة الكتيبة المفقودة» على حصان أبيض … أخضر، أخضر، داندرين … كليدي جوديفا بشعرها الذي يغطيها في شموخ.

اعترض طريقها التمثال الذهبي للجنرال شيرمان. توقَّفت لوهلة تنظر إلى فندق بلازا الذي ومض بياضًا كعرق اللؤلؤ … أجل، هذه هي شقة إلين أوجليثورب … صعدت إحدى حافلات ميدان واشنطن. مرت أمامها الجادة الخامسة لعصر يوم الأحد صدئة، ومغبرَّة، ومحمومة. كان هناك رجل عارض في الجانب المظلَّل يرتدي قبعةً عالية ومعطفًا من الصوف. كانت المظلات، والفساتين الصيفية، والقبعات القشية زاهيةً في ضوء الشمس الذي ومض في الميادين فوق النوافذ العلوية للمنازل، وتمدَّد في شظايا براقة فوق الطلاء السميك لسيارات ليموزين وسيارات الأجرة. فاحت رائحة الجازولين، والأسفلت، والنعناع السنبلي، وبودرة التلك، والعطر من الأزواج الذين يتمايلون أقرب فأقرب معًا على مقاعد الحافلة. وكانت تظهر من نوافذ المتاجر التي تمر بها الحافلة بين الحين والآخر خلف ألواح الزجاج؛ اللوحاتُ والستائرُ باللون الأحمر الداكن، والكراسي الأثرية الملمَّعة. إنه فندق سانت ريجيس. ثم مطعم شيريز. كان الرجل الجالس بجوارها يرتدي طماق كاحل وقفازًا ليموني اللون، ربما كان يعمل مشرف مبيعاتٍ في متجر. عندما مروا بكاتدرائية القديس باتريك، التقط أنفها نفحة من بخور عبر الأبواب الطويلة التي تنفتح على العتمة. ثم مطعم دلمونيكو. وأمامها، كانت ذراع شاب تتسلَّل حول الظَّهر النحيف الذي عليه قماش الفلانيلَّة الرمادي للفتاة بجواره.

«يا إلهي، يا لحظ جو المسكين العاثر، لقد اضطُر أن يتزوَّجها! إنه لم يتعدَّ التاسعة عشرة من عمره.»

«أظن أنك تعتقد أن في هذا حظًّا سيئًا.»

«لم أقصدنا بكلامي يا ميرتل.»

«بل أراهن على أنك قصدتنا. وعلى أي حال، هل رأيت الفتاة من قبل؟»

«أُراهن على أنه ليس له.»

«ماذا؟»

«أعني الطفل.»

«يا لفظاعة كلامك يا بيللي!»

إنه شارع ٤٢. تحالف الاتحاد. نعق صوت متحذلق خلف أذنها: «لقد كان التجمُّع مسليًا للغاية … مسليًا للغاية … كان الجميع هنا. كانت الخُطب سارةً على غير المعتاد؛ فقد ذكَّرتني بالأيام الخوالي.» فندق والدورف. «أليست هذه الأعلام رائعةً يا بيللي … ذلك العلم المَرِح مرفوع لأن السفير السيامي يُقيم هناك. قرأت عنه في الجريدة هذا الصباح.»

عندما يحين موعد فراقنا أنا وأنت يا حبيبي، سأطبع قبلةً فائقة الوصف أخيرةً فوق شفتَيك وأرحل … القلب، يبدأ، الذي هو … النعيم، هذا، وحشة … عندما … عندما أنا وأنت يا حبيبي …

شارع ٨. نزلت من الحافلة ودخلت قبو فندق بريفورت. جلس جورج منتظرًا وظهره إلى الباب يفتح ويُغلق قفل حقيبته. «أخيرًا يا إلين، لقد استغرقتِ وقتًا طويلًا لتحضري … ليس هناك كثيرٌ من الناس وقد انتظرتكِ ثلاثة أرباع ساعة.»

«عليك ألَّا تُوبِّخني يا جورج؛ فقد كنت أقضي أفضل أوقات حياتي. لم أحظَ بوقتٍ جيد كهذا منذ سنوات. لقد قضيت اليوم بأكمله مع نفسي، وقد سرت طوال الطريق من شارع ١٠٥ إلى شارع ٥٩ عبر المتنزَّه. لقد كان مليئًا بأكثر الأشخاص مرحًا.»

