الفصل الثالث

الأبواب الدوَّارة

تتنقل القطارات ذهابًا وإيابًا كالديدان المتوهِّجة في الغَسَق عبر الأطياف الخافتة الضبابية للجسور المتداخلة كشبكة العنكبوت، والمصاعد تصعد وتهبط في آبارها، وتومض أضواء الميناء.

كعصارة النبات في أول موجة صقيع يبدأ الرجال والنساء في الساعة الخامسة في الانجراف تدريجيًّا خارجين من المباني الشاهقة في وسط المدينة، في حشود رمادية الوجه تغمر المترو والأنفاق، وتتلاشى تحت الأرض.

تقف المباني الشاهقة طوال الليل هادئةً وخالية بملايين النوافذ المظلمة. كمن يمضغ الطعام سائلًا لعابه، تلتهم العبَّارات المسارات بينما يتدفق ضوءُها عبر الميناء المطلي. في منتصف الليل تتسلَّل البواخر السريعة الرباعية المداخن إلى الظلام خارجةً من مراسيها المضيئة. يسمع المصرفيون وقد علت وجوههم غشاوةٌ جرَّاء المؤتمرات السرية صيحات زوارق القَطر أثناء إخراج الحراس الذين يشبهون البقَّ المضيء لهم من الأبواب الجانبية؛ فيستقرون يشخِّرون في المقاعد الخلفية لسيارات الليموزين، ويُنقلون شمالًا إلى الشوارع من ٤٠ إلى ٤٩ المزدحمة والمضاءة بألوان كئوس شراب الجن الأبيض، والويسكي الأصفر، وشراب التفاح الفوَّار.

جلست إلى طاولة زينتها تلف شعرها. وقف خلفها بحمالاته البنفسجية الفاتحة المتدلية من بنطاله، محرِّكًا الأزرار الألماسية في قميصه بأصابع قصيرة وبدينة.

أنَّت ودبابيس الشعر في فمها: «أتمنَّى لو كُنا خارجها يا جيك.»

«خارج ماذا يا روزي؟»

«شركة برودنس بروموشن … صدقًا، أنا قلقة.»

«عجبًا، كل شيء يسير على ما يرام. علينا خداع نيكولز، هذا كل ما في الأمر.»

«ماذا لو قاضانا؟»

«أوه لن يفعل. سيخسر الكثير من المال بهذا الشكل. من الأفضل أن يشاركنا … يمكنني أن أدفع له نقدًا في غضون أسبوع على أي حال. إذا استطعنا أن نحافظ على ظنه أن لدينا المال، فسنجعله تحت تصرُّفنا بالكامل. ألم يقل إنه سيكون في نادي إل فاي الليلة؟»

كانت روزي قد وضعت للتو مشطًا من حجر الراين في لفائف شعرها الأسود. أومأت برأسها ونهضت واقفة. كانت امرأةً سمينة عريضة الوركَين ذات عينَين سوداوَين كبيرتَين وحاجبَين مُقَوسَين لأعلى. وكانت ترتدي مُخَصِّرًا مزيِّنةً أطرافه بدانتيل أصفر وقميص من الحرير الوردي.

«ارتدي كل ما لديك يا روزي. أريدكِ أن تبدي متأنقةً كشجرة كريسماس. سنذهب إلى إل فاي ونحدِّق في عينَي نيكولز الليلة. ثم سأزوره غدًا وأعرض عليه الاقتراح … لنتناول بعض الشراب على أي حال …» توجَّه نحو الهاتف. «أرسل بعض الثلج المُكسَّر وزجاجتَي وايت روك إلى غرفة ٤٠٤. باسم سيلفرمان. لا تتأخَّر.»

صرخت روزي فجأة: «دعنا نفر يا جيك.» وقفت عند باب الخزانة وأحد الفساتين فوق ذراعها. «لا أستطيع تحمُّل كل هذا القلق … إنه يقتلني. دعنا نغادر إلى باريس أو هافانا أو أي مكان ونبدأ من جديد.»

«ثم نقع في ورطة. قد يُقبض عليكِ بسبب سرقة مبلغ مالي كبير. يا إلهي، لن تجعليني أسير متنكِّرًا بنظارات معتمة ولحية مزيَّفة طوال حياتي.»

ضحكت روزي. «كلا، أظن أن مظهرك لن يبدو جيدًا في بثرة زائفة … أوه، أتمنَّى لو كُنا متزوِّجَين بالفعل على الأقل.»

«لن يشكِّل هذا فرقًا بيننا يا روزي. فسيسعَون إذن للقبض عليَّ أيضًا لزواجي بامرأتَين. سيكون ذلك عظيمًا.»

ارتجفت روزي مِن طَرق الفرَّاش على الباب. وضع جيك سيلفرمان الصينية بوعاء الثلج المصلصِل فوقها على المكتب وأخرج زجاجة ويسكي مربعةً من الخزانة.

«لا تصب شيئًا لي. لا أمتلك القدرة على ذلك.»

«عليكِ أن تجمعي شتات نفسكِ يا صغيرتي. ارتدي أجمل الملابس وسنذهب إلى أحد العروض. بحق الجحيم لقد مررت بمآزق كثيرة أصعب من هذا.» توجَّهَ إلى الهاتف وكأس الشراب في يده. «أريد كشك بيع الصُّحف … مرحبًا أيتها اللطيفة … بالطبع، أنا صديق قديم … تعرفينني بالطبع … اسمعي، هل يمكنك أن تحجزي لي مقعدَين لعرض «الحماقات» (فوليز) … غير معقول … كلا، لا أستطيع الجلوس بالخلف في الصف الثامن … أنتِ فتاة جيدة … وستتصلين بي بعد ١٠ دقائق، أليس كذلك يا عزيزتي؟»

«قل لي يا جيك، هل هناك حقًّا أي بوراكس في تلك البحيرة؟»

«هناك بالطبع. ألم نحصل على إفادة خطية من أربعة خبراء؟»

«بالطبع. كنت أتساءل فحسب … قل لي يا جيك إن انتهينا من هذا الأمر هل ستعدني بألَّا نخوض أي مكائد طائشة أخرى؟»

«بالطبع؛ لن أحتاج إلى ذلك … يا إلهي، أنتِ امرأة فاتنة للغاية في هذا الفستان.»

«هل يعجبك؟»

«تبدين من البرازيل … لا أعلم … من مكان استوائي.»

«هذا هو سر سحري الخطير.»

رنَّ جرس الهاتف بجلجلة عالية. قفزا على أقدامهما. وضغطت بجانب يدها على شفتَيها.

«اثنان في الصف الرابع. هذا جيد … سننزل في الحال ونأخذها … يا إلهي يا روزي لا يمكن أن تظلي تجفلين هكذا؛ لقد أفزعتِني أنا أيضًا. اجمعي شتات نفسكِ، لماذا لا يمكنكِ فعل ذلك؟»

«دعنا نخرج ونتناول الطعام يا جيك. لم أتناول شيئًا طوال اليوم سوى الحليب الرائب. أظن أنني سأتوقف عن محاولة تقليل الطعام. فهذا القلق سيجعلني نحيفةً بما يكفي.»

«عليكِ أن تتوقَّفي عن ذلك يا روزي … إنه يثير أعصابي.»

توقفا عند كشط الزهور في الردهة. قال: «أريد زهرة جاردينيا.» ملأ صدره بالهواء وابتسم ابتسامته المقوَّسة أثناء تثبيت الفتاة لها في عُروة معطف العشاء الذي كان يرتديه. استدار بهيئة متحذلقة نحو روزي: «ماذا ستأخذين يا عزيزتي؟» جعَّدت فمها. «لا أعرف فحسب ما الذي سيناسب ثوبي.»

«بينما تقرِّرين سأذهب لإحضار تذاكر المسرح.» بمعطفه المفتوح وبعودته للخلف لإظهار مقدمة القميص الأبيض المنتفخة وبكمَّيه اللذَين أخرجهما من يدَيه الغليظتَين، مشى متبخترًا إلى كشك بيع الصحف. بطرف عينها وبينما كانت أطراف الورود الحمراء تُغلَّف بورق فضي، كان بإمكان روزي أن تراه يتكئ على المجلات ويتحدَّث محاكيًا لغة الأطفال إلى فتاة شقراء. عاد وعيناه تلمعان برِزمة مال في يده. ثبَّتت الورود في معطفها الفرو، ووضعت ذراعها في ذراعه وذهبا معًا عبر الأبواب الدوَّارة في الليل البارد المتلألئ بالأضواء الكهربائية. صاح: «تاكسي.»

•••

فاحت من غرفة الطعام رائحة التوست والقهوة وصحيفة «نيويورك تايمز». كان آل ميريفال يتناولون الإفطار على الضوء الكهربائي. ضرب الثلج المخلوط بالمطر النوافذ. قال جيمس من وراء الصحيفة: «حسنًا تراجعت شركة باراماونت خمس نقاط أخرى.»

تذمَّرت مايسي قائلةً وهي تشرب قهوتها في رشفات صغيرة كنقرات دجاجات: «أوه يا جيمس، أعتقد أنه أمر مروِّع أن تكون هازئًا بهذا الشكل.»

قالت السيدة ميريفال: «وعلى أي حال، جاك لم يعد يعمل لدى باراماونت. إنه يقوم بالدعاية لشركة فيمس بلايرز.»

«سيأتي إلى الشرق في غضون أسبوعَين. يقول إنه يأمل أن يكون هنا في بداية العام.»

«هل تلقَّيتِ برقيةً أخرى يا مايسي؟»

أومأت مايسي برأسها. قالت السيدة ميريفال عبر الصحيفة مخاطبةً ابنها: «أتعرف يا جيمس، لن يكتب جاك رسالة أبدًا. يرسل دائمًا البرقيات.» قال جيمس بصوت هادر من وراء الصحيفة: «إنه يُبقي منزله بالتأكيد مكتظًا بالزهور.»

قالت السيدة ميريفال بابتهاج: «كل شيء عن طريق التلغراف.»

وضع جيمس صحيفته. «حسنًا، آمل أن يكون رجلًا جيدًا كما يبدو عليه.»

«أوه يا جيمس، أنت فظيع عندما يتعلَّق الأمر بجاك … أعتقد أن ذلك أمر وضيع.» نهضت وعبر الستائر إلى غرفة الاستقبال.

قال متذمِّرًا: «حسنًا، إذا كان سيصير زوج أختي، أظن أنه يجب أن يكون لي رأي في اختياره.»

ذهبت السيدة ميريفال خلفها. «تعالَي وأنهي فطوركِ يا مايسي، ما هو إلا مشاكس مروِّع.»

«لن أسمح له بالحديث بهذه الطريقة عن جاك.»

«لكني يا مايسي أظن أن جاك فتًى جيد.» أحاطت ابنتها بذراعها وأرجعتها إلى الطاولة. «إنه بسيط للغاية وأنا أعرف أن لديه دوافع جيدة … أنا متأكدة من أنه سيجعلكِ سعيدةً للغاية.» جلست مايسي مرةً أخرى بوجه عابس أسفل الأنشوطة الوردية لقبعة نومها. «هل لي بفنجان آخر من القهوة يا أمي؟»

«عزيزتي، تعلمين أنه يجب ألَّا تشربي سوى فنجانَين. قال الدكتور فرنالد إن هذا ما يصيبكِ بالتوتر الشديد.»

«القليل فحسب من القهوة الخفيفة جدًّا يا أمي. فأنا أريد أن أُنهي كعكة المافن هذه وكل ما في الأمر أنني لا يمكنني أن آكلها من دون شيء يساعد على بلعها، وأنتِ تعلمين أنكِ لا تريدينني أن أفقد المزيد من الوزن.» دفع جيمس كرسيه للخلف وخرج وصحيفة «نيويورك تايمز» أسفل ذراعه. قالت السيدة ميريفال: «إنها الثامنة والنصف يا جيمس. من المحتمل أن يستغرق ساعةً عندما يدخل هناك بتلك الصحيفة.»

قالت مايسي منزعجة: «حسنًا. أظن أنني سأعود للنوم. أظن أنه من السخيف استيقاظنا جميعًا لتناول الإفطار. ثمة شيء مبتذل للغاية في الأمر يا أمي. لم يعد أحد يفعل ذلك. في منزل آل بيركنز يأتي لهم الإفطار في السرير على صينية.»

«لكن جيمس يجب أن يكون في البنك في التاسعة.»

«هذا ليس سببًا يجعلنا نجر أنفسنا من أَسِرتنا. هكذا تمتلئ وجوه الناس بالتجاعيد.»

«لكننا لن نرى جيمس حتى وقت العشاء، وأنا أحب الاستيقاظ مبكرًا. الصباح هو أجمل أوقات اليوم.» تثاءبت مايسي يائسة.

ظهر جيمس عند مدخل الردهة وهو ينظِّف قبعته بفرشاة.

«ماذا فعلت بالصحيفة يا جيمس؟»

«أوه لقد تركتها بالداخل.»

«سآخذها، لا تهتم … عزيزي، دبوس رابطة عنقك مائل. سأضبطه … ها هو.» وضعت السيدة ميريفال يدَيها على كتفَيه ونظرت في وجه ابنها. كان يرتدي بِذلةً رمادية داكنة بها خط أخضر فاتح، ورابطة عنق محوكة باللون الأخضر الزيتوني عليها دبوس ذو قطعة ذهبية، وجورب من الصوف باللون الأخضر الزيتوني بخطوط سوداء كخطوط الساعة، وحذاء أكسفورد باللون الأحمر الداكن كانت أربطته معقودةً بعناية بعقدة مزدوجة لا تنفلت أبدًا. «ألن تحمل عصاك يا جيمس؟» كان يضع وشاحًا باللون الأخضر الزيتوني حول عنقه وبدا نحيفًا أسفل معطفه الشتوي البُني الداكن. «أُلاحظ أن الرجال الأصغر سنًّا في الشارع لا يحملونها، يا أمي … قد يظن الناس أنه بعض الشيء … لا أعرف …»

«لكن السيد بيركنز يحمل عصًا برأس ببغاء ذهبي.»

«أجل، ولكنه أحد نُواب الرئيس، يمكنه أن يفعل ما يحلو له … لكن عليَّ أن أركض.» قبَّل جيمس ميريفال والدته وأخته على عجل. وارتدى قُفَّازه أثناء النزول في المصعد. ثم غمر رأسه في الريح الجليدي ومشى مسرعًا نحو الشرق بطول شارع ٧٢. عند مدخل مترو الأنفاق، اشترى صحيفة «تريبيون» ونزل على الدرج مسرعًا إلى الرصيف المزدحم ذي الرائحة الكريهة.

•••

«شيكاغو! شيكاغو!» انطلق هذا الهُتاف من الفونوغراف المغلق. كان توني هانتر، الذي بدا نحيفًا في بِذلته السوداء ذات السترة القصيرة، مع فتاة واصلت وضع كتلة شعرها المجعَّد الأشقر الضارب إلى الرمادي على كتفه. كانا وحدهما في غرفة الجلوس بالفندق.

هدلت وهي تعانقه مقتربة: «يا إلهي، إنك راقص رائع.»

«أتظنين ذلك يا نيفادا؟»

«امم هممم … يا إلهي، هل لاحظت شيئًا فيَّ؟»

«ماذا يا نيفادا؟»

«ألم تلاحظ شيئًا في عينَي؟»

«إنهما أجمل عينَين صغيرتَين في العالم.»

