الفصل السادس

خمس مسائل قانونية

يسيرون اثنَين اثنَين على عجل. «ممنوع منعًا باتًّا الوقوف في السيارات». سلسلة الصعود تتشابك، ممسكةً في التروس؛ فتصعد السيارات المستوى المائل منتفضةً من داخل الأضواء الطنَّانة، من داخل رائحة الحشود والذرة المطبوخة على البخار والفول السوداني، تتصاعد خفَّاقةً مقززة في ليلة طويلة من ليالي سبتمبر المليئة سماؤها بالشُّهب.

البحر، ورائحة المستنقعات، وأضواء إحدى عبَّارات شركة أيرون ستيمبوت مغادرةً الرصيف. وعبر الأفق الأزرق الداكن ذي المسحة البنفسجية، ومضت منارة. ثم يموج البحر. يضطرب البحر، وترتفع الأضواء. شعرها في فمه، ويده في ضلوعها، وفخذاهما منسحقان معًا.

انتزعت ريح سقوطهما صرخاتهما، فانتفضا وقد علت أنفاسهما عبر هيكل الجسر المتشابك. يموج البحر. ويضطرب. وأضواء جياشة في الأُفق ما بين الظُّلمة والبحر. ثم يموج البحر. «حافظوا على مقاعدكم للرحلة التالية.»

«ادخل يا جو، سأرى إن كانت السيدة العجوز ستجلب لنا بعض الطعام.»

«هذا لطف بالغ منك … أنا … أنا لست … أنا … لا أرتدي زيًّا مناسبًا للقاء سيدة كما ترى.»

«أوه لن تهتم. فما هي سوى أمي، اجلس، سأُحضرها.»

جلس هارلاند على كرسي بجانب الباب في المطبخ المظلم ووضع يدَيه على ركبتَيه. جلس يحدِّق إلى يدَيه، وكانتا حمراوَين محببتَين بالغبار وترتجفان، وكان لسانه كمبشرة جوزة الطيب من أثر الويسكي الرخيص الذي كان يشربه الأسبوع الماضي، وشَعَر في كامل جسده بالخدر والبلل والنتانة. حدَّق إلى يدَيه.

عاد جو أوكيف إلى المطبخ. «إنها مستلقية. تقول إن هناك بعض الحساء خلف الموقد … تفضَّل. هذا سيمنحك القوة … ينبغي أن تذهب حيث كنتُ ليلة أمس يا جو. فقد خرجت إلى حانة سي سايد هنا كي أحمل رسالةً إلى رئيس الطهاة عن شخص يُخبره بأنهم سيُغلقون السوق … لقد كان أبشع شيء رأيتَه في حياتك. هذا الرجل الذي هو محامٍ معروف في وسط المدينة كان بالخارج في القاعة يصيح عاليًا من أعماقه معترضًا على شيء ما. يا إلهي، لقد بدا صعبًا. ثم أخرج مسدسًا وكاد يُطلق النار عليها أو شيء ملعون من هذا القبيل عندما أتى رئيس الطُّهاة وهدَّأ من روعه وهو يعرج على عصاه كما يفعل، وأخذ المسدس بعيدًا عنه ووضعه في جيبه قبل أن يرى أحد بوضوح ما حدث … هذا الرجل بالدوين هو صديقه، أتصدِّق ذلك؟ لقد كان أبشع شيء رأيته في حياتك. ثم انهار تمامًا مثل …»

قال جو هارلاند: «اسمع مني يا فتى، سيُصيبهم هذا جميعًا عاجلًا أم آجلًا …»

«فلتتناول طعامك جيدًا. لم تأكل ما يكفي.»

«لا أستطيع أن آكل جيدًا.»

«بل تستطيع بالتأكيد … أخبرني يا جو ماذا عن الحرب؟»

«أعتقد أنهم سيخوضونها هذه المرة … لقد عرفت أنها آتية منذ حادثة أكادير.»

«يا إلهي، أُحب أن أرى أحدًا يهزم إنجلترا بعد أن رفضت منح أيرلندا حكمها الذاتي.»

