الفصل الخامس

الذهاب إلى معرض الحيوانات

ضوء أحمر، وجرس.

كان حشدٌ بطول أربعة صفوف من السيارات ينتظر عند تقاطع السكة الحديدية، والمصدات تظهر في ضوء المصابيح الخلفية، وحواجز الطين تنتشر في المكان، والمحرِّكات تُخرخِر ساخنة، والعوادم يفوح دُخَانها، وسيارات من بابل وجامايكا، وسيارات من مونتوك، وبورت جيفرسون، باتشوج، وسيارات ليموزين من مدينة لونج بيتش وحي فار روكاواي، وسيارات خفيفة من منطقة جريت نيك … سيارات مليئة بالأزهار النجمية وملابس السباحة الرطبة، وأعناق لفحتها الشمس، وأفواه دبقة من أثر تناول المشروبات الغازية والنقانق … سيارات مغبرة بحبوب لقاح اليعقوبيات وقضيب الذهب.

ضوء أخضر. تتسابق المحركات وتنعق التروس على السرعة الأولى. تتباعد السيارات، وتتدفَّق في شريط طويل على طول الطريق الأسمنتي الشبحي، وسط الكتل الخرسانية للمصانع ذات النوافذ السوداء، وسط الألوان الزاهية للافتات ذات الألواح نحو الوهج فوق المدينة التي تقف مدهِشةً في سماء الليل كوهج خيمة كبيرة مضاءة، ككتلة طويلة صفراء لخيمة في أحد العروض.

سراييفو، علقت الكلمة في حلقها عندما حاولت نطقها …

كان جورج بالدوين يئن قائلًا: «إنه لأمر فظيع أن أفكِّر في ذلك. فالشارع سيئول إلى الخراب … سيغلقون البورصة، ما باليد حيلة.»

«ولم أذهب إلى أوروبا من قبلُ أيضًا … فلا بد أن الحرب شيء استثنائي.» إلين في فستانها المُخملي الأزرق وعباءة أديمية اللون فوقه استندت إلى وسائد سيارة الأجرة التي كانت تطن بخفة أسفلهما. «أفكِّر دائمًا في التاريخ على أنه مطبوعات حجرية في كتاب مدرسي، حيث يدلي الجنرالات بتصريحاتهم، وتركض بعض الشخصيات الضئيلة الحجم في الحقول باسطةً أذرعها، ونُسخ لتوقيعات.» مخاريط ضوء تقطع مخاريط ضوء على طول جانب الطريق الحار الطنَّان، وتنشر المصابيح الأمامية أنوارها فوق الأشجار، والمنازل، واللوحات الإعلانية، وأعمدة البرق بضربات فرش عريضة من الكِلس. استدارت سيارة الأجرة نصف دورة وتوقَّفت أمام نُزُل على الطريق ينضح بالضوء الوردي وموسيقى الراجتايم من كل شق من شقوقه.

قال سائق التاكسي لبالدوين عندما دفع له الأجرة: «ثمة حشد كبير الليلة.»

سألت إلين: «لمَ يا تُرى؟»

«أظن أن جريمة القتل في حي كنارسي لها دخل في الأمر.»

«ماذا حدث؟»

«أمر فظيع. لقد رأيتها.»

«أرأيت جريمة القتل؟»

«لم أرَه يفعلها. ولكني رأيت جثثًا ملقاةً ومتيبسة قبل أن يأخذوها إلى المشرحة. اعتدنا في طفولتنا أن نسمي الرجل سانتا كلوز لأن له لحيةً بيضاء … عرفته منذ أن كنت فتًى صغيرًا.» كانت السيارات بالخلف تُصدر أصوات أبواقها مزمجِرةً وجاشة. «من الأفضل أن أتحرَّك … ليلة سعيدة يا سيدتي.»

كان المدخل الأحمر تفوح منه رائحة الكركند، والمحار المطهو على البخار، وشراب الكوكتيل.

«عجبًا، مرحبًا يا جاس … دعيني يا إلين أقدِّم لكِ السيد والسيدة ماك نيل … هذه هي الآنسة أوجليثورب.» صافحت إلين اليد الكبيرة لرجل أحمر العنق أفطس الأنف، ويد زوجته الصغيرة الدقيقة في قفازها. «سأراك يا جاس قبل أن نذهب …»

كانت إلين تتابع الحُلة ذات الذيل لرئيس النُّدُل على طول حافة حلبة الرقص. جلسا إلى طاولة بجوار الجدار. كانت تُعزَف موسيقى أغنية «الكل يفعل هذا». همهم بالدوين باللحن وهو يميل فوقها لبرهة معدِّلًا المعطف على ظهر كرسيها.

شرع في الحديث وهو جالس قُبالتها: «إنكِ أجمل إنسانة يا إلين … يبدو الأمر مروِّعًا للغاية. لا أرى كيف يكون ذلك ممكنًا.»

«ماذا؟»

«هذه الحرب. لا أستطيع أن أفكِّر في أي شيء آخر.»

«أنا أستطيع …» أبقت عينَيها على القائمة. «هل لاحظتِ هذَين الشخصَين اللذَين عرَّفتهما بكِ؟»

«نعم. هل هما آل ماك نيل الذين يرد اسمهم في الصحف طوال الوقت؟ هناك بعض الجدل حول إضراب البنائين ومسألة سندات بين المناطق الإدارية.»

«الأمر برمته يتعلَّق بالسياسة. أراهن أنه سعيد بالحرب، يا لجاس الهَرِم المسكين! سأفعل شيئًا واحدًا، وسيجعل هذا الجدل يختفي من الصفحات الأولى للصحف … سأُخبرك عنه في دقيقة … لا أظن أنكِ تحبين المحار المطهو على البخار، أليس كذلك؟ إنه جيد جدًّا هنا.»

«إنني أعشق المحار المطهو على البخار يا جورج.»

«إذن سنتناول عشاءً فاخرًا على الطراز القديم لشاطئ لونج آيلاند. ما رأيكِ في ذلك؟» وهي تضع قفازاتها بعيدًا على حافة الطاولة لامست يدها زَهرية من ورود حمراء باهتة وصفراء. رفرف وابل من بتلات باهتة فوق يدها، وقفازها، والطاولة. فهزَّتها عن يدَيها.

«واجعله يأخذ هذه الورود الرديئة بعيدًا يا جورج … أنا أكره الزهور الباهتة.»

