الفصل الأول

المدينة المبتهجة الساكنة مُطمَئنَّة

ثمة أعلام على جميع ساريات الأعلام في الجادة الخامسة. في رياح التاريخ الصاخبة ترفرف الأعلام الكبيرة وتشد أحبالها فوق الأعمدة المصرصِرة ذات المقابض الذهبية في الجادة الخامسة. تتمايل النجوم رزينةً في السماء الأردوازية، وتتلوَّى الخطوط الحمراء والبيضاء أمام السُّحب.

في عاصفة الفِرق النحاسية، والخيول الواطئة، والمدافع المقعقِعة المدوية، تتشبَّث ظلال كظلال مخالب بالأعلام المشدودة، فتبدو الأعلام كألسنة جائعة تلعق، وتتلوَّى، وتتجعَّد.

أوه، إنه طريق طويل إلى مقاطعة تيبيراري … هناك! هناك!

المرفأ مليء بالزوارق البخارية المرقَّطة بخطوط كخطوط الحمار الوحشي والظَّرِبان، والمضيق مختنق بالسبائك، إنهم يكدِّسون الجنيهات الإنجليزية الذهبية إلى الأسقف في الخزانة الثانوية. تعلو أصوات الدولارات عبر اللاسلكي، جميع البرقيات تطقطِق على إيقاع الدولارات.

هناك طريق طويل عاصف … هناك! هناك!

تجحظ عيونهم في مترو الأنفاق وهم يقولون «نهاية العالم»، التيفوس، الكوليرا، القذائف، التمرُّد، الموت حرقًا، الموت غرقًا، الموت جوعًا، الموت في الوحل.

أوه، إنه طريق طويل إلى ماديموسيل من آرمنتيير، هناك! الأمريكيون قادمون، الأمريكيون قادمون. في نهاية الجادة الخامسة، تُدوي الفرق النحاسية مناصرةً لقرض الحرية والصليب الأحمر. تتسلَّل السفن المجهَّزة لتقوم مقام المستشفيات إلى الميناء وتفرِّغ حمولتها خلسةً في الليل في أحواض سُفن قديمة في نيوجيرسي. في بداية الجادة الخامسة تتألَّق أعلام الدول السبع عشرة متلوِّيةً في الريح الجائعة الصاخبة.

يا أشجار البلوط والدردار والصَّفصاف الباكية والعُشب النابت أخضر في بلد الإله.

ترفرف الأعلام الكبيرة وتشد أحبالها فوق الأعمدة المصرصِرة ذات المقابض الذهبية في الجادة الخامسة.

يستلقي الكابتن جيمس ميريفال حاملًا وسام صليب الخدمة المتميِّزة وعيناه مغمضتان، بينما تدلِّك أصابع الحلاق السمينة ذقنه بلطف. تُدغدغ الرغوة فتحتَي أنفه؛ حيث يشم رائحة عطر ما بعد الحلاقة، ويسمع أزيز الهزاز الكهربائي وجز المقص.

يُطنطن الحلاق في أذنه، قائلًا: «تدليك وجه بسيط يا سيدي، تخلَّص من بعض تلك الرءوس السوداء يا سيدي.» كان الحلاق أصلع وله ذقن أزرق مستدير.

قال ميريفال متثاقلًا: «حسنًا، افعل كل ما تريد. هذه هي المرة الأولى التي أحصل فيها على حلاقة لائقة منذ إعلان الحرب.»

«هل أتيت لتوِّك من الخارج أيها الكابتن؟»

«نعم … كنت أجعل العالم آمنًا للديمقراطية.»

خنق الحلاقُ كلماتِه أسفل منشفة ساخنة. «هل تريد بعضًا من ماء الليلك أيها الكابتن؟»

«كلا، لا تضع أيًّا من دهاناتك اللعينة عليَّ، فقط بعضًا من غسول المُشتَرِكة أو شيء مطهر.»

كانت لفتاة العناية بالأيدي الشقراء رموش محبَّبة باهتة اللون؛ نظرت إليه فاتنةً إذ فرقت عن شفتَيها الورديتَين كالبراعم. «أظنك وصلت للتو من سفرك أيها الكابتن … يا إلهي، لقد اكتسبتَ سُمرةً جميلة.» أعطاها يده فوق طاولة بيضاء صغيرة. «لقد مرَّ وقت طويل أيها الكابتن منذ أن اعتنى أحدٌ بهاتَين اليدَين.»

«كيف لكِ أن تعرفي ذلك؟»

«انظر كيف نما الجلد.»

«كنا مشغولين للغاية عن أي شيء من هذا القبيل. ولكني لست مشغولًا من الساعة الثامنة، هذا كل ما في الأمر.»

«أوه، لا بد أن هذا كان مرعبًا …»

«أوه، لقد كانت حربًا صغيرة عظيمة حتى النهاية.»

«سأقول إنها كانت ذلك … وهل فرغت الآن أيها الكابتن؟»

«بالطبع لا أزال في القوات الاحتياطية.»

ربتت على يده مرةً أخيرة مازحةً ونهض على قدمَيه.

وضع بقشيشًا في راحة يد الحلاق الناعمة وراحة اليد الصلبة للصبي الملوَّن الذي سلَّمه قبعته، وصعد ببطء الدرجات الرخامية البيضاء. بنهاية الدرج كانت هناك مرآة. توقَّف الكابتن جيمس ميريفال ليلقي نظرةً على الكابتن جيمس ميريفال. كان شابًّا طويل القامة مستقيم القسمات ذا ذقنٍ عريضٍ نوعًا ما. كان يرتدي زيًّا رسميًّا متينًا وأنيقًا مزينًا بشارة قوس قزح، ومليئًا بالأوشحة وشرائط الخدمة. انعكس ضوء المرآة فضيًّا على كلا لُفافتَي ساقَيه. تنحنح وهو ينظر إلى نفسه من أعلى لأسفل. ظهر شاب في ملابس مدنية وراءه.

«مرحبًا يا جيمس، هل كل شيء على ما يرام؟»

«بالتأكيد … اسمع، أليست قاعدةً حمقاء لعينة ألَّا يُسمح لنا بارتداء أحزمة سام براوني؟ هذا يُفسد الزي بأكمله …»

«يمكنهم أن يأخذوا كل أحزمة سام براوني الخاصة بهم ويعلِّقوها في مؤخرة القائد العام، لا يهمني … أنا مدني.»

«ما زلت ضابطًا في القوات الاحتياطية، لا تنسَ ذلك.»