«ينبغي علينا مساعدتهم … على أي حال لا أرى كيف يمكن أن يستمر هذا طويلًا. فلن يسمح بذلك مَن يتحكَّمون في التمويل الدولي. في نهاية المطاف، المصرفيون هم مَن يتحكَّمون في الأموال.»

«لن نذهب لمساعدة إنجلترا، لا يا سيدي، لن نفعل ذلك بعد ما فعلوه في أيرلندا، وفي الثورة، وفي الحرب الأهلية …»

«سيقضي عليك تمامًا هذا التاريخ الذي تقرؤه في المكتبة العامة كل ليلة يا جوي … فلتُتابع أسعار الأسهم وابقَ منتبهًا ومستعدًّا ولا تدعهم يخدعونك بكل هذه الصُّحف التي تتحدَّث حول الإضرابات، والثورات، والاشتراكية … أود أن أراك تُحقِّق نجاحًا يا جوي … حسنًا، أظن أنه من الأفضل أن أذهب.»

«فلتمكث قليلًا، سنفتح زجاجةً من الشراب.» سمعا صوت أقدام ثقيلة متعثِّرة في الممر خارج المطبخ.

«مَن هناك؟»

«أهذا أنت يا جو؟» دخل الغرفة مترنِّحًا فتًى كبيرُ الحجم أشقر الشعر بكتفَين ضخمَين ووجه أحمر مربع وعنق ثخين.

«مَن في ظنك يكون هذا بحق الجحيم؟ … إنه أخي الصغير مايك.»

«حسنًا ما الأمر؟» وقف مايك متمايلًا وذقنه على صدره. انتفخت كتفاه لتصل إلى السقف المنخفض للمطبخ.

«أليس كالحوت في ضخامته؟ ولكن بحق المسيح ألم أقُل لك ألَّا تأتي إلى المنزل وأنت مخمور؟ … إن بإمكانه أن يهدم علينا المنزل.»

«ينبغي أن أعود إلى المنزل وقتًا ما أليس كذلك؟ منذ أن عملت في الحزب يا جو وأنت تضايقني أكثر ممَّا يفعل الرجل الهَرِم. أنا سعيدٌ أنني لن أمكث في هذه البلدة الملعونة طويلًا. إن بها ما يكفي لتجن جنون المرء. إن تمكَّنت من أن أذهب في أحد الأحواض التي تُبحِر أمام جسر البوابة الذهبية، فسأفعل وربي.»

«بحق الجحيم لا أمانع من أن تبقى هنا. كل ما في الأمر أنني لا أُحب ألَّا تتمالك نفسك طوال الوقت، أتفهم؟»

«سأفعل ما أريد، أتفهمني؟»

«اخرج من هنا يا مايك … عُد إلى المنزل عندما تكون مستفيقًا.»

«أود أن أراك وأنت تطردني من هنا، أتفهمني؟ أود أن أراك وأنت تطردني من هنا.»

نهض هارلاند واقفًا. قال: «حسنًا، سأفعل. فلترَ ما إذا كان بإمكاني فعل ذلك.»

كان مايك يتقدَّم عبر المطبخ بقبضتَين مطبقتَين. مدَّ جوي شفته السفلى، والتقط كرسيًّا.

«سألبسه في رأسك.»

«بحق القِديسين والشهداء ألَا تستطيع المرأة أن تحظى بالسكينة في منزلها؟» ركضت امرأة صغيرة البِنية ذات شعر أشيب تصرخ بينهما، وكان لها عينان سوداوان متباعدتان في وجهها المنكمش كتفاحة تُركت لتتعفَّن من عامٍ مضى، لوَّحت في الهواء بيدَين لواهما العمل. «فليخرس كلٌّ منكما، دائمًا ما تتبادلان السِّباب وتتعاركان في أنحاء المنزل كما لو لم يكن هناك إله … اصعد يا مايك إلى الطابق العلوي واستلقِ في سريرك حتى تستفيق.»

قال جوي: «لقد كنت للتو أقول له ذلك.»

التفتت إلى هارلاند، وكان صوتها كصرير الطباشير على سبورة سوداء. «وأنت، اخرج من هنا. فأنا لا أسمح بوجود المتشرِّدين السكارى في منزلي. اخرج من هنا. لا يهمني مَن أحضرك.»