«نعم ولكن هناك شيئًا فيهما.»

«تقصدين أن إحداهما خضراء والأخرى بُنية.»

«أوه، لقد لاحظت الشيء الصغير الدقيق.» أمالت بفمها لأعلى تجاهه. فقبَّله. انتهت الأغنية. فأسرع كلٌّ منهما لإيقاف الفونوغراف. قالت نيفادا جونز وهي تُلقي بتجعيدات شعرها بعيدًا عن عينَيها: «لم تكن هذه قُبلةً حقيقية يا توني.» وضعا أسطوانة عرض «المراوغة» (شافيل ألونج).

قالت عندما استأنفا الرقص: «أخبرني يا توني. ماذا قال المحلِّل النفسي عندما ذهبت لرؤيته أمس؟»

قال توني متنهِّدًا: «أوه، لا شيء يُذكر، تحدَّثنا فحسب. قال إن الأمر برمته مجرد خيال. واقترح أن أتعرَّف أكثر على بعض الفتيات. إنه جيد. ولكنه لا يعرف ما الذي يتحدَّث عنه. لا يستطيع أن يفعل شيئًا.»

«أُراهنك أنني أستطيع.»

توقَّفا عن الرقص وتبادلا النظرات بوجهَين تورُّدا حمرة.

قال بنبرة حزينة: «معرفتكِ يا نيفادا عنت الكثير لي … أنتِ لطيفة جدًّا معي. كان الجميع دائمًا بغيضين معي للغاية.»

«أليس جادًّا على الرغم من ذلك؟» سارا مفكرَين وأوقفا الفونوغراف.

«يا لها من حيلة لُعبت على جورج.»

«أشعر بالأسى حيال ذلك. لقد كان في غاية اللطف … وبعد كل شيء لم أستطع تحمُّل الذهاب إلى الدكتور بومجارت على الإطلاق.»

«إنه خطؤه. إنه أحمق لعين … إذا كان يظن أنه يستطيع شرائي ببعض الإقامة الفندقية وتذاكر المسرح، فعليه أن يعيد التفكير في الأمر. لكن رجاءً يا توني يجب أن تستمر مع ذلك الطبيب. لقد فعل المعجزات مع جلين جاستون … كان يظن أنه هكذا حتى بلغ الخامسة والثلاثين وآخر شيء سمعته أنه تزوَّج ولدَيه توءَمان … الآن أعطِني قبلةً حقيقية يا حبيبي. أحسنت. هيا نرقص أكثر. مرحى، أنت راقص رائع. الفِتية أمثالك دائمًا ما يرقصون جيدًا. لا أعرف السبب …»

قطع الهاتفُ الصوتَ في الغرفة فجأةً بجرس مُجلجِل كصوت أسنان منشار. رفعت السماعة، وقالت: «مرحبًا … نعم هذه الآنسة جونز … عجبًا، بالطبع يا جورج أنا في انتظارك … يا للهول! فلتغادر يا توني. سأتصل بك في وقت لاحق. لا تنزل في المصعد فستقابله وهو يصعد.» خرج توني هانتر متلاشيًا عبر الباب. وضعت نيفادا أغنية «أيها الطفل … أيها الطفل المقدس» في الفونوغراف، ومشت متوترةً في أنحاء الغرفة، تُرتِّب الكراسي وتمسح على تجعيدات شعرها القصيرة الضيقة في مكانها.

«أوه يا جورج ظننتك لن تأتي … كيف حالك يا سيد ماك نيل؟ لا أعرف لمَ أنا مُتقلِّب الحال اليوم. ظننتك لن تأتي أبدًا. لنحضر بعض الغداء. أنا جائعة جدًّا.»

وضع جورج بالدوين قبعته الدربية وعصاه على طاولة في الركن. قال: «ماذا ستأكل يا جاس؟ بالطبع آكل دائمًا ريشةً من لحم الضأن وبطاطس مطهوَّة في الفرن.»

«سأتناول فقط البسكويت والحليب؛ فمعدتي ليست على ما يرام بعض الشيء … انظري يا نيفادا ما إذا كان بإمكانكِ إعداد بعض الشراب للسيد ماك نيل.»

«حسنًا، يمكنني أن آخذ كاسًا من الشراب يا جورج.»

صرخت نيفادا من الحمَّام حيث كانت تكسر الثلج: «اطلب لي يا جورج كركندًا صغيرًا مشويَّا وقليلًا من سلطة الأفوكادو.»

قال بالدوين ضاحكًا وهو يتوجَّه إلى الهاتف: «إنها أكثر فتاة تُحب الكركند.»

عادت من الحمام ومعها كأسان من الشراب فوق صينية، وكانت قد وضعت حول رقبتها وشاحًا بنقش الباتيك باللونَين القرمزي والأخضر كلون الببغاوات. «أنا وأنت سنشرب يا سيد ماك نيل … جورج ممتنع عن الشراب. إنها تعليمات الطبيب.»

«ما رأيكِ يا نيفادا أن نذهب إلى عرض موسيقي بعد ظهيرة اليوم؟ هناك الكثير من الأمور التي أرغب في أن أصفِّي ذهني منها.»

«لا أُحب سوى الحفلات النهارية. هل تمانع لو أخذنا توني هانتر؟ لقد اتصل وقال إنه وحيد وأراد أن يعرِّج علينا بعد ظهيرة اليوم. إنه لا يعمل هذا الأسبوع.»

«حسنًا … نيفادا، هلَّا تعذرينا إذا تحدَّثنا عن العمل لوهلة فحسب هناك بجوار النافذة؟ سننسى الأمر بمجرد أن يأتي الغداء.»

«حسنًا، سأُغيِّر ثوبي.»

«اجلس هنا يا جاس.»

جلسا صامتَين للحظة ينظران من النافذة إلى الهيكل القفصي ذي العارضة الحمراء للمبنى تحت الإنشاء المجاور. قال بالدوين فجأةً بصوت أجش: «حسنًا جاس، أنا في المنافسة.»

«جيد يا جورج، نحن بحاجة إلى رجال مثلك.»

«سأترشَّح عن حزب الإصلاح.»

«بحق الجحيم؟»

«أردت أن أخبرك يا جاس بدلًا من أن تسمع الأمر من طريق ملتوٍ.»

«من سينتخبك؟»

«أوه، لقد حصلت على دعمي … سأحظى بحملة صحفية جيدة.»

«فلتذهب الصحافة إلى الجحيم … لدينا الناخبون … اللعنة، لولاي لم يكن اسمك ليترشَّح لمنصب المدعي العام على الإطلاق.»

«أعلم أنك كنت دائمًا صديقًا جيدًا لي وآمل أن تظل كذلك.»

«لم أتخلَّ عن أحد قط، بحق المسيح يا جورج، الحياة أخذ وعطاء.»

قاطعَت الحديثَ نيفادا وهي تتقدم نحوهما بخطوات قصيرة راقصة مرتديةً فستانًا حريريًّا ورديًّا بلون طائر الفلامنجو، وقالت: «حسنًا، ألم تتجادلا بما يكفي بعدُ أيها الفتيان؟»

قال جاس بصوت هادر: «لقد انتهينا. أخبرينا يا آنسة نيفادا كيف حصلتِ على هذا الاسم؟»

«وُلدت في رينو … ذهبَت والدتي إلى هناك للحصول على الطلاق … يا ربي لقد كانت غاضبة … بالطبع جلبت لنفسي المتاعب في ذلك الوقت.»

•••

تقف آنا كوهين خلف المنضدة تحت لافتة «أفضل شطائر في نيويورك». قدماها تؤلمانها في حذائها المدبَّب ذي الكعب المنحول الحواف.

قال الساقي بجوارها: «حسنًا، أظنهم سيبدءون قريبًا وإلا فسدَ اليوم.» إنه رجل ذو وجه حاد القسمات وتفاحة آدم بارزة. «دائمًا ما يحدث الأمر على عجالة.»

«أجل، يبدو أنهم جميعًا يفكِّرون في أمر واحد في الوقت نفسه.» وقفا يتبادلان النظرات عبر جدار الغرفة الزجاجي حيث الصفوف اللانهائية من البشر المتدافعين دخولًا وخروجًا من المترو. انسلَّت دفعةٌ واحدة خارجةً من عند المنضدة وراجعةً إلى المطبخ الصغير المكتوم حيث تُجهِّز امرأة مسنة وبدينة الموقد. توجد مرآة مُعلَّقة على مسمار في الركن. أخرجت آنا علبة بودرة من جيب معطفها الموضوع على الرف وبدأت تضعها على أنفها. توقَّفت لوهلة، ونفخة البودرة الصغيرة تتأرجح في الهواء، ناظرةً إلى وجهها العريض وشعر ناصيتها الأسود المنسدل والمتمايل. مظهر بشع أيتها اليهودية الحقيرة، هكذا تقول لنفسها شاعرةً بالمرارة. تعود أدراجها إلى مكانها عند المنضدة بينما تصادف المدير، وهو إيطالي سمين ذو رأس أصلع دهني. «ألَا يمكنكِ فعل شيء سوى التزيُّن والنظر إلى المرآة طوال اليوم؟ … حسنًا جدًّا، أنتِ مطرودة.»

حدَّقت في وجهه الأملس كالزيتونة. قالت متلعثمة: «أيمكنني قضاء يومي بالخارج؟» يومئ برأسه. «تحرَّكي؛ هذا ليس صالون تجميل.» عادت مسرعةً إلى مكانها عند المنضدة. جميع المقاعد ممتلئة. الفتيات، وسُعاة المكاتب، وموظَّفو الحسابات ذوو الوجوه الشاحبة. «شطيرة دجاج وفنجان من القهوة.» «جبن كريمي وشطيرة زيتون وكوب من الحليب الرائب.»

«مثلَّجات صنداي بالشوكولاتة.»

«شطيرة بيض وقهوة وكعك الدونات.» «كوب من المرق.» «حساء الدجاج.» «صودا آيس كريم بالشوكولاتة.» يأكل الناس على عَجَل دون أن ينظر أي منهم للآخر، وأعينهم على أطباقهم، وعلى أكوابهم. خلف الجالسين على المقاعد يقترب المنتظرون أكثر فأكثر. بعضهم يأكل واقفًا. وبعضهم يُدير ظهره للمنضدة ويأكل ناظرًا للخارج عبر الحاجز الزجاجي واللافتة HCNUL ENIL NEERG عند الحشود المتدافعة الداخلة والخارجة كما لو كانت تُعبَّأ وتُفرَّغ من مترو الأنفاق عبر الظلام الأخضر الباهت.

قال جاس ماك نيل وهو ينفخ غيمةً كبيرة من الدخان من سيجاره ويتكئ على كرسيه الدوار: «حسنًا يا جوي، أخبرني بكل شيء عن الأمر. ماذا الذي تخطِّطون له أيها الرفاق هناك في فلاتبوش؟»

تنحنح أوكيف وجرَّ قدمَيه. «حسنًا يا سيدي، لقد كوَّنا لجنة إضراب.»

«لا بد أن أقول إن لديك … هذا ليس سببًا لمداهمة حفل عُمال الملابس، أليس كذلك؟»

«لم يكن لي أي علاقة بذلك … لقد انزعجت المجموعة من كل مناهضي الحرب والاشتراكيين.»

«كانت تلك الأشياء لا بأس بها قبل عام، لكن الشعور العام تغيَّر. صدِّقني يا جوي، لقد سئم شعب هذا البلد للغاية من أبطال الحرب.»

«لدينا منظَّمة حيوية هناك.»

«أعلم يا جو. أعلم ذلك. وأثق بك في هذا … ولكنني سأعمل على التخفيف من أمر المكافآت … لقد أدَّت ولاية نيويورك واجبها على يد رجل الخدمة السابق.»

«هذا صحيح تمامًا.»

«المكافأة الوطنية تعني الضرائب لرجل الأعمال العادي ولا شيء غير ذلك … لا أحد يريد المزيد من الضرائب.»

«ما زلت أظن أن الفتية يستحقون ما يحدث لهم.»

«جميعنا استحققنا أشياء كثيرةً لم نحصل عليها قط … بالله عليك لا تخبر عني ذلك … اجلب لنفسك يا جوي سيجارًا من ذلك الصندوق هناك. أرسله لي صديق من هافانا عبر ضابط في البحرية.»

«شكرًا لك يا سيدي.»

«هيا خذ أربعةً أو خمسة.»

«يا إلهي، شكرًا لك.»

«أخبِرني يا جوي، كيف تنظِّمون أنفسكم جميعكم أيها الفِتية في انتخابات حاكم المدينة؟»

«يعتمد هذا على الموقف العام تجاه احتياجات رجل الخدمة السابق.»

«اسمع يا جوي، أنت رجل ذكي …»

«أوه، سينظِّمون أنفسهم جيدًا. يمكنني إقناعهم.»

«كم رجلًا حصلت عليه؟»

حصل مُعَسكر شيمس أوريلي على ٣٠٠ عضو جديد وهناك أعضاء جدد يسجِّلون كل يوم … نحن نحصل عليهم من كل مكان. سننظِّم حفلًا راقصًا في الكريسماس وبعض المباريات في مخزن الأسلحة إذا تمكَّنا من إيجاد المُلاكمين.»

أرجع جاس ماك نيل رأسه على عنقه الغليظ القصير وضحك. «أحسنت!»

«ولكن المكافأة بصراحة هي الطريقة الوحيدة التي يمكننا بها أن نجعل الفِتية يتحدون.»

«أظن أنني سأمر وأتحدَّث معهم ذات ليلة.»

«سيكون ذلك جيدًا، ولكنهم متهوِّرون ضد أي شخص لم يشارك في الحرب.»

تورَّد وجه ماك نيل. «رجعتم أيها الرفاق من الخارج، وأنتم تظنون أنكم أذكياء بعض الشيء، أليس كذلك؟» وضحك. «لن يستمر هذا أكثر من عام أو عامَين … رأيتهم يعودون من الحرب الأمريكية الإسبانية، تذكر ذلك يا جو.»

«دخل أحد السُّعاة ووضع بطاقةً فوق المكتب. «هناك سيدة ترغب في رؤيتك يا سيد ماك نيل.»

«حسنًا، أدخِلها … إنها تلك العاهرة العجوز من مجلس إدارة المدرسة … حسنًا يا جو، عد مرةً أخرى في الأسبوع المقبل … سأُبقيك في بالي، أنت وجيشك.»

كان دوجان ينتظر في المكتب الخارجي. تسلَّل خفيةً على نحو غامض. «حسنًا يا جو، كيف الأحوال؟»

قال جو زافرًا الهواء من صدره: «جيدة للغاية. يخبرني جاس أنَّ تنظيم تاماني هول سيدعمنا جيدًا في سعينا للحصول على المكافأة … إذ سيخطِّط لحملة على مستوى الأمة. لقد أعطاني بعض السيجار جلَبه أحد أصدقائه بالطائرة من هافانا … أتريد سيجارًا؟» سارا والسيجار يميل من زوايا فمَيهما بخفة وغطرسة عبر ميدان دار البلدية. في الجهة المقابلة لدار البلدية القديم كانت هناك سقَّالة. أشار جو إليها بسيجاره. «ذلك الذي هناك هو التمثال الجديد للفضيلة المدنية والذي يُنشئه حاكم المدينة.»

