الفصل الرابع

سيارة الإطفاء

تحتشد الحافلات بعد ظهيرة تلك الأيام في صف كالفِيَلة في استعراضات السيرك. من حي مورننجسايد هايتس إلى ميدان واشنطن، ومن محطة بنسلفانيا إلى مقبرة جرانت. يترنَّح زِيَرَة النساء والمتحرِّرات متعانقين في وسط المدينة وشمالها، يتعانقون في انسجام مرح مترنِّح بعد انسجام مرح آخر، حتى يرَوا قمر اليوم الجديد يُقهقِه فوق بلدة ويهاكين، ويشعروا بريح يوم الأحد الخاملة العاصفة تهب مغبَّرةً في وجوههم، مغبَّرةً بالشفق المنتشي.

يسيرون في ممشى متنزَّه سنترال بارك.

تقول إلين أمام تمثال بيرنز: «يبدو وكأن لديه دُمَّلًا فوق عنقه.»

همس هاري جولدوايزر متنهِّدًا من حلقه السمين: «آه، ولكنه كان شاعرًا عظيمًا.»

كانت تسير مرتديةً قُبعتها العريضة وفستانها الفَضفاض ذا اللون الباهت، والذي كانت الرياح تثنيه بين الحين والآخر على ساقَيها وذراعَيها، وتعبر به كالحرير مهفهفًا وسط فقاعات الشفق الوردية والأرجوانية والفُستقية التي ترتفع من العُشب والأشجار والبِرَك، بارزةً أمام المنازل الطويلة ذات اللون الرمادي الحاد كأسنان الموتى حول الطرف الجنوبي للمتنزَّه، الذي اختفى في القمة النيلية اللون. عندما يتحدَّث، مكوِّنًا جُملًا من بين شفتَيه المستديرتَين السميكتَين، متفحِّصًا وجهها باستمرار بعينَيه البنيتَين، تشعر بكلماته تضغط على جسدها، وتلكزها في التجاويف التي يلتصق بها فستانها؛ فلا تكاد تستطيع التنفُّس خوفًا من الاستماع إليه.

«سيُصبح عرض «فتاة الزَّينِية» (زينيا جيرل) مذهلًا حقًّا يا إلين، صدقيني، وذلك الدَّور مكتوب لكِ خصوصًا. سيُسعدني حقًّا العمل معكِ مرةً أخرى … أنتِ مختلفة للغاية، ذلك ما يُميِّزكِ. فجميع هؤلاء الفتيات هنا في نيويورك متشابهات تمامًا، إنهن مملَّات. بالطبع يمكنكِ الغناء أيضًا إن أردتِ … لقد جُن جنوني منذ أن قابلتكِ، وها قد فات علينا ستة أشهر جيدة الآن. أجلس لأتناول الطعام ولا يكون للطعام أي مذاق … لا يمكنكِ أن تتخيَّلي كيف يشعر الرجل بالوحدة عندما يكون عليه أن يكبت مشاعره بداخله عامًا بعد عام. عندما كنت شابًّا كنت مختلفًا عن ذلك، ولكن ماذا كنت لأفعل؟ لقد كان عليَّ أن أكسب المال وأشق طريقي في الحياة. وهكذا واصلت على هذا الحال عامًا بعد آخر. وللمرة الأولى أشعر بالسعادة؛ لأنني مضيت قُدمًا في طريقي وكسبت الكثير من المال؛ لأنني الآن يمكنني أن أقدِّمه لكِ. أتفهمين ما أعنيه؟ … كل تلك الأشياء المثالية والجميلة قد دُفنت داخلي عندما كنت أشق طريقي في عالم الرجال كان ذلك بمثابة زرع البذرة وأنتِ الآن زهرتها.»

يلامس ظهر كفه ظهر كفها من حين لآخر أثناء سيرهما؛ فتُحكم قبضتها بتجهُّم ساحبةً إياها بعيدًا عن بدانة يده الساخنة واللحوحة.

ممشى المتنزَّه مليء بالأزواج والعائلات في انتظار أن تبدأ الموسيقى. وكانت رائحته هي رائحة الأطفال وواقيات الملابس وبودرة التلك. مرَّ بهم بائع بالون يجر خلفه البالون الأحمر والأصفر والوردي كعنقود عنب ضخم مقلوب. «أوه، اشترِ لي بالونًا.» انطلقت الكلمات من فمها قبل أن تتمكَّن من إيقافها.

«أنت، أعطِني واحدةً من كل لون … وماذا عن واحدة من تلك الذهبية؟ كلا، احتفظ بالباقي.»

وضعت إلين خيوط البالون في الأيادي الملطَّخة بالتراب لثلاث فتيات صغيرات بوجوه كوجوه القرود بقلنسوات حمراء. ألقى المصباحُ القوسي بهالة بنفسجية على كل بالون.

«أوه، تُحبِّين الأطفال يا إلين، أليس كذلك؟ أنا أُحب النساء اللاتي يُحبِبن الأطفال.»