«بوسعهم أخذ القوات الاحتياطية الخاصة بهم والدفع بها من فوق مسافة ١٠ آلاف ميل في المجرى. دعنا نذهب لنتناول شرابًا.»

«يجب أن أخرج وأرى الناس.» خرجا إلى شارع ٤٢. «حسنًا، مرَّ وقت طويل يا جيمس، سأشرب حتى الثُّمالة … فقط تخيَّل كونك حرًّا.» «مرَّ وقت طويل يا جيري، تهذَّب فيما ستفعله.»

سار ميريفال غربًا على طول شارع ٤٢. كانت الأعلام لا تزال مرفوعة، تتدلَّى من النوافذ، وتهتز بتكاسل من الأعمدة في نسيم سبتمبر العليل. نظر إلى المتاجر وهو يمشي على طول الشارع، حيث الزهور، والجوارب النسائية، والحلوى، والقمصان وربطات العنق، والفساتين، والستائر الملوَّنة عبر الألواح الزجاجية اللامعة، وراء سيلٍ من الوجوه، وجوه الرجال المحلوقة بشفرات الحلاقة، ووجوه الفتيات بشفاهها الملوَّنة بالحُمرة وأنوفها التي تعلوها مساحيق التجميل. أشعره ذلك بالتورد والتحمس. تململ عندما استقلَّ مترو الأنفاق. سمع فتاةً تقول لأخرى: «انظري إلى الأشرطة لدى هذا الرجل … إنه وسام صليب الخدمة المتميِّزة.» خرج إلى شارع ٧٢ ومشى نافخًا صدره في الشارع الحجري المألوف للغاية باتجاه النهر.

قال رجل المصعد: «كيف حالك يا كابتن ميريفال؟»

صاحت وهي تركض إلى بين ذراعَيه: «مرحى، هل خرجت يا جيمس؟»

أومأ وقبَّلها. بدت شاحبةً وذابلة في فستانها الأسود. جاءت مايسي، التي كانت ترتدي فستانًا أسود أيضًا، تُحفحف ثيابها، طويلةً ومتورِّدة الوجنتَين خلفها. «من الرائع أن أجد كلتَيكما بمظهر جميل.»

«بالطبع نحن كذلك … بقدر ما يمكن توقُّعه. لقد مررنا يا عزيزي بوقت عصيب … أنت رب الأسرة الآن يا جيمس.»

«مسكين أبي … أن يرحل هكذا.»

«كان هذا شيئًا فاتكًا … مات آلافٌ من الناس جرَّاء الوباء في نيويورك وحدها.»

عانق مايسي بإحدى ذراعَيه وأمه بالأخرى. لم يتكلَّم منهم أحدٌ.

قال ميريفال وهو يدخل غرفة المعيشة: «حسنًا، لقد كانت حربًا عظيمة حتى النهاية.» تبعته والدته وأخته. جلس في الكرسي الجلد ومدَّد ساقَيه بحذاءيه المُلمَّعين. «لا تعلمان كم هو رائع أن يعود المرء للوطن.»

سحبت السيدة ميريفال كرسيها بالقرب من كرسيه. «الآن يا عزيزي أخبرنا بكل شيء عن الحرب.»

•••

في ظلام المنحدر أمام باب المسكن، يمد يده ويسحبها إليه. «لا يا بوي، لا، لا تكوني قاسية.» تنشد ذراعاه كالحبال ذات العقد حول ظهرها؛ فترتعش ركبتاها. يتلمَّس فمها بفمه على طول عظمة وجنتها، أسفل جانب أنفها. لا يمكنها التنفس وشفتاه تجسان شفتَيها. «أوه لا أُطيق ذلك.» يُبعدها عنه. تترنَّح لاهثةً أمام الجدار الذي تجثم عليه يداه الكبيرتان.

يهمس بلطف: «لا داعيَ للقلق.»

«يجب أن أذهب، لقد تأخَّر الوقت … يجب أن أستيقظ في السادسة.»

«حسنًا في أي وقتٍ تظنينني أستيقظ؟»

«ربما تراني أمي …»

«قولي لها أن تذهب إلى الجحيم.»

«سأفعل يومًا ما … الأسوأ من ذلك … إذا لم تتوقف عن مراقبتي.» تُمسك بوجنتَيه غير المحلوقتَين وتُقبِّله سريعًا في فمه وتنطلق بعيدًا عنه وتركض صاعدةً الطوابق الأربعة للسلم المتسخ.

لا يزال مزلاج الباب مفتوحًا. تخلع حذاء الرقص وتمشي بحذر عبر المطبخ الصغير على قدمَين تؤلمانها. من الغرفة التالية يأتي الشخير المزدوج المَصدر الصافر لعمها وزوجته. «هناك شخص يحبني، تُرى مَن هو …» سرى اللحن في كامل جسدها، في رجفة قدمَيها، والموضع الواخز من ظهرها حيث أمسك بها بقوة ليرقص معها. عليكِ أن تنسَي الأمر يا آنا وإلا فلن تنامي. عليكِ أن تنسَي يا آنا. صلصلت الأطباق المُعَدة للإفطار على الطاولات واخزةً مروِّعةً عندما اصطدمت بها.

يأتي صوت أمها متذمِّرًا يغلب عليه النعاس: «أذلك أنتِ يا آنا؟»

«ذهبتُ لأحضر كوبًا من الماء يا أمي.» تزفر المرأة العجوز ممتعضةً عبر أسنانها، ويُصرصر زنبرك السرير أثناء تقلُّبها فوقه. نائمة طوال الوقت.

«هناك شخص يحبني، تُرى مَن هو؟» تخلع فستان سهرتها وترتدي ثوب نومها. ثم تسير على أطراف أصابعها إلى الخزانة لتعلِّق الفستان، ثم تندس في النهاية بين الأغطية شيئًا فشيئًا كي لا تُصدر ألواحُ السرير صريرًا. «تُرى مَن هو؟» جَر أقدام، جر أقدام، وأضواء ساطعة، ووجوه وردية منتفخة، وأذرع قابضة، وأفخاذ مشدودة، وأقدام قافزة. «تُرى مَن هو؟» جَر أقدام، أزيز ساكسفون مطنطن، جَر أقدام مع إيقاع الطبل، مزمار الترومبون، ومزمار الكلارينيت. أقدام، أفخاذ، وجنات متلاصقة، «هناك شخص يحبني …» جَر أقدام، جَر أقدام. «تُرى مَن هو؟»

•••

ينام الطفل ذو الوجه والقبضتَين المغلقتَين الصغيرتَين ببشرة وردية مع مسحة أرجوانية فوق التخت. كانت إلين متكئةً على حقيبة جلدية سوداء. وكان جيمي هيرف في قميصه الذي لا يرتدي شيئًا فوقه ينظر من كوة السفينة.