•••

يتلوَّى بخار الطهو أمام معدته المتشنِّجة أثناء مروره بمطعم تشايلد. كان الفجر ينثر الغبار الرمادي الناعم فوق المدينة المظلمة التي سبكها الحديد. عَبَر داتش روبرتسون يائسًا يونيون سكوير، متذكِّرًا سرير فرانسي الدافئ، ورائحة شعرها الجميلة. دفع بيدَيه عميقًا في جيبَيه الفارغَين. لم يكن معه سنت واحد، ولم تستطع فرانسي إعطاءه شيئًا. سار شرقًا متجاوزًا الفندق في شارع ١٥. كان هناك رجل مُلوَّن يكنس الدرج. نظر إليه داتش حاقدًا؛ فقد حصل على وظيفة. مرَّت عربة حليب مجلجِلة. في ميدان ستايفيسنت، لامسه بائع حليب مرَّ به بزجاجة في كل يد. مدَّ داتش فكه وتحدَّث بقسوة. «هلَّا تعطينا جرعة حليب؟» كان بائع الحليب شابًّا صغيرًا وردي الوجه هزيلًا. بدت عيناه الزرقاوان خاشعتَين. «بالطبع اذهب خلف العربة؛ فهناك زجاجة مفتوحة تحت المقعد. لا تدع أحدًا يراك وأنت تشربها.» شربها بجرعات عميقة، وكانت ذات مذاق حلو ومهدِّئ لحلقه الظمآن. يا إلهي، لم أكن بحاجة للتحدث بقسوة هكذا. انتظر حتى عاد الصبي. «شكرًا لك يا صديقي، كان هذا كرمًا منك.»

دلف إلى الحديقة الباردة وجلس على أحد مقاعدها. كان الصقيع على الأسفلت. التقط قطعةً ممزَّقة من جريدة مساء وردية «سرقة ٥٠٠ ألف دولار». سرقة مرسال بنك في وول ستريت ساعةَ الذروة.

•••

في الجزء الأكثر ازدحامًا من ساعة الظهيرة، سطا رجلان على أدولفوس سانت جون، مرسال بنك لشركة جرانتي تراست كومباني، وانتزعا من يدَيه حقيبةً تحوي أوراقًا نقدية بقيمة نصف مليون دولار.

•••

سمع داتش نبض قلبه وهو يقرأ المقال. وشعر بالبرد في جميع أنحاء جسده. وقف على قدمَيه وبدأ يضرب ذراعَيه.

•••

تعكَّز كونغو عبر الباب الدوَّار في نهاية صف القطار السريع. تبعه جيمي هيرف ناظرًا من جانب إلى آخر. كانت السماء معتمةً في الخارج، حيث كانت ريح عاصفة ثلجية تُصفِّر حول آذانهما. وكانت هناك سيارة صالون فورد واحدة تنتظر خارج المحطة.

«كيف حالك يا سيد هيرف؟»

«بخير يا كونغو. أتلك مياه؟»

«ذلك خليج شيبسهيد.»

سارا على طول الطريق متحاشيَين بِركةً تظهر بين الحين والآخر وامضةً باللون الفولاذي الأزرق. وقد اتخذت المصابيح القوسية شكل العنب المجفَّف متأرجحةً في الريح. إلى اليمين واليسار كانت هناك رِقاع وامضة من المنازل تلوح من بعيد. توقَّفا عند مبنًى طويل يستند على أكوام فوق الماء. «حمَّام سباحة»: قرأ جيمي بالكاد الحروف على نافذة غير مضاءة. انفتح الباب عندما وصلا إليه. قال كونغو: «مرحبًا يا مايك.» «هذا هو السيد هيرف، أحد أصدقائي.» انغلق الباب خلفهما. بالداخل كانت العتمة كما لو كانا في أتون. أمسكت يد غليظة الجلد بيد جيمي في الظلام.

سُمع صوت يقول: «مسرور بلقائك.»

«أخبرني كيف وجدت يدي؟»

«أوه، يمكنني الرؤية في الظلام.» ضحك الصوت من الحلق.

في ذلك الوقت كان كونغو قد فتح الباب الداخلي. تدفَّق الضوء ساطعًا على طاولات البلياردو، ومنضدة شراب في النهاية، ورفوف من عِصي البلياردو. قال كونغو: «هذا مايك كاردينالي.» وجد جيمي نفسه واقفًا بجانب رجل شاحب طويل القامة يبدو خجولًا وذا شعر أسود ينحسر فوق جبهته. في الغرفة الداخلية كانت هناك أرفف مليئة بالأواني الخزفية ومائدة مستديرة مغطاة بقطعة من المشمع بلون الخردل. صاح كونغو بالفرنسية: «آه، الزعيم.» خرجت سيدة فرنسية بدينة ذات وجنتَين حمراوَين من الباب الآخر، وخلفها سُمع صوت الزبد والثوم عند قليهما. صاح كونغو: «هذا صديقي … ربما نأكل الآن.» قال كاردينالي بفخر: «إنها زوجتي. صماء جدًّا … يجب أن أتحدَّث بصوت عالٍ.» استدار وأغلق الباب المؤدي إلى الصالة الكبيرة بعناية وأحكم إغلاقه. قال: «كي لا نرى أضواءً من الطريق.» قالت السيدة كاردينالي: «في الصيف نتناول في بعض الأحيان ١٠٠ وجبة في اليوم، أو ربما ١٥٠.»

قال كونغو: «أليس لديك بعضٌ من تلك الأشياء المنعشة؟» ألقى بنفسه هادرًا على كرسي.

وضع كاردينالي قنينةً سمينة من النبيذ وبعض الكئوس على المائدة. تذوَّقوه ملتمظين بشفاههم. «إنه أفضل من النبيذ الإيطالي، أليس كذلك يا سيد هيرف؟»

«بالتأكيد. مذاقه شبيه بنبيذ الكيانتي.»

وضعت السيدة كاردينالي ستة أطباق، وفي كل منها شوكة وسكين وملعقة ملطَّخة، ثم وضعت في منتصف الطاولة سلطانية حساء يتصاعد منها البخار.

زعقت بصوت كصوت طائر الغِرْغِر قائلةً بالإيطالية: «المكرونة جاهزة.» عندما دخلت الغرفة راكضةً فتاة متورِّدة الوجنتَين سوداء الشعر برموش طويلة مُقوَّسة فوق عينَين سوداوَين برَّاقتَين وتبعها شاب ضارب إلى حد كبير إلى السُّمرة يرتدي أفرولًا كاكيًّا وشعره مُجعَّد وقد بيَّضته الشمس، قال كاردينالي: «هذه أنيتا.» جلسوا جميعًا معًا وبدءوا يتناولون حساء الشودر المُفَلفَل ذا الخَضراوات السميكة، مائلين بشدة فوق أطباقهم.

عندما أنهى كونغو حساءه نظر لأعلى. «هل رأيت أضواءً يا مايك؟» أومأ كاردينالي. «بالطبع هذه الأشياء … تكون هنا في أي وقت.» بينما كانوا يأكلون طبقًا من البيض المقلي والثوم وشرائح لحم العجل المقلية مع البطاطس المقلية والبروكلي، بدأ هيرف يَسمع من بعيدٍ فرقعةَ زورق آلي. نهض كونغو من على الطاولة مشيرًا لهم أن يهدءوا وينظروا من النافذة، رافعًا بحذر ركنًا من الستارة. قال وهو يتراجع إلى الطاولة: «ذلك هو. نحن نأكل جيدًا هنا، أليس كذلك يا سيد هيرف؟»

وقف الشاب على قدمَيه يمسح فمه في ساعده. قال جارًّا بنعل حذائه مرتَين: «ألديك نيكل يا كونغو؟» «تفضَّل يا جوني.» تبعته الفتاة إلى الغرفة الخارجية المظلمة. في لحظة بدأ البيانو الآلي يرن بموسيقى الفالس. وكان بمقدور جيمي أن يراهم عبر الباب يرقصون داخلين وخارجين في البقعة المضاءة المستطيلة الشكل. اقترب أزيز الزورق الآلي. خرج كونغو، ثم كاردينالي وزوجته، حتى تُرك جيمي وحده يحتسي كأسًا من النبيذ وسط بقايا طعام العشاء. شعر بالإثارة والحيرة وبشيءٍ من السُّكْر. وقد بدأ بالفعل بناء القصة في ذهنه. جاء من الطريق صوت سحق تروس شاحنة، ثم صوت شاحنة أخرى. انسدَّ محرك الزورق الآلي، واشتعل عكسيًّا، وتوقف. كان صرير زورق أمام الأكوام في تلاطُم من الأمواج والصمت. توقَّف البيانو الآلي. جلس جيمي يحتسي نبيذه. وشمَّ رائحةَ المستنقعات المِلحية العفِنة تتسرَّب إلى المنزل. وسمع تحته صوت تربيت خفيف لارتطام الماء بالأكوام. بدأ زورق آلي آخر يبقبق من بعيد جدًّا.

سأل كونغو مقتحمًا الغرفة فجأة: «هل معك نيكل؟ شغِّل الموسيقى … الليلة مرحة للغاية. ربما تواصل أنت وآنيت تشغيل البيانو. لم أرَ ماكجي يستعد للنزول … ربما يأتي أحد. لا بد أن يكون سريعًا.» نهض جيمي وبدأ يبحث في جيوبه. عند البيانو وجد آنيت. «هلَّا ترقصين؟» أومأت. صدع البيانو بأغنية «العيون البريئة» (إنوسنت آيز). رقصا شاردَين. سُمعَت بالخارج أصوات ووقع أقدام. قالت فجأة: «أرجوك»، وتوقَّفا عن الرقص. اقترب الزورق الآلي الثاني للغاية؛ أصدر المحرك صوتًا كالسعال واهتزَّ في مكانه. قالت: «أرجوك ابقَ هنا»، وتسلَّلت بعيدًا عنه.

سار جيمي هيرف جيئةً وذهابًا مضطربًا ينفث دخان سيجارته. كان يؤلف القصة في ذهنه … في قاعة رقص وحيدة مهجورة على خليج شيبسهيد … فتاة إيطالية جميلة متورِّدة … صافرة صاخبة في الظلام … يجب أن أخرج وأرى ما يحدث. تحسَّس طريقه إلى الباب الأمامي. كان محكَم الغلق. مشى إلى البيانو ووضع نيكلًا آخر. ثم أشعل سيجارةً جديدة واستأنف السير في أرجاء المكان. هذا هو الحال دائمًا … طفيلي في دراما الحياة، صحفي ينظر إلى كل شيء عبر ثقب الباب. لا يختلط أبدًا. كان البيانو يعزف أغنية «نعم ليس لدينا موز» (ياس، وي هاف نو باناناز). «اللعنة!» ظلَّ يتمتم ويكِز على أسنانه ويسير ذهابًا وإيابًا.

تحوَّل وقع الأقدام بالخارج إلى شغب، حيث تداخلت الأصوات. كانت هناك شظايا من خشب وكِسر زجاجات. نظر جيمي عبر نافذة غرفة الطعام. فرأى ظلال رجال يتعاركون ويتصارعون فوق مرسى المركب. هُرع إلى المطبخ، حيث اصطدم بكونغو متعرِّقًا ولاهثًا في المنزل متكئًا على عصًا ثقيلة.

صرخ: «اللعنة … لقد كسروا ساقي.»

«يا إلهي.» ساعده جيمي في الدخول إلى غرفة الطعام هو يتأوَّه.

«لقد تكبَّدت ٥٠ دولارًا أمريكيًّا لإصلاحها في آخر مرة كُسرت فيها.»

«أتقصد ساقك المصنوعة من الفلين؟»

«بالطبع، ماذا تظن؟»

«هل هم عملاء الحظر؟»

«ليسوا عملاء الحظر، بل خاطفين لعناء … اذهب وضع نيكلًا في البيانو.» فاستجاب البيانو مَرِحًا: «فتاة أحلامي الجميلة».

عندما رجع جيمي لكونغو، كان جالسًا على كرسي يعتني بساقه الاصطناعية بيدَيه. وقد وضع على الطاولة الطرف المصنوع من الفلين والألومنيوم الذي كان مشقوقًا ومنبعجًا. بالفرنسية: «انظر إلى هذا … لقد تحطَّمت … تحطَّمت بالكامل.» أثناء حديثه دخل كاردينالي. بجرح عميق فوق عينَيه سالت منه الدماء الغزيرة فوق وجنته ومعطفه وقميصه. تبعته زوجته وعيناها تدوران، وكان معها حوض وإسفنجة ظلَّت تربت بها على جبهته بلا جدوى. دفعها بعيدًا. «لقد ضربت أحدهم في رأسه بقوة بأنبوب. أظنه سقط في الماء. يا إلهي، ليته يغرق.» دخل جوني رافعًا رأسه. ووضعت آنيت ذراعها حول خصره. كانت إحدى عينَيه مُسْوَدة وأحد كُمي قميصه متدليًا وممزَّقًا. قالت آنيت ضاحكةً في هيستيريا: «مرحى، لقد كان الأمر كما في الأفلام. ألم يكن رائعًا، يا أمي، ألم يكن رائعًا؟»

«يا إلهي، من حسن حظهم أنهم لم يبدءوا في إطلاق النار؛ فقد كان مع أحدهم مسدس.»

«أظنهم خافوا من أن يفعلوا ذلك.»

«الشاحنات متوقِّفة.»

«لم يُضبط سوى صندوق واحد فقط … يا إلهي، لقد كانوا خمسة.»

صرخت آنيت: «مرحى، ألم يوسعهم ضربًا؟»

قال كاردينالي بصوت هادر: «أوه، اصمتي.» كان قد ارتمى في الكرسي وكانت زوجته تمسح وجهه بالإسفنجة. سأل كونغو: «هل ألقيتَ نظرةً فاحصة على القارب؟»

قال جوني: «لقد كانت السماء مظلمةً للغاية. تحدَّث الرجال كما لو أنهم قد أتَوا من جيرسي … في البداية علمت أن أحدهم أتي إليَّ وقال، يا إلهي، إنه موظف إيرادات وقد وكزته قبل أن يتسنَّى له أن يسحب مسدسه فسقط من فوق ظهر المركب. يا إلهي، لقد كانوا يصرخون. ذلك الرجل جورج على القارب القريب ضرب أحدهم في دماغه بمجداف. فرجعوا أدراجهم إلى قاربهم القديم الأشبه بإبريق شاي وغادروا.»

تلعثم كونغو بوجه أرجواني: «ولكن كيف يعرفون طريقة رسونا؟»

قال كاردينالي: «ربما ثرثر أحد بالكلام. إن عرفتُه فوربي سوف …» أصدر طقطقةً من شفتَيه.

قال كونغو بصوته الدَّمِث مرةً أخرى: «أرأيت يا سيد هيرف، كانت كلها شمبانيا للاحتفال بالأعياد … بضاعة ثمينة جدًّا، أليس كذلك؟» جلست آنيت ووجنتاها شديدتا التورُّد تنظر إلى جوني بشفتَين متفرقتَين وعينَين شديدتَي اللمعان. وجد هيرف نفسه يتورَّد خجلًا وهو ينظر إليها.

نهض واقفًا. «حسنًا، يجب أن أعود إلى المدينة الكبيرة. شكرًا على الطعام والأحداث المثيرة يا كونغو.»

«هل تعرف كيف تصل إلى المحطة؟»

«بالطبع.»

