الفصل الثالث

ضجة سريعة

رحلت الشمس إلى نيوجيرسي، أصبحت الشمس خلف مدينة هوبوكين.

تُسدل الأغطية فوق الآلات الكاتبة، وتُطوى المناضد ذات الأغطية اللفافة، وتصعد المصاعد فارغة، وتهبط مكدسة. الناس في حركتهم كالجَزْر في حي وسط المدينة، وكالفيضان في حي فلاتبوش، ومنطقة وودلاون، وشارع ديكمان، وخليج شيبسهيد، وجادة نيو لوتس، وحي كنارسي.

صُحف وردية، وصُحف خضراء، وصُحف رمادية، «تقارير السوق الكاملة، النهائيات في مدينة هافر دي جريس». تتلوَّى الصُّحف بين الوجوه المتعبة التي أضناها العمل في المتاجر والمكاتب، وأطراف الأصابع المحتقنة، وأمشاط الأقدام المتألمة، رجال غِلاظ يندسُّون في قطار المترو السريع. «فريق سيناتورز ٨، فريق جاينتس ٢، استعادة الديفا لَآلِئها، سرقة ٨٠٠ ألف دولار أمريكي».

تنحسر الحشود في شارع وول ستريت كالجَزْر، وتهب كالمد في حي ذا برونكس.

غابت الشمس في نيوجيرسي.

صاح فيل ساندبورن وقرع بقبضته فوق المكتب: «يا إلهي، لا أظن ذلك … إن أخلاق المرء ليست من شأن أحد. إن عمله هو ما يهم.»

«أحقًّا؟»

«حسنًا، أظن أن ستانفورد وايت قد فعل لمدينة نيويورك أكثر ممَّا فعله أي رجل آخر من الأحياء. لم يكن أحد يعلم بشيء يُسمَّى العمارة قبل مجيئه … ولذلك أطلق ثاو عليه الرصاص بدم بارد ثم هرب بفعلته … وربي لو كان أهل هذه المدينة تجري الدماء في عروقهم لكانوا …»

«إنك تتحمَّس للغاية يا فيل للاشيء.» أخرج الرجل الآخر سيجاره من فمه وأرجع ظهره في كرسيه الدوَّار وتثاءب.

«يا إلهي، أُريد إجازة. يا ربي، سيكون من الجيد الذهاب مجددًا إلى غابات مين القديمة.»

همهم فيل: «وماذا عن المحامين اليهود والقضاة الأيرلنديين …»

«أوه، كفى أيها الرجل الهَرِم.»

«أنت نموذج جيد للمواطن الحريص على المصلحة العامة يا هارتلي.»

ضحك هارتلي وفرك راحة يده فوق رأسه الأصلع. «أوه، ذلك الأمر لا بأس به في الشتاء، ولكني لا أتحمَّله في الصيف … يا إلهي، كل أملي هو إجازة لثلاثة أسابيع بأي حال. ما الذي يعنيني إن قُتل جميع المعماريين في نيويورك ما دام ذلك لا يرفع من سعر الانتقال إلى مدينة نيو روتشيل … لنذهب لتناول الطعام.» أثناء نزولهم في المصعد واصل فيل حديثه. «الرجل الوحيد الآخر الذي عرفته يومًا وكان حقًّا معماريًّا حتى النخاع هو الهَرِم سبيكير، ذلك الرجل الذي عملت لديه أول ما أتيت إلى شمال البلاد، لقد كان كذلك دنماركيًّا صالحًا. المسكين مات بالسرطان قبل عامَين. لقد كان معماريًّا بحق. لديَّ في المنزل مجموعة من الخطط والمواصفات لِمَا أسماه مبنًى مشتركًا … بارتفاع ٧٥ طابقًا تتدرَّج للخلف في شُرفات بما يشبه الحديقة في كل طابق، وفنادق، ومسارح، وحمامات تركية، وبرك سباحة، ومتاجر تجزئة، ومحطة تدفئة، ومساحة تثليج، وسوق كلها في المبنى نفسه.»

«هل كان يتعاطى الكوكايين؟»

«كلا، بالطبع لا.»

كانا يسيران شرقًا بمحاذاة شارع ٣٤، حيث القليل من الناس في منتصف اليوم الخانق. اندفع فيل ساندبورن فجأةً قائلًا: «يا إلهي! الفتيات في هذه البلدة يزددن جمالًا كل يوم. أنت تحب هذه الأزياء الجديدة، أليس كذلك؟»

«بالطبع. كل ما أتمناه هو أن أُصبح أصغر عمرًا كل عام وليس أكبر.»

«أجل فكل ما يمكننا فعله نحن العجائز أن نشاهدهن مارَّات أمامنا.»

«ذلك لحسن حظنا وإلا لاحقتنا زوجاتنا بكلاب الدموم … يا إلهي، عندما أفكِّر في كل ما كان بإمكانه أن يحدث!»

عندما كانا يعبران الجادة الخامسة، وقعت عينا فيل على فتاة في سيارة أجرة. من أسفل حافة سوداء لقبعة صغيرة ذات شريط أحمر أصابت عينان رماديتان عينَيه بشعاع أسود مخضر. ابتلع أنفاسه. تضاءل دوي حركة المرور من بعيد. كان ينبغي ألَّا تبعد ناظرَيها. خطوتان ويفتح الباب ويجلس بجوارها، بجوار رشاقتها جاثمًا كطائر فوق المقعد. قاد السائق بأقصى سرعة. كانت شفتاها مضمومتَين ناحيته، وعيناها تبرقان كطيور رمادية تُرفرف بعد أن أُمسك بها. «أنت، انتبه …» انهالَ عليه من الخلف دوي اصطدام حديد. دارت الجادة الخامسة أمام عينَيه في دُوَّامات حمراء وزرقاء وأرجوانية. يا إلهي! «لا بأس، اتركني. سأنهض وحدي في غضون دقيقة.» «تحرَّك إلى هناك. ارجِع هناك.» سمع أصوات دق، ورأى أعمدةً زرقاء من رجال الشرطة. كلٌّ من ظهره وساقاه ملطخٌ بدماء دافئة. تنبض الجادة الخامسة بصرخات ألم عالية. يصلصل جرس صغير مقتربًا. وهم يرفعونه إلى سيارة الإسعاف، تزعق الجادة الخامسة بنزعات وصرخات مختنقة. رفع عنقه ليراها، بوهن، كسلحفاء انقلبت على ظهرها، ألم تخطف عيناي عينَيها كشَرَك فولاذي يقضم فريسة؟ يجد نفسه يئن. ربما ظلَّت لترى إن كنت قد مت. يخفُت صوت صلصلة الجرس، يصبح أخف أكثر فأكثر في ظلمة الليل.

•••

واصل صوت صلصلة جهاز الإنذار عبر الشارع بلا توقف. وقسَّم نوم جيمي إلى حلقات محكمة كحبَّات في سلسلة. أيقظه قرع على الباب. اعتدل في السرير مترنِّحًا ووجد ستان إيميري، وقد كان وجهه رماديًّا يعلوه الغبار، ويداه في جيبَي معطفه الجلدي الأحمر، ويقف عند مؤخرة السرير. كان يضحك مترنِّحًا للأمام وللخلف على مقدمتَي قدمَيه.

«يا إلهي، كم الساعة الآن؟» اعتدل جيمي في السرير فاركًا عينَيه بأصابعه. تثاءب ونظر حوله بامتعاض مرير إلى ورق الحائط حيث اللون الأخضر الداكن لزجاجات مياه بولند ووتر، وإلى الظل الأخضر المتفرِّق الذي يُدخل قطرات طويلةً من أشعة الشمس، وإلى المدفأة الرخامية التي سدَّها طبق معدني مصقول ومزيَّن برسومات ورود مُحَرشَفة، وإلى روب الحمام الأزرق البالي فوق مؤخرة السرير، وإلى أعقاب السجائر المدهوسة في مَنفَضَة السجائر ذات الزجاج البنفسجي.

كان وجه ستان أحمر وبُنيًّا، وكان يضحك أسفل قناع الغبار الطباشيري. كان يقول: «الحادية عشرة والنصف.»

«دعنا نرَ، تلك ست ساعات ونصف. أظن هذا يفي بالغرض. ولكن ما الذي تفعله هنا بحق الجحيم يا ستان؟»

«أليس لديك رشفة صغيرة من الشراب في أي مكان يا هيرف؟ أنا ودينجو نشعر بالعطش الشديد. لقد قطعنا كل ذلك الطريق الطويل من بوسطن، ولم نتوقَّف سوى مرة واحدة للتزوُّد بالوقود والماء. ولم أنَم منذ يومَين. فقد أردت أن أرى ما إذا كنت سأصمد طوال الأسبوع.»

«يا إلهي، أتمنَّى لو أن بإمكاني أن أصمد الأسبوع كله في الفراش.»

«ما أنت بحاجة إليه هو وظيفة في إحدى الصُّحف كي تظل مشغولًا يا هيرف.»

لفَّ جيمي نفسه بحيث أصبح يجلس على حافة السرير: «ما الذي سيحدث لك يا ستان؟ … هل ستستيقظ صباح يوم من الأيام لتجد نفسك فوق بلاطة رخامية في المشرحة؟»

انبعثت من الحمام رائحة معجون أسنان أشخاص آخرين ومطهِّر الكلوريد. كانت ممسحة الحمام رطبة، وطواها جيمي إلى مربع صغير قبل أن يخلع نعلَيه بحذر. رجَّت المياه الباردة الدماء في عروقه. غطَّس فيها رأسه وقفز ووقف يهتز كالكلب والمياه تنساب إلى عينَيه وأذنَيه. ثم ارتدى روب الحمام ورغَّى وجهه.

تدفَّق أيها النهر
تدفَّق إلى البحر

همهم نشازًا وهو يقشط ذقنه بالشفرة الآمنة. يؤسفني يا سيد دروفير أنني سأترك العمل بعد الأسبوع المقبل. أجل، سأُسافر إلى الخارج؛ إذ سأعمل مراسلًا أجنبيًّا لصالح وكالة «أسوشيتد برس» في المكسيك، لصالح وكالة «يونايتد برس» في أريحا على الأرجح، مراسل في هاليفاكس لصالح «مادتيرتل جازيت». «حلَّ الكريسماس في الحرملك والخصيان في كل مكان.»

… من ضفاف نهر السين
إلى ضفاف ساسكاتشوان.

غمر وجهه بغسول الليسترين، وحزم أدوات عنايته الشخصية في منشفته المبلَّلة، ورجع راكضًا فرِحًا صاعدًا الدرج ذا السجادة الخضراء الذي تفوح منه رائحة الملفوف وإلى الردهة المؤدية إلى غرفة نومه. مرَّ في منتصف الطريق على مالكة المنزل البدينة التي كانت ترتدي غطاء رأس للمنزل، والتي أوقفت مكنسة سجادها لترمق ساقَيه العاريتَين النحيفتَين أسفل روب الحمام الأزرق بنظرة باردة.

«صباح الخير يا سيدة ماجينيس.»

«سيكون الطقس شديد الحرارة اليوم يا سيد هيرف.»