تجلس إلين لا مباليةً إلى طاولة في شُرفة مطعم كازينو. تلتف حولها خانقةً نفحةٌ ساخنة من رائحة الطعام وإيقاع فرقة تعزف أغنية «إنه جامع خردة» (راجبيكر)؛ فتدهن بين الحين والآخر قطعةً من الخبز الملفوف وتضعها في فمها. تشعر بالعجز التام، بأنها قد أُمسك بها كالذبابة في جمله المنسالة اللزجة.

«ليس ثمة شخص آخر في نيويورك يمكنه أن يجعلني أسير كل هذه المسافة، صدقيني … لقد سِرت كثيرًا في الأيام الخوالي، هل تفهمين ما أعني، كنت أبيع الصُّحف عندما كنت طفلًا، وأعمل كصبي مهمات في متجر ألعاب شوارتز … كنت أسير على قدمَي طوال اليوم باستثناء الفترة التي قضيتها في المدرسة الليلية. ظننت أني سأصبح محاميًا، جميعنا شباب حي إيست سايد ظننا أننا سنصبح محامين. ثم عملت حاجبًا في صيف إحدى السنوات في حي إيرفينج بلاس، وأصابتني عدوى المسرح … لم تكن فكرة سيئة، ولكنها محفوفة بالمخاطر. أمَّا الآن فلم أعد أهتم؛ فكل ما أريده هو أن أُعوِّض خسائري. هذه هي مشكلتي. أنا في الخامسة والثلاثين ولم أعد أهتم بشيء. قبل ١٠ سنوات كنت لا أزال كاتبًا صغيرًا في مكتب إرلانجر، والآن هناك الكثيرون ممن كنت أُلمِّع أحذيتهم في الأيام الخوالي يسرهم حقًّا أن يحصلوا على فرصة لمسح أرضية شقتي في شارع ويست ٤٨ … يمكنني أن أصحبكِ الليلة إلى أي مكان في نيويورك، لا يهمني مدى الغلاء أو الرقي الذي عليه المكان … وكنا نظن ونحن أطفال في الأيام الخوالي أننا سنعيش في النعيم إذا كان معنا خمس قطع نقدية لنصطحب بعض الفتيات إلى شاطئ كوني آيلاند … أُراهن أن كل ذلك كان مختلفًا عمَّا عشته يا إلين … ولكن ما أُريده هو أن أستعيد ذلك الشعور، أتفهمينني؟ … أين سنذهب؟»

«لمَ لا نذهب إذن إلى كوني آيلاند؟ فأنا لم أذهب إليه من قبل.»

«إنه مليء للغاية بالمشاكسين … ولكن لا يزال بإمكاننا أن نأخذ جولةً بالسيارة. هيا. سأطلب سيارةً عبر الهاتف.»

تجلس إلين ناظرةً لأسفل إلى فنجان قهوتها. تضع قطعةً كبيرة من السكر في ملعقتها، وتُغطِّسها في القهوة، وتُلقي بها في فمها حيث تجرشها ببطء، وهي تحك حُبيباتها بلسانها في سقف فمها. تعزف الأوركسترا لحن رقصة تانجو.

•••

تشق أشعة الشمس المتدفِّقة إلى المكتب أسفل الستائر المنسدلة طبقة مائلة لامعة كالقماش المموَّج عبر دخان السيجار.

كان جورج بالدوين يقول منتزعًا الكلمات من فمه: «بسلاسة تامة. يجب أن نفعل ذلك بسلاسة تامة يا جاس.» كان جاس ماك نيل بوجهه الأحمر ورقبته الأشبه برقبة ثور وسلسلة ساعته الثقيلة المعلَّقة في صدريته يجلس على الكرسي ذي الذراعَين وهو يحرك رأسه في صمت، جاذبًا إليه سيجاره. «بالوضع الحالي، ليس ثمة محكمة ستدعم مثل هذا الإنذار القضائي … الإنذار القضائي الذي يبدو لي ممارسةً محضة لسياسة القاضي كونر الحزبية، غير أن هناك بعض العناصر …»

«كما قلت … اسمع يا جورج، سأترك لك أمر إلقاء اللوم هذا برمته. لقد زججت بي عبر فوضى موانئ نيويورك الشرقية، وفي ظني أنه بإمكانك أن تزج بي في ذلك الأمر أيضًا.»

«ولكن موقفك في هذا الأمر برمته يا جاس كان بالكامل داخل الحدود الشرعية. ولو لم يكن الحال كذلك لَمَا استطعت بالتأكيد أخذ القضية، ولا حتى لصالح صديق قديم مثلك.»

«أنت تعرفني يا جورج … فأنا لم أُخلف وعدي مع أحد قط، ولا أتوقَّع أن يُخلف أحدٌ وعده معي.» نهض جاس متثاقلًا وبدأ يعرج حول المكتب متكئًا على عُكازه ذي المقبض الذهبي. «كونر وغد … لن تصدِّق ولكنه كان رجلًا محترمًا قبل أن يذهب شمالًا إلى مدينة ألباني.»

«سيكون موقفي هو الدفاع بأن تصرُّفك في هذا الأمر برمته قد أُسيء فهمه عمدًا. إن كونر يستغل منصبه على مقعد القضاء لخدمة مصلحة سياسية ما.»