نظر هارلاند إلى جوي بابتسامة بغيضة بعض الشيء، ثم هزَّ كتفَيه وخرج. تمتم وهو يتعثَّر بساقَين تؤلمانه على طول الشارع الترابي للمنازل المبنية من الطوب ذي الواجهة المظلمة: «خادمة.»

كانت شمس ما بعد الظهيرة القائظة كضربة على ظهره. وفي أذنَيه أصوات الخادمات، والطُّهاة، والكتَّاب المختزلين، والسكرتارية: نعم يا سيدي، السيد هارلاند، شكرًا لك يا سيدي السيد هارلاند. أوه يا سيدي شكرًا جزيلًا يا سيدي السيد هارلاند …

•••

ثمة طنين أحمر في جفنَيها حيث يوقظها ضوء الشمس، وتغوص مرةً أخرى في دهاليز النوم الناعمة كالصوف القطني الأرجواني، وتستيقظ مرةً أخرى، متقلِّبةً متثائبة، وتسحب ركبتَيها إلى ذقنها لتجذب شرنقة النعاس الحلوة بإحكام أكثر حولها. تتدحرج شاحنة تدحرجًا مرعبًا على طول الشارع، وأشعة الشمس تقبع في خطوط ساخنة فوق ظهرها. تتثاءب في يأس وتتقلَّب وتستلقي متمدِّدة ويداها أسفل رأسها محدِّقةً في السقف. من بعيد عبر الشوارع وجدران المنازل، يخترق سمعها الأنين الطويل لصافرة قارب بخاري كفسيلة حشائش سلطعون تندفع عبر الحصى. تجلس إلين وهي تهزُّ رأسها كي تُبعد ذبابةً متخبطة حول وجهها. تومض الذبابة وتختفي في ضوء الشمس، ولكنها تظل تشعر في مكانٍ ما بوخز طنَّان متباطئ، غير قابل للتفسير، شيء خلَّفته أفكار الليلة الماضية المريرة. ولكنها سعيدة ومستيقظة تمامًا وما زال الوقت مبكِّرًا. تنهض وتتجوَّل في أرجاء الغرفة في ثوب نومها.

عندما تضرب الشمس الأرضية الخشبية الصلبة، تجدها دافئةً في أخمَصَي قدمَيها. تُزقزق عصافير الدوري على النوافذ. ويأتي من الطابق العلوي صوت ماكينة خياطة. عندما خرجت من الحمام بدا جسدها مصقولًا ناعمًا ومشدودًا، ففركته بمنشفة وهي تحسب ساعات اليوم الطويل الذي أمامها؛ حيث المشي عبر شوارع وسط المدينة التي تتناثر بها القُمامة وصولًا إلى ذلك الرصيف على النهر الشرقي حيث يُكوِّمون عارضات خشب الماهوجني، ثم تناول الإفطار وحدها في فندق لافاييت، من قهوة ولفائف هلالية وزبدة حلوة، والذهاب للتسوق في متجر لورد آند تیلور مبكِّرًا قبل حلول المساء حيث الزحام وإرهاق البائعات، وتناول الغداء مع … ثم يتدفَّق الألم الذي كان يُزعجها طوال الليل وينفجر. قالت بصوت عالٍ: «ستان، ستان، يا إلهي!» تجلس أمام مرآتها تُحدِّق إلى سواد حدقتَي عينَيها المتسعتَين.

ترتدي ملابسها على عَجَل وتخرج، وتمشي في الجادة الخامسة وشرقًا بمحاذاة شارع ٨ دون النظر يمينًا أو يسارًا. أشعة الشمس حارة بالفعل وتسقط على شكل أضلاع مضطربة فوق الأرصفة، والألواح الزجاجية، واللافتات المطلية بالأبيض من مسحوق الرخام. وجوه الرجال والنساء وهم يمرون بها مجعَّدة ورمادية كالوسائد التي ناموا عليها طويلًا. بعد عبورها شارع لافاييت الذي يعج بالشاحنات وعربات التوصيل، تشعر بمذاق الغبار في فمها، وحبيبات من جَريش تنسحق بين أسنانها. وعندما تتقدَّم أكثر ناحية الشرق، تمر بعربات يد، حيث يمسح رجال الطاولات الرخامية لحوامل المشروبات الغازية، ويملأ أرْغُن يدوي الشارع بمقطوعة «الدانوب الأزرق» الصادرة من لفائف تَدافعه اللامعة، وتنتشر حِدة حريفة من حامل للمخلَّلات. في ساحة تومبكينز، يتجوَّل الأطفال صارخين فوق الأسفلت الندِي. وعند قدمَيها كومة تتلوَّى من الأولاد الصغار، بقمصانهم المتسخة الممزَّقة، وأفواههم التي تسيل لعابًا، يلكمون، ويعضون، ويُخربشون، وتفوح منهم رائحة كريهة كالخبز العفن. تشعر إلين فجأةً بركبتَيها ضعيفتَين تحتها. تستدير وتمشي في الطريق الذي أتت منه.