«أظن ذلك.»

كان ستان مستلقيًا في الفراش يقرأ رواية «ثورة الملائكة». «تبًّا، أود لو كنت أعرف بعض اللغات مثلك يا هيرف.»

«أوه، لم أعُد أُجيد الفرنسية. لقد نسيتها أسرع ممَّا تعلَّمتها.»

«بالمناسبة، لقد أُقِلت من الكلية.»

«كيف ذلك؟»

«أخبرَني العميد أنه يظن أنه من المستحسن ألَّا أحضر العام القادم … شعر أن ثمَّة مجالاتٍ من شأن نشاطاتي أن تكون أكثر همة وفعالية فيها. تعرف مثل هذا الهراء.»

«يا له من أمر مؤسف لعين!»

«كلا، إنه ليس كذلك، لقد ضحكت حتى كدت ألفظ أنفاسي. سألته لماذا لم يطردني من قبلُ إن كان قد شعر بذلك. سيستشيط أبي غضبًا … ولكن لديَّ من المال ما يسمح لي بعدم الرجوع إلى المنزل لمدة أسبوع. لا أهتم البتة على أي حال. صدقًا أليس لديك أي شراب؟»

«عجبًا يا ستان، كيف لعبد فقير الأجر مثلي أن يشتري مخزونًا من الخمر بثلاثين دولارًا أمريكيًّا كل أسبوع؟»

«هذه غرفة حقيرة للغاية … كان ينبغي أن تُولد رأسماليًّا مثلي.»

«الغرفة ليست بهذا السوء … ما يجن جنوني هو ذلك الإنذار المذعور في الجهة الأخرى من الشارع الذي يرن طوال الليل.»

«ذلك إنذار سرقات، أليس كذلك؟»

«لا يمكن أن تكون هناك أي سرقات لأن المكان فارغ. لا بد أن الأسلاك تتداخل أو شيء من هذا القبيل. لا أعلم متى يوقف ولكنه أفقدني رشدي حقًّا عندما أويت إلى الفراش هذا الصباح.»

«حسنًا يا جيمز هيرف، أتريد أن تقول لي إنك تعود إلى المنزل غير سكران كل ليلة؟»

«يجب أن يكون المرء أصمَّ كي لا يسمع ذلك الشيء اللعين، سكران كان أو غير سكران.»

«حسنًا، بصفتي حامل سندات ذا جيب منتفخ، أريدك أن تخرج وتتناول الغداء. هل تدرك أنك كنت تتسكَّع في الحمام لمدة ساعة كاملة؟»

نزلا الدرج الذي فاحت منه رائحة صابون الحلاقة، ثم رائحة ملمِّع النحاس، ثم اللحم المقدَّد، ثم شياط الشعر، ثم القُمامة وغاز الفحم.

«إنك محظوظ للغاية يا هيرف إذ لم تذهب إلى كليةٍ قط.»

«ألم أتخرَّج في كولومبيا أيها الرجل المهم، ذلك أكبر مما يمكنك فعله؟»

انقضَّ ضوء الشمس لاسعًا وجه جيمي عندما فتح الباب.

«ذلك لا يُحسب.»

صاح جيمي: «يا إلهي، أُحب الشمس، وَدِدت لو كانت كولومبيا الحقيقية …»

«هل تعني كولومبيا التي في نشيد «تحيا كولومبيا»؟»

«لا، بل أعني مدينة بوجوتا ونهر أورينوكو وكل هذه الأشياء.»

«أعرف رفيقًا جيدًا ذهب إلى بوجوتا. اضطر للشرب بغزارة كي لا يموت بداء الفيل.»

«أنا مستعد للمخاطرة بالإصابة بداء فيل، والطاعون الدملي، والحمَّى المبقَّعة للخروج من هذه الحفرة.»

«إنها مدينة العربدة، والتسكُّع، والمرح …»

«تبًّا للعربدة، كما نقول في شارع ١٣٣ … هل تدرك أنني عشت طوال حياتي في هذه المدينة اللعينة باستثناء أربع سنوات في طفولتي، وأنني وُلدت هنا وعلى الأرجح سأموت هنا؟ … أفكِّر في أن ألتحق بالبحرية وأن أرى العالم.»

«ما رأيك في السيارة دينجو في طبقة طلائها الجديدة؟»

«رائعة للغاية، تبدو كمرسيدس بامتياز تحت الغبار.»

«أردت أن أدهنها باللون الأحمر كسيارات الإطفاء، غير أن عامل المرأب أقنعني في النهاية بطلائها بالأزرق كسيارات الشرطة … هل تمانع أن نذهب إلى موكين وأن نحتسي كوكتيل أفسنتين؟»

«أفسنتين على الإفطار … يا إلهي!»

سارا بالسيارة بمحاذاة شارع ٢٣ الذي يلمع بألواح من الضوء المنعكس من النوافذ، وبأشكال عربات التوصيل المستطيلة، ومعدات النيكل التي تتخذ شكل العدد ثمانية.

«كيف حال روث يا جيمي؟»

«إنها على ما يرام. ولكنها لم تحصل على عمل بعد.»

«انظر، هناك سيارة دايملر.»

هدر جيمي بصوت خافت. عندما انعطفا إلى الجادة السادسة أوقفهما شرطي.

وصاح: «قاطع التيار في سيارتك.»

«أنا في طريقي إلى المرأب لإصلاحه. وخافض الصوت مفكوك.»

«من الأفضل أن تفعل ذلك … ستحصل على مخالفة في المرة القادمة.»

قال جيمي: «مرحى، لقد نفذت بجلدك يا ستان … في كل شيء. لا يمكنني مطلقًا أن أهرب من شيء حتى وأنا أكبر منك بثلاث سنوات.»

«إنها موهبة.»

انتشرت في المطعم رائحة مبهجة من مزيج البطاطس المقلية مع الكوكتيلات والسيجار مع الكوكتيلات. كان المكان حارًّا ومليئًا بالمحادثات والوجوه المتعرِّقة.

«ولكن يا ستان لا تُدِر عينَيك في إيماءة رومانسية عندما تسأل عن روث وعني … فما نحن سوى صديقَين مقربَين.»

«صدقًا لم أعنِ أي شيء، ولكني آسف لِمَا تقول على الرغم من ذلك. أظن أنه أمر فظيع.»

«روث لا تهتم بأي شيء سوى تمثيلها. إنها مهووسة للغاية بالنجاح، وتمتنع عن أي شيء آخر.»

«لماذا بحق السماء يريد الجميع تحقيق النجاح؟ أرغب في مقابلة شخص يريد أن يفشل. ذلك هو الشيء السامي الوحيد.»

«لا ضير في الأمر إن كان لك دخل مريح.»

«ذلك كله هراء … يا إلهي، هذا كوكتيل رائع. أظن أنك يا هيرفي الشخص العاقل الوحيد في هذه المدينة. فليس لديك أي طموح.»

«كيف لك أن تعرف أنه ليس لدي طموح؟»

«ولكن ما الذي ستفعله بالنجاح عندما تحقِّقه؟ لا يمكنك أن تأكله أو تشربه. أفهم بالطبع أن الأشخاص الذين لا يملكون المال الكافي لإطعام أنفسهم وما إلى ذلك عليهم أن يسعَوا ويحصلوا على المال. ولكن النجاح …»

«مشكلتي أنني لا أستطيع أن أقرِّر ما أريده أكثر؛ لذلك فأنا أدور حول نفسي في حركة بائسة ومُثبِّطة على نحو مربك.»

«أوه، ولكن الرب قد اتخذ القرار عنك. أنت تعرف ذلك طوال الوقت، ولكنك لا تعترف لنفسك بذلك.»

«أظن أن أكثر ما أريده هو أن أخرج من هذه المدينة، وأفضِّل أولًا أن أضع قنبلةً أسفل مبنى التايمز.»

«حسنًا، لمَ لا تفعل ذلك؟ ما هي إلا خطوات متتابعة.»

«ولكن عليك أن تعرف في أي اتجاه تسير.»

«هذا آخر ما يهم.»

«ثم يلزمني المال.»

«عجبًا، المال هو أسهل شيء يمكنك الحصول عليه في العالم.»

«ذلك للابن الأكبر لإيميري وإيميري.»

«ويحك يا هيرف، ليس من العدل أن تذكر ظلم والدي في وجهي. تعلم أنني أكره هذا الأمر مثلك تمامًا.»

«لا ألومك يا ستان؛ أنت ابن محظوظ لعين، هذا كل ما في الأمر. بالطبع أنا محظوظ أيضًا، محظوظ بشدة أكثر من غالبية الناس. فقد دعمَتني الأموال التي تركتها أمي حتى أصبحت في الثانية والعشرين من عمري، ولا يزال معي بعض المئات ادَّخرتها للأيام العصيبة، وسيحصل لي زوج خالتي، عليه اللعنة، على وظائف جديدة عندما أُطرَد من عملي.»

«با، با، الخروف الأسود.»

«أظن أنني أخاف حقًّا من أقاربي … يجب أن ترى ابن خالتي جيمس ميريفال. لقد فعل كل ما كان يُملَى عليه أن يفعله طوال حياته وازدهر حاله كشجرة غار خضراء … إنه نموذج الحَصور الحكيم.»

«آه، أظن أنك أحد هؤلاء الحصورين الحمقى.»

«لقد لعب الشراب برأسك يا ستان، وبدأت تتحدَّث كالزنوج.»

«با، با.» أنزل ستان منديل المائدة ورجع إلى الخلف يضحك وقد بُح حلقه.

ازداد الوخز السقيم لرائحة الأفسنتين المنبعثة من كأس جيمي بغزارة كشُجيرة ورد في خدعة سحرية. ارتشفه مجعِّدًا أنفه. قال: «بصفتي أميل إلى النزعة الأخلاقية، أعترض. مرحى، إنه مذهل.»

«ما أُريده هو الويسكي والصودا لإعداد تلك الكوكتيلات.»

«سأشاهدك. أنا رجل عامل. يجب أن أكون قادرًا على التمييز بين الأخبار المناسبة وغير المناسبة … يا إلهي، لا أريد الشروع في الكلام عن ذلك الأمر. الأمر برمته في غاية السخافة … سأقول إن هذا الكوكتيل يدهشك حقًّا.»

«لست بحاجة للتفكير في فعل أي شيء آخر بعد ظهيرة هذا اليوم غير الشراب. هناك شخص أريد أن أعرِّفك به.»

«وأنا سأعتدل في جلستي وأكتب مقالًا.»

«ما هذا؟»

«أوه، شيء تافه يُسمَّى اعترافات صحفي شاب.»

«اسمع، هل اليوم هو الخميس؟»

«نعم.»

«إذن أعلم أين ستكون.»

قال جيمي متجهِّمًا: «سأُغادر كل ذلك في أسرع وقت وأذهب إلى المكسيك وأصنع ثروة … إنني أخسر أفضل سنوات حياتي متعفِّنًا في نيويورك.»

«كيف ستصنع ثروتك؟»

«البترول، الذهب، قطع الطرق، أي شيء إلا العمل في الصحافة.»