«حسنًا، ذلك تمثال الحرية … يجب أن نخرج على ظهر العبَّارة يا إيلي.»

«سيمر وقت طويل قبل أن نرسو … هيا للأعلى.» «سآتي مع مارتن خلال دقيقة.»

«أوه تقدمي، سنضع أغراض الطفل في الحقيبة عندما نقترب من المنزلَق.»

خرجا على ظهر العبَّارة في سماء ظهيرة ساطعة من ظهائر سبتمبر. كانت المياه نيليةً مخضرَّة. ظلَّت الرياح المستقرة تجرف لفائف من الدخان البني ولُطخًا من البخار الأبيض كبياض القطن عن قوس السماء النيلي الأزرق العالي المهول. أمام أفق ملطخ بالسُّخام، تتداخل فيه الصنادل، والبواخر، ومداخن محطات توليد الطاقة، وأرصفة الميناء المغطاة، والجسور، كانت نيويورك السفلى عبارةً عن هرم مستدق باللونَين الوردي والأبيض كما لو كان مُشكَّلًا نحيفًا من ورق مقوًّى.

«يجب أن نُخرج مارتن يا إيلي كي يتمكَّن من المشاهدة.»

«ويبدأ في الصراخ كزورق قَطر … إنه أفضل حالًا حيث هو.»

انحنيا أسفل بعض الحبال، وتسلَّلا مارَّين بالرافعة البخارية المقعقِعة وخرجا إلى مقدمة العبَّارة.

«يا إلهي يا إيلي، إنه أعظم مشهد في العالم … لم أظن قط أنني سأرجع في يوم من الأيام، أظننتِ أنتِ كذلك؟»

«كان لديَّ نية قوية للعودة.»

«ولكن ليس على هذه الحال.»

«كلا، لا أظن أنني تخيَّلت الأمر كذلك.»

بالفرنسية: «من فضلكِ يا سيدتي …»

كان هناك بحَّار يشير لهم أن يرجعوا. أدارت إلين وجهها تجاه الرياح لإبعاد الشُّعيرات النحاسية اللون من عينَيها. بالفرنسية: «هذا جميل، أليس كذلك؟» ابتسمت وسط الريح في وجه البحَّار الأحمر.

بالفرنسية: «أحب أكثر مدينة لو هافر … من فضلكِ يا سيدتي.»

«حسنًا، سأذهب إلى الأسفل وأُجهِّز مارتن.»

أبعد الطنين الحاد، طنين زورق القطر أثناء مروره بجانبهما، ردَّ جيمي عن أذنَيها. غادرته خلسةً ونزلت إلى المقصورة مرةً أخرى.

كانا عالقَين وسط زحام الناس في طرف المعبر.

قالت إلين: «اسمع، يمكننا انتظار حمَّال.»

«لا يا عزيزتي، لقد حملت الحقائب.» كان جيمي يتصبَّب عرقًا ويلهث حاملًا حقيبةً في كل يد وحزم تحت ذراعَيه. كان الطفل بين ذراعَي إلين يهدل ويمد يدَيه الصغيرتَين نحو الوجوه في كل مكان حوله.

قال جيمي وهما يعبران المعبر: «أتعلمين؟ أتمنَّى لو ظَلِلنا بالعبَّارة … أكره العودة إلى المنزل.»

«أنا لا أكره … إن ﻫ … سأتبعك على الفور … أردت أن أبحث عن فرانسيس وبوب. مرحبًا …» «حسنًا، سأكون …» «لقد اكتسبتِ بعض الوزن يا هيلينا، تبدين رائعة. أين جيمبس؟» كان جيمي يفرك يدَيه معًا؛ فقد أصابهما التصلب والحِكة من أثر مقابض الحقائب الثقيلة.

«مرحبًا يا هيرف. مرحبًا يا فرانسيس. أليس هذا مدهشًا؟»

«يا إلهي، أنا سعيد برؤيتك …»

«ما يجب أن أفعله يا جيمبس هو الذهاب بالطفل مباشرةً إلى فندق بريفورت …»

«أليس لطيفًا؟»

«… هل معك خمسة دولارات أمريكية؟»

«معي دولار فكة. تلك المائة في الحساب المسبق للفندق.»

«إن معي الكثير من المال. سنذهب أنا وهيلينا إلى الفندق ويمكنكما أن تتبعانا بالأمتعة.»

«هل مسموح لي أيها المفتِّش أن أعبر بالطفل؟ سيراقب زوجي الحقائب.»

«بالتأكيد يا سيدتي، تفضَّلي.»

«أليس لطيفًا؟ أوه يا فرانسيس هذا مَرِح جدًّا.»

«هيا يا بوب يمكنني إنهاء هذا بمفردي أسرعَ من ذلك … سترافق السيدتَين إلى فندق بريفورت.»

«حسنًا، نحن نكره أن نتركك.»

«أوه، هيا … سألحق بكم على الفور.»

«السيد جيمس هيرف وزوجته وطفل رضيع … هل هذا كل شيء؟»

«نعم هذا صحيح.»

«سأكون معكما على الفور يا سيد هيرف … هل هذه هي الأمتعة كلها؟»

«نعم كل شيء هناك.»

قالت فرانسيس بصوت قوقأة بينما هي وهيلدبراند يتبعان إلين إلى داخل سيارة الأجرة: «أليس جميلًا؟»

«مَن؟»

«الطفل بالطبع …»

«أوه، يجب أن تريه وقتًا ما أحيانًا … يبدو أنه يحب السفر.»

فتح رجل عسكري بملابس مدنية باب سيارة الأجرة ونظر بالداخل بينما كانوا يخرجون من البوابة. سأله هيلدبراند: «هل تريد أن تشم أنفاسنا؟» كان للرجل وجه جامد ككتلة خشبية. أغلق الباب. «لم تسمع هيلينا بالحظر بعد، أليس كذلك؟»

«إنه يُفزعني … انظر.»

«يا إلهي!» أخرجت من أسفل البطانية التي كانت ملفوفةً حول الطفل حُزمة من الورق البُني … «كوارتان من شرابنا المُسكر المميَّز … مذاق العائلة يا هيرف … ولديَّ كوارت آخر في قربة أسفل حزام خصري … لهذا أبدو كما لو كنت سأُنجب طفلًا آخر.»