الشمس ثقيلة كذراعه على ظهرها، تضرب ساعدها العاري كما تضربها أصابعه، إنها أنفاسه على وجنتها.

•••

قالت إلين للرجل ذي عظام الوجه البارزة والعينَين الكبيرتَين المرتخيتَين كالمحار، وهي تنظر إلى مقدمة قميصه الطويلة: «لا شيء سوى المسائل القانونية الخمس.»

سأل بجدية: «أوَهكذا يُمنح القرار؟»

«بالتأكيد بالتزكية …»

«حسنًا، أنا في غاية الأسف لسماع ذلك بصفتي صديقًا قديمًا لعائلة كلا الطرفَين.»

«اسمع يا ديك، صدقًا أنا مغرمة جدًّا بجوجو. وأنا مدينة له بالكثير … إنه شخص جيد جدًّا من نواحٍ عدة، ولكن كان لا بد من ذلك لا محالة.»

«هل تقصدين أن هناك شخصًا آخر؟»

نظرَت لأعلى إليه بعينَين ساطعتَين وبنصف إيماءةٍ من رأسها.

«أوه ولكن الطلاق هو خطوة بالغة الصعوبة يا سيدتي العزيزة الصغيرة.»

«أوه ليست بهذه الصعوبة كما قد يُظن.»

رأيا هاري جولدفايزر يقترب منهما عبر الغرفة الكبيرة المكسوَّة بألواح الجوز. فرفعت صوتها فجأة. «يقولون إن معركة المارن هذه ستُنهي الحرب.»

أمسك هاري جولدفايزر بيدها بين يدَيه ذات الراحتَين السمينتَين ومال عليها. «إنه لمن الرائع أن تأتي يا إلين وتنقذي الكثير من العُزاب في منتصف الصيف من الملل المميت. مرحبًا أيها الرجل الهَرِم سنو، كيف الأحوال؟»

«أجل، كيف لا يزال بإمكاننا أن نحظى بشرف لقائك هنا؟»

«أوه لقد احتجزتني عدة أشياء … على أي حالٍ أنا أكره المنتجعات الصيفية. ليس هناك مكان أجمل من لونج بيتش على أي حال … عجبًا، بار هاربور، لن أذهب إلى بار هاربور ولو أعطيتني مليون دولار أمريكي … مليون بحق.»

أطلق السيد سنو نَفسًا أجش. «يبدو لي أنني سمعت أنك تخوض لعبة العقارات يا جولدفايزر.»

«لقد اشتريت لنفسي كوخًا، هذا كل ما هنالك. من المدهش أنه لا يمكنك أن تشتري لنفسك ولو كوخًا دون أن يعلم جميع باعة الصُّحف في ميدان التايمز بالأمر. دعونا ندخل ونأكل؛ ستكون أختي هنا.» دخلت امرأة بدينة في ثوب لمَّاع بعد أن جلسوا إلى الطاولة في غرفة الطعام الكبيرة ذات القرون المعلَّقة على الجدران، وكانت ذات صدر كصدر حمامة وبشرة شاحبة.

غرَّدت بصوت ضعيف كالببغاء الصغير: «أوه يا آنسة أوجليثورب، أنا سعيدة للغاية بلقائكِ. لطالما رأيتكِ واعتقدت أنكِ أجمل شيء … بذلت قُصارَى جهدي كي أجعل هاري يُحضركِ لرؤيتي.»