«با، با، الخروف الأسود، با، با.»

«توقَّف عن هذا الغناء.»

«هيا نخرج من هنا ونأخذ دينجو لتثبيت خافض صوتها.»

نهض جيمي منتظرًا عند باب المرأب الذي ينبعث منه الدخان الكثيف. تتلوَّى أشعة شمس بعد الظهيرة المعبَّأة بذرات الغبار كديدان لامعة وحارة فوق وجهه ويدَيه. ومضت الحجارة البُنية، والطوب الأحمر، والأسفلت بأحرف اللافتات الحمراء والخضراء، ودارت قُصاصات الورق في المزراب في غشاوة بطيئة حوله. كان اثنان من منظِّفي السيارات يتحدَّثان خلفه:

«أجل، كنت أكسب جيدًا حتى ذهبت وراء تلك المرأة الحقيرة.»

«إنها بالفعل جميلة يا تشارلي. يجب أن أقلق … لم يحدث تغيير بعد الأسبوع الأول.»

أتى ستان خلفه وسحبه إلى الشارع من كتفَيه. «لن تُصلح السيارة قبل الساعة الخامسة. دعنا نأخذ سيارة أجرة … فندق لافاييت» هكذا صاح في السائق وصفع جيمي على ركبته. «حسنًا يا هيرف، أيها الرجل الهَرِم، أتعلم ما قاله حاكم كارولاينا الشمالية لحاكم كارولاينا الجنوبية؟»

«لا.»

«الوقت طويل بين جرعات الشراب.»

كان ستان ينعق بصوت منخفض وهما يندفعان إلى المقهى: «با، با.» ثم صاح ضاحكًا: «إيلي هنا الخِراف السوداء.» تجمَّد وجهه متيبِّسًا فجأة. كان يجلس إلى الطاولة أمام إلين زوجها، رافعًا أحد حاجبَيه عاليًا للغاية والآخر يكاد يلتحم مع رموشه. وُضع إبريق شاي بصفاقة بينهما.

قالت بهدوء: «مرحبًا يا ستان، اجلس.» ثم واصلت الابتسام لوجه أوجليثورب. «أليس هذا رائعًا يا جوجو؟»

قال ستان بصوت أجش: «هذا السيد هيرف يا إيلي.»

«أوه، أنا سعيدة للغاية بمقابلتك. سمعت عنك كثيرًا في منزل السيدة ساندرلاند.»

لاذوا بالصمت. كان أوجليثورب ينقر على الطاولة بملعقته. وقال بنبرة مصطنعة مفاجئة: «عجبًا، كيف حالك يا سيد هيرف؟ ألَا تتذكَّر كيف تقابلنا؟»

«بالمناسبة، كيف هي الأحوال في المنزل يا جوجو؟»

«ممتازة تمامًا، شكرًا لكِ. كاساندرا تركها عشيقها ووقعت أكثر فضيحة مروِّعة لذلك الكائن المسمَّى كوستيلو. يبدو أنها رجعت إلى المنزل في تلك الليلة ثَمِلة تمامًا، يا عزيزتي، وحاولَت أن تصطحب سائق سيارة الأجرة معها إلى غرفتها، وظلَّ الولد المسكين يعترض قائلًا إن كل ما يريده هو أجرته … كان الأمر مروِّعًا.»

نهض ستان واقفًا على قدمَيه بحزم وغادر.

لاذ الثلاثة بالصمت في جلستهم. حاول جيمي تجنُّب التحرُّك بعصبية في كرسيه. كان على وشك النهوض، غير أن شيئًا ناعمًا ومُخمليًّا في عينَيها قد منعه.

سألت: «هل حصلت روث على عمل؟»

«كلا.»

«إنه الحظ الأكثر سوءًا.»

«أوه، إنه أمر مؤسف لعين. أعلم أنها تُجيد التمثيل. المشكلة أنها تتمتَّع بالكثير من حس الدعابة الذي يُعيق استفادتها من المديرين والناس.»

«أوه، المسرح لعبة قذرة كريهة، أليس كذلك يا جوجو؟»

«إنه الأكثر قذارةً يا عزيزتي.»

لم يكن بوسع جيمي أن يُحيل ناظرَيه عنها؛ عن يدَيها المربعتَين الصغيرتَين، وعنقها المسبوك ببريق ذهبي بين لفَّات شعرها النحاسي الكبيرة، وفستانها الأزرق الزاهي.

نهض أوجليثورب قائلًا: «حسنًا يا عزيزتي …»

«سأمكث هنا بعض الوقت يا جوجو.»

كان جيمي يحدِّق إلى المثلثات النحيلة للجلد اللامع الذي برز من طماق كاحل أوجليثورب الوردي اللون. محال أن يحوي هذا الطماق قدمَي إنسان. نهض فجأة.

«حسنًا يا سيد هيرف، أيمكنك أن تجلس معي لخمس عشرة دقيقة؟ سأرحل من هنا في السادسة ونسيت أن أحضر معي كتابًا ولا يمكنني السير في هذا الحذاء.»

تورَّد وجه جيمي وعاود الجلوس، وقال متلعثمًا: «يا إلهي، بالطبع يسعدني ذلك … أقترح أن نشرب شيئًا.»

«سأنتهي من تناول الشاي، ولكن لمَ لا تطلب شراب الجن الفوار؟ أُحب أن أشاهد الناس وهم يشربون شراب الجن الفوار. فهذا يشعرني بأنني في منطقة استوائية أجلس في بستان عُنَّاب منتظرةً أن يأخذنا قارب نهري في جولة بأحد الأنهار التي تحفُّها روح الميلودراما الساخرة حيث شجر الحمَّى في كل مكان.»

«أريد شراب الجن الفوار من فضلك أيها النادل.»

•••

انهار جو هارلاند في كرسيه حتى استقرَّ رأسه فوق ذراعَيه. وبين يدَيه المتيبستَين الملطختَين، تبعت عيناه في اضطراب الخطوط في الطاولة ذات السطح الرخامي. ساد الصمت المطعم وسط الكآبة المتناثرة من مصباحَين مُعلَّقَين فوق طاولة البيع حيث تبقَّت بعض المعجنات أسفل الغطاء الزجاجي الجرسي الشكل، وجلس رجل بمعطف أبيض فوق كرسي طويل بلا ذراعَين. من حين لآخر كانت عيناه في وجهه اللين الشاحب تحدِّق بحركة سريعة ويُهمهم ناظرًا حوله. وإلى الطاولة الأخيرة فوق أكتاف الناعسين المحدبة، تجعَّدت الوجوه كصُحف قديمة إذ توسَّدت الأذرع. نهض جو هارلاند معتدلًا وتثاءب. كانت امرأة مُكوَّمة في معطف مطر ذات وجه أحمر وعروق زرقاء أرجوانية كقطعة لحم فاسدة؛ تطلب كوبًا من القهوة عند طاولة البيع. حملَت الكوب بحذرٍ بين يدَيها وأحضرته إلى الطاولة وجلست أمامه. أسقط جو هارلاند رأسه فوق ذراعَيه مجددًا.

«مرحبًا، هل لي بخدمة صغيرة؟» صخب صوت المرأة في أذنَي هارلاند كصوت احتكاك إصبع طباشير بسَبُّورة.

زمجر الرجل خلف طاولة البيع: «حسنًا، ماذا تريدين؟» أجهشت المرأة بالبكاء. «يسألني ماذا أريد … لم أعتَد الحديث إلى الهمج.»

«حسنًا، إذا كان هناك أي شيء تريدينه فتعالَي لتأخذيه بنفسك … أتريدين خدمةً في هذا الوقت من الليل؟!»

كان بإمكان هارلاند أن يشم رائحة أنفاسها المعبَّأة بالويسكي أثناء بكائها. رفع رأسه وحدَّق إليها. لوت فمها الرخو مبتسمةً وأمالت رأسها نحوه.

«لم أعتد أيها السيد أن أُعامل بقسوة. لو كان زوجي على قيد الحياة لم يكن ليسمح بذلك. مَن يظن نفسه كي يُقرِّر أي وقت من الليل يجب ألَّا تُخدَم المرأة فيه، ذلك الفسل الحقير.» أرجعت رأسها وضحكت حتى سقطت قبعتها للخلف. «ذلك هو حاله، فسل حقير، يقضي ليلته في إهانة امرأة.»

سقطت حول وجهها بعض جدائل الشعر الرمادية المتبقية على أطرافها آثار الحناء. اتجه الرجل ذو المعطف الأبيض مباشرةً إلى الطاولة.

«اسمعي أيتها الأم ماكري، سأُلقي بكِ إلى الخارج إن تسبَّبت في مزيد من الجلَبة … ماذا تريدين؟»

بكت وألقت بمؤخِّرة عينَيها بنظرة جانبية على هارلاند، وقالت: «كعك دونات بنيكل.»

دفع جو هارلاند بوجهه إلى تجويف ذراعه مجددًا وحاول أن يخلد إلى النوم. سمع الطبق يوضع وتبعه صوت قضمها للطعام دون أسنان وصوت ارتشاف من حين لآخر عندما تشرب القهوة. دخل زبون آخر وكان يتحدَّث عند طاولة البيع بصوت هادر منخفض.

«أيها السيد، أيها السيد، أليس من الكريه أن أطلب شرابًا؟» أعاد رفع رأسه ووجد عينَيها الزرقاوَين الغائمتَين كالحليب المخفَّف بالماء تنظران إليه. «ماذا ستفعل الآن يا عزيزي؟»

«العلم عند الرب.»

«وحق السيدة العذراء وجميع القديسين سيكون من اللطيف أن أحظى بفراش وثوب جميل من الدانتيل وبرجل لطيف مثلك يا عزيزي … أيها السيد.»

«أذلك كل ما تريدينه؟»

«أوه أيها السيد، لو كان زوجي المسكين حيًّا لَمَا كان قد سمح لهم بمعاملتي هكذا. لقد فقدت زوجي على متن قارب جينرال سلوكوم البخاري، ويبدو لي الأمر كما لو كان بالأمس.»

«يا له من محظوظ!»

«لكنه مات بخطيئته دون أن يحضر موته قسيس يا عزيزي. إنه لأمر فظيع أن يموت المرء بخطيئته …»

«يا إلهي، أُريد أن أنام.»

واصل صوتها في صخب رتيب خافت أثار أعصابه. «لم يكن القديسون في صفي منذ أن فقدت زوجي على متن جينرال سلوكوم. لم أكن امرأةً مخلصة.» أجهشت بالبكاء مجددًا. «السيدة العذراء والقديسون والشهداء ضدي، الجميع ضدي … أوه، ليت أحدًا يعاملني بلطف.»

«أريد أن أنام … ألَا تخرسين؟»

انحنت وتحسَّست الأرض بحثًا عن قُبعتها. وجلست باكيةً تفرك عينَيها بأصابعها المتورِّمة الملطَّخة بالحُمرة.