شرع الزوجان هيلدبراند في الصياح ضاحكَين.

«يحمل جيمب قِربةً حول خصره أيضًا وشراب الشارتروز في قارورة فوق وركه … سنُضطر على الأرجح إلى الذهاب وإخراجه من الحبس بكفالة.»

كانوا لا يزالون يضحكون حتى إن الدموع كانت تنهمر على وجوههم عندما وصلوا عند الفندق. في المصعد بدأ الطفل في العويل.

بمجرد أن أغلقت باب الغرفة المشمسة الكبيرة، أخرجت القِربة من تحت فستانها. «اسمع يا بوب، اتصل بهم في الأسفل واطلب منهم ثلجًا مكسرًا ومياهًا فوَّارة … سنتناول جميعًا الكونياك مع الماء الفوَّار …»

«ألم يكن من الأفضل لو انتظرنا جيمبس؟»

«أوه، سيكون هنا على الفور … ليس معه شيء عليه جمارك … فهو مفلس للغاية لدرجة أنه لا يمكنه أن يجلب شيئًا … فرانسيس، ماذا عن الحليب في نيويورك؟»

«كيف لي أن أعرف يا هيلينا؟» تورَّد وجه فرانسيس هيلدبراند وسارت إلى النافذة.

«أوه حسنًا، سنعطيه طعامه مرةً أخرى … لقد أبلى بلاءً حسنًا معه في الرحلة.» وضعت إلين الطفل على السرير. استلقى يركل وينظر حوله بعينَين داكنتَين مستديرتَين كحجرَين ذهبيَّين.

«أليس سمينًا؟»

«إنه يتمتَّع بصحة جيدة وأنا متأكدة من أنه أبله قطعًا … أوه بحق السماء يجب أن أتصل بوالدي … أليست الحياة الأسرية شديدة التعقيد؟»

كانت إلين تُعد موقد الكحول الصغير الخاص بها على حوض الغسيل. جاء الفرَّاش ومعه فوق صينية كئوس ووعاء من الجليد المصلصل وزجاجة ماء فوَّار وايت روك.

«أعِد لنا مشروبًا من القِربة. ينبغي أن نشربه وإلا تسبَّب في تآكل المطاط … سنشرب نخب مقهى هاركورت.»

قال هيلدبراند: «بالطبع ما لا تدركونه أنتم الصغار أن صعوبة الحظر هي في البقاء بلا ثُمالة.»

ضحكت إلين، ووقفت في ضوء المصباح الصغير الذي تفوح منه رائحة منزلية هادئة من النيكل الساخن والكحول المحترق.

•••

كان جورج بالدوين يسير في جادة ماديسون ومعطفه الخفيف فوق ذراعه. كانت معنوياته المتعبة تنتعش في شفق الخريف المتلألئ في الشوارع. من مربع سكني إلى آخر عبر ظلمة عوادم البنزين لسيارة الأجرة المطنطِنة، يتجادل في أذنه محاميان يرتديان معطفَين أسودَين من الصوف وياقتَين متيبستَين ذواتَي طرفَين. إذا عدت إلى المنزل، فسيكون الوضع مريحًا في المكتبة. ستكون الشقة مظلمةً وهادئة ويمكنك أن تجلس مرتديًا نعلَيك أسفل التمثال النصفي لشيبيون الأفريقي على الكرسي الجلد وأن تقرأ وتطلب أن يُرسل لك طعام العشاء … ستكون نيفادا مرحةً وعلى طبيعتها وتروي لك قصصًا مضحكة … ستكون على علم بكل القيل والقال في دار البلدية … من الجيد أن تعرف ذلك … لكنك لن ترى نيفادا بعد الآن … الأمر خطير جدًّا؛ إنها تزعجكم جميعًا … وتجلس سيسيلي شاحبةً وأنيقة ونحيلة تعض شفتَيها، إنها تكرهني، وتكره الحياة … يا إلهي كيف سأُحسِّن من وجودي؟! توقف أمام محل لبيع الزهور. جاءت من الباب رائحة فخمة ورطبة كالعسل، وخرج بكثافة في الشارع الذي يغلب عليه اللون الأزرق الفولاذي القوي. لو كنت أستطيع على الأقل أن أجعل وضعي المالي حصينًا … في النافذة كانت هناك حديقة يابانية منمنمة بها جسور محدبة وبرك بدت فيها الأسماك الذهبية كبيرةً كالحيتان. إنه التناسب، هذا كل ما هنالك. أن تخطِّط لحياتك كالبستاني الحكيم الذي يحرث ويبذر بذورًا في حديقته. لا، لن أذهب لأرى نيفادا الليلة. ولكني قد أُرسل لها بعض الزهور. الورود الصفراء، تلك الورود النحاسية اللون … إن إلين هي من يجب أن تضع هذه الورود. لا أستطيع أن أتخيَّل أنها تزوَّجت مرةً أخرى ولديها طفل. دخل إلى المتجر. «ما اسم تلك الوردة؟»

«إنها وردة ذهب أوفير يا سيدي.»

«حسنًا، أريد إرسال حُزمتَين إلى فندق بريفورت على الفور … الآنسة إلين … لا، بل السيد والسيدة جيمس هيرف … سأكتب بطاقة.»

جلس إلى المكتب ومعه قلم في يده. رائحة الورود الذكية، تفوح من نيران شعرها الداكنة … كلا، هذا بلا معنًى بحق السماء …

عزيزتي إلين،

أرجو أن تسمحي لصديق قديم بزيارتكِ أنتِ وزوجكِ في يوم من الأيام. ورجاءً تذكري أنني دائمًا حريص بصدق — أنتِ تعرفينني جيدًا على نحوٍ لا يجعلك تَعُدين هذه دعوةً فارغة من باب التأدب فحسب — على خدمتكِ وخدمته بأي طريقة من شأنها أن تُسهم في تحقيق سعادتكِ. سامحيني إن كنتُ أتعهَّد أن أكون عبدكِ ومعجبكِ مدى الحياة.

جورج بالدوين

جاءت الرسالة في ثلاث من البطاقات البيضاء لبائعي الزهور. راجعها بشفتَين زامَّتَين، منقِّحًا ومدقِّقًا فيها بشدة. ثم دفع لبائع الزهور من لفافة الأوراق النقدية التي أخذها من جيبه الخلفي وخرج مرةً أخرى إلى الشارع. كان الظلام قد حلَّ بالفعل، وكانت الساعة تقترب من السابعة. وقف ولا يزال متردِّدًا عند الناصية يشاهد مرور سيارات الأجرة بألوانها الصفراء، والحمراء، والخضراء، واليوسفية.

