الفصل الرابع

ناطحة السحاب

توقف الشاب المبتور الساقين متيبِّسًا في منتصف الرصيف الجنوبي لشارع ١٤. يرتدي سترةً وقبعة زرقاوَين محوكتَين. حدَّقت عيناه لأعلى متسعتَين حتى ملأتا وجهه الأبيض بياض الورق. ويندفع عبر السماء منطاد، مُتوهِّج كسيجار ملفوف بورق القصدير غُمر في الارتفاع فيستحث بلطف السماء التي غسلتها الأمطار والسُّحب الناعمة. توقف الشاب المبتور الساقَين مُتيبِّسًا مستندًا على ذراعَيه في منتصف الرصيف الجنوبي لشارع ١٤. وسط السيقان المسرعة الخُطى، والسيقان الهزيلة، والسيقان المتمايلة، والسيقان في التنانير والبناطيل والسراويل القصيرة، توقف ساكنًا تمامًا، مستندًا على ذراعَيه، ناظرًا لأعلى إلى المنطاد.

خرج جيمي هيرف، وقد أصبح بلا عمل، من مبنى البوليتزر. وقف بجانب كومة من الصحف الوردية على الرصيف يأخذ أنفاسًا عميقة، ناظرًا لأعلى إلى البرج المتلألئ لمبنى وول وورث. كان اليوم مشمسًا، وكانت السماء زرقاء بلون بَيض أبو الحناء. استدار شَمالًا وبدأ في السير إلى شَمال المدينة. عندما ابتعد عن مبنى وول وورث انسحب البرج كمنظار. سار شَمالًا عبر المدينة ذات النوافذ اللامعة، عبر المدينة ذات اللافتات المختلطة الأبجديات، عبر المدينة ذات اللافتات المُذهَّبة الأحرف.

ربيع غني بالجلوتين … غني بالوفرة الذهبية، بهجة في كل قضمة، «نحن الأصل»، ربيع غني بالجلوتين. لا أحد يستطيع شراء خبز أفضل من «الأمير ألبيرت». الفولاذ المطاوع، المُونِل، النحاس، النيكل، الحديد المطاوع. «العالم كله يُحب الجمال الطبيعي». «صفقة الحب»، تلك البِذلة في محلات جامبيل الأفضل قيمةً في المدينة. احتفظي ببشرة كبشرة تلميذات المدارس … «جو كيس»، بدء تشغيل السيارات، الأنوار، اضطرام المحرِّكات، المولِّدات.

كل شيء جعله يُغرغر بضحكاتٍ مكبوتة. كانت عقارب الساعة تُشير إلى الحادية عشرة. لم يكن قد أوى للفِراش. كانت الحياة مقلوبةً رأسًا على عقب؛ كان كذبابة تمشي على سقف مدينة مقلوبة رأسًا على عقب. كان قد ترك وظيفته، ولم يكن لديه ما يفعله اليوم، وغدًا، وبعد غد، وبعد بعد غد. وكل شيء يزدهر يرجع لينتكس، ولكن ليس لأسابيع، بل لشهور. ربيع غني بالجلوتين.

دلف إلى مطعم الوجبات السريعة، وطلب اللحم المُقدَّد والبَيض، والخبز المحمص والقهوة، وجلس يأكلها في سعادة، مُتذوِّقًا لكل قضمة جيدًا. جمحت أفكاره كمرعًى مليء بالمُهور الحَولية التي يُثير جنونَها غروبُ الشمس. عند الطاولة التالية كان ثمة صوت يشرح أمرًا برتابة:

«نبذ … وقد أخبرتك أننا بحاجة لبعض التطهير. جميعهم كانوا أعضاءً في الكنيسة كما تعلم. إننا نعلم القصة كاملة. لقد نصحونا باستبعادها. ولكنه قال: «كلا، سأبحث في حقيقة الأمر».»