ينحل البخار من الوعاء المطلي للمحار في الوهج الوردي للمصباح. راقب بالدوين أصابعها، وردية ورشيقة، وهي تجذب المحار من رقابها الطويلة لتُخرجها من صدفاتها، وتغمسها في الزبد الذائب، وتلقي بها في فمها فتقطر فيه عصارتها. كانت منغمسةً في تناول المحار. تنهَّد بالدوين. «إلين … أنا رجل تعيس للغاية … لرؤيتي لزوجة جاس ماك نيل. إنها المرة الأولى التي أراها فيها منذ سنوات. فلتتأمَّلي الأمر؛ فلقد كنت مجنونًا بحبها والآن لا أستطيع أن أتذكَّر اسمها الأول … إنه أمر مضحك، أليس كذلك؟ كانت الأمور بطيئةً للغاية منذ شرعت في العمل وحدي. لقد كان أمرًا متسرِّعًا؛ فقد كنت لتوي قد تخرَّجت قبل سنتَين في كلية الحقوق ولم يكن معي المال للشروع في عمل. كنت أهيج في تلك الأيام. وكنت قد قرَّرت أنه إذا لم أحصل على قضية في ذلك اليوم، فسأتخلَّص من كل شيء وأعود للعمل موظَّفًا في مكتبٍ للمحاماة. خرجت للتنزُّه كي أصفِّي رأسي، ورأيت عربة بضائع تُفرِّغ حمولتها في عربة حليب بالجادة الحادية عشرة. كانت فوضى مروِّعة، وعندما أوقفنا الرجل قلت لنفسي سأحصل له على التعويض المناسب أو أُعلن إفلاسي في المحاولة. ربحت قضيته وجعلني هذا ألفت انتباه مختلِف الأشخاص في وسط المدينة، وجعله هذا يبدأ مسيرته المهنية، وجعلني أيضًا أبدأ مسيرتي.»

«إذن كان يقود عربة حليب، أليس كذلك؟ أعتقد أن بائعي الحليب هم ألطف البشر في العالم. ولكن رجلي هو الألطف.»

«لن تُكرِّري هذا أمام أحد يا إلين … إنني أثق فيكِ ثقةً كاملة.»

«هذا لُطف منك يا جورج. أليس من المدهش كم تتشبَّه الفتيات كل يوم أكثر فأكثر بالسيدة كاسيل؟ فقط انظر حولك في هذه الغرفة.»

«لقد كانت كالوردة البرية يا إلين، نابضةً بالحيوية ومتورِّدة ومُفعَمة بالروح الأيرلندية، وهي الآن كامرأة صغيرة بدينة وقصيرة ويغلب عليها الطابع العملي.»

«وأنت لا تزال تحتفظ بمظهرك اللائق كما كنت دومًا. هكذا تسير الأمور.»

«أتعجَّب … أنتِ لا تعرفين كم كان كل شيء فارغًا وأجوف قبل أن أقابلكِ. كل ما يمكنني أنا وسيسلي فعله هو أن نجعل حياة كل منا بائسة.»

«أين هي الآن؟»

«إنها في بلدة بار هاربور … لقد حالفني الحظ وكل أنواع النجاح عندما كنت لا أزال شابًّا … لم أبلغ الأربعين بعد.»

«ولكني أظن أن الأمر لا بد وأنه رائع. لا بد أنك تستمتع بالعمل في المحاماة وإلا فلم تكن لتحقِّق فيه مثل هذا النجاح.»

«أوه، النجاح … النجاح … ماذا يعني ذلك؟»

«إنني أرغب في القليل منه.»

«ولكنكِ تحقِّقينه يا فتاتي العزيزة.»

«أوه ليس هذا ما أعنيه.»

«ولكن الأمر لم يعد ممتعًا كما كان. فكل ما أفعله هو الجلوس في المكتب وترك الشباب يقومون بالعمل. مستقبلي مخطَّط له بالفعل. أظن أنه بإمكاني أن أتَّسم بالوقار والأُبهة وأنغمس في بعض الرذائل الخاصة … ولكني أفضل من أن أفعل ذلك.»

«لماذا لا تمارس العمل بالسياسة؟»

«ما الذي يجعلني أذهب إلى واشنطن للصيد في الماء العكر بينما أنا في الموقع الذي تصدر فيه الأوامر؟ المريع في أن تتركي نيويورك تتعفَّن بداخلكِ هو أنه لا يوجد مكان آخر. إنها قمة العالم. كل ما يمكننا فعله هو الدوران كما لو كُنا في قفص سنجاب.»

كانت إلين تشاهد الناس في ملابسهم الصيفية الخفيفة يرقصون فوق المربع المشمَّع من الأرضية في المنتصف، ولمحت وجه توني هانتر البيضوي الأبيض المتورِّد يجلس إلى طاولة في الجانب البعيد من الغرفة. لم يكن أوجليثورب معه. جلس هيرف صديق ستان وظهره لها. شاهدته يضحك، وكان رأسه الأسود الطويل المجعَّد متأرجحًا بعض الشيء بمَيل على رقبة هزيلة. لم تكن تعرف الرجلَين الآخرَين.

«إلى مَن تنظرين؟»

«ما هم سوى بعض أصدقاء جوجو … أتعجَّب كيف وجدوا طريقهم إلى هنا. المكان لا يتناسب وذوقهم.»

قال بالدوين بابتسامة ساخرة: «الأمر دائمًا يسير هكذا عندما أحاول الابتعاد عن شيء ما.»

«أرى أنك فعلت بالضبط ما كنت تريده طوال حياتك.»

«أوه يا إلين، فقط لو تركتني أفعل ما أريده الآن. أريدكِ أن تدعيني أُسعدكِ. يا لكِ من فتاة صغيرة وشجاعة تشقين طريقكِ بمفردك تمامًا بطريقتكِ! أُقسم أنكِ مفعمة بالحب والغموض والبريق …» تلعثم، وأخذ جرعةً كبيرة من النبيذ، وواصل حديثه بوجه متورِّد. «أشعر وكأنني تلميذ في المدرسة … أبدو أحمق. إلين، سأفعل أي شيء في العالم من أجلكِ.»

«حسنًا، كل ما سأطلبه منك هو أن تصرف هذا الكركند بعيدًا. أظنه ليس جيدًا جدًّا.»

«اللعنة … ربما هو ليس كذلك … أيها النادل … كنت أُثرثر كثيرًا لدرجة أنني لم أكن أعلم أنني كنت أتناوله.»

«يمكنك أن تجلب لي بعض الدجاج الممتاز بدلًا منه.»

«بالتأكيد يا صغيرتي المسكينة لا بد أنكِ تتضوَّرين جوعًا.»

«… وكوزًا من الذرة … أعي الآن كيف أصبحت محاميًا جيدًا يا جورج. فأي هيئة مُحلَّفين كانت ستجهش في البكاء قبل وقت طويل عند سماعها مثل هذا الاستعطاف الجيَّاش.»

«وماذا عنكِ أنتِ يا إلين؟»

«أرجوك يا جورج لا تسألني.»