«أوه أيها السيد، ألَا تريد أن تعاملني بلطف؟»

نهض جو هارلاند لاهثًا. «اللعنة، ألَا يمكنكِ أن تخرسي؟» انطلق صوته في عواء. «أليس هناك مكان يستطيع المرء أن يحظى فيه ببعض السَّكِينة؟ ليس ثمة مكان يمكن الحصول فيه على أي هدوء.» سحب قبعته فوق عينَيه، ودفع بيدَيه في جيبَيه وعرَّج خارجًا من المطعم. فوق ساحة تشاتام كانت السماء تومض بلون بنفسجي مشرئب بالحُمرة عبر تعريشات مسارات القطار المرتفع. كانت الأضواء كصفَّين من مقابض النحاس اللامعة في حي بويري الفارغ.

مرَّ شرطي مُؤرجحًا هِراوته. شعر جو هارلاند بعينَي الشرطي تنظران إليه. حاول أن يسير بسرعة وخِفة كما لو كان ذاهبًا إلى العمل.

•••

«حسنًا يا آنسة أوجليثورب، ما رأيكِ؟»

«ما رأيي في ماذا؟»

«أوه، كما تعلمين … أن تُحدثي ضجةً سريعة.»

«حسنًا، لا أدري على الإطلاق يا سيد جولدوايزر.»

«النساء يعلمن كل شيء ولكنهن لا يُفصحن.»

جلست إلين برداء حريري باللون الأخضر النيلي على كرسي بذراعَين، مُبطَّن بالزنبرك في طرف غرفة طويلة تجلجل بالحديث وببريق الثُّريَّات والمجوهرات، الذي يتخلَّله نقاط من السواد اللامع المتحرِّك لملابس السهرة والألوان المفضَّضة لفساتين النساء. يمتد انحناء أنف هاري جولدوايزر على طول انحناء جبهته الصلعاء، وتبظو عجيزته الكبيرة فوق حواف مقعد ذهبي مثلث بلا ذراعَين، وتقيس عيناه البنيتان الصغيرتان قسمات وجهها كهوائي وهو يتحدَّث إليها. تنبعث من امرأة على مقربة رائحة خشب الصندل. وتمر امرأة برتقالية الشفتَين طباشيرية الوجه ترتدي عمامةً برتقالية متحدِّثةً إلى رجل ذي لحية مُدبَّبة. وتضع امرأة ذات أنف كمنقار الصقر وشعر قرمزي يدَيها فوق كتفَي رجل من الخلف. «مرحبًا، كيف حالكِ يا آنسة كروكشانك؟ من المدهش، أليس كذلك، أن يتواجد جميع من تعرفين دائمًا في المكان نفسه وفي الوقت نفسه.» تجلس إلين في الكرسي ذي الذراعَين مستمعةً في خمول، وبرودة بودرة التجميل فوق وجهها وذراعَيها، وسماكة أحمر الشفاه فوق شفتَيها، وجسدها قد خرج لتوه من الحمَّام عَطِرًا كزهرة بنفسج تحت فستانها الحريري، وتحت ملابسها الداخلية الحريرية؛ فجلست تستمع حالمةً وناعسة. يتشابك حولها وخز مباغت من أصوات الرجال. تجلس بيضاء لا مباليةً بعيدة المنال كالمنارة. تزحف أيادي الرجال كالبق فوق الزجاج غير القابل للكسر. تتخبَّط نظرات الرجال وتضطرب على سطحه واهنةً كالعُث. ولكن في جوف معتم عميق في الداخل شيء يصلصل كصلصلة جرس سيارة إطفاء.

•••

وقف جورج بالدوين بجوار طاولة الإفطار ومعه نسخة من صحيفة «نيويورك تايمز» مطوية في يده. كان يقول: «حسنًا يا سيسلي، يجب أن نتعقَّل بشأن هذه الأمور.»

قالت بصوت مهتز أزكم: «ألَا ترى أنني أُحاول أن أتعقَّل؟» وقف ينظر إليها دون أن يجلس، طاويًا طرف الصحيفة بين سبابته وإبهامه. كانت السيدة بالدوين امرأةً طويلة ولديها كتلة من الشعر الكستنائي المتجعِّد بعناية والمتجمِّع فوق رأسها. جلسَت أمام طقم القهوة الفضي تُحرِّك وعاء السُّكَّر بأصابعها البيضاء، كبياض الفُطر، ذات الأظافر الوردية الشديدة الحِدة.

«لا يمكنني تحمُّل الأمر أكثر من ذلك على الإطلاق يا جورج.» ضمَّت شفتَيها المرتجفتَين معًا بشدة.

«ولكنكِ تبالغين يا عزيزتي …»

«كيف أُبالغ؟ … هذا يعني أن حياتنا أصبحت حُزمةً من الأكاذيب.»

«ولكنَّ كلًّا منا يا سيسلي مغرمٌ بالآخر.»

«لقد تزوَّجتني لمكانتي الاجتماعية، تعلم ذلك … لقد كنت حمقاء لدرجةٍ أوقعتني في حبك. حسنًا، انتهى الأمر.»

«هذا ليس صحيحًا. لقد أحببتكِ حقًّا. ألَا تتذكَّرين كم كان الأمر مروِّعًا عندما لم يكن باستطاعتكِ أن تُبادليني الحب حقًّا؟»

«كم أنت قاسٍ بذكرك ذلك … أوه، كم هو مُروِّع!»

دخلت الخادمة من غرفة المؤن ومعها اللحم المقدَّد والبيض فوق صينية. جلسا في صمتٍ ينظر كلٌّ منهما للآخر. خرجت الخادمة سريعًا من الغرفة وأغلقت الباب. أنزلت السيدة بالدوين جبهتها فوق حافة الطاولة وأجهشت في البكاء. جلس بالدوين محدِّقًا في عناوين الصحيفة. «اغتيال الأرشيدوق سيُسفر عن عواقب وخيمة». «حشد الجيش النمساوي». ذهب إليها ووضع يده على شعرها ذي التجاعيد الهشة.

قال: «أيتها المسكينة سيسلي.»

«لا تلمسني.»

ركضت خارجةً من الغرفة واضعةً منديلها فوق وجهها. وجلس ووضع لنفسه اللحم المقدَّد والبيض والتوست وبدأ في تناول الطعام؛ فكان مذاق كل شيء كالورق. توقَّف عن الأكل لتدوين ملاحظة في دفتر مذكرات يحتفظ به في جيب صدره بجوار منديله. الاطلاع على قضية كولينز ضد أربوثنوت، محكمة استئناف نيويورك.

نما إلى مسامعه صوت خطوة في الردهة بالخارج، ثم صوت نقر ترباس. كان المصعد قد نزل لتوه. فركض نازلًا أربعة طوابق. ووقعت عيناه عليها فوق حافة الرصيف عبر الزجاج وأبواب الحديد المطاوع للدهليز بالأسفل، حيث كانت تقف منتصبةً ومتيبسة ترتدي قفازها. هُرع خارجًا وأخذها من يدها في الوقت نفسه الذي أتت فيه سيارة الأجرة. تصبَّب العرق كحبات الخرَز فوق جبهته ووخزه أسفل ياقته. رأى نفسه واقفًا هناك وفي يده منديل المائدة في مظهر باعث على السخرية، والبوَّاب الملوَّن يبتسم ابتسامةً عريضة قائلًا: «صباح الخير يا سيد بالدوين، يبدو أنه سيكون يومًا جميلًا.» قبض على يدها بإحكام، وقال بصوت منخفض مُطبِقًا على أسنانه:

«ثمة شيء أريد أن أخبركِ به يا سيسلي. هلَّا انتظرت دقيقةً وسنذهب إلى وسط المدينة معًا؟ …» وقال لسائق سيارة الأجرة: «انتظر خمس دقائق أرجوك. سنعود على الفور.» سار راجعًا معها إلى المصعد وهو يعتصر معصمها بشدة. عندما وقفا في ردهة شقتهما، نظرت إليه فجأةً مباشرةً في وجهه بعينَين متوقدتَين جافتَين.

قال برفق: «تعالَي هنا يا سيسلي.» أغلق باب غرفة النوم وأوصده. «حسنًا، لنتحدَّث عن هذا الأمر سريعًا وبهدوء. اجلسي يا عزيزتي.» وضع كرسيًّا خلفها. جلست فجأةً متيبِّسةً كدمية ماريونيت.

«حسنًا، اسمعي يا سيسلي، لا يحق لكِ أن تتحدثي عن أصدقائي بالطريقة التي تحدثتِ بها. السيدة أوجليثورب صديقتي. نحتسي أحيانًا الشاي معًا في مكان عام تمامًا، وهذا كل ما في الأمر. كنت سأدعوها لزيارتنا ولكني خشيت ألَّا تُحسني التصرُّف معها … ينبغي ألَّا تخضعي هكذا لغيرتكِ الجنونية. لقد تركت لكِ كامل الحرية وأثق فيكِ تمام الثقة. وأظن أن من حقي أن أتوقَّع الثقة نفسها منكِ … ارجعي فتاتي الصغيرة العاقلة يا سيسلي. أنتِ تستمعين لِمَا يختلقه من الصورة الكاملة حَفنة من العجائز الشمطاوات مكرًا منهن ليجعلوكِ تشعرين بالتعاسة.»

«إنها ليست الوحيدة.»

«أقر لكِ بصراحة يا سيسلي أنه في وقت مبكِّر من زواجنا … حدث أن … ولكن ذلك قد انتهى قبل سنوات … وخطأ مَن كان هذا؟ … أوه يا سيسلي، إن امرأةً مثلكِ لا يمكنها أن تفهم الحاجات الجسدية المُلِحة لرجل مثلي.»

«ألم أفعل كل ما في وسعي؟»

«يا عزيزتي، هذه الأشياء ليست خطأ أحد … أنا لا ألومكِ … إن كنتِ قد أحببتني حقًّا إذن …»

«هل ترى أن هناك سببًا آخر لمكوثي هنا سواك؟ أوه، يا لك من قاسٍ!» جلست بعينَين ليس فيهما دموع محدِّقةً في قدمَيها في شبشبها الرمادي المصنوع من جلد الأيل، وتلوي وتفرد بين أصابعها الحبل الرطب الذي صنعته من منديلها.

«اسمعي يا سيسلي، من شأن الطلاق أن يضر كثيرًا بوضعي في وسط المدينة في الوقت الراهن، ولكن إن كنتِ حقًّا لا تريدين أن تواصلي العيش معي، فسأرى ما يمكنني فعله … ولكن في كل الأحوال يجب أن تزيدي من ثقتكِ فيَّ. تعلمين إنني لمولع بكِ. وأرجوكِ ألَّا تتحدثي مع أحد في الأمر دون الرجوع إليَّ. أنتِ لا تريدين أن تنالنا فضيحة وأن تظهر أسماؤنا في عناوين الصحف، أليس كذلك؟»

«حسنًا … اتركني وحدي … أنا لا أهتم بشيء.»

«حسنًا … لقد تأخَّرت كثيرًا. سأذهب إلى وسط المدينة بسيارة الأجرة تلك. ألَا تريدين أن تأتي للتسوُّق أو أي شيء؟»

هزَّت رأسها. قبَّلها فوق جبينها، وأخذ قبعته القشية وعصاه من الردهة، وهُرع خارجًا.