«أسأل الرب أن تستطيع النيل منه. يا إلهي، لقد ظننته واحدًا منا؛ فقد كان كذلك بالفعل قبل أن يذهب شمالًا ويختلط بجميع جمهوريي الشمال الحقراء. ألباني هي مصدر دمار الكثير من الرجال الصالحين.»

نهض بالدوين من خلف الطاولة المسطَّحة من خشب الماهوجني التي كان يجلس إليها بين حُزَم طويلة من ورق الفولسكاب ووضع يده فوق كتف جاس. «لا تقلق مطلقًا …»

«كنت سأشعر بأن كل شيء على ما يرام لولا تلك السنَدات بين المناطق الإدارية.»

«أي سندات؟ مَن رأى أي سندات؟ … لنُدخل هذا الشاب هنا … جو … وهناك شيء آخر يا جاس، أرجوك ألَّا تتحدَّث في الأمر … إذا أتى أي صحفيين أو أي أحد لرؤيتك، فأخبرهم برحلتك إلى برمودا … يمكننا الحصول على الدعاية الكافية عندما نحتاج إليها. ولكننا في الوقت الحالي نريد أن نُبعد الصحافة عن الأمر وإلا فسيتعقَّبك جميع المصلحين.»

«ولكن أليسوا أصدقاءك؟ يمكنك تدبير الأمر معه.»

«أنا محامٍ ولست سياسيًّا يا جاس … لا أتدخَّل في تلك الأمور بتاتًا. إنها لا تعنيني.»

ضغط بالدوين على جرس الباب بيد مبسوطة. دخلت الغرفة شابة ذات بشرة عاجية وعينَين غائرتَين ثقيلتَين وشعر فاحم السواد.

«كيف حالك يا سيد ماك نيل؟»

«يا إلهي تبدين بحالة جيدة يا آنسة ليفيتسكي.»

«أخبريهم يا إميلي أن يُدخلوا ذلك الشاب الذي ينتظر السيد ماك نيل.»

دخل جو أوكيف يجر قدمَيه بعض الشيء، وقبعته القشية في يده. «كيف حالك سيدي؟»

«اسمع يا جو، ماذا يقول مكارثي؟»

«ستعلن جمعية المقاولين والبنَّاءين إغلاقًا من يوم الإثنين.»

«وكيف حال النقابة؟»

«لدينا خزينة كاملة. سنقاتل.»

جلس بالدوين على حافة المكتب. «أتمنَّى لو كنت أعرف موقف حاكم المدينة ميتشل من كل هذا.»

قال جاس وهو يعض بوحشية عقب سيجاره: «مجموعة الإصلاح تلك تنحت في الصخر كعادتها.» «متى سيُعلَن هذا القرار على العامة؟»

«يوم السبت.»

«حسنًا ابقَ على اتصال معنا.»

«حسنًا أيها السادة. رجاءً لا تتصلوا بي عبر الهاتف. لا يبدو ذلك صائبًا على الإطلاق. فكما ترون هذا ليس مكتبي.»

«قد يكون التنصُّت مستمرًّا أيضًا. هؤلاء الرجال لا يوقفهم شيء. حسنًا، أراك لاحقًا يا جوي.»

أومأ جو برأسه وخرج. استدار بالدوين عابسًا إلى جاس.

«لا أعلم ماذا سأفعل معك يا جاس إن لم تبتعد عن كل هذه المسائل العمالية. حَرِي بشاب وُلد في بيئة سياسية مثلك أن يكون أكثر حكمة. لا يمكنك الفرار من الأمر.»

«لكننا تمكَّنا من تجميع المدينة اللعينة بأكملها.»

«أعرف الكثيرين في المدينة لم يتحدوا. لكن حمدًا للرب أن هذا ليس من شأني. أمر السندات هذا لا بأس به، ولكن إذا تورَّطت في هذه الأعمال الإضرابية فلن أستطيع تولِّي قضيتك. فلن تدعمها الشركة.» هكذا همس بحدة. ثم قال بصوت عالٍ بنبرته المعتادة: «حسنًا، كيف حال الزوجة يا جاس؟»

في الخارج بالردهة الرخامية اللامعة، كان جو أوكيف يصفِّر بلحن أغنية «روزي أوجرادي الحلوة» (سويت روزي أوجرادي) منتظرًا المصعد. تخيَّل رجلًا لديه سكرتير مذهل كهذا. توقَّفَ عن التصفير وترك أنفاسه تخرج صامتةً عبر شفتَين مزمومتَين. ألقى التحية في المصعد على رجل أحول العينَين يرتدي بِذلةً ذات نقشة مربعة. «مرحبًا يا باك.»

«هل قمت بعطلتك بعد؟»

وقف جو مباعدًا بين قدمَيه ويداه في جيبَيه. وهزَّ رأسه. «سأذهب يوم السبت.»

«أظن أنني سأقضي بضعة أيام في أتلانتك سيتي.»

«كيف يمكنك ذلك؟»

«أوه، ذلك الولد ذكي.»