•••

على الطاولة حيث جلس جيمي هيرف كانوا يشربون الويسكي ومشروبًا غازيًّا. وكان ثمة رجل ذو بشرة صفراء بشعر فاتح وأنف رفيع يقف منحنيًا بين عيون زرقاء طفولية ويتحدَّث في رتابة وسرية: «صدقًا، لقد أرغمتهم على سماع الحق. إنهم في قسم الشرطة مجانين، مجانين تمامًا ليتعاملوا مع الأمر على أنه حالة اغتصاب وانتحار. هذا الرجل الهَرِم وابنته الجميلة البريئة قد قُتلا، قِتلة بشعة. وهل تعرف مَن …؟» أشار بإصبع ممتلئ عليه آثار رماد سجائر إلى توني هانتر.

قال مُسقِطًا رموشه الطويلة على عينَيه: «لا تستجوبني بالإكراه فأنا لا أعرف أي شيء عن الأمر.»

«إنها عصابة اليد السوداء.»

قال جيمي هيرف ضاحكًا: «أخبرهم يا بولوك.» أنزل بولوك قبضته على الطاولة بقوة جلجلت الأطباق والأكواب. «إن حي كنارسي مليء بأعضاء عصابة اليد السوداء، وبالفوضويين، والخاطفين، والمواطنين غير المرغوب فيهم. إنها مسئوليتنا أن نتصدَّى لهم ونصون شرف هذا الرجل الهَرِم المسكين وابنته الحبيبة. سنُدافع عن شرف ذلك الرجل الهَرِم المسكين ذي وجه قرد، ما اسمه؟»

قال جيمي «ماكينتوش. واعتاد الناس هنا أن يلقِّبوه بسانتا كلوز. بالطبع يقر الجميع أنه مجنون منذ سنوات.»

«نحن لا نُقر بشيء سوى عَظَمة المواطَنة الأمريكية … لكن بحق الجحيم ما الفائدة من تصدُّر هذه الحرب اللعينة الصفحةَ الأولى بأكملها في الصُّحف؟ كنت سأنشر خبرها بملء الصفحة ولكنهم أعطَوني فقط نصف عمود. أليست هذه هي الحياة؟»

«ربما يمكنك افتعال قصة عن كونه الوريث المفقود للعرش النمساوي وأنه قد قُتل لأسباب سياسية.»

«ليست بالفكرة السيئة يا جيمي.»

قال توني هانتر: «ولكنه شيء فظيع.»

«تعتقد أننا حَفنة من المتوحِّشين القُساة، أليس كذلك يا توني؟»

«كلا، ولكني لا أرى المتعة التي يحصل عليها الناس من القراءة في هذا الموضوع.»

قال جيمي: «أوه، إنه جزء من عملنا اليومي المعتاد. ما يقشعر له بدني هو حشد الجيوش، وقد قُصفت العاصمة بلجراد، وغُزيت بلجيكا … وكل تلك الأشياء. لا يمكنني تخيُّل الأمر … لقد قتلوا جوريس.» «مَن هو؟»

«اشتراكي فرنسي.»

«هؤلاء الفرنسيون الملعونون منحطُّون للغاية؛ كل ما يمكنهم فعله هو القتال في المبارزات وتبادل زوجاتهم. أُراهن أن الألمان سيدخلون باريس في غضون أسبوعَين.»

قال فرامينجهام، وكان رجلًا مُتكلِّفًا طويل القامة ذا شارب أشقر هش يجلس بجانب هانتر: «لا يمكن أن يدوم ذلك طويلًا.»

«حسنًا، أود الحصول على مهمة باعتباري مراسل حرب.»

«قل لي يا جيمي، هل تعرف هذا الرجل الفرنسي الذي يعمل ساقيًا هنا؟»

«أتقصد كونغو جيك؟ بالتأكيد أعرفه.»

«هل هو رجل طيب؟»

«إنه ممتاز.»

«دعونا نخرج ونتحدَّث معه. قد يعطينا بعض المعلومات حول جريمة القتل هذه التي حدثت هنا. يا إلهي، ليتني أربطها بالنزاع العالمي.»

شرع فرامينجهام في الحديث، قائلًا: «لديَّ ثقة كبيرة في أن البريطانيين سيُصلحون الأمر بطريقة ما.» تبع جيمي بولوك نحو منضدة الشراب.

وهو يعبر الغرفة، لمح إلين. كان شعرها شديد الاحمرار من وهج المصباح بجانبها. وكان بالدوين يميل نحوها عبر الطاولة بشفتَين رطبتَين وعينَين لامعتَين. شعَر جيمي بشيء مُتَلألِئ ينبثق في صدره كزنبرك مُنطَلِق. أدار رأسه بعيدًا فجأةً خوفًا من أن تراه.

استدار بولوك ودفعه في ضلوعه. «أخبرني يا جيمي مَن هذان الرجلان اللذان خرجا معك بحق الجحيم؟»

«إنهما صديقان لروث. لا أعرفهما جيدًا. أظن أن فرامينجهام مُصمِّم ديكور.»

عند منضدة الشراب أسفل صورة لوسيتينيا وقف رجل أسود يرتدي معطفًا أبيض وله صدر منتفخ كصدر غوريلا. كان صدره يهتز ويتأرجح بين يدَيه المُشعرتَين بغزارة. وقف نادل أمام منضدة الشراب حاملًا صينيةً من كئوس الكوكتيل. فار الكوكتيل داخل الكئوس برغوة بيضاء مخضرَّة.

قال جيمي: «مرحبًا يا كونغو.»

بالفرنسية: «آه، مساء الخير يا سيد هيرف، كيف حالك؟»

«جيد جدًّا … اسمع يا كونغو، أُريدك أن تقابل صديقًا لي. هذا هو جرانت بولوك «الأمريكي».»

«تشرَّفت. أنت والسيد هيرف لكما عندي شراب على حساب الحانة يا سيدي.»

رفع النادل صينية الكئوس المصلصِلة إلى ارتفاع الأكتاف وحملها على صفحة يده.

«أظن أن شراب الجن الفوار سوف يمحو أثر كل ذلك الويسكي ولكني أريد كأسًا منه … اشرب شيئًا، ألن تفعل يا كونغو؟» وضع بولوك إحدى قدمَيه على القضيب النحاسي وأخذ رشفةً من الشراب. قال على مَهَل: «كنت أتساءل عمَّا إذا كانت هناك أي معلومات تتداول في الأرجاء حول جريمة القتل هذه التي وقعت في الشارع.»

«لكلٍّ نظريته حول الأمر …»

لمح جيمي غمزةً فاترة من إحدى عينَي كونغو السوداوَين العميقتَين. سأل كي يمنع نفسه من الضحك: «هل تعيش هنا؟»

«أسمع في منتصف الليل صوت سيارة تمر بسرعة كبيرة وقد شُغِّل قاطع تيارها. أظن أنها ربما قد صدمت شيئًا لأنها توقَّفت سريعًا جدًّا ورجعت أسرع، بأسرع ما يمكن.»