نهض هيرف واقفًا. كان عليه أن يستأنف السير. خرج ومذاق لحم الخنزير المقدَّد بين أسنانه.

«خدمة سريعة تُلبِّي احتياجات الربيع». يا إلهي، تُلبِّي احتياجات الربيع. لا توجد علب، لا يا سيدي، ولكن لدينا جودة غنية في كل ملأة غليون مُعَتَّق … «سوكوني». رشفة واحدة تُخبرك بما هو أكثر من مليون كلمة. القلم الرصاص الأصفر ذو الشريط الأحمر. بما هو أكثر من مليون كلمة، بما هو أكثر من مليون كلمة. «حسنًا، أعطني ذلك المليون … أبقِه مغطًّى يا بن.» لقد تركته عصابة يونكيرس ليموت على مقعد في المتنزَّه. علَّقوه، ولكن كل ما حصلوا عليه كان مليون كلمة … «ولكني يا جيمبس تعبت للغاية من حديث الكتب والبروليتاريا، ألَا يمكنك أن تفهم؟»

غني بالوفرة الذهبية، الربيع.

كانت والدة ديك سنو تمتلك مصنعًا لصناديق الأحذية. فأفلست وخرج من المدرسة وبدأ يتسكَّع في الشوارع. أسدى له الرجل في كشك المشروبات الغازية نصيحة. فسدَّد دفعتَين لشراء قُرط من اللؤلؤ لفتاة يهودية ذات شعر أسود بقوام يشبه آلة الماندولين. انتظروا مرسال البنك في محطة القطارات السريعة. عرج عبر الباب الدوار وظل عالقًا هناك. انطلقوا بسيارة فورد والحقيبة في صالونها. بقي ديك سنو في الخلف يفرغ سلاحه في القتيل. لبَّى احتياجات الربيع في السجن بكتابة قصيدة لأمه نُشرَت في صحيفة «إيفينينج جرافيك».

مع كل نَفَس عميق يتنفَّس هيرف عبارات مُقرقِعة، وطاحنة، ومزيَّنة حتى بدأ ينتفخ، فشعر بنفسه يتعثَّر في هيئة كبيرة وغامضة، مترنِّحًا كعمود من الدخان فوق الشوارع في شهر أبريل، ناظرًا إلى نوافذ الورش الميكانيكية، ومصانع الأزرار، والبنايات السكنية، ولُبود وسخ مفارش الأسرة، وأزيز المخارط الناعم، وكتابة الشتائم على الآلات الكاتبة بين أصابع كاتب مختزل، وعلامات الأسعار المختلطة في متاجر التجزئة. كان يئز في الداخل مثل المياه الغازية في عصائر شهر أبريل الحلوة، الفراولة، والسرسبريلة، والشوكولاتة، والكرز، والفانيليا، التي تقطر بالرغوة عبر الهواء الأزرق البترولي العليل. نزل على نحوٍ مقزِّز ٤٤ طابقًا، منهارًا. وهَبْ أنني اشتريت مسدسًا وقتلت إيلي، فهل سأُلبِّي احتياجات أبريل وأنا جالس في السجن أكتب قصيدةً عن والدتي لتُنشَر في صحيفة «إيفينينج جرافيك»؟

انكمش حتى صار كأصغر ذرة غبار أخذت تشق طريقها فوق الصخور والجلاميد في المجرى الهادر، وتتسلَّق القش، وتطوف حول بحيراتٍ من زيت المحركات.

جلس في واشنطن سكوير، وقد كست الظهيرةُ بشرتَه حُمرة، ينظر لأعلى في الجادة الخامسة عبر القوس. تسرَّبت إليه الحمى. فشعر بالبرد والإرهاق. ربيع آخر، يا إلهي، كم ربيع مضى، سار من المقبرة في الطريق الأزرق المرصوف بالحصى حيث غنَّت عصافير الحقول، وكانت اللافتة مكتوبًا عليها: يونكرز. في يونكرز دفنت سنوات الصِّبا، في مارسيليا ألقيت بسنوات طفولتي في الميناء. أين لي في نيويورك أن أدفن العشرينيات من عمري؟ ربما رُحِّلوا وذهبوا للخارج إلى البحر على متن عبَّارة جزيرة إيليس يُغنون نشيد الاشتراكية الدولية. هدير الاشتراكية الدولية فوق المياه، متلاشٍ ومتنهِّد في الضباب.