عندما خرج أوكيف من المبنى، كان عليه أن يشق طريقه خلال الناس المتزاحمين في البوابة. كانت السماء الأردوازية الغارقة بين المباني المرتفعة تلطِّخ الأرصفة بما يشبه القطع المعدنية من فئة الخمسين سنتًا. وكان الرجال يركضون بحثًا عن مخبأ بقبعاتهم القشية أسفل معاطفهم. وقد صنعت فتاتان غطاءَين من الجرائد فوق قلنسوتَيهما الصيفيتَين. لمح زرقة أعينهما وبريق شفاهما وأسنانهما وهو يمر. مشى سريعًا إلى الناصية واستقل راكضًا سيارةً متجهة إلى الشمال. اجتاح المطرُ الشارع في زخَّات صلبة تتلألأ وتُحفحف وتضرب الصُّحف فتسوي سطحها، وتثب كحَلَمات فضية بمحاذاة الأسفلت، وتُخطِّط النوافذ، وتُلمِّع طلاء الترام وسيارات الأجرة. في شارع ١٤ لم تكن هناك أمطار، ولكن الهواء كان خانقًا.

قال رجل هَرِم بجانبه: «طقس عجيب.» هدر أوكيف. «عندما كنت صبيًّا رأيت السماء في يوم من الأيام تُمطر في جانب واحد من الشارع، وكان هناك منزل يضربه البرق وعلى جانبنا لم تسقط قطرة على الرغم من أن الرجل الهَرِم أراد ذلك بشدة لبعض نباتات الطماطم التي كان قد بدأ لتوه في زراعتها.»

أثناء عبور أوكيف شارع ٢٣ رأى برج حديقة ميدان ماديسون. فقفز من السيارة. وأنزل ياقة معطفه مرةً أخرى وهو يشرع في عبور الميدان. وفي طرف مقعد أسفل شجرة كان جو هارلاند ناعسًا. ارتمى أوكيف في المقعد المجاور له.

«مرحبًا جو. خذ سيجارًا.»

«مرحبًا جو. سعيد برؤيتك يا صديقي. أشكرك. لم أدخِّن أحد هذه الأشياء منذ وقت طويل … ما الذي تنوي فعله؟ أليس هذا الأمر بعيدًا عنك؟»

«شعرت بالكآبة نوعًا ما لذلك ظننت أن أشتري لنفسي تذكرةً لمباراة يوم السبت.»

«ما الأمر؟»

«لا أعرف بحق الجحيم … لا يبدو أن الأمور تسير على ما يرام. لقد تعمَّقت كثيرًا في هذه اللعبة السياسية ولا يبدو أن لها مستقبلًا. يا إلهي، أتمنَّى لو كنت قد حظيت بتعليم مثلك.»

«لقد أفادني ذلك كثيرًا.»

«لن أقول ذلك … لو كنت يومًا قد تمكَّنت من السير في المسار الذي كنت فيه، أراهنك أنني ما كنت لأخسر.»

«لا يمكنك الجزم بالأمر يا جو؛ فالمرء قد تدركه أشياء عجيبة.»

«هناك نساء وما إلى ذلك من الأمور.»

«كلا، أنا لا أقصد ذلك … فالمرء قد يشعر بالضجر نوعًا ما.»

«ولكن بحق الجحيم لا أرى كيف يمكن لرجل لديه ما يكفي من المال أن يشعر بالضجر.»

«إذن ربما كان الخمر، لا أعرف.»

جلسا صامتَين لدقيقة. كانت سماء ما بعد الظهر قد ورَّدها الغروب. وكان دخان السيجار أزرق ومتجعِّدًا حول رأسَيهما.

«انظر إلى السيدة المنتفخة … انظر إلى طريقة مشيها. أليست جذابة؟ هكذا أحبهن، متأنقات بالكامل ومبهرجات وشفاههن مطلية … يُكلِّف الأمر الكثير من المال للتسكُّع مع سيدات مثلهن.»

«إنهن لا يختلفن عن أي شخص آخر يا جو.»

«ماذا تقول بحق الجحيم؟»

«قل لي يا جو، أليس معك دولار زائد؟»

«ربما معي.»

«معدتي ليست على ما يرام بعض الشيء … أود أن أتناول شيئًا لجعلها تستقر، وأنا مفلس حتى أتقاضى راتبي يوم السبت … أعني … تفهمني … أواثق من أنك لا تمانع؟ أعطني عنوانك وسيكون أول شيء أفعله صباح الإثنين هو أن أرده لك.»

«بحق الجحيم لا تلقِ بالًا بالأمر، سأراك في مكانٍ ما.»

«شكرًا يا جو. وأرجوك ألَّا تشتري المزيد من أسهم بيتر بلو ماينز بالهامش دون أن تسألني عنها. قد أكون متأخِّرًا ولكن لا يزال بمقدوري أن أكتشف التلاعب بعينَين مغمضتَين.»

«حسنًا، سأسترجع مالي.»

«يستلزم الأمر حظًّا وافرًا.»

«يا إلهي، من العجيب أن أُقرض دولارًا لرجل كان يملك نصف شارع وول ستريت.»

«أوه، لم أكن أملك ذلك القدر الذي قالوا إنني أملكه.»