«طابت ليليتك يا سيد هيرف، ربما تشتري صندوقًا من الشمبانيا للكريسماس، من ماركة موم الأصلية.»

«إنني مفلس للغاية يا كونغو.»

«إذن ربما تبيع لأصدقائك وآخذ منك عمولة.»

«حسنًا، سأرى ما يمكنني فعله.»

«سأتصل بك غدًا لأخبرك بالسعر.»

«هذه فكرة جيدة. طاب مساؤك.»

عندما اهتزَّ به القطار الفارغ أثناء عودته إلى المنزل عبر ضواحي بروكلين الفارغة، حاول جيمي التفكير في قصة التهريب التي يكتبها لملحَق صحيفة يوم الأحد. ظلَّت الفتاة تشتِّت تفكيره بوجنتَيها الورديتَين وعينَيها البراقتَين، مشوِّشةً عليه الترتيب المنظَّم لأفكاره. غاص تدريجيًّا في حلم يقظة تلو الآخر. قبل ولادة الطفل، كانت عينا إيلي بعض الأحيان تومض بهذا الشكل. ثم في ذلك اليوم عندما كانا فوق التل ومالت في ذراعَيه وكانت متعبةً وتركها وسط الأبقار المجترَّة طعامها ذات العيون الباعثة على الهدوء فوق المنحدر العشبي، وذهب إلى كوخ راعٍ وجلب لها الحليب في مغرفة خشبية، وببطء عند تحدُّب الجبال لأعلى وقت المساء عادت الحمرة إلى وجنتَيها ونظرت إليه تلك النظرة وقالت بضحكة جافة: إنه هيرف الصغير بداخلي. يا إلهي، لمَ لا أستطيع التوقف عن التفكير في أشياء مضت؟ وفي ساعة ولادة الطفل عندما كانت إيلي في المستشفى الأمريكي في نويي، كان يتجوَّل لاهيًا في المعرض، حيث ذهب إلى سيرك البراغيث، وركب دُوامة الخيل والأرجوحة البخارية، واشترى الألعاب والحلوى، ومارس الرماية على الدمى مغطِّيًا عينَيه في تهوُّر، ليتعثَّر راجعًا إلى المستشفى ومعه خنزير كبير من الجبس تحت ذراعه. يا له من مرح في ذلك اللجوء الخاطف للحظات من الماضي. ماذا لو كانت قد ماتت؛ فقد ظننت أن هذا سيحدث بالفعل. كان الماضي سيكون قد اكتمل تمامًا، وتحدَّد، وسيكون قد ارتديته حول عنقك كالقلادة، كما سيكون قد أُعِد للكتابة على الآلة الحاسبة، وصُب في قوالبه لملحَق صحيفة يوم الأحد كمقالات جيمي هيرف حول حلقة التهريب. ظلَّت الأفكار كأعمدة آلة كاتبة مزعجة تسقط في أماكنها وتكتبها آلة لاينوتايب مقعقِعة.

في منتصف الليل كان يسير في شارع ١٤. لم يكن يريد الذهاب إلى المنزل للنوم على الرغم من الرياح الباردة الشديدة التي كانت تُمزِّق رقبته وذقنه بمخالب جليدية حادة. مشى غربًا عبر شارع ٧ والجادة الثامنة، ليجد اسم روي شيفيلد بجانب جرس في رَدهة خافتة الإضاءة. بمجرد أن ضغط على الجرس، بدأ قفلُ الباب في النقر. صعد الدرج راكضًا. مدَّ روي من الباب رأسه الكبير المجعَّد الشعر بعينَيه الأشبه بعينَي الدمية جولي وبلون الزجاج الرمادي.

«مرحبًا يا جيمي. تفضَّل بالدخول؛ إننا جميعًا مبتهجون كالكنائس في الكريسماس.»

«لقد رأيت لتوي قتالًا بين المهربين والخاطفين.»

«أين؟»

«هناك في خليج شيبسهيد.»

صاح روي قائلًا لزوجته: «ها هو جيمي هيرف، لقد كان يحارب لتوه عملاء الحظر.» كان لأليس شعر كستنائي داكن كشعر دمية ووجه كوجه دميه أيضًا كريمي متورِّد بلون الخوخ. ركضت إلى جيمي وقبَّلته فوق ذقنه. «أوه يا جيمي، أخبرنا بكل شيء عن ذلك … إننا نشعر بالملل الفظيع.»

صاح جيمي، وقد رأى لتوه فرانسيس وبوب هيلدبراند على الأريكة في الطرف المعتم من الغرفة: «مرحبًا.» رفعا كأسَيهما تحيةً له. دُفع جيمي إلى كرسي بذراعَين، وأُعطي له في يده كأس من شراب الجن وجِعَة الزنجبيل. قال بوب هيلدبراند بصوت مُهمهِم عميق: «حسنًا، علامَ كان كل هذا القتال؟ من الأفضل أن تخبرنا لأننا بالتأكيد لن نشتري صحيفة «تريبيون» ليوم الأحد لنعرف ما حدث.»

ارتشف جيمي رشفةً طويلة من الشراب. «لقد خرجت مع رجل أعرف أنه كبير جميع المهربين الفرنسيين والإيطاليين. إنه رجل جيد. وله ساق من الفلين. أعدَّ لي وجبةً متخمة ونبيذًا إيطاليًّا فاخرًا في غرفة بِلياردو مهجورة على شواطئ خليج شيبسهيد …»

سأل روي: «بالمناسبة، أين هيلينا؟»

قالت أليس: «لا تقاطع يا روي. هذا جيد … وبجانب ذلك يجب ألَّا تسأل رجلًا أبدًا عن مكان زوجته.»

«ثم كان هناك الكثير من وميض أضواء الإشارة وغيرها وقد جاء زورق آلي محمَّل بالمزيد من شمبانيا موم الجافة للاحتفال بالكريسماس في بارك أفنيو ووصل الخاطفون على زورق سريع … ربما كان طائرة مائية لأنه جاء بسرعة كبيرة …»

هدلت أليس: «الأمر مثير … لماذا لا تمارس التهريب يا روي؟»

«لقد كان أسوأ قتال رأيته خارج السينما؛ إذ كان ستة أو سبعة في كل جانب جميعهم يضربون بعضًا في موضع نزول ضيق صغير بحجم هذه الغرفة، أناس يعمِّمون بعضًا بالمجاديف ومفاصل أنابيب الرصاص.»

«هل أُصيب أحد؟»

«أُصيب الجميع … أظن أن اثنَين من الخاطفين قد غرقوا. على أي حال، لقد فروا وتركونا نلعق الشمبانيا المنسكبة.»

صرخ الزوجان هيلدبراند: «لكن لا بد أن ذلك كان فظيعًا.» وسألت أليس لاهثة: «ماذا فعلت يا جيمي؟»

«أوه لقد قفزتُ في الأرجاء متفاديًا طريق الأذى. لم أكن أعرف مَن كان في أي جانب، وكانت السماء مظلمةً والأجواء رطبةً ومربكة في كل مكان … وانتهى بي الحال ساحبًا صديقي المهرِّب من المعركة، وعندها انكسرت ساقه … ساقه الخشبية.»

أطلق الجميع صيحة. أعاد روي ملء كأس جيمي بشراب الجن.

هدلت أليس: «أوه يا جيمي، أنت تعيش الحياة الأكثر إثارة.»

•••

كان جيمس ميريفال يتفقَّد برقيةً تُرجمت لتوها، ناقرًا على الكلمات بقلم رصاص وهو يقرؤها. تطلب منا شركة منتجات المنجنيز التسمانية فتح حساب ائتماني … بدأ الهاتف على مكتبه يرن.

«هذه والدتك يا جيمس. تعالَ على الفور؛ حدث شيء رهيب.»

«ولكني لا أعرف ما إذا كان بمقدوري مغادرة …»

كانت قد أنهت المكالمة بالفعل. شعر ميريفال بوجهه يتحوَّل إلى الشحوب. «دعني أتحدَّث إلى السيد أسبينوول من فضلك … أنا ميريفال يا سيد أسبينوول … مرضت أمي فجأة. أخشى أن تكون سكتةً دماغية. أرغب في الإسراع للمكوث هناك ساعة. سأعود في الوقت المحدَّد للرد على البرقية بشأن ذلك الأمر التسماني.»

«حسنًا … يؤسفني سماع ذلك يا ميريفال.»

أخذ قبعته ومعطفه، ناسيًا وشاحه، وخرج مسرعًا من البنك وعلى طول الشارع إلى المترو.

اندفع داخلًا الشقة لاهثًا، مطقطقًا أصابعه من التوتر. استقبلته السيدة ميريفال بوجهها الشاحب في الردهة.

«عزيزتي ظننتكِ مريضة.»

«ليس كذلك … الأمر يتعلَّق بمايسي.»

«هل أصابها مكروه …؟»

قاطعته السيدة ميريفال قائلة: «تعالَ إلى هنا.» كانت تجلس في غرفة الاستقبال امرأة ذات وجه مستدير ترتدي قبعةً مستديرة ومعطفًا طويلًا من المنك. «عزيزي، تقول هذه الفتاة إنها السيدة جاك كونينجام ومعها قسيمة زواج تُثبت ذلك.»

«يا إلهي، أهذا صحيح؟»

أومأت الفتاة برأسها إيماءةً حزن.

«وقد أرسلنا الدعوات. منذ آخر برقية أرسلها ومايسي تطلب جهازها.»

فتحت الفتاة شهادةً كبيرة مزيَّنة بزهور البانسي وملائكة الحب وأعطتها لجيمس.

«ربما تكون مزوَّرة.»

قالت الفتاة بلطف: «إنها ليست مزوَّرة.»

قرأ بصوت مرتفع: «جون سي كونينجام، ٢١ … جيسي لينكولن، ١٨ … سأُحطِّم وجهه على تلك الفعلة، ذلك النذل. هذا بالتأكيد توقيعه، لقد رأيته في البنك … النذل.»

«مهلًا يا جيمس، لا تتسرَّع.»

قالت الفتاة بصوتها الحلو الصغير: «ظننت أنه من الأفضل أن أُخبركم الآن قبل مراسم الزفاف. لن أجعل جاك يتزوَّج ثانيةً مهما يكن.»

«أين مايسي؟»

«حبيبتي المسكينة طريحة الفراش في غرفتها.»

كان وجه ميريفال قرمزيًّا. وحكَّه العرق أسفل ياقته. ظلَّت السيدة ميريفال تقول: «الآن يا عزيزي يجب أن تعدني ألَّا تفعل شيئًا متسرِّعًا.»

«أجل، يجب حماية سمعة مايسي بأي ثمن.»

«عزيزي، أظن أن أفضل شيء تفعله هو أن تُحضره إلى هنا وتواجهه بهذه … بهذه … السيدة … هل توافقين على ذلك يا سيدة كونينجام؟»

«أوه يا عزيزتي … نعم أظن ذلك.»

صرخ ميريفال وأسرع إلى الردهة متجهًا إلى الهاتف: «انتظري لحظة.» «ريكتور ١٢٣٠٥ … مرحبًا. أُريد التحدُّث إلى السيد جاك كونينجام من فضلك … مرحبًا. هل هذا مكتب السيد كونينجام؟ السيد جيمس ميريفال يتحدَّث … خارج المدينة … ومتى سيعود؟ … هممم.» أسرع عائدًا عبر الردهة. «النذل اللعين خارج المدينة.»

قالت السيدة الصغيرة ذات القبعة المستديرة: «في كل السنوات التي عرفتُه فيها كان دائمًا خارج المدينة.»

•••

خارج نوافذ المكتب العريضة، كان الليل رماديًّا وضبابيًّا. وكانت بعض الأضواء هنا وهناك تُشكِّل صفوفًا أفقية وعمودية خافتة من النجوم. يجلس فينياس بلاكهيد إلى مكتبه ويميل مبتعدًا إلى الخلف في كرسيه الجلدي الصغير ذي الذراعَين. وبيده التي يحمي أصابعها بمنديل حريري كبير يحمل كوبًا من الماء الساخن وبيكربونات الصودا. ويجلس دينش بصلعته ووجهه المستدير ككرة بلياردو في الكرسي ذي الذراعَين العميق يلعب عابثًا بنظارته ذات الإطار الشبيه بصدفة السلحفاء. كل شيء هادئ باستثناء قعقعة وطقطقة تصدر بين الحين والآخر من أنابيب البخار.

قال بلاكهيد ببطء بين رشفات المياه، ثم جلس فجأةً على كرسيه: «ينبغي أن تُسامحني يا دينش … أنت تعلم أنني نادرًا ما أسمح لنفسي بملاحظة شئون الآخرين. إنه اقتراح أحمق لعين يا دينش، أُقسم على ذلك … بحق المسيح الحي إنه لأمر سخيف.»

«أنا لا أحب تلطيخ يدَي أكثر ممَّا تفعل … بالدوين رجل جيد. أظن أننا آمنون في دعمه بعض الشيء.»

«ما علاقة شركة استيراد وتصدير بحق الجحيم بالسياسة؟ إذا أراد أي من هؤلاء الرجال صدقة، فدعه يأتي إلى هنا ويحصل عليها. لقد ابتعدنا عن عملنا … وانخفضت إيراداته بشكل لعين. إن تمكَّن أيٌّ منكم أيها المحامون البكاءون من استعادة التوازن في البورصة، فسأكون على استعداد بفعل أي شيء على الإطلاق … إنهم محتالون، كل منهم ملعون … بحق المسيح الحي إنهم محتالون.» يجلس ووجهه متورِّد باللون الأرجواني معتدلًا في كرسيه يدق بقبضته على ركن المكتب. «حيث إنك جعلتني أضطرب بشدة … هذا سيئ لمعدتي، وسيئ لقلبي.» تجشَّأ فينياس بلاكهيد تجشؤًا يُنذر بالخطر، وأخذ جرعةً كبيرة من كأس بيكربونات الصودا. ثم اتكأ في كرسيه مرةً أخرى تاركًا جفنَيه الثقيلَين يغطيان عينَيه إلى المنتصف.

يقول السيد دينش بصوت متعب: «حسنًا أيها الرجل الهَرِم، ربما كان من السيئ أن نفعل ذلك، ولكنني وُعدت بدعم مرشح حزب الإصلاح. هذه مسألة خاصة تمامًا ولا علاقة لها بالشركة بأي حال من الأحوال.»

«بل لها علاقة بها بحق الجحيم … ماذا عن ماك نيل وجماعته؟ … إنهم يعاملوننا دائمًا معاملةً جيدة، وكل ما فعلناه من أجلهم هو أننا نُعطيهم زوجًا من صناديق السكوتش وبعض السيجار من وقت لآخر … والآن لدينا هؤلاء المصلحون الذين يُلقون بحكومة المدينة بأكملها في حالة من الاضطراب … بحق المسيح الحي …»

نهض دينش واقفًا. «عزيزي بلاكهيد، بصفتي مواطنًا، فإنني أعُدُّ من واجبي المساعدة في تنظيف حكومة المدينة من قذارة الرشوة، والفساد، والمكائد الموجودة بها … هذا ما أعتقده بصفتي مواطنًا …» ثم بدأ يمشي إلى الباب، وبطنه المستدير ملتصق به من الأمام مختالًا.