•••

تسير الناقلة ذات الواجهة الشبيهة بوجه أفطس الأنف بطيئةً عبر المضيق مبعثرةً المياه في المطر. يقف الرقيب أول أوكيف والجندي أول داتش روبرتسون في مأوى المقصورة على سطح السفينة ينظران إلى البواخر الراسية في الحجر الصحي والشواطئ المنخفضة المبعثَرة بجوار الرصيف.

«انظر، بعضهم لا يزال يحمل طلاءً، إنها قوارب مجلس الشحن … لا تستحق ثمن البارود الذي يوضع في المدافع من أجل تفجيرها.»

قال جو أوكيف بصوت خافت: «إنها كذلك فعلًا بحق الجحيم.»

«يا إلهي ستروق لي نيويورك الصغيرة العجوز …»

«أنا أيضًا أيها الرقيب، مهما كانت الظروف.»

يمران بالقرب من كتلة من البواخر الراسية في إحدى الساحات، يميل بعضها إلى جانب أو آخر، سفن نحيفة قصيرة الأقماع، وسفن طويلة الأقماع حمراء صدئة، بعضها مخطَّط ومرشوش ومنقَّط بالمعجون وطلاء تمويه أزرق وأخضر. لوَّح رجل في زورق آلي بذراعَيه. يبدأ الرجال المتكوِّمون بالمعاطف الكاكية على سطح الناقلة الرمادية التي تقطر منها المياه في الغناء:

أوه المشاة، المشاة
بالوسخ خلف آذانهم …

عبر الضباب الذي يتخلَّله الضوء خلف المباني المنخفضة لجزيرة جفرنرز، كان بمقدورهما رؤية الصروح الطويلة، والكابلات المنحنية، والأربطة المعلَّقة لجسر بروكلين. يُخرج روبرتسون حُزمةً من جيبه ويرمي بها من فوق المركب.

«ماذا كان ذلك؟»

«إنها أدوات الوقاية الخاصة بي فحسب … لن أحتاجها بعد الآن.»

«كيف ذلك؟»

«أوه، سأحيا حياةً نزيهة وأجد لي وظيفةً جيدة وربما أتزوَّج.»

«أظنُّها ليست بالفكرة السيئة. لقد تعبت من خداع نفسي. يا إلهي، لا بد أن أحدًا يتكسَّب من قوارب مجلس الشحن.» «هذا هو المكان الذي يصل فيه رجال الدولار الواحد لمكانتهم على ما أظن.»

«سأُخبر العالم بذلك.»

على متن العبَّارة يغنيان:

أوه، تعمل في مصنع للمربى
وربما يكون ذلك جيدًا …

«يا إلهي، إننا ذاهبون إلى النهر الشرقي أيها الرقيب. أين يظنُّون أنهم سيرسون بنا بحق الشيطان؟»

«يا إلهي، أنا مستعدٌّ للسباحة إلى الشاطئ وحدي. وفكِّر فحسب في جميع هؤلاء الرجال الذين كانوا هنا يتكسَّبون منا طوال هذا الوقت … ١٠ دولارات في اليوم مقابل العمل في ترسانة سفن، أتعي ذلك؟ …»

«بحق الجحيم أيها الرقيب، لقد اكتسبنا الخبرة.»

«خبرة …»

بعد انتهاء الحرب
ارجع إلى الولايات المتحدة من أجلي …

«أُراهن أن القبطان كان يتناول الشراب بكثرة وظن أن بروكلين هي هوبوكين.»

«حسنًا، هناك وول ستريت، يا أخي.»

يمران أسفل جسر بروكلين. ثمة طنين قطارات كهربائية فوق رءوسهم، ووميض بنفسجي بين الحين والآخر من القضبان الرطبة. وخلفهما وراء الصنادل، وزوارق القَطر، وعبَّارات السيارات، كانت المباني الشاهقة المخطَّطة باللون الأبيض مع نفحات من البخار والضباب، تتصاعد رماديةً إلى داخل السُّحب المتدلية.

•••

لم يقل أيٌّ منهم شيئًا أثناء تناولهم الحساء. جلست السيدة ميريفال في فستان أسود إلى رأس الطاولة البيضوية تنظر عبر النصف المسحوب من ستائر الباب ونافذة قاعة الاستقبال وراء عمود من دخان أبيض غير ملفوف في ضوء الشمس فوق ساحات القطارات، وتتذكَّر زوجها وكيف أتيا قبل سنوات لتفقُّد الشقة في المنزل غير المكتمل الذي كانت تفوح منه رائحة الجبس والطلاء. عندما أنهت حساءها أخيرًا أفاقت من ذكرياتها وقالت: «حسنًا يا جيمي، هل ستعود إلى العمل في الصُّحف؟»

«أظن ذلك.»

«جيمس معروض عليه بالفعل ثلاث وظائف. أظنه أمرًا رائعًا.»

قال جيمس ميريفال لإلين التي جلست بجانبه: «ولكني أظن أنني سأُواصل العمل مع الرائد. الرائد جوديير كما تعلمين، يا نسيبتي هيلينا … أحد أبناء عائلة بافلو. إنه رئيس قسم الصرف الأجنبي في مؤسسة بانكيرز تراست … يقول إنه بمقدوره تشغيلي بسرعة. كنا صديقَين في الخارج.»

قالت مايسي بصوت هديل: «سيكون ذلك رائعًا، أليس كذلك يا جيمي؟» جلست في الجهة المقابلة نحيلةً ومتوردة في ثوبها الأسود.

واصل ميريفال: «إنه سيُقدِّمني لبيبنج روك.»

«وما ذلك؟»

«عجبًا يا جيمي، يجب أن تعرف … أنا واثقة من أن نسيبتنا هيلينا قد تناولت الشاي هناك مراتٍ عديدة.»

قالت إلين وعيناها في طبقها: «تعرفون جيمبس. هذا هو المكان الذي اعتاد والد ستان إيميري الذهاب إليه كل يوم أحد.»

قالت السيدة ميريفال: «أوه، هل تعرفين ذلك الشاب التعيس الحظ؟ كان ذلك أمرًا مُروِّعًا.» «حدث الكثير من الأشياء الفظيعة في هذه السنوات … كدت أنسى الأمر.»

قالت إلين: «نعم كنت أعرفه.»