«هذا مكان عجيب …»

«أين؟»

«أوه، لا أعرف، أظن كل مكان … حسنًا، إلى اللقاء يا جو، أظن أنني سأذهب وأشتري تلك التذكرة … يا إلهي، ستكون مباراةً رائعة.»

رأى جو هارلاند خطوة الشاب المترنِّحة القصيرة وهو يغادر الطريق بقبعته القشية على جانب رأسه. ثم توقَّف وسار شرقًا على طول شارع ٢٣. كانت الأرصفة وجدران المنزل لا تزال تنبعث منها الحرارة رغم غروب الشمس. توقَّف خارج حانة جانبية وتفحَّص بعناية مجموعةً من المعاطف المحشوة التي أصبحت رماديةً من أثر الغبار، والتي شغلت منتصف النافذة. وعبر البابَين المتأرجحَين، تسرَّبت إلى الشارع أصوات هادئة وبرودة تحمل رائحة الشعير. تورَّد وجهه فجأةً وعضَّ شفته العليا، وبعد نظرة خاطفة على الشارع ذهابًا وإيابًا دخل عبر البابَين المتأرجحَين وعَرَّج على منضدة الشراب النحاسية المتلألئة بالزجاجات.

•••

بعد هطول الأمطار في الخارج، كانت رائحة الجص الخلفية واخِزةً في أنوفهم. علَّقت إلين معطف المطر المبلَّل على ظهر الباب ووضعت مظلتها في ركن غرفة الملابس حيث بدأت تنتشر منها بركة صغيرة. كانت تقول بصوت خفيض لستان الذي تبعها مترنِّحًا: «وكل ما تمكَّنت من التفكير فيه كان أغنيةً عجيبة غنَّاها لي شخص ما عندما كنت طفلةً صغيرة: والرجل الوحيد الذي نجا من الفيضان كان جاك ذا الأرجل الطويلة الذي أتى من البرزخ.»

«يا إلهي، لا أفهم لماذا يُنجب الناس الأطفال. إنه اعتراف بالهزيمة. فالإنجاب هو قَبول كائن حي غير مكتمل. الإنجاب هو اعتراف بالهزيمة.»

«أرجوك يا ستان لا تصرخ، ستصدم عُمَّال المسرح … ما كان يجب أن أتركك تأتي. تعرف كيف يُثرثر الناس في المسرح.»

«سأكون هادئًا تمامًا كفأر صغير … فقط دعيني أنتظر حتى تأتي ميلي لإلباسكِ. فرؤيتك وأنتِ ترتدين ثيابك هي سعادتي الوحيدة المتبقية … أعترف أنني كائن حي غير مكتمل.»

«لن تكون كائنًا من أي نوع إذا لم تستفِق من السُّكر.»

«سأشرب … سأشرب حتى أجرح نفسي فيتدفَّق الويسكي من عروقي. ما فائدة الدم في وجود الويسكي؟»

«أوه يا ستان.»

«الشيء الوحيد الذي يمكن أن يفعله كائن حي غير مكتمل هو الشرب … أنتِ كائن مكتمل جميل لا يحتاج إلى الشرب … سأستلقي وأنعم بالنوم كالأطفال.»

«لا يا ستان أرجوك. إذا غفلت هنا فلن أسامحك أبدًا.»

سُمعت نقرتان ناعمتان على الباب. «ادخلي يا ميلي.» كانت ميلي امرأةً صغيرة البِنية ذات وجه متجعِّد وعينَين سوداوَين. وقد منحتها نفحةٌ من الدم الزنجي شفتَين أرجوانيتَين سميكتَين، ما أعطى شحوبًا لبشرتها الشديدة البياض.

قالت مُحدِثةً ضجةً أثناء دخولها: «إنها الثامنة و١٥ دقيقةً يا عزيزتي.» ثم ألقت نظرةً سريعة على ستان والتفتت إلى إلين ببعض العبوس الساخر.

«عليك أن تذهب بعيدًا يا ستان … سأُقابلك لاحقًا في مبنى بو آرتس السكني أو في أي مكان تريده.»

«أريد أن أنام.»

كانت إلين تجلس أمام مرآة طاولة زينتها تمسح الدهان البارد من فوق وجهها بتربيت سريع مستخدمةً منشفة صغيرة. انبعثت في أنحاء الغرفة من علبة مستحضرات التجميل الخاصة بها رائحة أصباغ التمثيل وزبدة الكاكاو الذائبة والشاحمة.

همست لميلي وهي تخلع فستانها: «لا أعرف ماذا أفعل معه الليلة. أوه، أتمنَّى لو يتوقَّف عن الشرب.»

«لو كنت مكانكِ لوضعته تحت الدُّش وفتحت الماء البارد فوقه يا عزيزتي.»

«كيف هو الوضع في الصالة الليلة يا ميلي؟»

«فارغة بعض الشيء يا آنسة إلين.»

«أعتقد أن ذلك بسبب الطقس السيئ … لن أتمكَّن من الأداء جيدًا.»

«لن أدعه يوتِّرك يا عزيزتي. الرجال لا يستحقون ذلك.»