صرخ بلاكهيد خلفه: «حسنًا، اسمح لي يا دينش أن أقول إنني أظنه اقتراحًا أحمق لعينًا.» عندما ذهب شريكه استلقى للوراء لوهلة وعيناه مغمضتان. يتخذ وجهه لون الرماد المُبَقَّع، ويتقلَّص هيكله السمين الكبير كبالون يتفرَّغ من الهواء. وأخيرًا وقف على قدمَيه متأوِّهًا. ثم يأخذ قبعته ومعطفه ويخرج من المكتب بخطوة ثقيلة بطيئة. الردهة فارغة وخافتة الإضاءة. كان عليه أن ينتظر المصعد كثيرًا. شهق فجأةً عندما تخيَّل رجال السطو المسلَّح يتسلَّلون عبر المبنى الفارغ. يخاف من أن ينظر خلفه كطفل في الظلام. صعد المصعد أخيرًا.

قال للحارس الليلي الذي يعمل في المصعد: «ويلمر، يجب أن تزيد الإضاءة في الليل في هذه الردهات … أثناء هذه الموجة من الجرائم أظن أنه يجب عليك إبقاء المبنى ساطع الأنوار.»

«أجل، ربما أنت على حق يا سيدي … ولكن لا يمكن لأحد أن يدخل دون أن أراه أولًا.»

«ربما تنال منك عصابة يا ويلمر.»

«أود أن أراهم يحاولون فعل ذلك.»

«أظن أنك على حق … مسألة توتر ليس إلا.»

تجلس سينثيا في متنزه باكارد تقرأ كتابًا. «حسنًا يا عزيزتي هل ظننتِ أنني لن أحضر أبدًا.»

«لقد أوشكت على إنهاء كتابي يا أبي.»

«حسنًا أيها السائق … إلى الشمال بأسرع ما يمكنك. لقد تأخَّرنا على العشاء.»

بينما كانت سيارة الليموزين تطن في شارع لافاييت، استدار بلاكهيد لابنته. «إن سمعتِ يومًا رجلًا يتحدَّث عن واجبه بصفته مواطنًا، بحق المسيح الحي لا تثقي به … فهو يخطِّط لعمل مشين بنسبة تسعة من عشرة. لا تعرفين كم يثلج صدري أنكِ وجو تنعمان بالاستقرار والراحة في الحياة.»

«ما الأمر يا أبي؟ هل كان يومك شاقًّا في المكتب؟» لا توجد أسواق، ليس ثمة سوق على وجه الأرض الملعونة لم تُطلَق عليها النيران وتحترق … أقول لكِ يا سينثيا الأمر سِجال. لا يستطيع أحد معرفة ما قد يحدث … اسمعي قبل أن أنسى، هل يمكنكِ أن تكوني في البنك شمال المدينة في الساعة الثانية عشرة غدًا؟ … سأُرسل هودجينز ببعض الأوراق المالية، الأمر شخصي كما تفهمين، أريد أن أضعها في صندوق وديعتك الآمن.»

«لكنه ممتلئ عن آخره بالفعل يا أبي.»

«ذلك الصندوق في شركة آستور تراست هو باسمكِ، أليس كذلك؟»

«هو مشترك بيني وبين جو.»

«حسنًا، تأخذين صندوقًا جديدًا باسمكِ في بنك الجادة الخامسة … سأرسل الأغراض إلى هناك في الظهيرة … وتذكري ما قلته لكِ يا سينثيا، إن سمعتِ يومًا زميل عمل يتحدَّث عن الفضيلة المدنية، فاهربي.»

يعبران شارع ١٤. ينظر الأب وابنته عبر الزجاج إلى الوجوه التي صفعتها الريح لأشخاص ينتظرون عبور الشارع.

•••

تثاءب جيمي هيرف وسحب كرسيه للخلف. آذى بريق نيكل آلته الكاتبة عينَيه. كانت أطراف أصابعه محتقنة. دفع الباب المنزلق فاتحًا إياه قليلًا واختلس النظر إلى غرفة النوم الباردة. تمكَّن بالكاد من رؤية إيلي نائمةً في السرير الموجود في ركن الغرفة. في الطرف البعيد للغرفة كان مهد الطفل. وكانت ثمة رائحة حليب حامضة نوعًا ما من ملابس الطفل. دفع الباب ليغلقه وبدأ في خلع ملابسه. ليتنا كانت لدينا مساحة أكبر، وكان يُتمتم: نحن نعيش مكتظين في بيتنا الأشبه بقفص السنجاب … سحب الغطاء الكشميري المغبَّر من فوق الأريكة وانتزع ثياب نومه من تحت الوسادة. مساحة ونظافة وهدوء، كانت الكلمات تلوح في ذهنه وكأنه يخطب في قاعة استماع شاسعة.

أطفأ الضوء، وفتح فُرجةً في النافذة وسقط متسمرًا خالدًا إلى النوم في السرير. كان على الفور يكتب رسالةً على آلة اللاينوتايب الكاتبة. الآن أستلقي لأنام … يا للشفق الأبيض العظيم. كانت ذراع الآلة يد امرأة ترتدي قفازًا أبيض طويلًا. عبر القعقعة من وراء أقدام كهرمانية أتى صوت إيلي: لا، لا، لا، أنت تؤذيني بذلك … قال رجل يرتدي أفرولًا يا سيد هيرف إنك تؤذي الآلة ولن نتمكَّن من إخراج الطبعة المبكِّرة. كانت الآلة كفمٍ مزدرد بصفوف أسنان في لمعان النيكل. استيقظ معتدلًا في جلسته على السرير. كان يشعر بالبرد، وكانت أسنانه تصطك. سحب الأغطية حوله وتهيَّأ للنوم مرةً أخرى. في المرة التالية التي استيقظ فيها كان ضوء النهار قد سطع. كان يشعر بالدفء والسعادة. كانت نُدفات الثلج متراقصة، متردِّدة، دائرةً خارج النافذة الطويلة.

قالت إيلي وهي قادمةٌ نحوه بصينية: «مرحبًا يا جيمبس.»

«عجبًا، هل متُّ وذهبت إلى الجنة أو شيء من هذا القبيل؟»

«لا، إنه صباح يوم الأحد … ظننتك بحاجة لبعض الرفاهية … لقد صنعت بعض كعكات المافن بالذرة.»

«أوه، إنكِ رائعة يا إيلي … انتظري لحظة، يجب أن أقفز وأغسل أسناني.» عاد وقد غسل وجهه وارتدى روب الحمام. جفل فمها تحت وطأة قُبلته. «ولا تزال الساعة الحادية عشرة. لقد حصلت على ساعة في يوم إجازتي … ألن تتناولي بعض القهوة أيضًا؟»

«خلال دقيقة … اسمع يا جيمبس لديَّ شيء أُريد أن أتحدَّث عنه. اسمع، ألَا تظن أننا ينبغي أن نُجهِّز مكانًا آخر الآن وقد أصبحت تعمل في الليل مرةً أخرى طوال الوقت؟»

«أتقصدين أن ننتقل إلى منزل آخر؟»

«لا، كنت أفكِّر إذا كان بإمكانك أن تدبِّر لنفسك غرفةً أخرى لتنام فيها في مكان ما في المنزل؛ كي لا يزعجك أحد في الصباح.»

«ولكننا يا إيلي لن نتقابل أبدًا بهذا الشكل … فنادرًا ما يرى أحدنا الآخر بالفعل.»

«إنه أمر مروِّع … ولكن ماذا يمكننا أن نفعل وساعات عملنا مختلفة تمامًا؟»

جاء بكاء مارتن عاصفًا من الغرفة الأخرى. جلس جيمي على حافة السرير وفنجان القهوة الفارغ على ركبتَيه ينظر إلى قدمَيه الحافيتَين. قالت بخفوت: «كما تحب تمامًا.» اندفعت في أنحاء جسده رغبة للإمساك بيدَيها، وضمها بقوة حتى يؤلمها ثم تلاشت. التقطت أغراض القهوة وابتعدت. لقد عرفت شفتاه شفتَيها، وعرفت ذراعاه التفات ذراعَيها، وعرف شعرها الداكن بلون الأخشاب، أحبها. جلس طويلًا ينظر إلى قدمَيه، قدمان نحيفتان مشوبتان بالحمرة تنتأ منهما عروق زرقاء منتفخة، وأصابعهما ملتوية أتخمها الحذاء من وطء الدرج والأرصفة. وعلى كل إصبع صغير كان ثمة ثؤلول. وجد عينَيه ممتلئتَين بدموع الشفقة. توقَّف الطفل عن البكاء. دخل جيمي الحمام وفتح المياه لتتدفَّق في الحوض.

•••

«لقد كان ذلك الرجل الآخر الذي عرفتِه يا آنا. لقد جعلكِ قَدَرية.»

«ما معنى ذلك؟»

«شخص يعتقد أنه لا فائدة من الكفاح، شخص لا يؤمن بالتقدم البشري.»

«هل تظن أن بوي كان هكذا؟»

«لقد كان نذلًا على أي حال … لا يوجد في هؤلاء الجنوبيين مَن لديهم وعي طبقي … ألم يجعلكِ تتوقَّفين عن دفع مستحقاتكِ النقابية؟»

«لقد سئمت العمل على ماكينة الخياطة.»

«ولكن يمكنكِ أن تكوني عاملةً يدوية، تؤدين عملًا رائعًا وتجنين مالًا جيدًا. أنتِ لستِ واحدةً من ذلك النوع، أنتِ واحدة منا … سأجعلكِ تستعيدين سمعتكِ ويمكنكِ الحصول على وظيفة جيدة مرةً أخرى … وربي لن أسمح لكِ أبدًا بالعمل في قاعة رقص كما فعل. إنه يؤلمني بشدة يا آنا أن أرى فتاةً يهودية تتسكَّع مع رجل كهذا.»

«حسنًا، لقد رحل ولم أحصل على وظيفة.»

«أشخاص مثل هؤلاء هم أكبر أعداء للعمال … إنهم لا يفكِّرون في أحد سوى أنفسهم.»

يسيران ببطء في الجادة الثانية في مساء ضبابي. إنه شاب يهودي أصهب الشعر نحيف الوجه ذو وجنتَين غائرتَين وبشرة شاحبة مزرقة. ساقاه متقوِّستان ككثير من عُمال الملابس. أمَّا آنا، فحذاؤها صغير عليها للغاية. وأسفل عينَيها هالتان عميقتان. يمتلئ الضباب بمجموعات من المتنزِّهين الذين يتحدَّثون اليديشية، وإنجليزية الجانب الشرقي من مانهاتن ذات اللكنة المتكلَّفة، والروسية. تحدِّد الصدوعُ الدافئة التي ترسمها أضواء متاجر البقالة وأكشاك المشروبات الغازية ملامح الرصيف اللامع.

تُهمهم آنا: «لو لم أكن أشعر بالتعب طوال الوقت.»

«دعينا نتوقَّف هنا ونتناول مشروبًا … تناولي كوبًا من الحليب الرائب يا آنا، سيجعلكِ تشعرين بالارتياح.»

«ليس لديَّ رغبة فيه يا إلمير. سآخذ صودا الشوكولاتة.»

«سيجعلكِ هذا تشعرين بالإعياء، ولكن فلتتناوليه إن أردتِ.» جلست على الكرسي العديم الذراعَين النحيل المحاط بالنيكل. وقف بجوارها. تركت نفسها لتتكئ قليلًا عليه. «مشكلة العمال هي …» كان يتحدَّث بصوت منخفض يتسم بالموضوعية. «مشكلة العمال هي أننا لا نعرف شيئًا، لا نعرف كيف نأكل، لا نعرف كيف نعيش، لا نعرف كيف نحمي حقوقنا … يا إلهي يا آنا، أريد أن أجعلكِ تفكِّرين في أشياء كتلك. ألَا يمكنكِ أن ترَي أننا في خِضم معركة تمامًا كما لو كُنا في حرب؟» بالملعقة الطويلة اللزجة كانت آنا تلتقط قِطعًا من الآيس كريم من السائل الرغوي السميك في كأسها.

•••

نظر جورج بالدوين إلى نفسه في المرآة وهو يغسل يدَيه في الحمام الصغير خلف مكتبه. كاد شعره، الذي ما زال ينمو بكثافة إلى موضع على جبهته، أن يصبح أبيض بالكامل. كان هناك خط عميق في كل جانب من جوانب فمه وفوق ذقنه. وأسفل عينَيه الثاقبتَين البرَّاقتَين كان جلده مُترهِّلًا ومحبَّبًا. عندما مسح يدَيه ببطء وإتقان أخرج علبةً صغيرة من حبوب الاستركنين من الجيب العلوي لصدريته، وابتلع واحدة، ورجع إلى مكتبه وهو يشعر بالوخز المُحفِّز المرتجى يسري في جسده. كان ثمة ساعٍ طويل العنق متململ بجوار مكتبه ببطاقة في يده.

«هناك سيدة تُريد التحدث إليك يا سيدي.»

«هل حجزت موعدًا؟ اسأل الآنسة رانكي … انتظر لحظة. أدخل السيدة مباشرةً إلى هذا المكتب.» كانت البطاقة مكتوبًا عليها نيللي لينيهان ماك نيل. كانت ترتدي ملابس باهظة الثمن بالكثير من الدانتيل في مقدمة معطفها الفرو الكبير. وكانت ترتدي حول رقبتها نظارةً يدوية على سلسلة بنفسجية.

«طلب مني جاس أن آتي لرؤيتك.» قالت وهو يُشير إليها للجلوس على كرسي بجوار المكتب.

«كيف يمكنني مساعدتكِ؟» كان قلبه ينبض بقوة لسبب ما.

نظرت إليه لوهلة عبر نظارتها اليدوية. «لديك من الصمود يا جورج ما يفوق جاس.»

«ماذا؟»

«أوه كل هذا … أُحاول إقناع جاس بالذهاب معي إلى الخارج لأخذ قسط من الراحة … ماريانباد أو شيء من هذا القبيل … لكنه يقول إنه مشغول للغاية لدرجة تمنعه من الذهاب لمكان آخر.»

قال بالدوين بابتسامة فاترة: «أظن أن هذا ينطبق علينا جميعًا.»

ساد الصمت بينهما لوهلة، ثم نهضت نيللي ماك نيل على قدمَيها. «اسمع يا جورج، جاس منزعج للغاية من هذا … أنت تعلم أنه يُحب مساندة أصدقائه، وأن أصدقاءه يساندونه.»

«لا أحد يستطيع القول إنني لم أُسانده … الأمر وما فيه أنني لست سياسيًّا، وبما أنني، ربما بدافع من الحماقة، سمحت لنفسي أن أترشَّح للمنصب، لا بد لي من الترشح على أساس غير حزبي.»

«هذه نصف الحقيقة يا جورج، وأنت تعرف ذلك.»

«أخبريه أنني كنت دائمًا وسأظل صديقًا جيدًا له … إنه يعرف ذلك جيدًا. في هذه الحملة تحديدًا عاهدت نفسي بمقاومة بعض الأمور التي سمح جاس لنفسه بالانخراط فيها.»

«أنت متحدِّث جيد يا جورج بالدوين، ولطالما كنت كذلك.»

تورَّد وجه بالدوين. وقفا متيبِّسَين جنبًا إلى جنب عند باب المكتب. ظلَّت يده جاثمةً فوق مقبض الباب كما لو كانت مشلولة. من المكاتب الخارجية سُمع صوت الآلات الكاتبة وغيرها من الأصوات. ومن الخارج جاء النقر المتواصل الطويل لمثبِّتات الدعامات التي تُستخدم في إنشاء المبنى الجديد.