قُدم لهم فخذ الخروف مع الباذنجان المقلي، ثم تبعهما الذرة والبطاطا الحلوة. قالت السيدة ميريفال عندما انتهت من تقطيع الطعام: «أتعلمين، أظن أنه أمر فظيع ألَّا تخبرانا عن تجاربكما هناك … لا بد أن الكثير منها مثيرٌ للاهتمام جدًّا. أظن يا جيمي أنه ينبغي عليك أن تؤلِّف كتابًا عن خبراتك.»

«لقد جرَّبت كتابة بعض المقالات.»

«متى ستظهر للناس؟»

«لا يبدو أن أحدًا يرغب في طباعتها … كما ترَين فأنا أختلف جذريًّا في بعض مسائل الرأي …»

«لقد مرَّ وقت طويل يا سيدة ميريفال على آخر مرة أكلت فيها بطاطا حلوةً كهذه … طعمها كطعم نبات اليام.»

«إنها طيبة … هذه هي الطريقة التي أطهوها بها فحسب.»

قال ميريفال: «حسنًا، كانت حربًا عظيمة حتى النهاية.»

«أين كنت ليلة الهُدنة يا جيمي؟»

«كنت في القدس مع الصليب الأحمر. أليس هذا سخيفًا؟»

«كنت في باريس.»

قالت إلين: «وأنا كذلك.»

«إذن كنتِ هناكِ أيضًا يا هيلينا؟ سأناديكِ هيلينا في النهاية؛ لذلك ربما أبدأ الآن … أليس هذا رائعًا؟ هل تقابلتِ أنتِ وجيمي هناك؟»

«أوه لا، لقد كُنَّا صديقَين قديمَين … ولكننا الْتقينا بالمصادفة كثيرًا … كُنَّا في القسم نفسه في الصليب الأحمر، قسم الدعاية.»

هتفت السيدة ميريفال: «قصة حرب رومانسية حقيقية. أليس ذلك رائعًا؟»

•••

صرخ جو أوكيف والعرق يتصبَّب على وجهه الأحمر: «الآن يا رجال هكذا يسير الأمر.» «هل سنطرح اقتراح المكافأة هذا أم لا؟ … لقد قاتلنا من أجلهم أليس كذلك؟ تخلَّصنا من الحمقى، أليس كذلك؟ والآن عندما نعود إلى المنزل، يعطوننا الفُتات. لا توجد وظائف … وقد ذهبت فتياتنا وتزوَّجن من رجال آخرين … يُعاملوننا كحَفنةٍ من المتشرِّدين والمتسكِّعين المتسخين عندما نُطالب بتعويضنا العادل والشرعي والقانوني … لا توجد مكافآت. هل سندعم ذلك؟ … لا. سندعم حَفنةً من السياسيين الذين يعاملوننا كما لو كُنَّا نجوب الأبواب الخلفية طلبًا للصدقة؟ … أُطالبكم أيها الرجال …»

دقَّت الأقدام على الأرض. «لا». صاحت الأصوات: «فلتذهب معهم إلى الجحيم» … «الآن أقول إلى الجحيم مع السياسيين … سننقُل حملتنا إلى البلد … إلى الشعب الأمريكي العظيم السخي الكبير القلب الذي قاتلنا ونزفنا الدماء وقدَّمنا أرواحنا في سبيله.»

هدرت غرفة الذخيرة الطويلة بالتصفيق. دقَّ الجرحى في الصف الأمامي على الأرض بعكازاتهم. قال رجل بلا ذراعَين لرجل بعين واحدة وساق صناعية جلس بجانبه: «إن جوي رجل جيد.» «إنه كذلك يا صديقي.» بينما كانوا يصطفون يقدِّم كلٌّ منهم للآخر السجائر، وقف رجل عند الباب ينادي: «اجتماع اللجنة، لجنة المكافآت.»

جلس الأربعة حول طاولة في الغرفة التي أعارها لهم العقيد. «حسنًا أيها الرجال، لنشرب سيجارة.» قفز جو فوق مكتب العقيد وأخرج أربع سجائر روميو وجولييت. «لن يفوته ذلك أبدًا.»

قال سِيد جارنيت وهو يمدِّد ساقَيه الطويلتَين: «أقترح أن نتحلَّى بالقليل من المثابرة.»

قال بيل دوجان: «أليس لديك بعضٌ من شراب السكوتش يا جوي؟»

«لا، أنا مُقلع عن الشراب حاليًّا.»

يقول سيجال متغطرسًا: «أعرف أين تحصل على شراب مضمون ماركة هيج. قبل الحرب كان الكوارت بستة دولارات.»

«وأين يمكننا الحصول على ستة دولارات بحق المسيح؟»

قال جو، جالسًا على حافة الطاولة: «الآن اسمعوا يا رفاق، لنصل إلى بيت القصيد … ما يتعيَّن علينا فعله هو جمع الأموال من المجموعة ومن أي مكان آخر يمكننا أن نجمع منه المال … هل اتفقنا على ذلك؟»

قال دوجان: «بالتأكيد سنفعل، أخبرهم.»

«أعرف الكثير من الرجال القدامى كذلك، أعتقد أن الأولاد سيلقَون معاملةً قاسية … سنُطلق عليها اسم لجنة إضراب مكافآت بروكلين المرتبطة بمُعَسكر شيمس أوريلي لمنظمة الفيلق الأمريكي … لا فائدة من فعل شيء ما لم تفعلوه على النحو الصحيح … الآن هل أنتم معي يا رجال أم لا؟»

«بالتأكيد نحن معك يا جوي … سنخبرهم وننتظر على أُهبة الاستعداد.»

«حسنًا ينبغي أن يكون دوجان هو الرئيس لأنه الأفضل مظهرًا.»

تورَّد وجه دوجان وبدأ يتلعثم.

قال جارنيت ساخرًا: «أوه، يا شاطئ بحر أبولو.»

«وأظن أنه يمكنني تقديم أفضل ما لديَّ في منصب أمين الصندوق لأن لديَّ خبرةً كبيرة في الأمر.»

قال سيجال بصوت خافت: «تعني لأنك الأقل نزاهة.»

مدَّ جو فكَّه. «اسمع يا سيجال، هل أنت معنا أم لا؟ من الأفضل أن تخرج من هنا على الفور إن لم تكن معنا.»

قال دوجان: «بالتأكيد، امنعوا المزاح. جوي هو الرجل الذي يُنجِح الأمر، تعلمون ذلك … امنعوا المزاح … إن لم يعجبك يمكنك أن تخرج.»