قالت ممتعضةً قبل أن تنهض: «أوه، إنني أكثر امرأة تعيسة.» آلمها رأسها كما لو كان محفوفًا بسلك ساخن. ذهبت إلى النافذة ومالت منها في ضوء الشمس. كانت السماء الزرقاء المتوهِّجة عبر بارك أفنيو تبدو مطوَّقةً بقضبان الدعامات الحمراء للمباني الجديدة. خشخشت مثبِّتات الدعامات التي تعمل بالبخار بلا توقُّف، ومن حين لآخر كانت رافعة محرِّك البخار تُصفِّر، وكانت هناك صلصلة سلاسل ودعامة مُركَّبة حديثًا تحلِّق بالعرض في الهواء. وكان الرجال في بذلات العمل الزرقاء يتحرَّكون في كل مكان حول السقَّالة. في الخلف وإلى الشمال الغربي، ارتفعت قمة لامعة من السُّحب مزدهرةً باقتضاب كثمرة قرنبيط. أوه، يا ليتها تُمطر! عندما فكَّرت في الأمر، سمعت هدير رعد منخفضًا أعلى صخب البناء وحركة المرور. أوه، يا ليتها تمطر!

كانت إلين قد علَّقت لتوها ستارةً من قماش منقوش بالزهور في النافذة كي تُخفي بنمطه الملطَّخ بأزهار حمراء وأرجوانية مظهر الأفنية الخلفية المهجورة والجوانب القرميدية لمنازل وسط المدينة. في منتصف الغرفة الفارغة كانت هناك أريكة سرير تُثقلها فناجين شاي، وطبق تسخين وضيافة نحاسي، ودورق قهوة، وتناثر على الأرضية الصفراء ذات الخشب الصلب قُصاصات من القماش المنقوش بالزهور، ومشابك الستائر، والكتب، والفساتين، ومفارش السرير التي تعاقبت من صندوق في الركن، وانبعثت من ممسحة جديدة عند المدفأة رائحة زيت الأرز. كانت إلين تميل إلى الجدار مرتديةً كيمونو بلون النرجس الأصفر، وكانت تنظر سعيدةً في أنحاء الغرفة الكبيرة التي تُشبه في شكلها صندوق أحذية عندما أفزعها صوت بوق سيارة. دفعت خُصلة شعر عن جبهتها وضغطت على زر الترباس. كان ثمة نقر خفيف على الباب. وكانت هناك امرأة واقفة في ظلام الردهة.

«عجبًا يا كاسي، لم أستطِع التعرُّف عليكِ. ادخلي … ما الأمر؟»

«أمتأكدة أنني لا أتطفَّل عليكِ؟»

«بالطبع لا.» مالت إلين لتعطيها قبلةً صغيرة خفيفة. كانت كاساندرا ويلكنز شديدة الشحوب، وكان ثمة ارتعاش قلق حول جفنَيها. «يمكنكِ أن تعطيني نصيحة. أُعلِّق ستائري لتوي … انظري، هل تظنين أن الأرجواني يتماشى مع الجدار الرمادي؟ يبدو لي غريبًا بعض الشيء.»

«أظن أنه جميل. يا لها من غرفة جميلة! كم ستكونين سعيدةً هنا!»

«ضعي طبق التسخين والضيافة هذا على الأرضية واجلسي. سأُعد بعض الشاي. هناك حمام ومطبخ صغير في التجويف هناك.»

«هل أنتِ متأكدة من أنني لن أتسبَّب في أي متاعب لكِ؟»

«بالطبع لا … ولكن يا كاسي ما خطبكِ؟»

«أوه، كل شيء … أتيت كي أخبركِ ولكني لا أستطيع. لا يمكنني أن أخبر أحدًا على الإطلاق.»

«أنا في غاية الحماس لهذه الشقة. تخيَّلي يا كاسي، هذا أول مكان أملكه على الإطلاق في حياتي. يريد أبي أن أعيش معه في مدينة باسيك، ولكني شعرت أنه لا يمكنني ذلك.»

«وماذا عن السيد أوجليثورب …؟ أوه، تلك وقاحة مني … سامحيني يا إلين. أكاد أُجن. لا أعرف ما الذي أقوله.»

«أوه، جوجو عزيز عليَّ. إنه حتى سيسمح لي بتطليقه إن أردت … هل تطلقينه لو كنتِ مكاني؟» دون أن تنتظر إجابةً اختفت بين الباب القابل للطي. ظلَّت كاسي محدبةً جسمها فوق حافة الأريكة.

رجعت إلين بإبريق شاي أزرق في إحدى يدَيها ووعاء من المياه المتبخِّرة في الأخرى. «هل تريدين ليمونًا أم قشدة؟ يوجد بعض السكر فوق المدفأة. هذه الأكواب نظيفة فقد غسلتها للتو. ألَا تظنين أنها جميلة؟ أوه، لا يمكنكِ أن تتخيَّلي الروعة والأُلفة التي تشعرين بها عندما يكون لديكِ مكان لكِ وحدكِ. أكره العيش في فندق. صدقًا، هذا المكان يجعلني أشعر بأُلفة شديدة … بالطبع الشيء السخيف هو أنني على الأرجح سأُضطر إلى التخلي عنه أو تأجيره بمجرد أن أنتهي من إعداده إعدادًا أنيقًا. سأذهب مع العرض في جولة في غضون ثلاثة أسابيع. أُريد أن أخرج من هذا العرض ولكن هاري جولدوايزر لن يسمح لي.» كانت كاسي تأخذ رشفات صغيرةً من الشاي بملعقتها. أجهشت بالبكاء بصوت منخفض. «يا إلهي، ابتهجي يا كاسي، ما الأمر؟»

«أوه، أنتِ محظوظة في كل شيء يا إلين وأنا بائسة للغاية.»

«عجبًا، لطالما ظننت أنني ملكة الحظ السيئ، ولكن ما الأمر؟»

وضعت كاسي فنجانها ودفعت بيدَيها المطبقتَين إلى عنقها. قالت بصوت مختنق: «إنه فقط … أظن أنني سأُرزق بمولود.» أنزلت رأسها فوق ركبتَيها وبكت.

«هل أنتِ متأكدة؟ الجميع لديهم مخاوف دائمًا من هذا الأمر.»

«أردتُ أن يظل حبنا نقيًّا وجميلًا دائمًا، ولكنه قال إنه لن يراني مطلقًا مرةً أخرى إذا لم … وأنا أكرهه.» كانت تلفظ بالكلام كلمةً كلمة بين تشنُّجاتها المتقطِّعة.

«لمَ لا تتزوَّجان؟»

«لا أستطيع. لن أفعل ذلك. سيُفسد هذا عليَّ حياتي المهنية.»

«متى عرفتِ بالحمل؟»

«أوه، لا بد أن ذلك كان قبل ١٠ أيام من غير ريب. أعلم أنه … لا أريد أي شيء سوى احترافي للرقص.» توقَّفت عن البكاء واستأنفت أخذ بعض رشفات الشاي.

مشت إلين جيئةً وذهابًا أمام المدفأة. «اسمعي يا كاسي، لا داعي للانزعاج من الأمر، أليس كذلك؟ أعرف امرأةً ستساعدكِ … رجاءً اجمعي شتات نفسكِ.»

«أوه، لا يمكنني، لا يمكنني.» … انزلق صحن الفنجان من فوق ركبتَيها وانكسر إلى نصفَين على الأرض. «أخبريني يا إلين، هل تعرَّضت لهذا الأمر من قبل؟ … أوه، أنا في غاية الأسف. سأشتري لكِ صحنًا آخر يا إلين.» نهضت بترنُّح ووضعت الفنجان والملعقة فوق المدفأة.

«أوه، بالطبع تعرَّضت لذلك. عانيت وقتًا عصيبًا في بداية زواجنا …»

«أوه يا إلين، أليس كل ذلك بشعًا؟ كان من شأن الحياة أن تكون غايةً في الجمال والحرية والطبيعية دون ذلك … يمكنني الشعور بالرعب يزحف إليَّ، يقتلني.»

قالت إلين بخشونة: «الأمور هكذا على الأرجح.»

بكت كاسي مجددًا. «الرجال شديدو القسوة والأنانية.»

«تناولي فنجانًا آخر من الشاي يا كاسي.»

«أوه، لا أستطيع. يا إلهي، أشعر بدوار مميت … أوه، أشعر أنني سأتقيأ.»

«الحمام عبر الباب القابل للطي مباشرةً ثم إلى اليسار.»

جابت إلين أنحاء الغرفة مطبقةً على أسنانها. أكره النساء. أكره النساء.

بعد وهلة، رجعت كاسي إلى الغرفة ووجهها أبيض مخضر تربت على جبهتها بمنشفة الوجه.

قالت إلين وهي تُفرِّغ مكانًا فوق الأريكة: «هنا، استلقي هنا أيتها المسكينة. ستشعرين الآن بكثير من التحسُّن.»

«أوه، هلَّا سامحتني لتسبُّبي في كل هذه الجلبة؟»

«استلقي لدقيقة فحسب وانسي كل شيء.»

«أوه، فقط لو كان بإمكاني أن أستريح.»

كانت يدا إلين باردتَين. ذهبت إلى النافذة ونظرت إلى الخارج. كان هناك صبي صغير يرتدي بذلة راعي بقر ويجري في الفناء ملوِّحًا بطرف حبل غسيل. تعثَّر وسقط. رأت إلين وجهه وقد تجعَّد باكيًا عندما نهض مجدَّدًا. وفي الفناء الأبعد كانت هناك امرأة قصيرة وبدينة سوداء الشعر تعلِّق بعض الملابس. كانت عصافير الدوري تزقزق وتتشاجر فوق السياج.

«هل تسمحين لي باستخدام بعض من بودرة التجميل يا عزيزتي إلين؟ لقد فقدت حقيبة التجميل الخاصة بي.»

رجعت إلى الغرفة. «أظن … أجل هناك بعض منها فوق المدفأة … أتشعرين بتحسُّن الآن يا كاسي؟»

قالت كاسي بصوت مرتجف: «أوه أجل. وهل لديكِ أحمر شفاه؟»

«أنا آسفة للغاية … لم أستخدم قط مستحضرات التجميل في الشارع. ولكني سأُضطر إلى استخدامها قريبًا جدًّا إذا واصلت التمثيل.» دخلت إلى تجويف في الجدار كي تخلع الكيمونو، وارتدَت فستانًا أخضر اللون، ولفَّت شعرها لأعلى، ودفعت بقبعة سوداء صغيرة فوقه. «هيا لنخرج يا كاسي. أريد أن أتناول شيئًا في الساعة السادسة … فأنا أكره أن أتناول عشائي قبل العرض بخمس دقائق.»

«أوه، أنا مرعوبة للغاية … عِديني أنكِ لن تتركيني وحدي.»

«أوه، لن تفعل شيئًا اليوم … ستفحصكِ فحسب وربما تعطيكِ شيئًا لتتناوليه … لنرَ، هل أخذت مفاتيحي؟»

«سنُضطر إلى أن نأخذ سيارة أجرة. ويا إلهي، ليس معي سوى ستة دولارات.»