«أريد أن أنام.» كان ستان متأرجحًا وعابسًا في وسط الغرفة. «سأضعه في الحمام يا آنسة إلين؛ لن يلاحظه أحد هناك.»

«وهو كذلك، لندعه ينام في حوض الاستحمام.»

«إيلي سيذهب للنوم في حوض الاستحمام.»

دفعته المرأتان إلى الحمام. عرَّج هزيلًا على الحوض، واستلقى هناك نائمًا ورجلاه في الهواء ورأسه فوق الصنابير. كانت ميلي تُصدر بلسانها قليلًا من أصوات القَوقَأَة السريعة.

همست إلين برفق: «إنه كطفل نائم عندما يكون في هذه الحالة.» دسَّت بممسحة الحمام تحت رأسه وأزاحت شعره المليء بالعرق من فوق جبهته. كان يتنفَّس بصعوبة. مالت وقبَّلت جفنَيه برِقة شديدة.

«عليكِ أن تسرعي يا آنسة إلين … الستار يُرفع.»

«فلتلقِ نظرةً سريعة، هل مظهري جيد؟»

«جميلة كلوحة فنية … حماكِ الرب يا عزيزتي.»

ركضت إلين على الدرج واستدارت إلى أجنحة المسرح، ووقفت هناك، لاهثةً مرتعبة كما لو كانت فلتت لتوِّها من حادث دهس سيارة، وأخذت من صاحب المسرح قائمة الأغاني التي كان عليها أداؤها، وانتظرت حتى أتى دورها وسارت إلى الأضواء.

«كيف تبلين جيدًا هكذا يا إلين؟» كان هاري جولدوايزر يقول ذلك وهو يهز رأس رَبْلَة ساقه من فوق الكرسي خلفها. كان بمقدورها رؤيته في المرآة وهي تُزيل مستحضرات التجميل من فوق وجهها. وكان يقف بجانبه رجلٌ طويل القامة ذو عينَين رماديتَين وحاجبَين أشيبَين. «أتتذكرين عندما خضعتِ أول مرة لتجارب الأداء وقلت للسيد فاليك، لن يمكنها النجاح يا سول، أليس كذلك يا سول؟»

«بالطبع فعلت ذلك يا هاري.»

«اعتقدت أنه لا يمكن لفتاة صغيرة وجميلة أن تجلب، كما تعلمين … تجلب الشغف والرعب بداخلي، هل تفهمين ما أعني؟ … كنت أنا وسول في القاعدة نشاهد ذلك المشهد في الفصل الأخير.»

قال فاليك مصدرًا أنينًا: «رائع، رائع. أخبرينا كيف تفعلين ذلك يا إلين.»

أُزيلت مستحضرات التجميل لتظهر سوداء وورديةً على قطعة القماش. تحرَّكت ميلي برصانة في الخلفية مُعلِّقةً الفساتين.

«هل تعرف من الذي درَّبني على ذلك المشهد؟ إنه جون أوجليثورب. إن لديه أفكارًا مدهشةً عن التمثيل.»

«أجل، من المخزي أنه كسول للغاية … كان بإمكانه أن يصبح ممثِّلًا ذا شأن كبير.»

هزَّت إلين شعرها لأسفل ولوته في استدارة بكلتا يدَيها، قائلة: «إنه ليس كسولًا بالضبط …» رأت هاري جولدوايزر يلكز السيد فاليك.

«جميل أليس كذلك؟»

«كيف سار عرض «الوردة الحمراء» (ريد روز)؟»

«أوه لا تسأليني يا إلين. عُرض حصريًّا أمام الأدِلَّاء الأسبوع الماضي، هل تَعِين ذلك؟ لا أفهم لماذا لم يُعجبهم، إنه مشوق … ولماي ميريل طلة جميلة. أوه، لقد ذهب مجال العروض بأكمله إلى الجحيم.»

وضعت إلين الدبوس البرونزي في لفافة شعرها النحاسية. رفعت ذقنها لأعلى. «أود أن أجرِّب شيئًا كهذا.»

«ولكن كل في أوانه يا عزيزتي الشابة؛ فلقد وضعناكِ للتو في أول الطريق كممثِّلة عاطفية.»

«إنني أكره ذلك؛ فكل شيء مزيَّف. في بعض الأحيان أريد أن أنزل إلى الجمهور في المكان المخصَّص لجلوسهم لأخبرهم قائلةً اذهبوا إلى منازلكم أيها الحمقى. هذا عرض رديء وبه الكثير من التمثيل الزائف وينبغي أن تعرفوا ذلك. بوسع المرء أن يكون صادقًا في العروض الموسيقية.»

«ألم أخبرك أنها مجنونة يا سول؟ ألم أخبرك أنها مجنونة؟»

«سأستخدم بعضًا من هذا الخطاب الصغير في الدعاية الأسبوع المقبل … يمكنني إدخاله بشكل جيد.»

«لا يمكنك تركها تُفسد العرض.»

«كلا، ولكن يمكنني استخدامه في ذلك العمود حول تطلُّعات المشاهير … كما تعلم، هذا الرجل هو رئيس شركة زوزودونت لمعطِّرات الفم، وكان يُفضِّل أن يكون رجل إطفاء، وثمة رجل آخر كان يُفضِّل أن يكون حارسًا في حديقة الحيوانات … يا لها من أشياء تروق للبشر.»