يفرك سيجال أنفه النحيف المعقوف. «كنت أمزح فحسب أيها السادة، لم أقصد أي أذًى.»

تابع جو غاضبًا: «اسمع، فيمَ تظنني أُضيِّع وقتي؟ … عجبًا لقد رفضت بالأمس ٥٠ دولارًا أمريكيًّا في الأسبوع، ألم يحدث ذلك يا سِيد؟ رأيتني وأنا أتحدَّث إلى الرجل.»

«بالطبع رأيتك يا جوي.»

قال سيجال: «أوه، فلتهدءوا يا رجال. لقد كنت أمزح مع جوي فحسب.»

«حسنًا، أظنك يا سيجال يجب أن تكون سكرتيرًا؛ لأنك خبير في العمل المكتبي …»

«العمل المكتبي؟»

قال جو نافخًا صدره: «بالتأكيد. أعلم أننا سنحصل على مساحة مكتبية في مكتب الرجل … كل شيء على ما يرام. سيسمح لنا باستخدامه بالمجان حتى نبدأ. وسنحصل على الأدوات المكتبية. لا يمكننا تحقيق أي شيء في هذا العالم دون تقديم الأشياء كما ينبغي.»

سأل سِيد جارنيت: «وأين يأتي دوري؟»

«أنت اللجنة، أيها القوي الكبير.»

سار جو أوكيف بعد الاجتماع يُصفِّر في جادة أتلانتك. كانت ليلةً باردة؛ فقد كان يسير واثبًا. كان هناك ضوء في مكتب الدكتور جوردون. رنَّ جرس الباب. فتح البابَ رجل أبيض يرتدي سترةً بيضاء.

«مرحبًا يا دكتور.»

«أهذا أنت يا أوكيف؟ ادخل يا بُني.» كان ثمة شيء في صوت الطبيب يمسكه كيد باردة من عموده الفقري.

«حسنًا، هل نتيجة الاختبار جيدة يا دكتور؟»

«أجل … النتيجة إيجابية بالفعل.»

«يا إلهي.»

«لا تنشغل كثيرًا بالأمر يا بُني، سأُعالجك في بضعة أشهر.»

«أشهر؟»

«عجبًا، وفقًا للتقديرات المتحفِّظة فإن نسبة ٥٥٪ من الأشخاص الذين تقابلهم في الشارع مصابون بداء الزهري.»

«لم أكن أحمقَ لعينًا. بل كنت حذرًا في الأمر.»

«إنه أمر لا مفر منه في زمن الحرب …»

«أتمنَّى الآن لو أنني لم أكن حريصًا … كم من فرص أضعت!»

ضحك الطبيب. «ربما لن تعاني من أي أعراض … الأمر لن يتعدَّى بعض الحُقن. سأجعلك معافًى بصحة جيدة في وقت قصير … هل تريد أن تأخذ حقنةً الآن؟ لقد جهَّزت كل شيء.»

أصبحَت يدا أوكيف باردتَين. قال منتزعًا ضحكة: «حسنًا، أظن ذلك. أظن أنني سأصبح كترموميتر لعين عندما تفرغ من علاجي.» ضحك الطبيب مصرصِرًا. «سيمتلئ جسمي بالزرنيخ والزئبق … ذلك ما أعنيه.»

كانت الرياح تهب أكثر برودة. وكانت أسنانه تُقعقع. سار إلى المنزل في الليلة الباردة القاسية كالحديد الصلب. من الحماقة أن فقدت وعيي بذلك الشكل عندما فاجأني بالخبر. كان لا يزال بمقدوره الشعور بوخز الإبرة المثير للغثيان. صرَّ على أسنانه. بعد هذا لا بد أن أحظى ببعض الحظ … لا بد أن أحظى ببعض الحظ.

•••

يجلس رجلان بدينان ورجل نحيف إلى طاولة بجوار النافذة. يلتقي الضوء الزنكي اللون للسماء الغائمة ببريق ساطع من الكئوس، والأواني الفضية، وأصداف المحار، والعيون. كان ظهر جورج بالدوين إلى النافذة. وجلس جاس ماك نيل إلى يمينه، ودينش إلى يساره. عندما يميل النادل لإزالة أصداف المحار الفارغة، يمكنه عبر النافذة، وراء الدرابزين من الحجارة الرمادية، أن يرى قمم بعض المباني البارزة كما لو كانت آخر أشجارٍ على حافة جرف، والآفاق القصديرية اللون للميناء ممتلئة بالسفن. يقول جاس ماك نيل: «أنا أعظك بهذا هذه المرة يا جورج … يعلم الرب أنك كنت تعظني بما فيه الكفاية في الأيام الخوالي. صدقًا، إنها حماقة مطلقة. من الحماقة المطلقة أن تُفوِّت فرصةً للعمل السياسي في هذا الوقت من حياتك … لا يوجد رجلٌ في نيويورك أكثر ملاءمةً منك لتقلُّد المنصب …»

يقول دينش بصوتٍ عميق، مُخرجًا نظارته ذات الإطار الشبيه بصدفة السلحفاة من حافظةٍ وواضعًا إياها على عجل فوق أنفه: «يبدو لي كما لو أن هذا من واجبك يا بالدوين.»

أحضر النادل شريحة لحمٍ كبيرةً على لوح خشبي تحوطها حصون من الفطر والجزر المقطع قطعًا صغيرة والبازلاء والبطاطس المهروسة المحمَّرة الوجه والمجعَّدة. يُثبِّت دينش نظَّارته ويحدِّق باهتمام إلى شريحة اللحم على اللوح الخشبي.

يقول، مقطِّعًا بسكينٍ فولاذيٍّ مصقولٍ حادٍّ شريحةَ اللحم السميكة نصف المطهوَّة والمُتبَّلة جيدًا بالفُلفل الأسود: «طبق سخي جدًّا يا بين، ينبغي أن أقول إنه طبق سخي جدًّا … هذا ما في الأمر يا بالدوين … عندما أنظر إليه … البلد يمر بفترةٍ خطيرةٍ من إعادة الإعمار … الارتباك المصاحب بانتهاء صراعٍ كبير … إفلاس قارة … يذيع صيت البلشفية والمذاهب الهَدَّامة … أمريكا …» مضغ قضمةً ملء فمه ببطء. استأنف قائلًا: «أمريكا في موقع يجعلها تتولَّى حراسة العالم. المبادئ العظيمة للديمقراطية، مبادئ تلك الحرية التجارية التي تعتمد عليها حضارتنا بأكملها صارت على المحك أكثر من أي وقت مضى. الآن نحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى رجالٍ يتمتَّعون بقدرات راسخة ونزاهة لا تشوبها شائبة في الوظائف العامة، ولا سيما في المناصب التي تتطلَّب خبرةً قضائية ومعرفةً قانونية.»