«لا بد أنكِ متعبة.» ظلَّ وجهه الضامر حيث ومضت عيناه وسط شبكة من التجاعيد الرفيعة، وأخذ يتقدَّم نحوها بإلحاح كمقدمة سفينة بخارية.

«أعتقد أنك قضيت اليوم بأكمله في المكتب يا جورج.»

«أجل؛ فقد كنت أدرس بعض القضايا. لا يمكنني الاعتماد على أحد في إنجاز الأعمال بدقة حتى الأعمال الروتينية؛ لذلك عليَّ أن أؤدِّيها بنفسي.»

«أتعلم أنني توقَّعت منك أن تقول ذلك؟»

«ماذا؟»

«أعني حول انتظارك ثلاثة أرباع ساعة.»

«أوه، تعرفين دائمًا الكثير يا إلين … أتريدين بعض المعجَّنات مع الشاي؟»

«أوه، ولكني لا أعرف شيئًا عن أي شيء، تلك هي المشكلة … أظن أنني سآخذ ليمونًا من فضلك.»

صلصلت الأكواب بينهما، وعبر دخان السجائر الأزرق، اهتزَّت الوجوه، والقبعات، واللحى، متكرِّرةً ومخضرَّة في المرايا.

دندن صوت امرأة من الطاولة المجاورة: «ولكن يا عزيزي، إنها دائمًا العقدة القديمة ذاتها. قد يصح الأمر مع الرجال ولكنه لا يمت للنساء بصلة» … تبعه نغمات رجل منمَّقة بصوت أجش: «لقد زادت نِسويتكِ حتى شكَّلت حاجزًا منيعًا.» «وماذا إذن إن كنت محبةً لذاتي؟ الرب يعلم أنني عانيت من أجل ذلك.» «إنها النار التي تُطهِّر يا تشارلي …» كان جورج يتحدث، محاوِلًا لفت انتباهها: «كيف حال جوجو الشهير؟»

«أوه، دعنا لا نتحدَّث عنه.»

«كلما قلَّ كلامنا عنه كان ذلك أفضل، أليس كذلك؟»

«اسمع يا جورج، لا أريدك أن تسخر من جوجو؛ في جميع الأحوال هو زوجي حتى نفترق بالطلاق … كلا، لا أريدك أن تضحك. على أي حال فأنت غِرٌّ وبسيط لدرجة لا يمكنك معها فهمه. فجوجو رجل شديد التعقيد فضلًا عن كونه شخصًا مأساويًّا.»

«بالله عليكِ دعينا لا نتحدث عن الأزواج والزوجات. المهم يا عزيزتي إلين هو أنني وأنتِ نجلس هنا معًا دون أن يزعجنا أحد … اسمعي، متى سنتقابل مرةً أخرى، أعني نتقابل حقًّا …»

«لن نتعمَّق في أمرنا هذا، أليس كذلك يا جورج؟» ضحكت ضحكةً هادئةً وفمها في كأسها.

«أوه، ولكني لديَّ الكثير لأقوله لكِ. أُريد أن أسألكِ عن أشياء كثيرة للغاية.»

نظرت إليه ضاحكةً ومعدِّلةً من وضع قطعة صغيرة من تارت الكرز كانت قد تناولت منها قضمةً واحدة بين سَبابتها الوردية المربعة الطرف وإبهامها. «أهكذا تفعل عندما يكون لديك مُذنِب تعيس في منصة الشهود؟ كنت أظن الأمر أقرب إلى الآتي: أين كنت في ليلة الحادي والثلاثين من فبراير؟»

«ولكني جاد للغاية، ذلك ما لا يمكنكِ فهمه، أو ما لا تريدين فهمه.»

وقف شاب بجوار الطاولة، مترنِّحًا بعض الشيء، ينظر للأسفل إليهما. «مرحبًا يا ستان، من أين أتيتَ عليك اللعنة؟» نظر بالدوين لأعلى إليه دون أن يبتسم. «اسمع يا سيد بالدوين، أعلم أن الأمر من الفظاظة بمكان، ولكن هل لي أن أجلس إلى طاولتك قليلًا؟ فهناك شخص يبحث عني ولا يمكنني مقابلته. يا إلهي، تلك المرآة! ولكنهم لن يبحثوا عني أبدًا إن رأوك.»

«هذا يا سيدة أوجليثورب هو ستانوود إيميري، ابن الشريك الأساسي في شركتنا.»

«أوه، من الرائع للغاية مقابلتك يا سيدة أوجليثورب. لقد رأيتكِ ليلة أمس، ولكنكِ لم تريني.»