قال جولدفايزر لإلين دون أن يبرح مكانه: «هذه أختي راشيل. إنها تعتني بالمنزل من أجلي.»

«أتمنَّى أن تساعدني يا سنو في حثِّ الآنسة أوجليثورب على أخذ ذلك الدور في عرض «فتاة الزَّينِية» (ذا زينيا جيرل) … صدقًا، إنه كما لو كان قد كُتب من أجلكِ أنتِ.»

«ولكنه مجرَّد دَور صغير …»

«إنه ليس دَورًا رئيسيًّا بالضبط، ولكن بالنظر إلى سمعتكِ باعتبارك فنانةً متعدِّدة المواهب ورائعة، فهو أفضل ما في العرض.»

قالت الآنسة جولدفايزر بصوت مرتفع: «هل ترغبين في المزيد من السمك يا آنسة أوجليثورب؟»

تنشَّق السيد سنو. «لم يعد هناك تمثيل رائع: بوث، جيفرسون، مانسفيلد … كلهم قد رحلوا. اليوم، الأمر كله دعاية؛ حيث يُطرح الممثِّلون والممثِّلات في السوق كالأدوية ببراءات اختراع. أليست هذه هي الحقيقة يا إلين؟ … دعاية، دعاية.»

قال جولدفايزر فجأة: «لكن هذا ليس ما يحقِّق النجاح … إذا كان بإمكانك القيام بالأمر مع الدعاية، فسيُصبح كل منتج في نيويورك مليونيرًا. إنها القوة الخفية الغامضة التي تُمسك بالحشود في الشارع وتُوجِّههم إلى مسرح بعينه ما يجعل الإيرادات ترتفع في شباك تذاكر بعينه، هل تفهمني؟ الدعاية لن تفعل ذلك، والنقد الجيد لن يفعل ذلك، ربما العبقرية، ربما الحظ، ولكن إذا تمكَّنت من إعطاء الجمهور ما يريد في الوقت المناسب والمكان المناسب، فستُحقِّق نجاحًا. هذا ما قدَّمته لنا إلين في هذا العرض الأخير … لقد أنشأت علاقةً مع الجمهور. ربما تكون أعظم مسرحية في العالم يمثِّلها أعظم الممثِّلين في العالم وتفشل فشلًا ذريعًا … ولا أعرف كيف يحدث ذلك، لا أحد يعرف كيف يحدث ذلك … إذ تذهب إلى الفراش ذات ليلة ومنزلك ممتلئ بالأوراق وتستيقظ في صباح اليوم التالي وقد حقَّقت نجاحًا مدوِّيًا. لم يعد بإمكان المُنتِج التحكُّم في الأمر، كما لا يمكن لخبير الأرصاد الجوية التحكُّم في الطقس. أليس ما أقوله هو الحقيقة؟»

«آه، لقد تدهور ذوق جمهور نيويورك للأسف منذ الأيام الخوالي لوالاك.»

قالت الآنسة جولدفايزر بصوت أشبه بزقزقة العصافير: «ولكن كان هناك بعض المسرحيات الجميلة.»

كانت مشاعر الحب التي أحاطتها طوال اليوم قد أظهرت الحيوية على تجعُّدات شعرها … تلك التجعُّدات الداكنة … وقد كسر لونها الضوء الفولاذي الداكن … مندفعةً … عاليًا، يا إلهي، عاليًا إلى الضوء … وكانت تقطع بشوكتها قلب الخس الأبيض الهش. كانت تتلفَّظ بكلمات بينما تسرَّبت بالفعل كلمات أخرى بارتباك داخلها كحُزمة مكسورة من الخرز. جلست تنظر إلى صورة لامرأتَين ورجلَين يأكلون إلى طاولة في غرفة مغطاة بألواح عالية أسفل ثريا كريستالية مرتعشة. رفعت عينَيها عن صحنها لتجد عينَي الآنسة جولدفايزر الصغيرتَين الشبيهتَين بعينَي عصفور، الثابتتَين في حسرة وعطف على وجهها.

«أوه أجل، نيويورك ممتعة حقًّا في منتصف الصيف أكثر من أي وقت آخر؛ حيث يكون التعجُّل والضجيج أقل.»