«يمكنك أن تخبرهم يا سيد فاليك بأنني أعتقد أن مكان المرأة في المنزل … من أجل ضعاف العقول.»

ضحك هاري جولدفايزر وظهرت الأسنان الذهبية في جانبَي فمه: «هأ هأ هأ. لكنني أعلم أنه يمكنك الرقص والغناء مع الأفضل منهم يا إلين.»

«ألم أكن في الجَوقة لمدة عامَين قبل أن أتزوَّج من أوجليثورب؟»

قال السيد فاليك وهو ينظر بطرف عينه من أسفل رموشه الرمادية: «لا بد أنكِ قد بدأتِ في المهد.»

«حسنًا، ينبغي أن أطلب منكما أيها السيدان الخروج من هنا لدقيقة كي أُبدِّل ملابسي. إنني أتصبَّب عرقًا كل ليلة بعد ذلك المشهد الأخير.»

«علينا أن نغادر على أي حال … هل تفهمين ما أعني؟ … أتمانعين أن أستخدم حمامكِ لبعض الوقت؟»

وقفت ميلي أمام باب الحمام. كانت عينا إلين خاليتين من أي تعابير. «يؤسفني أنه لا يمكنك يا هاري، إنه في حالة فوضى.»

«سأذهب إلى غرفة تشارلي … وسأُخبر طومسون أن يجلب سبَّاكًا ليفحص الحمام … حسنًا، تصبحين على خير يا صغيرتي. وداعًا.»

قال السيد فاليك مصرصِرًا: «تصبحين على خير يا سيدة أوجليثورب، وإذا لم تستطيعي أن تكوني بخير فلتكوني حَذِرة.» أغلقت ميلي الباب خلفهما.

صاحت إلين ومدَّت ذراعَيها: «هيه، يا لها من راحة!»

«لا أُخفيك سرًّا لقد كنت خائفةً يا عزيزتي … لا تدعي أبدًا أي شخص هكذا يأتي إلى المسرح معكِ. لقد رأيت العديد من الممثِّلين الكبار دمَّرتهم أشياء من هذا القبيل. أقول لكِ ذلك لأنني مغرمة بكِ يا آنسة إلين، وأنا عجوز وأعرف مجال العروض جيدًا.»

«أنتِ كذلك بالطبع يا ميلي، ومعكِ كل الحق أيضًا … لنرَ ما إذا كُنا سنستطيع إيقاظه.»

«يا إلهي يا ميلي، انظري إلى ذلك.»

كان ستان مستلقيًا كما تركاه في حوض الاستحمام تُغطِّيه المياه. وكان ذَيل معطفه وإحدى يدَيه يطفوان فوق الماء. «انهض من هنا يا ستان أيها الأحمق … قد يلقى حتفه. أيها الأحمق، أيها الأحمق.» أمسكت به إلين من شعره وهزَّت رأسه من جانب إلى آخر.

أنَّ بصوت طفل نعسان: «أوه هذا مؤلم.»

«انهض من هنا يا ستان … إنك مغمور بالمياه.»

أرجع رأسه وفتح عينَيه بغتة. «يا إلهي، إنني مغمور بالمياه بالفعل.» رفع نفسه بيدَيه على جانبَي الحوض ووقف متمايلًا، والماء المصفرُّ بسبب ملابسه وحذائه يقطر منهما، وكان يشهق بضحكته العالية. استندت إلين إلى باب الحمام تضحك وعيناها ممتلئتان بالدموع.

«لا يمكنكِ أن تغضبي منه يا ميلي، هذا ما يجعله مثيرًا للسخط. أوه ماذا سنفعل؟»

قالت ميلي: «من حسن حظه أنه لم يغرق … أعطني أوراقك ومحفظتك يا سيدي. سأُحاول تجفيفها بمنشفة.»

«ولكنك لا يمكنك أن تمر أمام البوَّاب هكذا … حتى لو عصرنا ملابسك … عليك أن تخلع جميع ملابسك يا ستان وأن ترتدي أحد فساتيني. ثم يمكنك أن ترتدي معطف المطر الخاص بي ويمكننا أن نُسرع إلى داخل سيارة أجرة وتأخذها إلى المنزل … ما رأيكِ يا ميلي؟»

كانت ميلي تُدحرج عينَيها وتهز رأسها وهي تعصر معطف ستان. وفي حوض الغسيل كوَّمت بقاياه المبلَّلة من محفظة، ودفتر، وأقلام رصاص، ومطواة، ولفافتَين من أفلام التصوير، وقِنينة.

قال ستان: «أريد أن أستحم على أي حال.»

«أوه أراهنك على ذلك. حسنًا؛ فأنت مستفيق على الأقل.»

«مستفيق كبطريق.»

«حسنًا، عليك أن ترتدي ملابسي هذا كل شيء …»

«لا يمكنني أن أرتدي ملابس الفتيات.»