«هل سمعت صوت إطلاق رصاص؟»

هزَّ كونغو رأسه على نحو يبعث على الشعور بالغموض. «إنني أسمع أصواتًا، أصواتًا غاضبة جدًّا.»

قال بولوك وهو يتجرَّع آخر القطرات في شرابه: «يا إلهي، سأبحث في هذا. دعنا نعُد إلى الفتيات.»

•••

كانت إلين تنظر إلى وجه النادل المتجعِّد كحبة جوز بعينَيه الشبيهتَين بعينَيْ سمكة وهو يسكب القهوة. كان بالدوين يميل للخلف في كرسيه مُحدِّقًا إليها عبر رموشه. وكان يتحدَّث بصوتٍ رتيب منخفض:

«ألَا ترَين أنني سيُجن جنوني إن لم أحظَ بكِ. لم أرغب في شيء قط من العالم سواكِ.»

«جورج، لا أريد أن أكون مِلكًا لأحد … ألَا يمكنك أن تفهم أن المرأة تريد بعض الحرية؟ فلتحظَ بروحٍ رياضية حيال الأمر. سأُضطر إلى الذهاب إلى المنزل إذا كنت ستتحدَّث هكذا.»

«لماذا تركتني مُعلَّقًا إذن؟ أنا لست من هذا النوع من الرجال الذي يمكنكِ أن تلعبي به باعتبارك امرأةً متسلطة. أنتِ تعرفين ذلك جيدًا.»

نظرت إليه مباشرةً بعينَين رماديتَين واسعتَين، وقد أضفى الضوء لمعانًا ذهبيًّا على النقاط البنية الصغيرة في حدقتَيها.

«ليس من السهل أبدًا على المرء ألَّا يكون بمقدوره تكوين الأصدقاء.» نظرت لأسفل إلى أصابعها على حافة الطاولة. كانت عيناه على البريق النحاسي على طول رموشها. قطع فجأةً الصمت الذي كان يضيق بينهما.

«على أي حال دعنا نرقص.»
«لقد طُفت العالم ثلاث مرات
في رحلاتي.»

همهم كونغو جيك وخافق الشراب اللامع يترجرج بين يدَيه المُشعِرتَين. كانت الحانة الضيقة المُغطَّاة بالورق الأخضر تعج بها وتكتنفها أصوات الفوران والفحيح الدوامي للشراب، والصلصلة الحادة للثلج والكئوس، ولحن موسيقي عارض من الغرفة الأخرى. وقف جيمي هيرف وحده في الركن يحتسي كأسًا من الجن الفوار. وبجواره كان جاس ماك نيل يصفع بولوك على ظهره ويزأر في أذنه:

«عجبًا، إن لم يغلقوا البورصة … يا إلهي … ثمة فرصة قبل الإفلاس … حسنًا، أستحلفك لا تنسَ. وقت الذعر هو الوقت المناسب لكسب المال للرجل الحَصِيف.»

«كانت هناك بعض الإخفاقات الكبيرة بالفعل، ولم تكن هذه سوى النفحة الأولى …»

«لا تطرق الفرصةُ بابَ الشباب سوى مرة واحدة … استمع لِمَا أقول، عندما يلحق فشل كبير بإحدى شركات السمسرة، فبوسع الرجال الصادقين أن يهنِّئوا أنفسهم … لكنك لن تكتب كل ما أقوله لك في الصُّحف، أليس كذلك؟ ثمة رجل صالح … معظمكم تُراوِغون وتتقوَّلون على الناس. لا يمكنني الوثوق في أحد منكم. ولكني سأخبرك بشيء، تعليق العمل أمر رائع بالنسبة إلى المقاولين. فلم تعد هناك أعمال بناء للمنازل في ظل الحرب على أي حال.» «لن يستمر الأمر لأكثر من أسبوعَين، ولا أرى له علاقةً بنا على أي حال.»

«ولكن الأحوال ستتأثَّر في جميع أنحاء العالم … الأحوال … مرحبًا يا جوي، ماذا تريد بحق الجحيم؟»

«أود أن أتحدَّث معك على انفراد لمدة دقيقة يا سيدي. فثمة بعض الأخبار المهمة …»

فرغت الحانة شيئًا فشيئًا. وكان جيمي هيرف لا يزال واقفًا في الطرف مستندًا إلى الجدار.

«أنت لا تسكر أبدًا يا سيد هيرف.» جلس كونغو جيك خلف منضدة الشراب كي يتناول فنجانًا من القهوة.

«أُفضِّل مشاهدة الآخرين وهم يسكرون.»

«جيد جدًّا. فلا فائدة من إنفاق الكثير من المال والإصابة بألم في الرأس في اليوم التالي.»

«ليست هذه طريقة حديث ساقٍ في حانة.»

«إنني أقول ما أعتقد فيه.»

«اسمع، لقد كنتُ دومًا أريد أن أسألك … أتمانع من إخباري؟ … لماذا أسمَوك كونغو جيك؟»

ضحك كونغو عميقًا من قلبه. «لا أعلم … عندما كنت صغيرًا جدًّا وذهبت إلى البحر أول مرة نادَوني بكونغو لأن لديَّ شعرًا مجعَّدًا وبشرة داكنة كالزنوج. ثم عندما عملت في أمريكا، على متن سفينة أمريكية وكل ذلك، سألني رجل قائلًا كيف حالك يا كونغو؟ وقلت له إن اسمي جيك … لذا أسمَوني كونغو جيك.»

«يا لها من كُنية … ظننت أنك كنت في رحلة بحرية.»

«إنها حياة صعبة … أُقر يا سيد هيرف أن حظي سيئ. عندما أتذكر الماضي فأول ما يخطر ببالي هو أيام كنت أعمل في أحد الصنادل … في قناة … كان هناك رجل كبير يضربني كل يوم ولم يكن أبي. ثم هربت وعملت في المراكب الشراعية داخل وخارج مدينة بوردو، أترى؟»

«كنت هناك في طفولتي على ما أظن …»

«بالتأكيد … تفهم هذه الأشياء يا سيد هيرف. لكن رجلًا مثلك، بتعليمك الجيد وكل ذلك، لا يعرف ما حقيقة الحياة. عندما كنت في السابعة عشرة جئت إلى نيويورك … ليس بالأمر الجيد. لم أفكِّر في شيء سوى أن أحظى بالمرح. ثم ركبت البحر مرةً أخرى وذهبت بعيدًا في كل مكان. تعلَّمت في شنغهاي تحدُّث اللغة الأمريكية والعمل في الحانات. ثم عدت إلى مدينة فريسكو وتزوَّجت. والآن أريد أن أكون أمريكيًّا. ولكن سوء الحظ يلاحقني مرةً أخرى، أترى؟ قبل أن أتزوَّج تلك الفتاة، عشت أنا وهي معًا لمدة عام كالشهد، ولكننا لم نكن بأفضل حال عندما تزوَّجنا. فهي تسخر مني وتدعوني فرينشي لأنني لا أُجيد تحدُّث اللغة الأمريكية، ولم تعد تخرج من المنزل فطردتها. إن حياة الرجل منا لعجيبة.»