«أوه نعم، هذا صحيح تمامًا يا آنسة جولدفايزر.» أظهرت إلين ابتسامةً مباغتة حول المائدة … كل مشاعر الحب التي أحاطتها طوال اليوم قد أظهرت الحيوية على تجعُّدات حاجبه الرفيع المرتفع، وومضت في عينَيه في الضوء الفولاذي الداكن …

في سيارة الأجرة، ضغطت ركبتا جولدفايزر القصيرتان العريضتان على ركبتَيها؛ فامتلأت عيناه بما يشبه مصنعًا خفيًّا كعناكب تغزل شبكةً خانقة حلوة ودافئة حول وجهها ورقبتها. رجعت الآنسة جولدفايزر قصيرةً وبدينة في المقعد المجاور لها. كان ديك سنو يحمل سيجارًا غير مشتعل في فمه ويدحرجه بلسانه. حاولت إلين أن تتذكَّر كيف كان شكل ستان تحديدًا، بنحوله الشديد كقافز زانة، ولكنها لم تتمكَّن من تذكُّر وجهه بالكامل؛ فلم ترَ سوى عينَيه وشفتَيه وأذنه.

كان ميدان التايمز مليئًا بالأضواء الملوَّنة المتراقصة، في تمويجات متقاطعة من الوهج. صعدوا في مصعد فندق أستور. تبعت إلين الآنسة جولدفايزر عبر حديقة السطح وسط الطاولات. رجال ونساء في ثياب السهرة، وفي الأردية الصيفية من الموسلين والبذلات الخفيفة يستديرون ويعتنون بها، كمحالق لزجة من كروم تحدِّق بها وهي تمر. كانت الأوركسترا تعزف لحن أغنية «في الحرملك الخاص بي» (إن ماي هاريم). أعدوا أنفسهم للجلوس إلى الطاولة.

سأل جولدفايزر: «ألَا نرقص؟»

ابتسمت ابتسامةً ساخرة باهتة في وجهه وهي تتركه يضع ذراعه حول ظهرها. كانت أذنه الكبيرة ذات الشعرات المنفردة التي تضفي عليه وقارًا في مستوى عينَيها.

كان يتنفَّس في أذنها قائلًا: «إلين، صدقًا ظننت أنني رجل حكيم.» التقط أنفاسه … «لكنني لست … لقد جعلتني أتحدَّث بحماس أيتها الفتاة الصغيرة وأنا أكره أن أعترف بذلك … لماذا لا يمكنكِ الإعجاب بي قليلًا؟ أود … أن نتزوَّج بمجرد أن تحصلي على إذن الطلاق … ألن تكوني أكثر لطفًا معي بين الحين والآخر …؟ سأفعل أي شيء من أجلك، تعلمين ذلك … هناك الكثير من الأشياء التي يمكنني القيام بها من أجلك في نيويورك …» توقَّفت الموسيقى. ووقفا متباعدَين أسفل نخلة. «تعالَي يا إلين إلى مكتبي ووقِّعي ذلك العقد. لديَّ سيارة فيراري تنتظرنا … يمكننا العودة خلال ١٥ دقيقة.»

«يجب أن أفكِّر في الأمر جيدًا … لا أفعل أي شيء مطلقًا دون التفكير فيه لليوم التالي.»

«يا إلهي، أنتِ تثيرين المرء.»

تذكَّرت فجأةً وجه ستان كاملًا، حيث كان يقف أمامها بربطة عنق فراشية الشكل منحنية فوق قميصه الناعم، وبشعر مجعَّد، ويشرب مجددًا.

«أوه يا إيلي، أنا سعيد جدًّا لرؤيتك …»

«هذا هو السيد إيميري يا سيد جولدفايزر …»