«سأطلب من أبي أن يعطيني ١٠٠ دولار لشراء أثاث. سيفي هذا بالغرض.»

«إنكِ أكثر مخلوق ملائكي في العالم يا إلين … تستحقين كل لحظة في نجاحك.»

عند ناصية الجادة السادسة ركبا سيارة أجرة.

كانت أسنان كاسي تُقعقع. «أرجوكِ، دعينا نذهب في وقت آخر. إنني مرعوبة للغاية أن أذهب الآن.»

«يا صغيرتي العزيزة، إنه الشيء الوحيد الذي يمكننا فعله.»

•••

سحب جو هارلاند، مدخِّنًا غليونه، البوابات العريضة الشاسعة المهتزة وأغلقها. كانت بقعة أخيرة لضوء الشمس بلون العقيق تخفت فوق جدار منزل مرتفع في الجهة الأخرى من أعمال الحفر. ووقفت أذرع الرافعات الزرقاء داكنةً أمامها. نفد دخان غليون هارلاند، فوقف ينفخ فيه وظهره إلى البوابة ينظر على صفوف عجلات اليد الفارغة، وكومات المعاول والمجارف، والسقيفة الصغيرة لرافعة محرِّك البخار والمثاقب البخارية التي جثمت فوق صخرة مشقوقة ككوخ جبلي. بدا له المشهد باعثًا على السكينة بالرغم من صوت صخب حركة المرور القادم من الشارع والمتسرِّب عبر السياج. دخل إلى السقيفة الصغيرة بجوار البوابة حيث كان الهاتف، وجلس على الكرسي، هاويًا عليه، ثم عبَّأ غليونه وأشعله وفتح الصحيفة فوق ركبتَيه. «تعليق خطة المقاولين استجابةً لإضراب البنائين». تثاءب وأرجع رأسه للوراء. كان الضوء أزرقَ وخافتًا لدرجةٍ لا يستطيع معها القراءة. جلس طويلًا محدِّقًا إلى طرف حذائه المربَّع ذي الندوب. كان ذهنه فارغًا خالي البال كالمخمور. رأى نفسه فجأةً يرتدي بذلةً رسميةً وقبعةً عاليةً ويضع زهرة أوركيد في فتحة سترته. نظر ساحر وول ستريت إلى الوجه الأحمر ذي التجاعيد والشعر الأشيب أسفل القبعة الرثة واليدَين الكبيرتَين بأصابعهما المتورِّمة الملطَّخة، وتلاشى بضحكة مكبوتة. لاحت بذهنه ذكرى خافتة لرائحة سيجار كورونا-كورونا عندما أدخل يده في جيب المعطف القصير بحثًا عن صفيحة تبغ برنس ألبريت ليُعيد تعبئة غليونه. قال عاليًا: «ما الذي يهم، أريد أن أعرف؟» عندما أشعل عود ثقاب، أصبح الليل فجأةً بلون الحِبر حوله بالكامل. نفخ في عود الثقاب وأطفأه. كان غليونه كبركانٍ أحمر صغير هادئ يُصدر قرقرةً مكتومةً في كل مرة يسحب منه الدخان. دخَّن ببطءٍ شديدٍ مستنشقًا بعمق. كانت البنايات المرتفعة من حوله في كل مكان مطوِّقةً بهالةٍ من بريقٍ متورِّد من الشوارع واللافتات المضاءة كهربائيًّا. وعندما نظر مباشرةً لأعلى عبر الحُجُب الوامضة للضوء المنعكس، كان بمقدوره أن يرى السماء السوداء الضاربة إلى الزُّرقة والنجوم. كان التبغ حلو المذاق. وكان سعيدًا للغاية.

تقاطَعَ طرف سيجار وامض مع باب الكوخ. أمسك هارلاند بمصباحه وخرج. رفع المصباح في وجه شابٍّ أشقر غليظ الأنف والشفتَين يضع سيجارًا في جانب فمه.

«كيف دخلت هنا؟»

«كان الباب الجانبي مفتوحًا.»

«أكان كذلك حقًّا بحق الجحيم؟ عمن تبحث؟»

«هل أنت الحارس الليلي هنا؟» أومأ هارلاند. «سُررت بمعرفتك … خذ سيجارًا. أُريد أن أتمشَّى معك قليلًا فحسب، أترى؟ … أنا منظِّم في النقابة المحلية ٤٧، أترى؟ أرني بطاقة عضويتك.»

«لست عضوًا في النقابة.»

«حسنًا، ستكون، ألست … نحن رجال مهنة البناء يجب أن نتكاتف معًا. إننا نحاول تنظيم كلٍّ من حُراس الليل إلى المفتشين في مجموعاتٍ لبناء جبهة صلبة في وجه موقف التعليق الحالي هنا.»

أشعل هارلاند سيجاره. «اسمع يا أخي، أنت تُضيع وقتك معي. سيحتاجون دائمًا حارسًا ليليًّا، سواء في وجود إضراب أم لا … أنا رجلٌ كبير السن ولم يعُد لديَّ الطاقة الكافية للنزاع. هذه هي أول وظيفة محترمة أحصل عليها منذ خمس سنوات، ومستحيل أن أتركها … مثل تلك الأمور للشباب أمثالك. لست معكم في هذا الأمر. أنت تضيع وقتك لا ريب إذا كنت تتجوَّل محاولًا تنظيم حُراس الليل.»

«يمكنني القول إن طريقة حديثك لا تنم عن أنك قديم في هذا العمل.»

«حسنًا، ربما لست كذلك.»

خلع الشاب قبعته وحكَّ رأسه فوق جبهته ولأعلى عبر شعره الكثيف المقصوص. «يا للهول، إن النقاش في العمل يجعلك متحيِّرًا … ولكنها ليلة طويلة، أليس ذلك؟»

قال هارلاند: «أوه، إنها ليلة لا بأس بها.»

«اسمع، اسمي أوه كيفي، جو أوه كيفي … حسنًا، أُراهن أنه بإمكانك أن تخبرني بكثير من الأشياء.» مدَّ يده.

«اسمي جو أيضًا … هارلاند … كان هذا الاسم قبل ٢٠ عامًا يعني الكثير لدى الناس.»

«٢٠ عامًا من الآن …»

«اسمع، تبدو غريبًا على أن تكون مندوبًا متجوِّلًا … خذ نصيحةً من رجل هَرِم قبل أن أُخرجك من قطعة الأرض، واترك هذا العمل … إنه عمل لا يناسب شابًّا مثلك يريد أن يشق طريقه في الحياة.»

«الزمن يتغيَّر كما تعلم … ثمة رجال كبار يدعمون الإضراب هنا، أترى؟ كنت أُناقش الوضع مع النائب ماك نيل بعد الظهيرة اليوم في مكتبه.»

«ولكني أخبرك بلا مواربة أنه إذا كان ثمة شيء واحد سيُفسدك في هذه المدينة فهو أمر العُمال هذا … ستتذكَّر يومًا ما أن رجلًا هَرِمًا مخمورًا أخبرك بذلك، وسيكون الوقت قد فات.»

«أوه، هذا من أثر الشراب، أليس كذلك؟ ذلك شيء لا أخشاه. فأنا لا أمس الشراب، باستثناء الجِعَة كي أكون اجتماعيًّا مع الناس.»

«اسمع يا أخي، سيجري مفتش الشركة جولته قريبًا. ومن الأفضل أن تغادر المكان.»

«لست خائفًا من أي مفتش شركة لعين … حسنًا، إلى اللقاء، سآتي لرؤيتك مرةً أخرى يومًا ما.»

«أغلق ذلك الباب خلفك.»

صبَّ جو هارلاند بعضًا من الماء من وعاء معدني، واستقرَّ في كرسيه، ومدَّ ذراعَيه وتثاءب. إنها الحادية عشرة. كانوا يخرجون لتوهم من المسارح، الرجال بملابس السهرة، والفتيات بالفساتين ذات الياقات المنخفضة، وكان الرجال عائدين إلى المنزل إلى زوجاتهم وعشيقاتهم، كانت المدينة ذاهبةً إلى النوم. علت أصوات أبواق سيارات الأجرة وتعالى الضجيج خارج السياج، وتلألأت السماء بمسحوق ذهبي من أثر اللافتات الكهربائية. أسقط عقب السيجار وسحقه بعقبه فوق الأرضية. ارتجف ونهض، ثم خطا ببطءٍ حول حافة أرض المباني مُؤرجحًا مصباحه.

باللون الأصفر الباهت صَبغ الضوءُ القادم من الشارع لافتةً كبيرة كانت صورةً لناطحة سحاب بيضاء بنوافذ سوداء أمام السماء الزرقاء والسُّحب البيضاء. «سيجال وهاينز» سيُشيِّدون في هذا الموقع «مبنًى مكتبيًّا من ٢٤ طابقًا» حديثًا ومُواكِبًا للعصر، يُفتح للإشغال في يناير ١٩١٥ ولا تزال هناك مساحات متاحة للإيجار، للاستعلام …

•••

جلس جيمي هيرف يقرأ على أريكة خضراء أسفل مصباح أضاء ركنًا في غرفته الواسعة الفارغة. وصل إلى الجزء الذي مات فيه أوليفيه في رواية «جون كريستوفر» وقرأه بغُصة في الحلق. زحف في ذاكرته صوت دُوَار نهر الراين، ناحتًا بلا هوادة أرض حديقة المنزل الذي وُلد فيه جون كريستوفر. كانت أوروبا في مُخيِّلته حديقةً خضراء زاخرة بالموسيقى والأعلام الحمراء ومسيرات الحشود. من حين لآخر كان يسمع صوت قارب بخاري يُصفِّر من جهة البحر ويستقر في الغرفة في سكون ونعومة كالثلج. أتت من الشارع قعقعة سيارات الأجرة وصوت عُواء الترام.

سمع طرقًا على الباب. نهض جيمي، وكانت عيناه مُغبَّشتَين وساخنتَين من أثر القراءة.

«مرحبًا يا ستان، من أين أتيت بحق الجحيم؟»

«إنني في حالة سكر شديدة يا هيرف.»

«ليس بالشيء الجديد.»

«كنت فقط أريد أن أعطيك تقرير الطقس.»

«حسنًا، ربما يمكنك أن تخبرني عن السبب وراء أن أحدًا في هذا البلد لا يفعل شيئًا على الإطلاق. فلا أحد يؤلِّف الموسيقى أو يشرع في ثورة أو يقع في الحب. كل ما يفعله الجميع هو السُّكر وحكي الروايات البذيئة. أظن أنه أمر مُقزِّز …»

«يا أنت … تحدَّث عن نفسك. سأتوقَّف عن الشرب … فلا فائدة من الشرب، وقد أصبح الشراب رتيبًا … أخبرني، ألديك حوض استحمام؟»

«بالطبع هناك حوض استحمام. شقة مَن هذه في ظنك، شقتي؟»

«حسنًا، لمن هي يا هيرف؟»

«إنها لليستير. أنا أعتني بها فحسب أثناء وجوده بالخارج، ذلك الكلب المحظوظ.» شرع ستان في خلع ملابسه تاركًا إياها تسقط في كومة حول قدمَيه. «مرحى، أريد أن أذهب للسباحة … لماذا بحق الجحيم يعيش الناس في المدن؟»

«لماذا أستمر في إطالة وجودي التعس في هذه المدينة المجنونة المصابة بالصرع؟ … ذلك ما أريد معرفته.»