«هل حضرت العرض؟»

«كدت أقفز فوق أقدام الحضور، لقد كنتِ رائعةً للغاية.»

كانت له بشرة بُنية متورِّدة، وعينان مهمومتان تقتربان نوعًا ما من جسر أنفه الحاد رخو التكوين، وفم كبير لا يسكن أبدًا، وشعر بُني مموج يقف مستقيمًا لأعلى. نظرت إلين من أحدهما إلى الآخر مُقهقِهةً في سرها. كان ثلاثتهم مُتيبِّسين في كراسيهم.

قالت: «لقد رأيت سيدة داندرين اليوم بعد الظهيرة. لقد أبهرتني كثيرًا. فهكذا بالضبط أتخيَّل سيدةً عظيمة على حصان أبيض.»

«بخواتم في أصابع يديها وأجراس في أصابع قدميها، وسيصدر عنها الأذى أينما حلَّت.» ردَّد ستان ذلك سريعًا بصوت منخفض للغاية يكاد يكون غير مسموع.

قالت إلين ضاحكة: «وستصدر عنها الموسيقى أينما حلَّت، أليست كذلك؟» «أقول دائمًا الأذى.»

سأل بالدوين بصوت جاف لا ينم عن ود: «حسنًا، كيف حال الكلية؟»

قال ستان متورِّد الوجه: «أظنها لا تزال على وضعها. أود لو أحرقوها قبل أن أعود إليها.» نهض واقفًا. «اعذرني يا سيد بالدوين … فقد كان اقتحامي شديد الوقاحة.» عندما استدار مائلًا نحو إلين، اشتمَّت رائحة أنفاسه المعبأة برذاذ الويسكي. «أرجوكِ أن تعذريني يا سيدة أوجليثورب.»

وجدت نفسها تمد يدها؛ فاعتصرَتها بشدة يد جافة ونحيلة. خرج بخطًى متأرجحة مصطدمًا بنادل أثناء مروره.

انفجر بالدوين في الحديث قائلًا: «لا يمكنني استيعاب ذلك الجرو اللعين. إن قلب الهَرِم المسكين إيميري يعتصر عليه ألمًا. إنه شديد الذكاء ويتمتع بشخصية جيدة وكل تلك الأمور، غير أن كل ما يفعله هو السُّكر والتسبُّب في المشكلات … أظن أن كل ما يحتاجه هو أن يذهب إلى العمل وأن يتحلَّى ببعض القيم. إن امتلاك الكثير من المال هو مشكلة غالبية صبية الكليات هؤلاء … أوه، ولكن يا إلين حمدًا للرب أننا أصبحنا وحدنا مجددًا. لقد كنت أعمل بلا انقطاع طوال حياتي حتى منذ أن كان عمري ١٤ عامًا. وقد حان الوقت الذي أريد فيه أن أضع جانبًا كل ذلك قليلًا. أريد أن أعيش وأن أسافر وأن أفكر وأن أكون سعيدًا. لا يمكننا تحمُّل إيقاع وسط المدينة كما اعتدت تحمُّله. أريد أن أتعلم كيف ألعب، وكيف أُخفِّف عن نفسي التوتر … وهنا يأتي دوركِ.»

«ولكني لن أُعرِّض نفسي للخطر من أجل أحد.» ضحكت ورمَشَ جفناها.

«دعينا نذهب خارج البلاد إلى مكان ما هذا المساء. لقد كنت أختنق طوال اليوم في المكتب. إنني أكره يوم الأحد على أي حال.»

«ولكن لديَّ بروفة.»

«يمكنك التظاهر بالمرض. سأطلب سيارةً عبر الهاتف.»

«يا إلهي، هذا جوجو … مرحبًا جوجو»، ولوَّحت بقفازها من فوق رأسها.

تقدَّم جون أوجليثورب، وقد وضع على وجهه بودرة التجميل وفمه ترتسم عليه ابتسامة حَذِرة أعلى ياقته الواقفة، بين الطاولات المزدحمة، مادًّا يده المضغوطة بإحكام داخل قفازه الأديمي اللون ذي الخطوط السوداء. «كيف حالكِ يا عزيزتي، إن هذا حقًّا لمن دواعي اندهاشي وسروري.»

«يعرف كل منكما الآخر، أليس كذلك؟ هذا هو السيد بالدوين.»

بمزيج من الإنجليزية والفرنسية: «أستميحك عذرًا إن كنت قد تطفَّلت عليكما … أعني … على محادثتكما الخاصة.»