«لقد كنت في أكثر رحلة مدهشة، صدقًا كان ينبغي أن تأتي … ذهبنا إلى مونتريال وكيبيك وعدنا عبر شلالات نياجرا ولم نفِق من الشرب قط منذ تركنا نيويورك العجوز الضئيلة وحتى قُبض علينا لتجاوزنا السرعة المسموح بها في طريق بوسطن بوست، أليس كذلك يا بيرلاين؟» كانت إلين تحدِّق في فتاة وقفت تترنَّح خلف ستان بقبعة قشية مزهرة صغيرة مسحوبة لأسفل فوق زوج من العيون الزرقاء كزُرقة السماء. «إيلي، هذه بيرلاين … أليس اسمًا جميلًا؟ كدت أموت من الضحك عندما أخبرتني بمعناه … لكنك لا تعرفين المزحة في الأمر … لقد توطَّدت علاقتنا للغاية في شلالات نياجرا لدرجة أننا اكتشفنا أننا قد تزوَّجنا … وأن وثيقة زواجنا عليها زهور الثالوث …»

لم تتمكَّن إلين من رؤية وجهه. الأوركسترا، وتداخل الأصوات، وقعقعة الصحون التي انطلقت متصاعدةً أكثر فأكثر حولها …

وسيدات الحرملك
يعلمن جيدًا كيف يرتدينها
في بغداد الشرق منذ زمن بعيد …

«ليلة سعيدة يا ستان.» كان صوتها حازمًا في فمها، وسمعت الكلمات شديدة الوضوح عندما نطقت بها.

«أوه يا إيلي، أتمنَّى أن تأتي للاحتفال معنا …»

«شكرًا شكرًا.»

بدأت ترقص مرةً أخرى مع هاري جولدفايزر. كانت حديقة السطح تدور بسرعة، ثم أقل سرعة. انحسرت الضوضاء انحسارًا مثيرًا للاشمئزاز. قالت: «معذرةً لدقيقة يا هاري. سأعود إلى الطاولة.» في دورة مياه السيدات، ألقت بنفسها بعناية على الأريكة الفاخرة. نظرت إلى وجهها في المرآة المستديرة لحقيبة مستحضرات تجميلها. اتسعت حدقتا عينَيها من ثقوب سوداء ضبابية حتى أصبح كل شيء أسود.

•••

كانت ساقا جيمي هيرف متعبتَين؛ فقد كان يمشي طوال فترة ما بعد الظهيرة. جلس على مقعد بجوار حوض السمك ونظر فوق الماء. أعطت ريح سبتمبر المنعشة بريقًا فولاذيًّا للموجات المنعشة للميناء والسماء الزرقاء الإردوازية الملطَّخة بالسواد. كانت باخرة بيضاء كبيرة ذات قمع أصفر تمر أمام تمثال الحرية. خرج الدخان من زورق القطر عند مقدمته مدور النتوءات بشكل حاد كورقة. على الرغم من المنازل المُعرقِلة على الرصيف، بدا له طرف مانهاتن كمقدمة صندل تندفع ببطء وهدوء في الميناء. دارت النوارس وصاحت. وقف على قدمَيه منتفضًا. «أوه يا للهول، يجب أن أفعل شيئًا.»

وقف لثانية مشدود العضلات متوازنًا على قدمَيه. كان للرجل الرث الهيئة الناظر إلى الحُفر الضوئية لصحيفة يوم الأحد وجه رآه من قبل. قال بصوت غير واضح: «مرحبًا.» قال الرجل دون أن يمد يده: «كنت أعرفك طوال الوقت. أنت ابن ليلي هيرف … ظننتك لن تتحدَّث إليَّ … فليس هناك سبب يجعلك تتحدَّث معي.»

«أوه بالطبع لا بد أنك قريبي جو هارلاند … أنا سعيد للغاية برؤيتك … كثيرًا ما تساءلت عنك.»

«تساءلت عن ماذا؟»

«أوه لا أعرف … من المضحك أنك لا تفكِّر مطلقًا في أقاربك على أنهم أشخاص مثله، أليس كذلك؟» جلس هيرف على المقعد مرةً أخرى. «هلَّا أخذت سيجارة … إنها مجرد سجائر ماركة كاميل.»

«حسنًا، لا أمانع … ماذا تعمل يا جيمي؟ لا تمانع لو دعوتك بهذا الاسم، أليس كذلك؟» أشعل جيمي هيرف عود ثقاب، ثم أشعل آخر وناوله لهارلاند. «هذا أول تبغ أشربه منذ أسبوع … شكرًا لك.»