«مُرحَّل»

جيمس هيرف صَحَفي شاب يقطن في ١٩٠ ويست شارع ١٢ وقد فقد لتوه العشرينيات من عمره. مَثَلوا أمام القاضي ميريفال، وحُبسوا على ذمة التحقيق في جزيرة إيليس لترحيلهم بصفتهم أجانب غير مرغوب فيهم. الأربعة الأصغر سنًّا ساشا، ومايكل، ونيكولاس، وفلاديمير احتُجزوا لبعض الوقت بتهمة الفوضى الجنائية. واتُّهمت الخامسة والسادسة بجريمة التشرُّد. واحتُجز بيل توني وجو في وقت لاحق بتُهَم متنوِّعة تشمل ضرب الزوجات، والحرق العمد، والاعتداء، والبِغاء. وقد أُدينوا جميعًا على أساس من سوء استعمال السلطة القانونية، وإخلال بالأمانة، والإهمال في الواجب.

اسمعوا وعوا، سجين أمام محكمة الحانة … أجد الأدلة مشكوكًا فيها، هكذا قال القاضي وهو يصبُّ لنفسه كأسًا. أصبح كاتب المحكمة الذي كان يقلب كوكتيلًا قديم الطراز ممتلئًا بأوراق الكُروم، وفاحت من قاعة المحكمة رائحة العنب المُزهِر، ثم سرعان ما أصبحت الأمور تحت السيطرة. صاح القاضي عندما وجد شراب الجن في زجاجة الماء الخاصة به: «أُجلت الجلسة لتناول شراب الريكي.» اكتشف المراسلون أن حاكم المدينة يرتدي جلد فهد متظاهرًا بالفضيلة المدنية وواضعًا قدمه على ظهر الأميرة فيفي الراقصة الشرقية. كان مراسلك يُطل من نافذة نادي بانكيرز برفقة زوج خالته، جيفرسون تي ميريفال، عضو النادي البارز في المدينة وريشتَين من لحم ضأن متبَّلتَين جيدًا بالفلفل الأسود. في هذه الأثناء كان النُّدُل يُسرعون في تنظيم الأوركسترا، مستخدمين كروش آل جوسنهايمرز كطبول جانبية. قدَّم النادل الرئيسي أداءً رائعًا حقًّا للأغنية الراقصة «منزلي القديم في كنتاكي» (ماي أولد كنتاكي هوم)، مستخدمًا للمرة الأولى الرءوس الصلعاء الرنانة لسبعة من مديري شركة ويل ووترد جازولين في ولاية ديلاوير كآلة إكسيليفون. وطوال الوقت، كانت زجاجة شراب بوتليجير اللامعة الموجودة الموضوعة في حقيبة بديعة الألوان وذات الأشرطة الزرقاء، تقود الثيران في برودواي إلى العدد مليونَين، و٣٤٢ ألفًا، و٥٠١. عندما وصلت إلى حي سبویتن دویوفیل، كانت قد انغمرت جامحة، رتبة تلو أخرى، في محاولة للسباحة إلى يونكرز.

وبينما أجلس هنا، هكذا خطر ببال جيمي هيرف، تحكني الطباعة كطفح جلدي في داخلي. أجلس هنا وقد ملأتني الطباعة بالبُثور. نهض واقفًا. كان ثمة كلب أصفر صغير نائم ومتلف حول نفسه تحت المقعد. بدا الكلب الأصفر الصغير سعيدًا جدًّا. قال جيمي بصوت عالٍ: «ما أحتاجه هو نوم جيد.»