«لا شيء من هذا القبيل، اجلس وسنتناول شرابًا معًا جميعًا … كنت أتوق لتوي لرؤيتك حقًّا يا جوجو … بالمناسبة، إن لم يكن لديك أي شيء آخر تفعله هذا المساء، فيمكنك التسلُّل إلى المسرح لبعض الوقت. أريد أن أعرف رأيك في قراءتي للدَّور …»

«بالطبع يا عزيزتي، فلا يمكن لشيء أن يسعدني أكثر من ذلك.»

بجسد متوتِّر بالكامل أرجع جورج بالدوين ظهره ويده قابضة على ظهر كرسيه. قطع كلماتِه بحدة كما تُقطع المعادن: «أيها النادل … ثلاث كئوس من السكوتش على الفور لو سمحت.»

أراح أوجليثورب ذقنه على الكرة الفضية في قمة عصاه. واستهلَّ الحديث قائلًا: «إنها الثقة يا سيد بالدوين، الثقة بين الزوج وزوجته شيء جميل حقًّا. إنها لا تتأثر بالمكان والزمان. إذا ذهب أحدنا إلى الصين لألف سنة، فلن يُغيِّر ذلك في عاطفتنا قيد أنملة.»

«كما ترى يا جورج، مشكلة جوجو هي أنه قرأ كثيرًا من أعمال شكسبير في شبابه … ولكن عليَّ أن أذهب وإلا فسيصرخ ميتون فيَّ موبِّخًا مرةً أخرى … تحدَّثا عن العبودية الصناعية. حدِّثه يا جوجو عن العدالة.»

نهض بالدوين. تورَّدت وجنتاه بعض الشيء. وقال وأسنانه مطبقة: «أتسمحين لي أن أُرافقك إلى المسرح؟»

«لا أسمح مطلقًا بأن يرافقني أحد إلى أي مكان … وأنت يا جوجو، عليك أن تظل واعيًا دون سُكر كي تراني وأنا أُمثِّل.»

في الجادة الخامسة، كانت السُّحب الوردية والبيضاء متراصةً بعضها فوق بعض في ريح خفَّاقة جلبت الانتعاش بعد الحديث المتخم وخنقة دخان التبغ وشراب الكوكتيل. لوَّحت في سعادة لسائق سيارة الأجرة مودِّعةً وابتسمت له. ثم وجدت أن عينَين قلقتَين تنظران إلى عينَيها بجدية من وجه بُني مرفوع الحاجبَين.

«انتظرت لأراكِ تخرجين. هل يمكنني أنا أُرافقك لمكان ما؟ إن سيارتي الفورد عند الناصية … أرجوكِ.»

«ولكني ذاهبة إلى المسرح فحسب. لديَّ بروفة.»

«حسنًا، دعيني أصطحبكِ إلى هناك.»

شرعت في ارتداء قفازها بتمعُّن. «حسنًا، ولكنه عبء ثقيل عليك.»

«لا بأس. يمينًا من هنا … كانت وقاحة كبيرة مني أن أقطع طريقكِ بتلك الطريقة، أليس كذلك؟ ولكن تلك قصة أخرى … على أي حال فقد قابلتكِ. اسم سيارتي الفورد هو دينجو، ولكن تلك قصة أخرى أيضًا …»

«بصرف النظر عن أي شيء، فمن اللطيف مقابلة شاب لديه مشاعر إنسانية. ليس هناك شباب لديهم مشاعر إنسانية في نيويورك.»

أصبح وجهه قرمزيًّا عندما مال لتشغيل السيارة. «أوه، إنني صغير السن للغاية.»

نفث المحرِّك، وبدأ العملَ مصدرًا زئيرًا. قام من مكانه وأغلق صمام الوقود بيده الطويلة. «سيُقبَض علينا على الأرجح؛ فخافض الصوت في السيارة مفكوك وقد يتعطَّل.»

مرَّا في شارع ٥٤ على فتاةٍ تسير الهوينى عبر الزحام ممتطيةً حصانًا أبيض، كان شعرها الكستنائي يتدلَّى في تموُّجات زائفة متساوية فوق الصهوة الطباشيرية للحصان وفوق الحِلْس ذي الحافة المُذهَّبة حيث الأحرف الخضراء القرمزية الأطراف للعلامة التجارية «داندرين».

غنَّى ستان وهو يضغط على بوق السيارة: «خواتم في أصابع يدَيها وأجراس في أصابع قدمَيها، وستُعالج قشرة الشعر أينما ظهرت.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