ألقى جيمي نظرةً إلى الرجل بجانبه. بدا التجويف الطويل لوجنته ذات الشيب كرأس سهم مع الثنية العميقة لطرف فمه. بصق هارلاند وقال: «تعتقد أنني محبط للغاية، أليس كذلك؟ أنت نادم على حياة الراحة التي تعيشها، أليس كذلك؟ أنت نادم لأنه كان لديك أم ربَّتك لتكون رجلًا محترمًا وليس نذلًا كبقيتهم …»

قال جيمي متشدِّقًا بكلماته: «عجبًا، لقد حصلت على وظيفة كمراسل في صحيفة «نيويورك تايمز» … وظيفة فاسدة لعينة، لقد سئمت الأمر.»

«لا تتحدَّث هكذا يا جيمي، أنت في مرحلةٍ مبكِّرة من شبابك … مثل هذا السلوك لن يُوصلك إلى شيء.»

«حسنًا، لنفترض أنني لا أريد أن أصل إلى أي شيء.»

«كانت عزيزتي ليلي المسكينة فخورةً بك للغاية … أرادت أن تكون رجلًا عظيمًا، كان لديها طموحٌ كبيرٌ فيك … بالتأكيد أنت لا تريد أن تنسى والدتك يا جيمي. لقد كانت الصديق الوحيد الذي كان لديَّ من جميع أفراد العائلة اللعينة.»

ضحك جيمي. «لم أقل إنني لم أكن طموحًا.»

«بحق الإله، من أجل والدتك العزيزة انتبه لِمَا تفعل. لقد بدأت للتو في الحياة … كل شيء سيعتمد على الأعوام القليلة القادمة. انظر إليَّ.»

«حسنًا، أعترف أن ساحر وول ستريت قد حقَّق نجاحًا كبيرًا … كلا، إنني لا أُحب أن تأخذ كل ما عليك أخذه من الناس في هذه البلدة اللعينة. لقد سئمت من إرضاء الكثير من المحرِّرين الذين لا أحترمهم … ماذا تفعل يا جو يا قريبي؟»

«لا تسألني …»

«انظر، هل ترى ذلك القارب ذا الأقماع الحمراء؟ إنه فرنسي. انظر، إنهم يسحبون الأشرعة من فوق مؤخرة القارب … أريد أن أذهب إلى الحرب … المشكلة الوحيدة هي أنني ضعيف جدًّا في أمور القتال.»

كان هارلاند يعض شفته العليا، وبعد صمت انفجر بصوت مبحوح أجش. «جيمي، سأطلب منك أن تفعل شيئًا من أجل ليلي من أجل … هل … هل لديك أي … أي … أي فكة معك؟ من المؤسف للغاية … تصادف أنني لم أتناول طعامًا جيدًا خلال اليومَين أو ثلاثة الأيام الماضية … أنا ضعيف بعض الشيء، أتفهمني؟»

«عجبًا، أجل، لقد كنت لتوي سأقترح أن نذهب ونتناول كوبًا من القهوة أو الشاي أو شيئًا من هذا القبيل … أعرف مطعمًا سوريًّا جيدًا في شارع واشنطن.»

قال هارلاند، وهو يقف متماسكًا: «هيا بنا إذن. هل أنت متأكد من أنك لا تمانع من أن يراك الناس مع فزَّاعة مثلي؟»

سقطت الصحيفة من يده. انحنى جيمي لالتقاطها. نخزه وجه من ضبابات بنية منظَّمة كما لو أن شيئًا قد لمس عصبًا في أحد أسنانه. كلا، لم يكن الأمر كذلك، لم يكن هذا شكلها، أجل، ممثلة شابة موهوبة تحقِّق نجاحًا في عرض «فتاة الزَّينِية» …

قال هارلاند: «شكرًا، لا تهتم، لقد وجدتها هناك.» ألقى جيمي بالصحيفة؛ فسقطت على وجهها.

«إنهم يضعون صورًا قبيحة للغاية، أليس كذلك؟»

«أمضي بعض الوقت في النظر إليها، أُحب متابعة ما يجري في نيويورك بعض الشيء … فحتى وضيع الشأن له حقوق كما تعرف، لوضيع الشأن حقوق.»

«أوه، كل ما قصدته أنها ليست جيدة التصوير.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