قال ستان بصوت ذي خُوار وهو يقف فوق كومة ملابسه، ببشرة بُنية وعضلات مستديرة مشدودة، متأرجحًا بعض الشيء من أثر السكر: «فلتدلَّ الضابط الروماني هوراشيوس على الحمام أيها العبد.»

«إنه مباشرةً عبر هذا الباب.» سحب جيمي منشفةً من صندوق القارب البخاري في ركن الغرفة، ورماه وراءه ورجع إلى القراءة.

اندفع ستان عائدًا إلى الغرفة، والماء يقطر من جسمه، متحدِّثًا وهو ملفوف بالمنشفة. «أتدري، لقد نسيت أن أخلع قبعتي. وانظر يا هيرف، هناك شيء أريدك أن تفعله من أجلي. هل تمانع؟»

«بالطبع لا. ما الأمر؟»

«هل تسمح لي باستخدام غرفتك الخلفية الليلة، هذه الغرفة؟»

«بالطبع يمكنك ذلك.»

«أعني بصحبة أحد.»

«افعل ما تريد. يمكنك أن تحضر جَوقة وينتر جاردن بأكملها هنا ولن يراهم أحد. وهناك مخرج طوارئ أسفل السلم الخلفي يصل إلى الزقاق. سأذهب لأنام وأغلق الباب كي تتمكَّن من استخدام هذه الغرفة والحمام لك وحدك.»

«أعلم أن الأمر يثقل عليك ولكن زوجها عنيف الطبع وعلينا أن نكون شديدي الحذر.»

«لا تحمل هم الصباح. سأتسلَّل خارجًا في الصباح الباكر ويمكنك أن تحظى بالمكان لنفسك.»

«حسنًا، سأرحل، إلى اللقاء.»

أخذ جيمي كتابه ودخل إلى حمامه وخلع ملابسه. نظر في ساعة يده فوجدها الثانية عشرة والربع. كان الليل ومِدًا. عندما أشعل الضوء جلس لوقت طويل على حافة السرير. أصابته الأصوات البعيدة لصافرات الإنذار القادمة من النهر بقُشَعريرة. وسمع من الشارع وقع أقدام، وأصوات رجال ونساء، وضحكات خفيضة مفعمة بالحيوية لأشخاص يذهبون إلى منازلهم أزواجًا. كانت تُدَوي في الفونوغراف أغنية «وردة بالية» (سكوند هاند روز). استلقى على ظهره فوق غطاء السرير. ودخل الهواء عبر النافذة محمَّلًا بحموضة القُمامة، ورائحة الجازولين المحترق، والمرور، والأرصفة المغبرة، والأجواء الخانقة للحشود في الغرف التي في حجم بيوت الحمام، حيث تتلوَّى أجساد الرجال والنساء وحيدةً يعذِّبها الليل وبداية الصيف. استلقى ومقلتاه الملفوحتان بحرارة الجو تحدِّقان في السقف، وقد توهَّج جسده بحرارة راجفة مقلقلة كقطعة معدنية ملتهبة.

أيقظه صوت امرأة تهمس متلهِّفة، وكان ثمة شخص يدفع الباب فاتحًا إياه. «لا أريد أن أراه. لا أريد أن أراه. أرجوك يا جيمي أن تذهب وتتحدَّث إليه. لا أريد أن أراه.» دخلت إلين أوجليثورب الغرفة وهي ملفوفة في مُلاءة.

قام جيمي من فوق السرير متعثِّرًا. «ما الأمر بحق السماء؟»

«ألَا توجد خزانة ملابس أو شيء من هذا القبيل هنا … لن أتحدَّث إلى جوجو وهو في تلك الحالة.»

فردَ جيمي ثياب نومه. «هناك خزانة عند مقدمة السرير.»

«بالطبع … حسنًا يا جيمي لتكن لطيفًا، تحدَّث معه وأخبِره أن يرحل.»

سار جيمي مرتبكًا إلى الغرفة الخارجية. سمع صوتًا يصرخ من النافذة: «ساقطة، ساقطة.» كانت الأنوار مُضاءة. كان ستان، وهو ملفوف كالهندي في بطانية رمادية ذات خطوط وردية، يجثم في وسط أريكتَين قُرِّبتا لتُصبحا سريرًا واسعًا. كان يُحدِّق بغير انفعال في جون أوجليثورب الذي اتكأ عبر الجزء العُلوي من النافذة يصرخ ويُلوِّح بذراعَيه ويُزمجر كما لو كان في عرض «بانتش آند جودي». كان شعره متشابكًا فوق عينَيه، ولوَّح بإحدى يدَيه بعصًا، وبالأخرى بقبعة ذات مسحة من لون القهوة بالقشدة. بمزيج من الإنجليزية واللاتينية: «أيتها الساقطة، تعالَي هنا … هي حالة تلبُّس … حالة تلبس. لم يقدني إلهامي من فراغ لصعود سُلَّم طوارئ شقة ليستير جونز.» توقَّف وحدَّق لدقيقة في جيمي بعينَين مخمورتَين واسعتَين. «حسنًا، ها هو الصحفي الشاب، بل صحفي الجرائد الصفراء، يبدو كالحمَل الوديع، أليس كذلك؟ هل تعرف رأيي فيك؟ هل تريد أن تعرف رأيي فيك؟ أوه، لقد سمعت عنك من روث وكل هذه الأمور. أعلم أنك تظن نفسك أحد الخارقين وأنك بعيد عن كل ذلك … ما رأيك في عملك كمومس مأجور للصُّحف العامة؟ ما رأيك في رخصة ممارسة الدعارة التي منحوها لك؟ الشيك النحاسي الذي يُعطى سرًّا للصحفيين، تلك هي طبيعة عملك … تحسب أن هذا كالعمل في التمثيل، في الفن، لا أعرف تلك الأمور. لقد سمعت رأيك في الممثِّلين وكل ذلك من روث.»

«يا إلهي، يا سيد أوجليثورب، أجزم أنك مخطئ.»

«لقد قرأتُ ولُذت بالصمت. فأنا ممن يشاهدون في صمت. أعلم أن كل جملة، وكل كلمة، وكل علامة ترقيم تافهة تظهر في الصُّحف العامة يُطَّلع عليها، وتُراجع، وتُحذف وفقًا لمصالح المُعلِنين وأصحاب السنَدات. إن مَعِين الحياة الوطنية يُسمَّم من منبعه.»

صاح ستان فجأةً من فوق السرير: «أجل، أخبرهم.» نهض مُصفِّقًا بيدَيه. «أُفضِّل أن أكون عامل مسرح، أقل عُمال المسارح شأنًا. أُفضِّل أن أكون تلك الخادمة العجوز الواهنة القوى التي تمسح أرضية المسرح … على أن أجلس جِلسةً مُخملية في مكتب محرِّر أكبر جريدة يومية في المدينة. التمثيل مهنة شريفة، محترمة، وديعة، نبيلة.» انتهت الخطبة بغتة.

قال جيمي مُربِّعًا ذراعَيه: «حسنًا، لا أعلم ماذا تتوقَّع مني أن أفعل حيال هذا؟»

واصل أوجليثورب حديثه بصوت كصوت عُواء حاد.

قال جيمي: «من الأفضل أن تذهب إلى المنزل.»

«سأذهب، سأذهب حيث لا يوجد ساقطون … حيث لا يوجد ساقطون رجالًا كانوا أو نساءً … سأذهب في الليل الطويل.»

«أتحسب أن بإمكانه العودة إلى المنزل سالمًا يا ستان؟»

كان ستان قد جلس على حافة السرير يهتز ضاحكًا. هزَّ كتفَيه.

«سيظل دمي في عنقكِ يا إلين للأبد … للأبد، أتسمعينني؟ … سأذهب في الليل حيث لا يجلس الناس ضاحكين وهازئين. أتظنين أنني لا أراكِ؟ … إن حدث الأسوأ فلن يكون خطئي.»

صاح ستان: «ليلة سعيدة.» سقط في نوبة الضحك الأخيرة من فوق حافة السرير وتدحرج على الأرض. ذهب جيمي إلى النافذة ونظر أسفل سلم الطوارئ إلى الزقاق. لقد رحل أوجليثورب. كانت السماء تمطر بغزارة. وتصاعدت رائحة الطوب الرطب من جدران المنازل.

«يا للهول، ألم يكن هذا أكثر الأشياء جنونًا؟» رجع إلى غرفته دون النظر إلى ستان. مرَّت به إلين عند الباب بخفة كالحرير.

استهلَّت حديثها، قائلة: «إنني في غاية الأسف يا جيمي …»

أغلق الباب بقوة في وجهها وأوصده. قال مطبقًا على أسنانه: «الحمقى اللُّعناء يتصرَّفون كالمجانين. ما ظنك في هذا بحق الجحيم؟»

كانت يداه باردتَين ومرتعشتَين. سحب عليه بطانية. استلقى يستمع إلى إيقاع المطر المُطَّرد ورشَّات المجاري المهسهِسة. وكانت نفحة من ريح تهب من حين لآخر برذاذ بارد خافت في وجهه. ولا تزال تتسلَّل إلى الغرفة الرائحة الفجة لخشب الأرز السريع العطب من شعرها الكثيف الملفوف، وذكرى نعومة جسدها حيث جثمت ملفوفةً ومختبئة في مُلاءة السرير.

•••

جلس إد تاتشر إلى نافذته الناتئة وسط صُحف يوم الأحد. كان شعره أشيب وثمة طيات عميقة في وجنتَيه. وكانت الأزرار العليا لبنطاله من حرير البُنْجي الصيني مفكوكةً من أجل راحة كرشه الصغير الذي ظهر فجأة. جلس إلى النافذة المفتوحة ينظر إلى الخارج على الأسفلت اللافح عند نهاية التدفق اللانهائي من السيارات التي أصدرت زئيرًا في كل اتجاه، مارةً بصفوف المتاجر من الطوب الأصفر والمحطات من الطوب الأحمر أسفل الأفاريز التي تومض فوقها بلمعة خافتة في الشمس بأحرف ذهبية على خلفية سوداء: «باسيك.» انبعثت من الشقق القريبة قعقعة أنين آلات الفونوغراف التي يسمعها يوم الأحد، وكانت تصدع بأغنية «إنه دُب» (اتس أبير). وكذلك سداسية من أوبرا «لوسيا دي لاميرمور»، ومختارات من المسرحية الموسيقية «فتاة الكويكرز» (ذا كويكر جيرل). كان قد وضع على ركبتَيه صحيفة «نيويورك تايمز» مفتوحةً على قسم المسرح. نظر للخارج بعينَين مغبَّشتَين إلى الهواء الحار الخافق شاعرًا بضيق في ضلوعه وألم يقطع الأنفاس. كان قد قرأ لتوِّه فقرةً في نسخة مَشينة من صحيفة «تاون توبيكس».