وفي النهاية قال بمشقة: «أتمنَّى أن تكون عائلتك بخير.»

«أوه أجل، كلهم بخير، شكرًا … وداعًا.» غادرت المكان.

وقف بالدوين للحظة ينظر من النافذة إلى المبنى المقابل ذي النوافذ الرمادية. من السخف أن يدع الأمور تُثيره هكذا. إنه بحاجة إلى الاسترخاء. أخذ قبعته ومعطفه من فوق المِشجب خلف باب الحمام وخرج. قال لرجل ذي رأس أصلع مستدير كما لو كان شمامةً يجلس منكبًّا على الصحف في مكتبة مرتفعة السقف، والتي كانت القاعةَ المركزية لمكتب المحاماة: «أحضر كل شيء موجودًا على مكتبي … سأذهب إلى الشمال الليلة.»

«حسنًا يا سيدي.»

عندما خرج إلى شارع برودواي، شعر وكأنه ولد صغير يلعب الهوكي. كان الوقت عصرًا في شتاء برَّاق الأفق تتخلَّله تصدُّعات متسارعة من ضوء الشمس والسُّحب. قفز في سيارة أجرة. اتجهت السيارة إلى الشمال واستلقى في مقعده غافيًا. استيقظ في شارع ٤٢. كان كل شيء مشوَّشًا بمستويات متقاطعة من الألوان، والوجوه، والسيقان، ونوافذ المتاجر، وعربات الترام، والسيارات. جلس ويداه في قفازَيه على ركبتَيه، يخفق من الإثارة. توقَّف عند منزل نيفادا ودفع الأجرة. كان السائق زنجيًّا وابتسم ملء فمه مظهرًا أسنانًا عاجية عندما حصل على بقشيش ٥٠ سنتًا. لم يكن أيٌّ من المصعدَين حاضرًا؛ لذا ركض بالدوين بخفة على الدرج، مُعجَبًا بنفسه بعض الشيء. طرق باب شقة نيفادا. ولكن لم يُجبِه أحد. طرقه مرةً أخرى. ففتحته بحذر. كان بإمكانه أن يرى شعرها الأشقر المجعَّد. مرَّ بها داخلًا الغرفة قبل أن تتمكَّن من إيقافه. كل ما كانت ترتديه هو كيمونو فوق قميص وردي.

قالت: «يا إلهي، ظننتك النادل.»

أمسك بها وقبَّلها. «لا أعرف السبب، ولكني أشعر أنني في الثالثة من عمري.»

«تبدو وكأن الحرارة قد أصابتك بالجنون … لا أُحب أن تأتي لزيارتي دون اتصال هاتفي، أنت تعرف ذلك.»

«لا تمانعي هذه المرة فقد نسيت ليس إلا.»

لمح بالدوين شيئًا على الأريكة؛ فوجد نفسه يُحدِّق في بنطال أزرق داكن مطوي بعناية.

«كنت أشعر بالتعب الشديد في المكتب يا نيفادا. فظننت أنه بإمكاني أن آتي للتحدث إليكِ لأروِّح عن نفسي بعض الشيء.»

«كنت أتدرَّب على الرقص قليلًا على الفونوغراف فحسب.»

«أجل، هذا مشوِّق للغاية …» بدأ يمشي بخفة هنا وهناك. «حسنًا، اسمعي يا نيفادا … علينا أن نتحدَّث. لا يعنيني مَن في غرفة نومكِ.» نظرت فجأةً في وجهه وجلست على الأريكة بجانب البنطال. «في الحقيقة لقد عرفت منذ فترةٍ أنكِ وتوني هانتر على تواصل.» ضغطت على شفتَيها وضمَّت ساقَيها. «في الواقع كل هذه الأمور والهراء حول الذهاب إلى مُحلِّل نفسي مقابل ٢٥ دولارًا أمريكيًّا في الساعة مسلٍّ للغاية … ولكن في هذه اللحظة فقط قرَّرت أن أكتفي من كل ذلك. يكفي للغاية.»

تلعثمت ثم بدأت تُقهقه فجأة: «أنت مجنون يا جورج.»

تابع بالدوين قائلًا بصوت واضح وضوح أصوات المشتغلين بالقانون: «أقول لكِ ما سأفعل، سأُرسل لكِ شيكًا بقيمة ٥٠٠ دولار؛ لأنكِ فتاة لطيفة وأنا معجب بكِ. وإيجار الشقة مدفوع حتى أول الشهر. هل يناسبكِ ذلك؟ ورجاءً لا تتواصلي معي بأي شكل من الأشكال.»

كانت تتدحرج على الأريكة تُقهقه غير قادرة على السيطرة على نفسها بجوار بنطال أزرق داكن مطوي بعناية. لوَّح لها بالدوين بقبعته وقفازه وتركها غالقًا الباب برفقٍ خلفه. بئس المصير، هكذا قال لنفسه وهو يغلق الباب بحذر خلفه.

في الشارع مرةً أخرى بدأ يمشي مسرعًا إلى شمال المدينة. شعر بالحماس وبرغبة في الثرثرة. فكَّر فيمن يمكنه أن يذهب لزيارته. ولكنه شعر بالإحباط عندما سرد أسماء أصدقائه. بدأ يشعر بالوحدة، بالهجر. أراد التحدُّث إلى امرأة، كي يجعلها تشعر بالأسى تجاه حياته العقيمة. ذهب إلى محل لبيع السجائر وبدأ يبحث في دليل الهاتف. شعر داخله بخفقان خافت عندما وجد حرف الهاء. وفي النهاية وجد الاسم هيرف، هيلينا أوجليثورب.

جلست نيفادا جونز طويلًا على الأريكة وهي تُقهقه بشكل هستيري. خرج توني هانتر أخيرًا في قميصه وسرواله الداخلي وربطة عنقه الأنشوطية المربوطة بشكل ممتاز.

«هل غادر؟»

زعقت: «أُغادر؟ بالتأكيد غادَر، غادَر إلى الأبد. لقد رأى بنطالك اللعين.»

ترك نفسه ليسقط على كرسي. «يا إلهي، لو لم أكن أكثر شخص تعيس الحظ في العالم.»

جلست تُهمهم ضاحكةً والدموع تنهمر على وجهها، وقالت: «لماذا؟»

«لا شيء يسير على ما يرام. ذلك يعني أنه لم يعد هناك حفلات نهارية.»

«لقد عادت العروض إلى ثلاثة عروض في اليوم لنيفادا الصغيرة … لا أُبالي … لم أحب مطلقًا في أن أكون امرأةً مَعولَة.»

«ولكنكِ لا تفكِّرين في مسيرتي المهنية … النساء أنانيات للغاية. إذا لم تكوني قد قدتِني إلى …»

«اخرس أيها الأحمق الصغير. ألَا تظن أنني لا أعرف كل شيء عنك؟» وقفت على قدمَيها والكيمونو مشدود بقوة حولها.

كان توني يئن: «يا إلهي، كل ما كنت أحتاجه هو فرصة لإظهار ما يمكنني فعله، والآن لن أحصل عليها أبدًا.»

«بل ستحصل عليها بالتأكيد إذا فعلت ما أقوله لك. شرعت في أن أجعل منك رجلًا أيها الطفل وسأُحقِّق ذلك … سنحصل على دور. سيمنحنا هرشبين الهَرِم فرصة، لقد كان مغرمًا بي بعض الشيء … هيا الآن، سألكمك في فكك إن لم تتحرَّك. لنبدأ بالتفكير … سنبدأ برقصة، حسنًا … ثم ستتظاهر برغبتك في اصطحابي … وسأكون في انتظار عربة الترام … حسنًا … وستقول مرحبًا يا فتاتي وسأُناديك بالضابط.»

•••

سأل القيَّاس الذي كان يرسم علامات على البنطال بالطباشير: «هل هذا الطول جيد يا سيدي؟»

نظر جيمس ميريفال لأسفل على الرأس الأصلع الهرِم المائل إلى الخضار قليلًا للقيَّاس وإلى البنطال البُني المُجرجر حول قدمَيه. «أقصر قليلًا … أظنه أمرًا قد عفا عليه الزمن بعض الشيء أن يكون البنطال طويلًا أكثر من اللازم.»

«عجبًا، مرحبًا يا ميريفال، لم أكن أعرف أنك تشتري ملابسك من بروكس أيضًا. مرحى، أنا سعيد برؤيتك …»

توقَّفت دماء ميريفال في عروقه. فقد وجد نفسه ينظر مباشرةً في عينَي جاك كونينجام الزرقاوَين اللتَين تشبهان عيونَ السكارى. عضَّ شفتَيه وحاول التحديق في وجهه ببرود دون أن ينبس.

صرخ جاك كونينجام: «يا إلهي القدير، هل تعلم ماذا فعلنا؟ لقد اشترينا البِذلة نفسها … أؤكِّد لك أنها نفسها تمامًا.»

كان ميريفال ينظر في ذهول من بنطال كونينجام البُني إلى بنطاله، اللون نفسه، والخط الأحمر الصغير نفسه، والزركشة الخضراء الخافتة نفسها.

«يا إلهي يا رجل، لا يمكن لصهرَين مستقبليَّين أن يرتديا البِذلة نفسها. سيظن الناس أنه زي موحد … إنه أمر سخيف.»

«حسنًا، ما الذي سنفعل حيال ذلك؟» وجد ميريفال نفسه يقول بنبرة تذمُّر.

«علينا أن نُجري قرعةً ونرى من يحصل عليها، هكذا ببساطة … هلَّا تقرضني ربع دولار من فضلك؟» استدار كونينجام إلى بائعه. «حسنًا ضربة قرعة واحدة … فلتختر صورةً أو كتابة.»

قال ميريفال تلقائيًّا: «صورة.»

صرخ من وراء ستائر المقصورة: «البذلة البنية لك … الآن يجب أن أختار بذلةً أخرى … يا إلهي، سعيد أننا التقينا. اسمع، لمَ لا تتناول العشاء معي الليلة في نادي سالماجوندي؟ … سأتناول الطعام مع الرجل الوحيد في العالم الأكثر جنونًا مني بالطائرات المائية … إنه الرجل الهَرِم بيركنز، أنت تعرفه، إنه أحد نُواب رئيس البنك الذي تعمل فيه … واسمع، عندما ترى مايسي أخبِرها بأني قادم لرؤيتها غدًا. فقد منعتني سلسلة غير عادية من الأحداث من التواصل معها … سلسلة من الأحداث المؤسفة للغاية التي استغرقت وقتي كله حتى هذه اللحظة … سنتحدَّث عنها لاحقًا.»

تنحنح ميريفال. وقال بجفاء: «جيد جدًّا.»

قال القيَّاس وهو يربت مرةً أخيرة على رِدفَي ميريفال: «حسنًا يا سيدي.» عاد إلى المقصورة ليرتدي ملابسه.

صاح كونينجام: «حسنًا أيها الهَرِم، ينبغي أن أذهب لأنتقي بِذلةً أخرى … سأنتظر مجيئك في السابعة. سأطلب لك كوكتيل جاك روز.»

كانت يدا ميريفال ترتجفان عندما ربط حزامه. بيركنز، جاك كونينجام، النذل اللعين، الطائرات المائية، جاك كونينجام، سالماجوندي، بيركنز. ذهب إلى كابينة الهاتف في ركن المتجر واتصل بوالدته. «مرحبًا يا أمي، يؤسفني أنني لن أستطيع القدوم على العشاء … سأتناول العشاء مع راندولف بيركنز في نادي سالماجوندي … نعم إنه أمر ممتع للغاية … أوه حسنًا، لقد كنت أنا وهو دائمًا صديقَين مقرَّبَين للغاية … أوه نعم، من الضروري الوقوف بجوار الرجال في المناصب العليا. ولقد رأيت جاك كونينجام. واجهته بالأمر مباشرةً رجلًا لرجل وقد كان مُحرَجًا للغاية. وعد بشرح كامل للموقف في غضون ٢٤ ساعة … كلا، حافظت على رباطة جأشي جيدًا. شعرت أنني مدين بذلك لمايسي. أؤكِّد لكِ أنني أظن الرجل نذلًا ولكن حتى يثبت العكس … حسنًا، طابت ليلتكِ عزيزتي في حال تأخَّرت. أوه لا من فضلك، لا تنتظري. وأخبري مايسي ألَّا تقلق؛ سأتمكَّن من الحصول لها على كامل التفاصيل. طابت ليلتكِ يا أمي.»

•••

جلستا إلى طاولة صغيرة في آخر صالة الشاي ذات الإضاءة الخافتة. قطع ظل المصباح الجزء العلوي من وجهَيهما. كانت إلين ترتدي فستانًا بلون الطاووس الأزرق الفاتح وقبعةً زرقاء صغيرة بها قطعة خضراء. وكان لوجه روث برين مظهر متعب مترهل أسفل مستحضرات تجميل إخفاء العيوب.

كانت تقول بصوت يئن: «إلين، يجب أن تأتي. كاسي ستكون هناك وأوجليثورب وكل المجموعة القديمة … بعد كل شيء الآن وأنتِ تحقِّقين هذا النجاح في العمل التحريري لا داعي لهجر أصدقائك القُدامى تمامًا، أليس كذلك؟ أنتِ لا تعرفين كم نتحدَّث ونتساءل عنكِ.»

«لا ولكن يا روث، الأمر فحسب هو أنني أكره الحفلات الكبيرة. أظن أنه لا بد وأنني أتقدَّم في العمر. حسنًا، سآتي لبعض الوقت.»

وضعَت روث الشطيرة التي كانت تقضمها واقتربت من يد إلين وربتت عليها. «تلك هي عضوة فرقتنا الصغيرة … بالطبع كنت أعرف طوال الوقت أنكِ ستأتين.»

«ولكنكِ يا روث لم تخبريني قط بما حدث لشركة سلسلة المسرحيات القصيرة الجوالة في الصيف الماضي …»

انفجرت روث قائلة: «يا إلهي. لقد كان ذلك فظيعًا. بالطبع كان مضحكًا، مضحكًا للغاية. حسنًا، أول شيء حدث هو أن زوج إيزابيل كلايد رالف نولتون الذي كان يُدير الشركة كان مدمنًا على الشراب … ومن ثم لم تكن إيزابيل الجميلة تسمح لأحد بالصعود على خشبة المسرح ما لم يكن يتصرَّف كالدمية؛ خشية ألَّا يعرف السُّذج النجم … أوه، لا أستطيع أن أستمر في الحديث عن ذلك … لم يعد الأمر يُضحكني، بل أصبح مروِّعًا … أوه يا إلين، أنا محبطة للغاية. إنني أتقدَّم في العمر يا عزيزتي.» أجهشت فجأةً بالبكاء.

قالت إلين بصوت أجش بعض الشيء: «أوه يا روث، كفى من فضلكِ.» ثم ضحكت. «في نهاية المطاف لن يعود العمر بنا إلى الوراء بأي حال من الأحوال، أليس كذلك؟»

«أنتِ لا تفهمين يا عزيزتي … لن تفهمي أبدًا.»

جلستا طويلًا دون أن تنبسا بكلمة، وسمعتا نُدفات من حديث بصوت منخفض من أركان أخرى من صالة الشاي المعتمة. جلبت لهما النادلة ذات الشعر الشاحب اللون طلبَين من سلَطة الفاكهة.