«هذا ما كنت أحاول أن أقوله لك منذ بضعة أيام يا جورج.»

«حسنًا هذا كله جيد يا جاس، ولكن كيف لك أن تعرف أنهم سينتخبونني … ففي نهاية المطاف سيعني هذا التخلي عن ممارستي للمحاماة لعددٍ من السنوات، سيعني …»

«اترك هذا لي فحسب … لقد انتُخبت يا جورج بالفعل.»

يقول دينش: «شريحة لحم جيدة للغاية، يجب أن أقول … كلا، ولكن الصُّحف تتناول أحاديث جانبية … صادف أن عرفت من مصدر سري وموثوق أن هناك مؤامرةً تخريبية بين العناصر غير المرغوب فيها في هذا البلد … يا إلهي، فكِّر في انفجار وول ستريت … يجب أن أقول إن موقف الصحافة كان مُرضيًا في أحد الجوانب … نحن نقترب في الواقع من وحدة وطنية لم نحلم بها قبل الحرب.»

قاطعه جاس، قائلًا: «كلا، ولكن يا جورج، لنتحدَّث بصراحة … من شأن القيمة الدعائية للعمل السياسي دعم مسيرتك في المحاماة نوعًا ما.»

«ربما نعم وربما لا يا جاس.»

يفك دينش ورق القصدير عن السيجار. «على أي حال، للأمر هيبة كبيرة.» يخلع نظارته ويرفع رقبته السميكة كي ينظر للخارج في الامتداد المشرق للميناء الممتد مليئًا بالصواري، والدخان، ولطخ من البخار، ومستطيلات الصنادل الداكنة، إلى مرتفعات جزيرة ستاتن التي يغشاها الضباب.

كانت رقائق السحاب الساطعة تتفتَّت في السماء النيلية التي بدت مُهشَّمةً فوق متنزَّه باتري، حيث وقفت مجموعات من الأشخاص بثيابٍ داكنةٍ رثةٍ حول محطة إنزال جزيرة إيليس ورصيف القوارب الصغير، كما لو كانت تنتظر شيئًا ما في صمت. علق الدخان المُنهَك لزوارق القَطر والبواخر منخفضًا وممتدًّا على طول المياه الخضراء بخضرة الزجاج المعتم. كانت المراكب الشراعية الثلاثية الصواري تُسحب إلى مصب نهر الشمال. تخبَّط الشراع المرفوع لتوه على نحوٍ خطرٍ في الرياح. وفي المرفأ لاحت طويلة، طويلةً باخرةٌ بوجهتها الأمامية، ومداخنها الأربع الحمراء التي ظهرت كمدخنةٍ واحدة، لامعًا هيكلها العلوي السمني اللون. صاح الرجل الحامل للمجهر والمنظار الميداني: «أتت الباخرة «موريتانيا» لتوها بعد تأخير دام ٢٤ ساعة … انظروا إلى الباخرة «موريتانيا»، أسرع سفينة في المحيط، تتأخَّر ٢٤ ساعة.» تتبختر الباخرة «موريتانيا» شامخةً كناطحة سحابٍ عبر ميناء الشحن. شحذت فرجةٌ من ضوء الشمس الظلَّ أسفل غرفة القيادة العريض، على طول الخطوط البيضاء للأسطح العليا، لامعةً في صفوف كوَّات الباخرة. كانت المداخن متباعدة، وبدن الباخرة مُنبَسِطًا. يسير بدن الباخرة «موريتانيا» الأسود الصُّلب إلى نهر الشمال قاطعًا الطريق كسكين طويل ودافعًا بزوارق القَطر النافخة دخانها أمامه.

كانت ثمة عبَّارة تغادر محطة المهاجرين، وحفَّت همهمة عبر الحشد الذي كان يملأ حواف الرصيف. «المُرحَّلون … إنهم الشيوعيون الذين تُرحِّلهم وزارة العدل … المُرحَّلون … الحُمر … إنهم يرحِّلون الحُمر.» كانت العبَّارة خارج المنزلق. جلست مجموعة من الرجال مُتسمِّرة في المؤخرة وقد بدَوا شديدي الصِّغر كتماثيل الجنود القصديرية. «إنهم يُرحِّلون الحُمر إلى روسيا.» لوَّح منديل على متن العبَّارة، منديل أحمر. كان الناس يمشون على أطراف أصابعهم برفقٍ إلى حافة الممشى، على أطراف أصابعهم، هادئين كما لو كانوا في غرفة للمرضى.

خلف ظهور الرجال والنساء المحتشدين إلى حافة المياه، سار رجال الشرطة بوجوههم الأشبه بوجوه الغوريلا متأهِّبين للشجار ذهابًا وإيابًا يؤرجحون هِراواتهم في توتُّر.

«إنهم يُرحِّلون الحُمر إلى روسيا … المُرحَّلون … المُحرِّضون … غير المرغوب فيهم.» … دارت النوارس وصاحت. كانوا كزجاجة صلصة كَاتشاب تعلو وتهبط بعنفٍ في الأمواج الصغيرة البيضاء بياض الزجاج المصقول. جاء صوت غناء من العبَّارة التي يصغر حجمها مُنسلَّةً عبر المياه.

هذا هو النضال الأخير، لنتحد معًا، وغدًا ستوحِّد الاشتراكية الدولية الجنس البشري.

صاح الرجل الحامل للمجهر والمنظار الميداني: «ألقِ نظرةً على المُرحَّلين … ألقِ نظرةً على الغرباء غير المرغوب فيهم.» انفجر صوت فتاة فجأة: «استيقظوا يا أسرى الجوع»، «صمتًا … يمكنهم أن يقبضوا عليكِ بسبب قولك هذا.»

تبدَّد الغناء عبر المياه. في نهاية الأثر الرخامي الشكل للسفينة على صفحة المياه كانت العبَّارة تتقلَّص في الضباب. الاشتراكية الدولية … ستوحِّد الجنس البشري. توقَّف الغناء. من أعلى النهر جاء الخفقان المقعقِع الطويل لباخرة تغادر الرصيف. حامت النوارس فوق سواد الحشد بملابسهم الداكنة والذين وقفوا ينظرون إلى أسفل الخليج في صمت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