«لقد طُفت العالم ثلاث مرات
في رحلاتي …»

شرع في الغناء بصوته الباريتوني الهادر.

كانت ثمة يد على ذراع جيمي. فالتفت. «عجبًا يا إيلي، ما الأمر؟»

«إن معي رجلًا مجنونًا، ينبغي أن تساعدني في الهرب منه.»

بمزيج من الإنجليزية والفرنسية: «انظري هذا هو كونغو جيك … لا بد أنكِ تعرفينه يا إيلي، إنه رجل جيد … هذه فنانة رائعة جدًّا يا كونغو.»

«ألَا ترغب السيدة في كأس صغيرة من الأنيزيت؟»

«تناولي بعض الشراب معنا … إنه مُريح للغاية في هذا الوقت هنا وقد رحل الجميع.»

«لا شكرًا، أنا ذاهبة إلى المنزل.»

«لكن الأُمسية قد بدأت لتوها.»

«حسنًا، عليك أن تتحمَّل عواقب الرجل المجنون الذي معي … اسمع يا هيرف، هل رأيت ستان اليوم؟»

«لا، لم أرَه.»

«إنه لم يصل في الوقت الذي توقَّعته فيه.»

«أتمنَّى أن تمنعيه من الإفراط في الشرب يا إيلي. أنا قلق عليه.»

«لستُ وصيةً عليه.»

«أعلم، ولكنكِ تعلمين ما أعنيه.»

«ما رأي صديقنا هنا في كل هذا الحديث الدائر حول الحرب؟»

«لن أذهب؛ فالأجير لا بلد له. سأصبح مواطنًا أمريكيًّا … لقد عملت في البحرية من قبل ولكن …» صفع ساعده المنحني المهتز بيد واحدة، وقرقعت ضحكة عميقة في حلقه … ثم بمزيج من الإنجليزية والفرنسية: «٢٣. أنا مناصر للفوضوية كما تعلم يا سيدي.»

«ولكن إذن لا يمكنك أن تكون مواطنًا أمريكيًّا.»

هزَّ كونغو كتفَيه.

همست إلين في أذن جيمي: «أوه أنا أُحبه، إنه رائع.»

«أتعرف سبب خوضهم لهذه الحرب هنا … كي لا يقوم أولئك الأُجراء في كل مكان بثورة كبيرة … إنهم مشغولون للغاية بالقتال. لذلك فإن جيوم، وفيفياني، وإمبراطور النمسا، وكروب، وروتشيلد، ومورجان؛ ينادون جميعًا بخوض الحرب … أتعرف ما أول شيء فعلوه؟ لقد أطلقوا النار على جوريس؛ لأنه اشتراكي. الاشتراكيون خَوَنة للاشتراكية الدولية، ولكن على الرغم من ذلك …»

«ولكن كيف يمكنهم دفع الناس للقتال وهم لا يرغبون فيه؟»

«الناس في أوروبا عبيد لآلاف السنين. ليس كما هو الوضع هنا … ولكنني رأيت الحرب. إنها عجيبة للغاية. عملت في إحدى الحانات في قرية بورت آرثر، ولم أكن سوى طفل صغير في ذلك الحين. كان أمرًا شديد العجب.»

«حقًّا! أتمنَّى أن أحصل على وظيفة مراسلة حرب.»

«قد أعمل ممرضةً في الصليب الأحمر.»

«العمل مراسلةً جيد جدًّا … حيث تسكرين دائمًا في حانة أمريكية بعيدة كل البعد عن ساحة المعركة.»

ضحكا.

«ولكن ألسنا بالأحرى بعيدين عن ساحة المعركة يا هيرف؟»

«حسنًا، فلنرقص. يجب أن تسامحيني إن كان رقصي سيئًا للغاية.»

«سأركلك إذا أخطأت في شيء.»

كان ذراعه متيبِّسًا كالجص عندما أحاطها ليرقص معها. تكسَّرت جدران عالية من الرماد وطقطقت بداخله. كان يحلِّق كمنطاد على إثر رائحة شعرها.

«قِف على أصابع قدمَيك وامشِ تزامنًا مع الموسيقى … تحرَّك في خطوط مستقيمة، هذا هو السر في الأمر.» جرح صوتها مشاعره بشدة وكأنه قطَّع جسده بمنشار معدني حاد مرن وصغير. مرافق مهتزة، ووجوه محتشدة، وعيون كعيون دمية جولي ووج السوداء في كتب الأطفال، رجال بدينون مع نساء نحيفات، ونساء نحيفات مع رجال بدينين يدورون مكتظين حولهما. كان كالجص الذي يُفتِّته شيء يُخشخِش مؤلمًا في صدره، وكانت هي بين ذراعَيه كآلة مُعقَّدة بسن منشار فولاذي ذي وميض أبيض، وأزرق، ونحاسي. عندما توقَّفا اصطدم به صدرها، وجانب جسدها، وفخذها. فامتلأ جسده فجأةً بالدماء المتدفِّقة مع العرق كحصان جامح. دفع نسيم عبر باب مفتوح دخان التبغ والهواء الوردي المتخثِّر في المطعم.

«أُريد يا هيرف أن أذهب لأرى الكوخ الذي وقعت فيه جريمة القتل، أرجوك خذني إلى هناك.»

«وكأنني لم أرَ ما يكفي من إشارة الحظر في مكان ارتكاب الجريمة.»

تقدَّم جورج بالدوين في القاعة أمامهما. كان شاحبًا كالطباشير، وكانت ربطة عنقه السوداء مائلة، وكانت فتحتا أنفه الرفيع منبسطتَين وتبرز عليهما عروق حمراء صغيرة.

«مرحبًا يا جورج.»

نعق صوته لاذعًا كبوق سيارة. «لقد كنت أبحث عنكِ يا إلين. ينبغي أن أتحدَّث معكِ … ربما تعتقدين أنني أمزح. ولكني لا أمزح مطلقًا.»

«معذرةً لدقيقة يا هيرف … والآن ما الأمر يا جورج؟ عُد إلى الطاولة.»

«لم أكن أنا أمزح أيضًا يا جورج … أتمانع أن تطلب لي سيارة أجرة يا هيرف؟»

أمسك بالدوين معصمها بقوة. «لقد كنتِ تتلاعبين بي طويلًا، هل تسمعينني؟ يومًا ما سيأخذ رجل مسدسًا ويطلق النار عليكِ. تعتقدين أنه بإمكانكِ التلاعب بي كما تتلاعبين بكل الحمقى البكَّائين الآخرين … لستِ سوى عاهرة.»