«عليك أن تفعل ذلك … فليس معك حتى معطف مطر لتغطي به تلك الفوضى. إذا لم تفعل فسأحبسك في الحمام وأتركك.»

«حسنًا إيلي … أنا في غاية الأسف حقًّا.»

كانت ميلي تلف الملابس في الجريدة بعد أن عصرتها في حوض الاستحمام. نظر ستان إلى نفسه في المرآة. «يا إلهي إن مظهري منافٍ للحشمة في هذا الفستان … كما الممثِّل الكوميدي إيش كابيبيل!»

«لم أرَ شيئًا قط أكثر فظاعة … كلا، تبدو في غاية الجمال، ربما صعب بعض الشيء … الآن أرجوك أبقِ وجهك نحوي عندما تمر بالهَرِم بارني.»

«حذائي رطب للغاية.»

«ما باليد حيلة … حمدًا للرب أنه كان معي هذا المعطف هنا يا ميلي، يا لكِ من ملاكٍ لترتِّبي كل هذه الفوضى!»

«ليلة سعيدة يا عزيزتي، وتذكَّري ما قلته … أقول لكِ هذا كل …»

«تحرَّك بخطوات بطيئة يا ستان، وإذا قابلت أحدًا، فسِر في طريقك مباشرةً واقفز في سيارة أجرة … يمكنك تجنُّب أي شيء إذا انطلقت بسرعةٍ كافية.» كانت يدا إلين ترتجفان عندما نزلا الدرج. ووضعت إحداهما أسفل مرفق ستان وبدأت تتحدَّث بصوت ثرثرة منخفض … «كما تعلم يا عزيزي، زارني أبي ليشاهد العرض قبل ليلتَين أو ثلاث ليالٍ، واندهش حتى كادت الصدمة تُودي بحياته. قال إنه يعتقد أن الفتاة بعرضها لمشاعرها هكذا أمام العديد من الأشخاص تُذل نفسها … أليس هذا مؤلمًا؟ … كان لا يزال معجبًا بالتقارير التي كُتبت عني في صحيفتي «هيرالد» و«وورلد» يوم الأحد … ليلة سعيدة يا بارني، بل ليلة فظيعة … يا إلهي … ها هي سيارة أجرة، اصعد. إلى أين أنت ذاهب؟» من ظلام سيارة الأجرة، ومن وجهه الطويل المدسوس في القلنسوة الزرقاء، كانت عيناه سوداوَين شديدتَي البريق لدرجة أخافتها كما لو كانتا قد ظهرتا فجأةً من حفرة عميقة في الظلام.

«حسنًا، سنذهب إلى منزلي. فهل يضر الشاة سلخها بعد ذبحها؟ … رجاءً أيها السائق اذهب إلى شارع البنك.» انطلقت سيارة الأجرة. كانوا يتأرجحون عبر المستويات المتقاطعة بالضوء الأحمر، والضوء الأخضر، والضوء الأصفر والمُخَرَّزة بحروف كلمة برودواي. مال ستان فجأةً نحوها وأعطى فمها قبلةً عنيفة خاطفة.

«عليك أن تتوقَّف عن الشرب يا ستان. الأمر يتجاوز الحد.»

«وما المانع من تجاوز الأمور الحد؟ أنتِ تتجاوزين الحد ولا أشتكي.»

«ولكنك يا حبيبي سوف تقتل نفسك.»

«وماذا إذن؟»

«أوه، أنا لا أفهمك يا ستان.»

«وأنا لا أفهمكِ يا إيلي، لكني أحبكِ جدًّا … أحبك حبًّا جمًّا.» كانت ثمة رعشة مُتقطِّعة في صوته الخفيض باغتتها بسعادة.

دفعت إلين الأجرة. سُمعت صافرة إنذار زاعقة خلَّفت حالةً من الكآبة في الشارع، مرَّت سيارة إطفاء حمراء برَّاقة، ثم تبعها خُطَّاف وسُلم بجرس مصلصِل.

«دعينا نذهب إلى النيران يا إيلي.»

«وأنت بتلك الملابس … لن نفعل شيئًا هكذا.»

تبعها صامتًا إلى المنزل وصعد الدرج. كانت غرفتها الطويلة باردةً ومنعشة الرائحة.

«أنتِ لستِ غاضبةً مني يا إيلي، أليس كذلك؟»

«بالطبع لستُ غاضبةً أيها الطفل الأحمق.»

حلَّت صُرَّة ملابسه المبلَّلة وأخذتها إلى داخل مطبخ صغير لتجف بجانب موقد الغاز. استدعاها صوت الفونوجراف الصادع بأغنية «إنه شيطان في مسقط رأسه» (هيز أديفيل إن هيز أون هوم تاون). كان ستان قد خلع الفستان. وكان يراقص كرسيًّا، وروبها الأزرق المبطَّن يتطاير من فوق ساقَيه النحيفتَين المشعرتَين.

«أوه يا ستان، يا عزيزي الأحمق.»

أنزل الكرسي وتوجَّه نحوها بسُمرته على نحو رجولي، واتكأ بالروب السخيف. وصل الفونوغراف إلى نهاية اللحن، وراحت الأسطوانة تدور مصرصِرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