•••

كثرت الأقاويل على الألسنة الخبيثة حول الحقيقة التي لا يمكن إنكارها، وهي رؤية سيارة ستانوود إيميري تقف كل ليلة خارج مسرح نيكربوكر ولا تبرح مكانها حسبما يقولون قبل أن تستقل ممثلةٌ شابة فاتنة تقترب سريعًا في مسيرتها الفنية من مستوى النجومية. هذا الشاب نفسه، الذي يرأس والدُه إحدى شركات المحاماة الأكثر مرموقيةً في المدينة، والذي ترك لتوِّه هارفارد بسبب ظروف مؤسفة بعض الشيء، لطالما أثار ذهول الأهالي لوقت طويل بأفاعيله التي نثق في أنها لا تتعدَّى كونها نتيجة حماس روح صبيانية. واللبيب بالإشارة يفهم.

رنَّ جرس الباب ثلاثًا. أسقط إد تاتشر الصحيفة وأسرع مرتجفًا إلى الباب. «لقد تأخرتِ كثيرًا يا إيلي. خشيت ألَّا تأتي.»

«ألَا آتي دائمًا عندما أقول إني آتية يا أبي؟»

«بالطبع تفعلين ذلك يا عزيزتي.»

«كيف حالك؟ وكيف هي الأحوال في العمل؟»

«السيد ألبيرت في إجازته … أظن أنني سآخذ إجازتي عندما يعود. ليتكِ تأتين معي إلى سبرينج ليك لبضعة أيام. هذا سينعشك.»

«ولكن لا أستطيع يا أبي.» … خلعت قبعتها وأسقطتها على الأريكة العريضة. «انظر، لقد أحضرتُ لك بعض الورود يا أبي.»

«ذكَّرتِني؛ إنها ورود حمراء كالتي كانت أمك تحبها. أعترف أنها كانت لفتةً غاية في الجمال منكِ … ولكني لا أحب أن أذهب وحدي في الإجازة.»

«أوه، ستُقابل الكثير من الأصدقاء يا أبي، أنا واثقةٌ من ذلك.»

«لمَ لا تأتين لأسبوع واحد فقط؟»

«أولًا ينبغي أن أبحث عن عمل … سينطلق العرض في جولته ولست معهم حتى الآن. هاري جولدوايزر غاضب بشدة بسبب هذا الأمر.» رجع تاتشر للجلوس إلى النافذة الناتئة وبدأ يُكدِّس صُحف يوم الأحد فوق كرسي. «يا إلهي، يا أبي، ماذا تفعل بحق السماء بتلك النسخة من صحيفة «تاون توبيكس»؟»

«أوه، لا شيء. لم أقرأها قط؛ فما أحضرتها إلا لأرى شكلها.» تورَّد وجهه وضغط شفتَيه عندما دفع بها وسط صحيفة «نيويورك تايمز».

«ما هي سوى صحيفة تُمارِس الابتزاز.» كانت إلين تتجوَّل في أنحاء الغرفة. وقد وضعت الورود في زَهرية. وكانت تنتشر منها برودة لاسعة عبر الهواء المُثقَل بالغبار. «هناك شيء أُريد أن أخبرك به يا أبي … سنتطلَّق أنا وجوجو.» جلس إد تاتشر واضعًا يدَيه فوق ركبتَيه وأطبق شفتَيه ولم ينبس. كان وجهه رماديًّا وداكنًا، يكاد يقترب من لون بِذلته الحريرية المزركشة. «ليس ثمة ما يقلق. قرَّرنا ببساطة أنه لا يمكننا التوافق معًا. الأمر برمته سيسير بهدوء وبأكثر الأساليب المتفق عليها … جورج بالدوين صديقي سيتولَّى إدارة الأمر بالكامل.»

«هو وشركة إيميري آند إيميري؟»

«أجل.»

«همم.»

لاذا بالصمت. مالت إلين كي تستنشق الورود. فرأت دودةً قياسية خضراء صغيرة بعرض ورقة برونزية اللون.

«صراحة، إنني مولعة بشدة بجوجو، ولكن العيش معه يُفقدني صوابي … أدين له بالكثير، أعلم ذلك.»

«ليتكِ لم ترَيه يومًا.»

تنحنح تاتشر وأشاح بوجهه عنها كي ينظر من النافذة إلى شريطَين لا متناهيَين من السيارات التي مرَّت بمحاذاة الطريق أمام المحطة. انبعث منها الغبار وعلا، وبدا اللمعان الزاوي للزجاج كالمينا والنيكل. وأصدرت الإطارات حفيفًا فوق الحصى المُزَيَّت. ألقت إلين بنفسها فوق الأريكة العريضة، وتركت عينَيها تشردان وسط الورود الحمراء الباهتة على السجادة.

رنَّ جرس الباب. «سأذهب يا أبي … كيف حالكِ يا سيدة كالفيتير؟»

دخلت إلى الغرفة نافخةً سيدةٌ عريضة حمراء الوجه ترتدي فستانًا من الشيفون الأسود والأبيض. «أوه، عذرًا على مقاطعتي، هذه زيارة سريعة لبرهة فحسب … كيف حالكَ يا سيد تاتشر؟ … تعلمين يا عزيزتي أن أباكِ المسكين كان حقًّا في حالة سيئة للغاية.»

«هذا كلام فارغ؛ فكل ما كان لديَّ هو ألم خفيف في الظهر.»

«تلك آلام أسفل الظهر يا عزيزي.»

«عجبًا يا أبي، كان ينبغي أن تخبرني.»

«كانت الخُطبة اليوم ملهمةً للغاية يا سيد تاتشر … كان السيد لورتون في أفضل حالاته.»

«أظن أن عليَّ أن أخرج وأذهب إلى الكنيسة من حين لآخر، ولكن كما ترين أُفضِّل المكوث في المنزل يوم الأحد.»

«بالطبع يا سيد تاتشر؛ فهذا هو اليوم الوحيد الذي لديك. كان زوجي مثلك تمامًا … ولكني أظن أن الأمر يختلف مع السيد لورتون عن أغلب رجال الدين. فلديه نظرة عقلانية معاصرة للأشياء. الأمر حقًّا أشبه بحضور محاضرة مشوِّقة للغاية أكثر منه بحضور عِظَة في كنيسة … تفهم ما أعنيه.»

«سأخبركِ بما سأفعل يا سيدة كالفيتير، إذا لم يكن الطقس شديد الحرارة يوم الأحد القادم فسأذهب … أظن أنني اعتدت كثيرًا على نمط حياتي.»

«أوه، بعض التغيير مفيدٌ لنا جميعًا … ليس لديكِ أدنى فكرة يا سيدة أوجليثورب كم نتابع مسيرتكِ الفنية عن كثب، في صُحف يوم الأحد وكل ذلك … أظن أن الأمر في غاية الروعة … كما كنت أقول للسيد تاتشر بالأمس إنه لا بد في الأمر من شخصية قوية والعيش بعمقٍ وفقًا للمبادئ المسيحية للتمكُّن من الصمود أمام إغراءات حياة المسرح في هذه الأيام. من الملهم رؤية فتاةٍ شابةٍ وزوجةٍ شديدة اللطف والنقاء وسط كل ذلك.»

ظلَّت إلين تنظر إلى الأرض كي لا تلمح عيناها عينَي أبيها. كان ينقر بإصبعَين فوق ذراع كرسي موريس الذي كان يجلس عليه. تهلَّل وجه السيدة كالفيتير الجالسة في منتصف الأريكة العريضة. نهضت واقفة. «حسنًا، يجب أن أذهب. لدينا فتاة ساذجة في المطبخ، وأنا واثقة أن العشاء قد فسد بالكامل … ألن تمر علينا بعد ظهيرة اليوم …؟ بشكل ودي تمامًا. لقد أعددت بعض الكعك وسنُخرج بعضًا من مِزر الزنجبيل في حال زارنا أحد.»

قال تاتشر وهو ينهض متيبِّسًا: «أثق أنه سيُسعدنا ذلك يا سيدة كالفيتير.» تمايلت السيدة كالفيتير في فستانها المنفوش خارِجةً من الباب.

«أقترح يا إيلي أن نذهب لنأكل شيئًا … إنها سيدة طيبة القلب ولطيفة للغاية. دائمًا ما تُحضر لي أوعيةً من المربَّى والمرملاد. إنها تعيش في الأعلى مع عائلة أختها. وهي أرملة رجل رحَّالة.»

قالت إلين بضحكةٍ خافتة في حلقها: «يا لها من عبارةٍ قالتها عن إغراءات حياة المسرح! هيا وإلا فسيزدحم المكان. فتجنُّب العجلة هو شعاري.»

قال تاتشر بصوت طقطقة متذمِّر: «دعينا لا نتلكَّأ.»

فتحت إلين مظلَّتها عندما خرجا من الباب المحاط من الجانبَين بالأجراس وصناديق البريد. ضرب وجهَيهما نفحةٌ من حرارةٍ معبَّأةٍ بالأتربة. مرَّا بمتجرٍ للأدوات المكتبية، واللافتة الحمراء بالحرفَين إيه وبي لشركة الشاي الكبرى في المحيط الأطلسي والمحيط الهادي، والصيدلية على الناصية التي اندفعت منها تلك البرودة الآسنة لمجمَّدات ماء الصودا والآيس كريم أسفل الظلة الخضراء، وعبرا الشارع حيث غاصت قدماه في الأسفلت اللزج، وتوقَّفا عند كافيتريا ساجامور. شاهدا الساعة الثانية عشرة بالضبط عبر النافذة التي كان مكتوبًا حول واجهتها بالأحرف الإنجليزية القديمة «وقت تناول الطعام». كان أسفلها سرخس أصهب كبير وبطاقة تعلن أن سعر الدجاج في العشاء دولار و٢٥ سنتًا. ظلَّت إلين عند فتحة الباب تنظر لأعلى إلى الشارع المضطرب بالحركة. «انظر يا أبي، ستهب على الأرجح عاصفة رعدية.» حلَّق السحاب المتراكم في خطوط ارتفاع ثلجية مذهلة في السماء الأردوازية. «أليست تلك سحابةً جميلة؟ ألن يكون من الجميل أيضًا لو هبَّت عاصفة رعدية صاخبة؟»

نظر إد تاتشر لأعلى، وهزَّ رأسه ودخل عبر الباب الشبكي المتأرجح. تبعته إلين. استنشقا بالداخل رائحة الطِّلاء والنادلات. جلسا إلى طاولة بجوار الباب أسفل مروحة كهربائية مُطنطِنة.

«كيف حالك يا سيد تاتشر؟ كيف كان حالك طوال الأسبوع يا سيدي؟ كيف حالكِ يا آنسة؟» اقتربت منهما بلطفٍ نادلة ذات وجه نحيل وشعر معالَج بالأكسجين. «ماذا تُفضِّل اليوم يا سيدي؛ فرخ البط المشوي على طريقة لونج آيلند أم ديكًا مُغذًّى بالحليب ومشويًّا على طريقة فيلادلفيا؟»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