«لقد قلت لك يا هيرف أن تذهب وتُحضر لي سيارة أجرة.»

عض جيمي شفته وخرج من الباب الأمامي.

«ماذا ستفعلين يا إلين؟»

«لن يرهبني يا جورج.»

ومض شيء من النيكل في يد بالدوين. تقدم جاس ماك نيل وقبض على معصمه بيد حمراء كبيرة.

«أعطني ذلك يا جورج … أرجوك اجمع شتات نفسك يا رجل.» دسَّ المسدس في جيبه. ترنَّح بالدوين إلى الحائط أمامه. كان إصبع الزناد في يده اليمنى ينزف.

قال هيرف وهو ينظر من وجه لآخر من الوجوه البيضاء المضطربة: «ها هي سيارة أجرة.»

كان ماك نيل يصرخ بصوت من يتحدَّث من فوق منصةٍ صغيرة مصنوعة من صندوق للصابون: «حسنًا، خذ الفتاة إلى المنزل … ليس بها شيء، نوبة عصبية فحسب، أترى؟ لا داعي للقلق.» كان رئيس النُّدُل وفتاة المعاطف يتبادلان النظرات بقلق. خفض ماك نيل صوته حتى أصبح كخرخرة مُطمئنة: «لم يحدث شيء … الرجل متوتِّر قليلًا … إرهاق كما تفهمون.» «لقد نسيتَ فحسب.»

عندما كانوا يستقلون سيارة الأجرة، قالت إلين فجأةً بصوت طفل صغير: «لقد نسيت أننا كنا ذاهبين لرؤية الكوخ الذي وقعت فيه جريمة القتل … لنجعله ينتظر. أرغب في التنزُّه في الهواء الطلق لدقيقة.» كانت هناك رائحة مستنقعات ملحية وكانت الليلة رخاميةً بالغيوم وضوء القمر. وبدا صوت الضفادع في خنادق المياه وكأنها أجراس زلاجات جليدية.

سألَت: «هل هو بعيد؟»

«لا، إنه عند الناصية مباشرة.»

طقطقت أقدامهما على الحصى ثم طحنت برفق في حارة الطريق المَجرُوشة. أعماهما مصباح أمامي، فتوقَّفا من أجل السماح للسيارة بالمرور؛ مُلئ أنفاهما بالعادم، الذي تلاشى في رائحة المستنقعات الملحية مرةً أخرى.

كان منزلًا رماديًّا شاحبًا ذا شرفة صغيرة تُطل على الطريق وتغطيها شبكة مكسورة. ظلَّلته شجرة سَنْط كبيرة من الخلف. وكان ثمة رجل شرطة يمشي جيئةً وذهابًا أمامه وهو يُصفِّر لنفسه برفق. ظهرت لدقيقة كِسرات بلون كلون العفن من ضوء القمر من خلف الغيوم، لتُشكِّل ما يشبه ورق القصدير من بعض الزجاج المكسور في إحدى النوافذ المفتوحة، وتنتقي أوراق السَّنْط المستديرة الصغيرة، وتتدحرج كعملة دايم في صدع بالغيوم.

لم يقل أيٌّ منهما شيئًا. رجعا إلى النُّزُل على الطريق.

«اصدقني القول يا هيرف، ألم ترَ ستان؟»

«لا، ليس لديَّ فكرة أين عساه أن يكون مختبئًا.»

«إذا رأيته فأخبِره أنني أُريده أن يتصل بي على الفور … هيرف، ماذا كان اسم أولئك النساء اللواتي اتبعن الجيوش في الثورة الفرنسية؟»

«دعيني أتذكَّر. هل كان كانتونيريه؟»

«شيء من هذا القبيل … أود أن أفعل ذلك.»

أصدر قطار كهربائي صفيرَه بعيدًا إلى يمينهما، واهتزَّ مقتربًا ثم تلاشى في مسيرة عُوائه.

كانت موسيقى التانجو تنبعث من النُّزُل على الطريق كما لو كانت تقطر منه وتُذيب طلاءه الوردي ككتلة من الآيس كريم. كان جيمي يتبعها راكبًا سيارة الأجرة.

«كلا، أريد أن أكون وحدي يا هيرف.»

«ولكني أرغب بشدة أن أصطحبكِ إلى المنزل … لا تعجبني فكرة أن أترككِ تذهبين وحدكِ.»

«من فضلك، أطلب منك ذلك بصفتنا صديقَين.»

لم يتصافحا. رفست سيارة الأجرة الغبار والجازولين المحترق في وجهه. وقف على الدرج غير راغب في العودة إلى ضوضاء ودخان.

•••

كانت نيللي ماك نيل تجلس وحدها إلى الطاولة. كان أمامها الكرسي مدفوعًا إلى الوراء وقد جلس عليه زوجها ووضع منديله على ظهره. كانت تحدِّق أمامها مباشرة؛ حيث مرَّت الراقصات كالظلال أمام عينَيها. في الطرف الآخر من الغرفة رأت جورج بالدوين، شاحبًا ونحيلًا، يمشي ببطء إلى طاولته كرجل مريض. وقف بجانب الطاولة يفحص شيكه بعناية، ثم دفعه ووقف ينظر في أنحاء الغرفة مشتت الانتباه. كان سينظر إليها. أحضر النادل الباقي على طبق وانحنى. اجتاحت نظرة بالدوين السوداء وجوه الراقصات، ثم أدار ظهره وخرج. تذكَّرت المذاق المُسكَّر للزنابق الصينية التي لا تُطاق، فشعرت بعينَيها ممتلئتَين بالدموع. أخرجت مفكرتها من حقيبتها الشبكية الفضية وتصفَّحتها على عجل، واضعةً رءوس أسهم بقلم رصاص فضي. نظرت لأعلى بعد برهة، وكان جلد وجهها المتعب مُجعَّدًا من أثر الغضب، وأشارت إلى النادل. «هل يمكنك من فضلك أن تُخبر السيد ماك نيل أن السيدة ماك نيل تُريد التحدُّث إليه؟ إنه في الحانة.»

كان بولوك يصيح في الوجوه والكئوس المتراصة فيما يشبه إطار الزينة على طول منضدة الشراب: «سراييفو، سراييفو، هذا هو المكان الذي أشعل فتيل النزاع.»

قال جو أوه كيفي سرًّا دون أن يُوجِّه كلامه لشخص بعينه: «اسمع، أخبَرَني رجل يعمل في مكتب تلغراف أنه كانت هناك معركة بحرية كبيرة قُبالة ساحل سانت جون، وأن جيوش جزيرة نيوفندلاند والبريطانيين قد أغرقوا الأسطول الألماني المكوَّن من ٤٠ بارجة.»