قالت روث أخيرًا: «يا إلهي، لا بد أن الوقت قد تأخَّر.»

«إنها لا تزال الثامنة والنصف … لا نريد الذهاب إلى هذه الحفلة في وقت مبكِّر للغاية.»

«بالمناسبة … كيف حال جيمي هيرف. لم أرَه منذ زمن طويل.»

«جيمبس بخير … لقد سئم العمل الصحفي للغاية. أتمنَّى أن يحصل على شيء يستمتع به حقًّا.»

«سيظل دائمًا من ذلك النوع المتململ. أوه يا إلين، لقد سعدت للغاية عندما سمعت بزواجكِ … لقد تصرَّفت كحمقاء لعينة. فبكيت وبكيت … والآن مع مارتن وكل شيء تريدينه بحوزتك لا بد أنكِ في غاية السعادة.»

«أوه، علاقتنا على ما يرام … مارتن يتعلَّم، يبدو أن نيويورك تناسبه. لقد كان هادئًا للغاية وبدينًا لفترة طويلة، وكنَّا خائفَين للغاية من أن نكون قد أنجبنا معتوهًا. أتعلمين يا روث، لن أُنجب طفلًا آخر أبدًا … لقد كنت خائفةً للغاية أن يصبح مشوَّهًا أو شيئًا من هذا القبيل … يصيبني التفكير في ذلك بالإعياء.»

«أوه ولكن لا بد أن الأمر رائع على الرغم من ذلك.»

قرعتا جرسًا أسفل لوحة نحاسية صغيرة كُتب عليها: «ترجمة هيستر فورهيس للرقصة». صعدتا ثلاثة طوابق فوق درج مُصرصِر لُمِّع مؤخَّرًا. عند الباب الذي يفتح على غرفة مليئة بالناس، التقتا بكاساندرا ويلكنز التي كانت ترتدي سترةً يونانية وإكليلًا من براعم الورد الساتانية حول رأسها، وتُمسك بمِصفار خشبي مُذهَّب في يدها.

صرخت وألقت بذراعَيها حولهما دفعةً واحدة: «أوه يا حبيبتَي. قالت هيستر إنكما لن تأتيا، لكنني علمت أنكما ستأتيان … تعالَيا هيا واخلعا معطفيكما، سنبدأ ببعض الإيقاعات الكلاسيكية.» تبعتاها عبر غرفةٍ ذكية الرائحة مضاءةٍ بالشموع ومليئةٍ بالرجال والنساء في أزياء متهدِّلة.

«ولكنكِ يا عزيزتي لم تخبرينا أنها ستكون حفلةً تنكرية.»

«أوه نعم، ألَا يمكنكما أن تريا أن كل شيء ذو طابع يوناني، يوناني تمامًا … ها هي هيستر … ها هما يا عزيزتي … أنتِ تعرفين روث يا هيستر … وهذه هي إلين أوجليثورب.»

«أدعو نفسي الآن السيدة هيرف يا كاسي.»

«أوه، أستميحكِ عذرًا فمن الصعب للغاية مواكبة أخباركِ … لقد وصلَتا في الوقت المناسب تمامًا … سترقص هيستر رقصةً شرقية تُسمَّى إيقاعات ألف ليلة وليلة … أوه، إنها جميلة جدًّا.»

عندما خرجت إلين من غرفة النوم حيث تركت معطفها، بادرها بالكلام شخص طويل بغطاء رأس مصري وبحاجبَين أصهبَين مُحدَّبَين. «اسمحوا لي أن أحيِّي هيلينا هيرف، المحرِّرة البارزة في صحيفة «مانرز»، تلك الصحيفة التي توصل أخبار فندق الريتز إلى أكثر المنازل تواضعًا … أليس هذا صحيحًا؟»

«إنك لمشاكس مروِّع يا جوجو … أنا سعيدة للغاية برؤيتك.»

«لنذهب ونجلس في ركن ونتحدَّث، أوه، أيتها السيدة الوحيدة على الإطلاق التي أحببتها …»

«دعنا من هذا … لا يعجبني المكان هنا كثيرًا.»

«ويا عزيزتي، هل سمعتِ أن توني هانتر قد حلَّ مشكلته على يد مُحلِّل نفسي، وأنه يمثِّل في عرض مسرحي متنوِّع مع امرأة تُدعى كاليفورنيا جونز.»

«من الأفضل أن تنتبه يا جوجو.»

جلسا على أريكة في استراحة بين النوافذ الناتئة من السقف. وتمكَّنت بطرف عينَيها من رؤية فتاة ترقص بغطاء رأس من الحرير الأخضر. كان الفونوغراف يصدع بسيمفونية سيزار فرانك.

«يجب ألَّا تفوتنا رقصة كاسي. ستشعر الفتاة المسكينة بالإهانة الشديدة.»

«أخبِرني عن نفسك يا جوجو، كيف حالك؟»

هزَّ رأسه ولوَّح بعيدًا بذراعه المضموم. «آه، لنجلس على الأرض ونروِ قصصًا حزينةً عن موت الملوك.»

«أوه يا جوجو، لقد سئمت من هذا النوع من الأشياء … كل شيء سخيف للغاية ومبتذل … ليتهم لم يجعلوني أخلع قبعتي.»

«كان ذلك لكي أنظر إلى غابات شعركِ المحرَّمة.»

«أوه يا جوجو، فلتتعقَّل.»

«كيف حال زوجكِ يا إلين، أم من الأفضل أن أقول يا هيلينا؟»

«أوه إنه بخير.»

«لا تبدين متحمسةً بشدة.»

«ولكن مارتن بخير. لديه شعر أسود وعينان بنيتان ووجنتاه ستصبحان متورِّدتَين. إنه حقًّا لطيف للغاية.»

«يا عزيزتي كفاكِ عرضًا لنعمة الأمومة … ستخبرينني بعد ذلك أنك سرتِ في موكبٍ للأطفال.»

ضحكت. «من الممتع للغاية رؤيتك مرةً أخرى يا جوجو.»

«لم أُنهِ تعاليمي الكنَسية بعدُ يا عزيزتي … لقد رأيتكِ في غرفة الطعام البيضوية ذاتَ يومٍ مع رجل ذي مظهرٍ مميَّز للغاية بملامح حادة وشعر أشيب.»

«لا بد أنه كان جورج بالدوين. عجبًا، لقد كنت تعرفه في الأيام الخوالي.»

«بالطبع، بالطبع. كم تغيَّر كثيرًا! أُقِر أن مظهره أصبح أكثر إثارةً بكثيرٍ عمَّا كان عليه من قبل … أُقِر إنه لمكان غريب لرؤية زوجة أحد دُعاة السلام البلشفي والمحرِّضين على الحرب العالمية الأولى تتناول غداءها فيه.»

جعَّدت أنفها لأعلى، وقالت: «جيمبس ليس هكذا بالضبط. أتمنَّى بدرجةٍ ما أو بأخرى لو كان كذلك حقًّا … لقد سئمت نوعًا ما كذلك من كل هذه الأشياء.»

«أشك في ذلك يا عزيزتي.» كانت كايسي تمر بسرعة ويبدو عليها الإحراج.

«أوه، تعالَي وساعديني … جوجو يضايقني بشدة.»

«حسنًا، سأُحاول أن أجلس قليلًا؛ فرقصتي التالية … سيقرأ السيد أوجليثورب عليَّ ترجمته لأغاني بيليتيس لأرقص عليها.»

ترددت نظرات إلين بينهما؛ فعوج أوجليثورب حاجبَيه وأومأ برأسه.

ثم جلست إلين وحدها كثيرًا تنظر في أنحاء الغرفة المليئة بالراقصين والمثرثرين عبر غشاوة باهتة من الملل.

كانت الموسيقى الخارجة من الفونوغراف تركية. خرجت هيستر فورهيس، امرأة نحيلة بشعر مُحنًّى كالممسحة وقصير إلى أذنَيها، تحمل أمامها قدرًا من البَخور الفوَّاح ويسبقها شابان يبسطان سجادةً عند قدومها. كانت ترتدي سروالًا حريريًّا وحزامًا معدنيًّا متلألئًا وحمالة صدر. كان الجميع يُصفِّقون ويقولون: «كم هو رائع، كم هو مذهل»، عندما جاءت من غرفة أخرى ثلاث صرخات تمزُّقٍ أطلقتها امرأة. نهض الجميع واقفين. ظهر رجل بدين يرتدي قبعةً دربية عند المدخل. «كل شيء على ما يرام أيتها الفتيات الصغيرات، فلتتجهن مباشرة إلى الغرفة الخلفية. والرجال يبقَون هنا.»

«من أنت على أي حال؟»

«ليس مهمًّا مَن أنا، افعل ما أقوله.» كان وجه الرجل أحمر كالبنجر أسفل القبعة الدربية.

«إنه محقِّق.» «إنه أمر شنيع. دعوه يُظهر شارته.»

«هذا سطو.»

«إنها غارة.»

امتلأت الغرفة فجأةً بالمحقِّقين. وقفوا أمام النوافذ. ووقف رجل يرتدي قبعةً ذات نقشة مربَّعة وله وجه ذو نتوء كالقرع أمام المدفأة. كانوا يدفعون النساء بقوة إلى داخل الغرفة الخلفية. وجُمِّع الرجال في مجموعة صغيرة بالقرب من الباب؛ حيث كان المحقِّقون يأخذون أسماءهم. كانت إلين لا تزال جالسةً على الأريكة. سمعت أحدًا يقول: «… جرى إيصال الشكوى هاتفيًّا إلى المقر الرئيسي.» ثم لاحظت وجود هاتف على المنضدة الصغيرة بجانب الأريكة حيث كانت جالسة. التقطته وضغطت بهدوءٍ على أحد الأرقام.

«مرحبًا، هل هذا هو مكتب المدعي العام؟ … أُريد التحدُّث إلى السيد بالدوين من فضلك … جورج … من حسن حظي أنني كنت أعرف مكانك. هل المدعي العام موجود؟ ذلك جيد … لا، أخبِره بالأمر. لقد وقع خطأ فادح. أنا عند هيستر فورهيس، تعلم أن لديها استوديو للرقص. كانت تُقدِّم بعض الرقصات لبعض الأصدقاء وداهمت الشرطة المكان بالخطأ …»

كان الرجل ذو القبعة الدربية يقف خلفها. «حسنًا، لن يجدي الاتصال الهاتفي نفعًا … اذهبي على الفور إلى الغرفة الأخرى.»

«إن معي مكتب المدعي العام على الخط. تحدَّث إليه … مرحبًا هل هذا السيد وينثروب؟ … نعم، أوه … كيف حالك؟ هلَّا تحدَّثت إلى هذا الرجل رجاءً؟» أعطت الهاتف للمحقِّق واتجهت إلى وسط الغرفة. أتمنَّى لو لم أخلع قبعتي، هكذا كانت تفكِّر.

جاء من الغرفة الأخرى صوت نحيب وصوت هيستر فورهيس المتكلَّف صارخًا: «إنه خطأ فادح … لن أسمح بإهانتي هكذا.»

وضع المحقِّق سماعة الهاتف. ثم ذهب إلى إلين. «أريد أن أعتذر يا آنسة … لقد تصرَّفنا بِناءً على معلومات غير كافية. سأسحب رجالي على الفور.»

«يجدر بك أن تعتذر للسيدة فورهيس … فهذا هو الاستوديو الخاص بها.»

شرع المحقِّق في الحديث بصوت عالٍ ومَرِح: «حسنًا سيداتي وسادتي، لقد ارتكبنا خطأً يسيرًا ونحن آسفون للغاية … من الوارد حدوث أخطاء …»

تسلَّلت إلين إلى الغرفة الجانبية لتجلب قبعتها ومعطفها. وقفت لبعض الوقت أمام المرآة لتضعَ البودرة على أنفها. عندما خرجت إلى الاستوديو مرةً أخرى، كان الجميع يتحدَّثون معًا في الوقت نفسه. وقف الرجال والنساء في الأرجاء بمُلاءات وأردية حمَّام ملفوفة فوق ملابس رقصهم الهزيلة. كان المحقِّقون قد تلاشَوا فجأةً كما أتَوا. كان أوجليثورب يتحدَّث بصوت عالٍ ونبرة استعطاف في وسط مجموعة من الشبان.

وكان يصرخ، أحمر الوجه، مُلوِّحًا بغطاء رأسه بإحدى يدَيه: «الأنذال يهاجمون النساء. لحسن الحظ أنني تمكَّنت من التحكُّم في نفسي وإلا كنت قد ارتكبت فعلًا أندم عليه ليوم مماتي … لم يكن ذلك ليحدث لولا قدر كبير من ضبط النفس …»

تمكَّنت إلين من التسلُّل خارجة، وركضت نازلةً الدرج، وخرجت إلى الشوارع الممطرة. أشارت لسيارة أجرة وذهبت إلى المنزل. عندما وضعَت أغراضها، اتصلت بجورج بالدوين في منزله. «مرحبًا يا جورج، أنا آسفة للغاية أنني اضطُررت لأُزعجك أنت والسيد وينثروب. حسنًا، إذا لم تكن قد قلت لي أثناء تناولنا الغداء إنك ستكون هناك طوال المساء لكانوا على الأرجح قد كوَّمونا من عربة السجناء على محكمة جيفرسون ماركت … بالطبع كان ذلك مضحكًا. سأحكي لك وقتًا ما، ولكني قد سئمت كل ذلك … أوه كل شيء، كهذا الرقص الجمالي، والأدب، والراديكالية والتحليل النفسي … أظن الجرعة زائدة للغاية … نعم أظن الأمر كذلك يا جورج … أظن أنني أنضج.»

•••

كانت الليلة كشقفة كبيرة من برودة سوداء طاحنة. ورائحة المطابع لا تزال في أنفه، وسقسقة الآلات الكاتبة لا تزال في أذنَيه، وقف جيمي هيرف في ميدان دار البلدية ويداه في جيبَيه يشاهد الرجال ذوي الهيئة الرثة بقلنسواتهم وأغطية آذانهم المنسدلة على وجوههم وأعناقهم الحمراء بلون اللحم النيئ وهم يجرفون الثلوج. كبارًا وصغارًا، كانت وجوههم باللون نفسه، وكانت ملابسهم باللون نفسه. قطعت رياح كالموس أذنَيه وأصابته بالألم في جبهته بين عينَيه.

قال شاب بوجه أبيض بياض الحليب جاء إليه ممتلئًا بالحيوية وأشار إلى كومة الثلج: «مرحبًا يا هيرف، ما رأيك، هل ستقبل الوظيفة؟» «لمَ لا يا دان؟ عجبًا، ألن يكون هذا أفضل من قضاء حياتك كلها في التعمُّق في شئون الآخرين حتى لا تُصبح سوى كدكتوجراف متنقِّل لعين.»

«ستكون وظيفة جيدة في الصيف حقًّا … هل ستأخذ طريق ويست سايد؟»

«سأتمشَّى … لقد أصابني التوتر الشديد الليلة.»

«يا إلهي، ستتجمَّد حتى الموت يا رجل.»

«لا يعنيني إن حدث ذلك … تصل إلى مرحلةٍ ليس لك فيها حياةٌ خاصة؛ فأنت مجرد آلة كتابة أوتوماتيكية.»