«ماذا ستفعل به يا داتش، هل سترهنه؟»

«لن أحصل على مليون دولار مقابل هذا السلاح الصغير يا فرانسي.»

«أرجوك لا تبدأ بالحديث عن المال … سيراه أحد رجال الشرطة فجأةً على حِجرك ويقبض عليك بموجب قانون سوليفان.»

«الشرطي الذي يعتزم إلقاء القبض عليَّ لم يولد بعد … أنتِ فقط نسيتِ ذلك.»

بدأت فرانسي تتذمَّر. «ولكن يا داتش ماذا سنفعل، ماذا سنفعل؟»

دسَّ داتش فجأةً المسدس في جيبه ونهض واقفًا. مشى منتفضًا ذهابًا وإيابًا على الطريق الأسفلتي. كان مساءً ضبابيًّا شديد البرودة، وكانت السيارات التي تتحرَّك على طول الطريق المُوحِل تُصدر وميضًا متشابكًا لا نهائيًّا من الضوء الشبيه بنسيج العنكبوت وسط الجنبات الأشبه بالهياكل العظمية.

«يا إلهي، إنكِ توترينني بتذمُّركِ وبكائكِ … هلَّا صمت؟» جلس بجانبها متجهِّمًا مرةً أخرى. «أظن أنني سمعت أحدًا يتحرَّك وسط الشُّجيرات … هذه الحديقة اللعينة مليئة برجالٍ في ملابس مدنية … لا يوجد مكان بمقدورك الذهاب إليه في هذه المدينة البائسة بأكملها دون أن يشاهدك الناس.»

«لم أكن لأمانع ذلك لو لم أشعر بالسوء الشديد. لا أستطيع أن آكل أي شيءٍ دون أن أتقيَّأ وأشعر بالخوف الشديد طوال الوقت من أن تلحظ الفتيات الأخريات شيئًا.»

«ولكني أخبرتكِ أن لديَّ طريقةً لإصلاح كل شيء، أليس كذلك؟ أعدكِ أنني سأُصلح كل شيء ليصير على ما يرام في غضون يومَين … سنرحل بعيدًا ونتزوَّج. سنذهب إلى الجنوب … أُراهن أن هناك الكثير من الوظائف في أماكن أخرى … إنني أشعر بالبرد، فلنخرج من هذا الجحيم.»

قالت فرانسي بصوت مرهق وهما يسيران في المسار الأسفلتي المتلألئ بالوحل: «أوه يا داتش، هل تعتقد أننا سننعم بوقتٍ سعيدٍ مرةً أخرى في أي وقتٍ من الأوقات كما اعتدنا؟»

«إننا قليلو الحظ الآن ولكن هذا لا يعني أننا سنظل هكذا دائمًا. لقد شهدت هجمات الغاز هذه في غابة أوريجون، أليس كذلك؟ لقد توصَّلت للكثير من الأشياء في هذه الأيام القليلة الماضية.»

«إذا ذهبتَ وأُلقي القبض عليك يا داتش فلن يتبقَّى لي شيء لأفعله سوى أن أقفز في النهر.»

«ألم أقل لكِ إنني لن يُلقى القبض عليَّ؟»

•••

تقف السيدة كوهين، وهي عجوز منحنية الظَّهر ذات وجه بني مُبقَّع كتفاحة خمرية، بجانب طاولة المطبخ ويداها المعقودتان مطويتان فوق بطنها. تتأرجح بوركَيها وهي تتلفَّظ بوابل متبرِّم لا نهائي من اللغة اليديشية في وجه آنا الجالسة يغشاها النعاس أمام فنجان من القهوة: «لو كنتِ قد نُسِفت في المهد لكان ذلك أفضل، لو كنتِ قد ولِدتِ ميتة … أوه لماذا ربيت أربعة أبناء إن كان جميعهم سيصبحون غير صالحين، ومُحرِّضين، وداعرين، ومتشردين؟ … بيني دخل السجن مرتَين، وسول يعلم الربُّ أي مكان يتسبَّب في المتاعب فيه، وسارة الملعونة التي استسلمت للمعصية ترفع ساقَيها لدى مينسكي، والآن أنتِ، تذبلين في مقعدكِ، وتعتصمين من أجل عُمال الملابس، تسيرين في الشارع بوقاحة ولافتة على ظهرك.»