«يا للهول، ذلك من شأنه أن يوقف الحرب على الفور.»

«لكنهم لم يُعلنوا نشوب الحرب بعد.»

«كيف علمت بذلك؟ البرقيات مكتظة لدرجة لا يمكن معها الحصول على أي أخبار عن طريقها.»

«ألم ترَ وقوع أربعة إخفاقات أخرى في وول ستريت؟»

«لا تقل لي إن بورصة القمح في شيكاغو قد جُن جنونها.»

«ينبغي أن يغلقوا جميع البورصات حتى ينقشع هذا الهم.»

«حسنًا، ربما عندما يغلب الألمان بشكل حاسم ستمنح إنجلترا أيرلندا حريتها.»

«لكنها … لن تفتح سوق الأسهم غدًا.»

«إذا كان لدى المرء رأسُ المال الذي يغطِّي الأمر ويمكنه أن يحافظ على رباطة جأشه، فسيكون إذن قد حان وقت الربح.»

قال جيمي: «حسنًا أيها الرجل الهَرِم بولوك، سأذهب إلى المنزل. فهذه ليلة راحتي ويجب أن أحصل عليها.»

غمز بولوك بإحدى عينَيه ولوَّح بيدٍ مهتزَّة من أثر السكر. كانت الأصوات في أذنَي جيمي كزئير لين نابض، تقترب وتبتعد، تقترب وتبتعد. يموت مِيتَة الكلاب، هكذا قال وهو يسير. أنفق جميع أمواله إلا ربع دولار. أُطلق عليه الرصاص وقت شروق الشمس. إنه إعلان الحرب. بدأت الأعمال العدائية. وتركوه وحده في مجده. معارك لايبزيج، وويلدرنس، وووترلو، حيث وقف المزارعون المحاصَرون وأطلقوا الرصاص الذي سُمع دويه في كل مكان … لا يمكنني أن أستقل سيارة أجرة، وأُريد أن أمشي على أي حال. الإنذار النهائي. يغنِّي العساكر في القطارات الذاهبة بهم إلى الخراب والورود فوق آذانهم. والعار على الإتروري المزيف الذي يتخلَّف في منزله عندما …

بينما كان يسير في طريق الحصى إلى الشارع، تأبَّطت ذراعَه ذراعٌ أخرى.

«هل تمانع إذا أتيت معك؟ لا أريد البقاء هنا.»

«بالتأكيد تعالَ يا توني أنا ذاهب للتمشية.»

سار هيرف بخطوة طويلة، ناظرًا أمامه مباشرة. أظلمت الغيوم السماء، في حين بقي البياض الحليبي لضوء القمر. إلى اليمين واليسار كانت هناك بالخارج الأقماع البنفسجية الرمادية للمصابيح القوسية التي تظهر بين الحين والآخر سوداء يتخلَّلها بعض الأضواء، وفي الأمام وهج الشوارع المرتفعة في منحدرات ضبابية صفراء ومتورِّدة.

قال توني هانتر لاهثًا بعد بضع دقائق: «أنت لا تحبني، أليس كذلك؟»

أبطأ هيرف من وتيرته. «عجبًا، أنا لا أعرفك جيدًا. تبدو لي شخصًا لطيفًا للغاية …»

«لا تكذب؛ فليس ثمة سبب يجعلك تحبني … أعتقد أنني سأقتل نفسي الليلة.»

«بحق السماء! لا تفعل ذلك … ما الأمر؟»

«ليس لديك الحق في أن تقول لي ألَّا أقتل نفسي. أنت لا تعرف شيئًا عني. لو كنتَ امرأةً لَمَا كنتَ غير مبالٍ إلى هذه الدرجة.»

«ما الذي يؤرقك؟»

«أُصاب بالجنون، هذا ما في الأمر، كل شيء مُروِّع للغاية. عندما قابلتك أول مرة مع روث ذات مساء اعتقدت أننا سنصبح صديقَين يا هيرف. لقد بدوت متعاطفًا ومتفهِّمًا للغاية … ظننتك مثلي، ولكنك الآن أصبحت قاسيًا للغاية.»

«أظن السبب هو مشكلاتي مع صحيفة «نيويورك تايمز» … سأُطرد قريبًا، لا تشغَل بالك.»

«لقد سئمت من كوني فقيرًا؛ أريد أن أحقِّق نجاحًا.»

«حسنًا، ما زلت صغيرًا بعد؛ لا بد أنك أصغر مني.» لم يُجِبه توني.

كانا يسيران في جادةٍ واسعةٍ بين صفَّين من المنازل الخشبية المُسْوَدة. مرَّت عربة ترام طويلة وصفراء مهسهسةً ومصرصرة.

«يا إلهي، لا بد أننا في حي فلاتبوش.»

«ظننتك مثلي يا هيرف، لكنني لا أراك الآن مطلقًا سوى مع بعض النساء.»

«ماذا تعني؟»

«لم أخبر أحدًا في العالم قط … أستحلفك ألَّا تخبر أحدًا … عندما كنت طفلًا، كنت شَبِقًا بفظاعة، عندما كنت في العاشرة، أو الحادية عشرة، أو الثالثة عشرة من عمري تقريبًا.» كان يبكي. عندما مرَّا أسفل أحد المصابيح القوسية، التقط جيمي ترقرق الدموع على وجنتَيه. «ما كنت لأخبرك بهذا إن لم أكن مخمورًا.»

«لكن أشياء من هذا القبيل حدثت للجميع تقريبًا في طفولتهم … لا داعي للقلق بشأن ذلك.»

«لكنني على هذا النحو الآن، وهذا هو المروِّع للغاية. لا أستطيع أن أحب النساء. لقد حاولت وحاولت … كما ترى فقد أُلقي القبض عليَّ. كنت أشعر بالخجل الشديد ولم أذهب إلى المدرسة لأسابيع. بكت والدتي كثيرًا. إنني أشعر بالخجل الشديد. وأنا خائف للغاية من أن يكتشف الناس الأمر. أنا أُجاهد دائمًا من أجل إبقاء الأمر سرًّا، من أجل إخفاء مشاعري.»

«ولكن الأمر برمته قد لا يتعدَّى كونه مجرد فكرة. قد تتمكَّن من تجاوزها. فلتذهب إلى مُحلِّل نفسي.»

«لا أستطيع التحدث إلى أحد. فقط الليلة لأنني مخمور. لقد حاولت البحث عن الأمر في الموسوعة … إنه ليس في القاموس حتى.» توقَّفَ واستند إلى عمود إنارة ووجهه بين يدَيه. «إنه ليس في القاموس حتى.»

ربت جيمي هيرف على ظهره. «ابتهج أرجوك. هناك الكثير من الناس في مثل حالتك. العالم مليءٌ بهم.»