«حسنًا، أتمنَّى أن أتخلَّص قليلًا من حياتي الخاصة … حسنًا، طابت ليلتك. أتمنَّى أن تحصل على القليل من الحياة الخاصة يا جيمي.»

أدار جيمي هيرف ظهره إلى جرَّافات الثلج ضاحكًا، وبدأ في السير في برودواي، مائلًا في الرياح وذقنه مدفون في ياقة معطفه. في شارع هيوستن نظر في ساعة يده. إنها الخامسة. يا إلهي، لقد تأخَّر اليوم. أليس ثمة مكانٌ يمكنه أن يتناول فيه شرابًا. هكذا أنَّ قائلًا لنفسه عندما تذكَّر الكتل الجليدية التي لا يزال عليه تجاوزها مشيًا قبل أن يتمكَّن من الوصول إلى غرفته. وكان يتوقَّف بين الحين والآخر ليربت على أذنَيه كي يبعث فيهما بعض الحيوية. عاد في نهاية المطاف إلى غرفته، فأشعل موقد الغاز ومال عليه شاعرًا بالوخز. كانت غرفته مظلمةً ومربعة وصغيرة على الجانب الجنوبي من ميدان واشنطن. ولم يكن فرشها سوى سرير، وكرسي، وطاولة مكدسة بالكتب، وموقد غاز. عندما بدأ شعوره بالبرد يتضاءل قليلًا، جلب زجاجةً من شراب الروم موجودةً أسفل السرير مغطاةً بسلة. وضع بعض الماء لتسخينه في كوب من الصفيح على موقد الغاز، ثم بدأ في احتساء الروم الساخن والماء. كانت كل أشكال الكُروب تتحرَّر في داخله. فشعر وكأنه الرجل في تلك القصة الخيالية حيث الحزام الحديدي حول قلبه. كان الحزام الحديدي يتكسَّر.

أنهى تناول الروم. وكانت الغرفة من حين لآخر تشرع في الدوران من حوله في جِدية وانتظام. ثم قال فجأةً بصوت عالٍ: «يجب أن أتحدَّث إليها … يجب أن أتحدَّث إليها.» وضع قبعته على رأسه وسحب معطفه. كان البرد في الخارج منعشًا. مرَّت ست عربات حليب على التوالي مجلجِلة.

في شارع ويست ١٢، كان قطان أسودان يتطاردان. وامتلأ المكان بأكمله بمُوائهما الجنوني. شعر أن شيئًا ما سوف ينفجر في رأسه، أنه هو نفسه سينطلق فجأةً في الشارع مطلقًا مُواءً مخيفًا.

وقف يرتجف في الممر المظلم، قارعًا الجرس الذي يحمل اسم هيرف مرارًا وتكرارًا. ثم قرع الباب بأقوى ما لديه. جاءت إلين إلى الباب في رداء أخضر. «ما الأمر يا جيمبس؟ أليس معك مفتاح؟» كان وجهها ناعمًا من أثر النوم؛ وكانت ثمة رائحة لطيفة وباعثة على الراحة والسعادة من أثر النوم حولها. تحدَّثت بأسنانٍ مطبَقة وأنفاسٍ لاهثة.

«إيلي، يجب أن أتحدَّث معك.»

«هل أنت مخمور يا جيمبس؟»

«حسنًا، أنا أعرف جيدًا ما أقول.»

«أشعر بالنعاس الشديد.»

تبعها إلى غرفة نومها. ركلت عنها شبشبها وعادت إلى السرير، وجلست تنظر إليه بعينَين مثقلتَين بالنوم.

«لا تتحدَّث بصوت عالٍ من أجل مارتن.»

«لا أعرف يا إيلي لماذا يصعب عليَّ دائمًا التحدُّث بصراحة عن أي شيء … يجب دائمًا أن أكون سكران كي أتمكَّن من قول ما أُريد … اسمعي، هل لا زلتِ تحبينني؟»

«أنت تعرف أنني مغرمة بك بشدة وسأظل كذلك …»

قاطعها بحدة: «أعني الحب، أنتِ تعرفين ما أعنيه، مهما يكن …»

«أظن أنني لا أحب أحدًا لفترة طويلة إلا إذا مات … إنني شخص فظيع. لا فائدة من الحديث عن ذلك.»

«كنت أعرف. كنتِ تعرفين وأنا كنت أعرف. يا إلهي، الأمور سيئة للغاية معي يا إيلي.»

جلست وركبتاها مُحدَّبتان وفوقهما يداها القابضتان، وكانت تنظر إليه بعينَين واسعتَين. «هل أنت مفتون بي حقًّا يا جيمبس؟»

«اسمعي، دعينا نحصل على الطلاق وننتهِ من ذلك.»

«لا تكن مُتعجِّلًا هكذا يا جيمبس … وهناك مارتن. ماذا عنه؟»

«يمكنني أن أجمع له ما يكفي من المال من حين لآخر، ذلك الطفل الصغير المسكين.»

«أنا أكسب أكثر منك يا جيمبس … يجب ألَّا تفعل ذلك بعد.»

«أعرف. أعرف. ألَا أعرف ذلك؟»

أخذا يتبادلان النظرات من دون أن ينبسا. كادت عيونهما تحترق من شدة نظر كلٍّ منهما إلى الآخر. باغتت جيمي رغبةٌ ملحةٌ في أن يحل عليه النعاس، ألَّا يتذكَّر أي شيء، أن يجعل رأسه يغوص في السواد، كما كان في حِضن أمه عندما كان طفلًا.

«حسنًا سأذهب إلى المنزل.» أطلق ضحكةً جافة. «لم يكن في ظننا أن كل شيء سيتفجَّر هكذا، أليس كذلك؟»

أنَّت وسط تثاؤبها قائلة: «طابت ليلتك يا جيمبس. ولكن الأمر لم ينتهِ … لولا أنني أشعر بالنعاس الشديد فحسب … هلَّا أطفأت الأنوار؟»

تحسَّس طريقه في الظلام نحو الباب. كان الصباح البارد برودةً قطبية تظهر سماؤه رماديةً في ضوء الفجر. أسرع عائدًا إلى غرفته. أراد أن يدخل إلى السرير ويغفو في النوم قبل ظهور ضوء النهار.

•••

كانت الغرفة طويلةً منخفضة وبها طاولات طويلة في المنتصف متكوِّمة عليها أقمشة من الحرير والكريب بالألوان البني، والسلمون الوردي، والأخضر الزمردي. وثمة رائحة الخيوط المقصوصة ومواد الملابس. منحنية جميعها على الطاولة كانت رءوس الفتيات الحائكات كَستَنائية، وشقراء، وسوداء، وبنية. وكانت صبية المهمَّات يندفعون بحوامل دوَّارة من الفساتين المعلَّقة ذهابًا وإيابًا في الممرات. يرن الجرس وتنتشر في الغرفة الضوضاء والحديث المصرصر كبيت للطيور.

تنهض آنا وتُمدِّد ذراعَيها. تقول للفتاة بجوارها: «يا إلهي، رأسي يؤلمني.»

«هل ظَلِلتِ مستيقظةً ليلة أمس؟»

تومئ برأسها.

«يجب أن تتركي ذلك العمل يا عزيزتي؛ سيفسد مظهركِ. لا تستطيع الفتاة أن تحترق كالشمعة من كلا الطرفَين كما يستطيع الرجال.» الفتاة الأخرى نحيفة وشقراء وكانت ذات أنف مائل. تضع ذراعها حول خصر آنا. «يا إلهي، أتمنَّى لو أكتسب بعضًا من وزنكِ.»

تقول آنا: «أتمنَّى لكِ ذلك. لا أهتم بما أتناوله، فيُحوِّلني ذلك إلى سمينة.»

«ما زلتِ غير سمينةٍ للغاية … أنتِ فقط ممتلئة الجسم لذا يحبُّون عناقكِ. حاولي ارتداء ملابس صبيانية وأؤكِّد لكِ أنكِ ستبدين في مظهر جيد.»

«يقول حبيبي إنه يُحب أن تكون الفتاة ممتلئة القوام.»

شقتا طريقهما على الدرج عبر مجموعة من الفتيات يستمعن إلى فتاة صغيرة صهباء تتحدَّث بسرعة وتفتح فمها على مصراعَيه وتُقلِّب عينَيها. «… كانت تعيش في المبنى التالي مباشرةً في ٢٢٣٠ جادة كاميرون، وقد ذهبت إلى ميدان سباق الخيل مع بعض صديقاتها، وعندما وصلن إلى المنزل كان الوقت متأخرًا وتركنها تذهب إلى المنزل وحدها، في جادة كاميرون، أترَين؟ وفي الصباح التالي عندما بدأ أهلها البحث عنها وجدوها خلف لافتة نعناع سبيرمينت في باحة خلفية.»

«هل ماتت؟»

«من المؤكَّد أنها قد ماتت … لقد فعل بها أحد الزنوج شيئًا فظيعًا ثم خنقها … شعرتُ بالفزع. لقد كنت أذهب إلى المدرسة معها. ولم تتأخَّر فتاة في جادة كاميرون بعد حلول الظلام؛ إنهن في غاية الفزع.»

«بالطبع رأيت كل شيء عن الحادث في الصحيفة ليلة أمس. تخيَّلي العيش في المربَّع السكني التالي لها مباشرة.»

•••

صرخت روزي وهي تجلس بجوارها في سيارة الأجرة: «هل رأيتِني وأنا ألمس ظهر ذلك الأحدب؟» «أتقصدين في ردهة المسرح؟» شدَّ بنطاله الذي كان ضيقًا على ركبتَيه. «سيجلب لنا ذلك الحظ يا جيك. لم أرَ قط ظهر أحدب يفشل في جلب الحظ … إذا لمسته على حدبته … أوه، أشعر بالإعياء من السرعة التي تسير بها سيارات الأجرة هذه.» اندفعا للأمام على أثر التوقُّف المفاجئ لسيارة الأجرة. «يا إلهي، لقد كدنا ندهس صبيًّا.» ربت جيك سيلفرمان على ركبتها. «أيها الفتى الصغير المسكين، هل أنت بخير؟» أثناء ركوبهما السيارة ذاهبَين إلى الفندق كانت ترتجف ودفنت وجهها في ياقة معطفها. عندما ذهبا إلى مكتب الاستقبال ليحصلا على المفتاح، قال الموظف لسيلفرمان: «هناك رجل ينتظر أن يراك سيدي.» جاء إليه رجل غليظ البنية مخرجًا سيجارًا من فمه. «هلَّا اتخذت خطوةً في هذا الطريق لبعض الوقت يا سيد سيلفرمان.» ظنَّت روزي أنها ستفقد وعيها. وقفت ثابتةً تمامًا، مجمَّدة، ووجنتاها غاطستان عميقًا في ياقة معطفها المصنوعة من الفرو.

جلسا في كرسيَّين عميقَين وتهامسا مُقرِّبَين رأسَيهما. خطوةً خطوة، اقتربت تستمع. «مذكِّرة … وزارة العدالة … استخدام البريد للاحتيال …» لم تستطِع سماع ما قاله جيك بين هذه العبارات. ظلَّ يومئ برأسه كما لو كان موافقًا. ثم فجأةً تحدَّث بسلاسة مبتسمًا.

«حسنًا، لقد استمعت لموقفك يا سيد روجرز … وها هو رأيي. إذا اعتقلتني الآن فسأُفلس ويفلس عددٌ كبير من الذين وضعوا أموالهم في هذا المشروع … يمكنني في غضون أسبوع تصفية الأمر بأكمله مع تحقيق الربح … إنني يا سيد روجرز رجلٌ أساءت إليَّ أيما إساءة حماقة الوثوق فيمن لا يستحقون الثقة.»

«لا أستطيع المساعدة في ذلك … واجبي هو تنفيذ المذكرة … يؤسفني أنني سأُضطر لتفتيش غرفتك … كما ترى فإن أمامنا العديد من الأغراض الصغيرة …» نفض الرجل الرماد من سيجاره وبدأ في القراءة بصوت رتيب. «جيكوب سيلفرمان، الاسم المستعار إدوارد فافيرشام، سيميون جيه أربوثنوت، جاك هينكلي، جيه جولد … أوه، لدينا قائمة صغيرة جيدة … لقد أجرينا بعض العمل الجيد جدًّا في قضيتك، لو كان لي أن أقول ما لا ينبغي قوله.»

نهضا واقفَين. هزَّ الرجل ذو السيجار رأسه باتجاه رجلٍ نحيفٍ يرتدي قبعةً جلس يقرأ صحيفةً في الجانب الآخر من الردهة.

سار سيلفرمان إلى مكتب الاستقبال. وقال للموظَّف: «لقد استدعَوني في العمل. هلَّا جهَّزت لي فاتورتي من فضلك؟ ستشغل السيدة سيلفرمان الغرفة لبضعة أيام.»

لم يكن بوسع روزي أن تنطق بكلمة. تبعت الرجال الثلاثة داخلين إلى المصعد. قال المحقِّق النحيف وهو يسحب حافة قبعته: «إننا آسفون لاضطرارنا لفعل ذلك يا سيدتي.» فتح لهم سيلفرمان باب الغرفة وأغلقه خلفه بعناية. «أشكر تفهُّمكما أيها السيدان … زوجتي تشكركما.» جلست روزي على كرسي مستقيم في أحد أركان الغرفة. كانت تعض لسانها بقوة أكثر فأكثر محاوِلةً منع شفتَيها من الارتجاف.

«نحن نُدرك يا سيد سيلفرمان أن هذه ليست قضيةً جنائيةً عادية.»

«ألَن تتناولا شرابًا أيها السيدان؟»

هزَّا رأسَيهما. كان الرجل الغليظ البنية يشعل سيجارًا جديدًا.

قال للرجل النحيل: «حسنًا يا مايك ابحث في الأدراج والخزانة.»

«هل هذا عادي؟»

«إذا كان هذا عاديَّا، لكنا قد وضعنا الأصفاد على يدَيك واعتبرنا هذه السيدة مشارِكةً في الجريمة.»

جلست روزي بيدَيها المتجمدتَين المشبكتَين بين ركبتَيها تؤرجح جسدها من جانب إلى آخر. كانت عيناها مغمضتَين. وبينما كان المحقِّقان يفتشان في الخزانة، انتهز سيلفرمان الفرصة ليضع يده على كتفها. ففتحت عينَيها. «في اللحظة التي يقبض عليَّ فيها المحقِّقان اللعينان اتصلي بشاتز وأخبريه بكل شيء. توصَّلي إليه ولو تطلَّب ذلك أن توقظي الجميع في نيويورك.» هكذا تحدَّث بصوت منخفض وبسرعة وشفتاه بالكاد تتحرَّكان.

ما لبث أن رحل يتبعه المحقِّقان ومعهما حقيبة مليئة بالخطابات. كانت قبلته لا يزال أثرها رطبًا على شفتَيها. نظرت في ذهول في أنحاء الغرفة الفارغة الهادئة الموحشة. لاحظت بعض الكتابة على دفتر المُسَوَّدة البنفسجي الفاتح على المكتب. كان خط يده، وكان قد كتب بخربشة سريعة: ارهني كل شيء، ارحلي؛ إنكِ فتاة جيدة. بدأت الدموع تجري على وجنتَيها. وجلست كثيرًا ورأسها هاوٍ تُقبِّل الكلمات المكتوبة بالقلم الرصاص في دفتر المُسَوَّدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