غطَّست آنا قطعة خبز في القهوة ووضعتها في فمها. قالت وفمها ممتلئ: «أوه يا أمي أنتِ لا تفهمين.»

«أفهم، أفهم العُهر والخطيئة؟ … أوه لماذا لا تذهبين إلى عملكِ وتُبقِين فمكِ مغلقًا، وتتقاضَين راتبكِ في هدوء؟ لقد اعتدتِ جنيَ مكاسب مالية جيدة وكان بإمكانكِ أن تتزوَّجي زواجًا لائقًا قبل أن تجمحي في قاعات الرقص مع أشخاصٍ ليسوا بيهود. أوه أوه لقد ربيت ابنتَي في شيخوختي، ولا يوجد رجل محترم يريد أن يأخذهما إلى منزله ويتزوَّجهما …»

وقفت آنا على قدمَيها وهي تصرخ: «هذا ليس من شأنكِ … إنني أدفع دائمًا حصتي في الإيجار بانتظام. تظنين أن الفتاة لا قيمة لها سوى أن تكون أمة، وتطحن أصابعها في العمل طوال حياتها … وجهة نظري مختلفة، هل تسمعينني؟ إياكِ أن تجرئي على تأنيبي …»

«أوه تردين على والدتكِ العجوز. لو كان سولومون حيًّا لضربكِ بالعصا. لئن ولدت ميتةً أفضل من أن تردي على والدتك كغير اليهود. اخرجي من المنزل وأسرعي قبل أن أنسفكِ.»

«حسنًا، سأفعل.» ركضت آنا عبر المدخل الضيق المكوَّمة عنده السراويل القصيرة إلى غرفة النوم وألقت بنفسها على سريرها. كانت وجنتاها تحترقان غيظًا. استلقت في هدوء تحاول التفكير. جاء من المطبخ النَّشيج‎ الحاد الرتيب للمرأة العجوز.

رفعت آنا نفسها إلى وضعية الجلوس على السرير. لمحت في المرآة المقابلة وجهًا مُجهَدًا مغمورًا بالدموع وشعرًا ليفيًّا أجعد. تنهَّدت قائلة: «يا إلهي، إنني في حالة من الفوضى.» عندما وقفت على قدمَيها داس كعبها على الشريط المجدول لفستانها. فتمزَّق الفستان بحدة. فجلست على حافة السرير تبكي وتبكي. ثم حاكت الشق في الفستان بعناية بغُرز صغيرة ودقيقة. جعلتها الحياكة تشعر بالهدوء. ارتدت قبعتها، ووضعت الكثير من بودرة التجميل على أنفها، ووضعت القليل من أحمر الشفاه على شفتَيها، وارتدت معطفها وخرجت. كان قد حلَّ شهر أبريل بألوان ملاطِفة على غير المتوقَّع من شوارع الجانب الشرقي. وجاءت النضَارة الحسية الحلوة من عربة تُدفع بالأيدي مليئة بالأناناس. وجدت عند الناصية روز سيجال وليليان دايموند تشربان الكوكاكولا عند كشك للمشروبات الغازية.

قالتا بِطَنين منسجم: «تناولي الكولا معنا يا آنا.»

«سأفعل إن دفعتما لي … فأنا مفلسة.»

«أنتِ، ألم تحصلي على أجر الإضراب؟»

«لقد أعطيته كله للمرأة العجوز … ولم تعاملني جيدًا على الرغم من ذلك. بل أخذت تؤنبني طوال اليوم. إنها عجوز للغاية.»