«أنا أكرههم جميعًا … ليس أمثال هؤلاء من أقع في حبهم. أنا أكره نفسي. وأفترض أنك ستكرهني بعد هذه الليلة.»

«ما هذا الهراء؟ إن الأمر ليس من شأني.»

«الآن تعرف لِمَا أُريد أن أقتل نفسي … أوه، هذا ليس عدلًا يا هيرف، هذا ليس عدلًا … لم يحالفني الحظ في حياتي. بدأت في كسب رزقي بمجرد أن أنهيت المدرسة الثانوية. فقد اعتدت العمل خادمًا في الفنادق الصيفية. عاشت والدتي في ليكوود وكنت أُرسِل لها كل ما أكسبه. لقد عملت بجد للوصول إلى ما أنا عليه الآن. لو كان قد عُرف أمري، لو كان قد ذاعت ثمة فضيحة وعُرف كل شيء، لكنت قد تدمَّرت.»

«لكن الجميع يقول ذلك عن الممثِّلين الشباب ولا يشغل أيٌّ منهم باله بما يقولون.»

«عندما أفشل في الحصول على أحد الأدوار، أظن أن هذا هو السبب. إنني أكره وأحتقر كل هذه النوعية من الرجال … لا أريد أن أعمل عملًا آخر. أريد أن أمثِّل. أوه هذا جحيم … هذا جحيم.»

«لكنك تتدرَّب الآن على أحد الأدوار، أليس كذلك؟»

«إنه عرض أحمق لن يتجاوز ستامفورد مطلقًا. إذن عندما تسمع أنني قد قمت بالأمر فلن تتفاجأ.»

«قمت بماذا؟»

«قتلت نفسي.»

سارا دون أن ينبسا بكلمة. بدأت السماء تمطر. وفي الشارع خلف المنازل المنخفضة على شكل علب الأحذية ذات اللون الأسود المخضر كان ثمة برق مختلج كعُثَّات متورِّدة. هبَّت رائحة رطبة مغبرة من الأسفلت الذي ضربته القطرات الكبيرة المنهمرة.

«لا بد أن تكون هناك محطة مترو أنفاق قريبة … أليس هذا ضوءًا أزرق هنا؟ لنسرع وإلا فسنبتل.»

«أوه بحق الجحيم يا توني لا يهمني إن تبلَّلت أم لا.» خلع جيمي قبعته اللبادية وأرجحها بيدٍ واحدة. كانت قطرات المطر باردةً على جبهته، ورائحة المطر، والأسطح، والطين، والأسفلت أخذت من فمه المذاق اللاذع للويسكي والسجائر.

صرخ فجأة: «يا إلهي، هذا مُروِّع.»

«ماذا؟»

«كل هذه الجلَبة حول الجنس. لم أكن أدرك الأمر قبل هذه الليلة، كل هذا الكم من العذاب. يا إلهي، لا بد أنك قد مررت بأوقات عصيبة … كلنا مررنا بأوقات عصيبة. في حالتك الأمر مجرد حظ، حظ سيئ شيطاني. كان مارتن يقول: كل شيء سيكون أفضل بكثير إذا دقَّ الجرس فجأةً وأخبر الجميعُ الجميعَ بصراحةٍ بما فعلوه في حياتهم، كيف عاشوا، وكيف أحبوا. إن إخفاء الأمور هو ما يجعلها تفسد. بربي إنه لأمر مُروِّع. وكأن الحياة لم تكن صعبةً بما فيه الكفاية من دون ذلك.»

«حسنًا، سأذهب إلى محطة مترو الأنفاق هذه.»

«سيكون عليك انتظار القطار لساعات.»

«لا أتحمَّل، فأنا متعب ولا أريد أن أتبلَّل.»

«حسنًا ليلة سعيدة.»

«ليلة سعيدة يا هيرف.»

هبَّت نوبة هائجة طويلة من قصف رعدي. وبدأت السماء تُمطر بغزارة. ضغط جيمي قبعته على رأسه وسحب ياقة معطفه لأعلى. أراد أن يركض على طول الطريق صارخًا ولاعنًا بأعلى صوته. ومض البرق على طول الصفوف المحدقة للنوافذ الفارغة. اضطرب المطر على طول الأرصفة، أمام نوافذ المتاجر، وعلى البلاطات الحجرية البنية. كانت ركبتاه مبتلَّتَين، وتتدفَّق قطرات بطيئة فوق ظهره، وكانت ثمة شلالات باردة تقطر من كُمَّيه على معصمَيه، كان يشعر بالحكة والوخز في كامل جسده. واصل السير عبر بروكلين. تستحوذ على عقله صورة كل سرير في جميع غرف النوم التي في حجم بيوت الحمام، حيث النائمون المتشابكون والملتوون والمختنقون كجذور النباتات المستحوذة على أُصُصها. وتستحوذ على عقله أصوات الأقدام المصرصِرة فوق سلالم النُّزل، والأيدي المتلمِّسة طريقها عند مقابض الأبواب. تستحوذ على عقله صورة الأصداغ الطارقة والأبدان الوحيدة المتيبِّسة في أَسرتها.

لقد طفت العالم ثلاث مرات
لتحيَ الدماء، لتحيَ الدماء …

أنا يا سيدي مناصر للفوضوية … «ودارت سفينتنا الشجاعة ثلاث مرات، ودارت ثلاث مرات» … اللعنة بين ذلك والمال … «وغرقت في قاع البحر» … إننا ندور في حلقة مُفرغة من أجل تحقيق العدالة.

لقد طفت العالم ثلاث مرات
في رحلاتي.

إعلان حرب … قعقعة طبول … يسير الحرس الملكي البريطاني بثيابه الحمراء خلف العصا اللامعة لقائد فرقة الطبول بقُبعته الشبيهة بأكمام كفوف من الفرو الطويل الشعر، ويدور المقبض الفضي وامضًا في غضب، غضب، غضب … في وجه الثورة العالمية. بدأت الأعمال العدائية في استعراض طويل عبر الشوارع الفارغة التي غمرها المطر. اقرأ الطبعة الثانية، طبعة ثانية، طبعة ثانية. سانتا كلوز يطلق النار على ابنته، حاول مهاجمتها. «يقتل نفسه رميًا بالرصاص» … يضع البندقية أسفل ذقنه ويضغط على الزناد بإصبع قدمه الكبير. تنظر النجوم للأسفل إلى مدينة فريديريكتاون. يا عُمَّال العالم اتحدوا. فلتحيَ الدماء، فلتحيَ الدماء.

قال جيمي هيرف عاليًا: «يا إلهي، إنني مبتل.» امتدَّت الشوارع على مستوى نظره فارغةً تحت المطر بين صفوف النوافذ الفارغة والمرصعة هنا وهناك بمقابض بنفسجية من أثر المصابيح القوسية. واصل السير شاعرًا باليأس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