«هل عرفتِ كيف اقتحم مُسلَّحون متجر آيكي جولدشتاين وخرَّبوه؟ خرَّبوا كل شيء بالمطارق وتركوه فاقدًا للوعي فوق الكثير من البضاعة من الملابس.»

«أوه هذا فظيع.»

«أرى أنه نال ما يستحق.»

«ولكن يجب ألَّا يُدمِّروا الممتلكات هكذا. فنحن نتكسَّب عيشنا منها مثله تمامًا.»

قالت آنا وهي تقرع كأسها الفارغة فوق منضدة الشراب: «عيشة جيدة للغاية … أنا على وشك الموت بهذه العيشة.»

قال الرجل في الكشك: «على رِسلكِ. انتبهي للآنية الفخارية.»

تابعت روز سيجال، قائلة: «لكن أسوأ شيء أنه أثناء تقاتلهم في متجر جولدشتاين طار مفتاح تدوير من لُفافة الخيوط وسقط تسعة طوابق وقتل رجل إطفاء كان يمر على شاحنة فسقط ميتًا في الشارع.»

«لماذا فعلوا ذلك؟»

«لا بد أن شخصًا قد رماه على شخص آخر وخرج من لفافة.»

«وقتل رجل الإطفاء.»

رأت آنا إلمير يقترب منهم في الجادة، وكان وجهه النحيف مثبتًا للأمام، ويداه مخبأتَين في جيبَي معطفه البالي. تركت الفتاتَين وسارت نحوه. «هل كنت ذاهبًا إلى المنزل؟ لا تفعل وهيا بنا؛ لأن تأنيب المرأة العجوز شيء فظيع … ليتني أضمها إلى «بنات إسرائيل». لا يمكنني تحمُّلها أكثر من ذلك.»

قال إلمير: «إذن، دعينا نتمشَّ ونجلس في الميدان. ألَا تشعرين بالربيع؟»

نظرت إليه بطرف عينها. «ألَا أشعر به؟ أوه يا إلمير أتمنَّى أن ينتهي هذا الإضراب … يصيبني بالجنون ألَّا أفعل شيئًا طوال اليوم.»

«ولكن يا آنا الإضراب هو فرصة عظيمة للعامل، إنه بمثابة الجامعة للعامل. إنه يمنحكِ فرصةً للدراسة والقراءة والذهاب إلى المكتبة العامة.»

«لكنك تظن دائمًا أنه سينتهي في غضون يومٍ أو يومَين، وما الفائدة على أي حال؟»

«كلما زاد تعليم المرء زاد نفعه لطبقته.»

جلسا على مقعد وظهراهما للملعب. كانت السماء فوقهما تتلألأ برقائق كعرق اللؤلؤ لضوء غروب الشمس. والأطفال المتسخون يصرخون ويُحدِثون جلَبةً حول الممرَّات الأسفلتية.

قالت آنا وهي تنظر إلى السماء: «أوه، أود أن أحظى بفستان سهرة باريسي، وأن ترتدي أنت بِذلةً رسمية، وأن نذهب لتناول العشاء في مطعم فخم، وأن نذهب إلى المسرح وكل شيء.»

«لو كُنا نعيش في مجتمع محترم، لربما كان بإمكاننا … ستتحقَّق السعادة للعمال حينئذٍ، بعد الثورة.»

«ولكن يا إلمير ما الفائدة إذا كُنا كبارًا في السن ونوبِّخ أبناءنا كالمرأة العجوز؟»

«سينعم أبناؤنا بهذه الأشياء.»

جلست آنا منتصبةً على المقعد. قالت وهي تكز على أسنانها: «لن أنجب أبناءً أبدًا، أبدًا، أبدًا، أبدًا.»

•••

لمست أليس ذراعه عندما استدارا للنظر في نافذة متجر للمُعَجنات الإيطالية. فوق كل كعكةٍ مُزيَّنة بأزهار الأنيلين الفاقعة اللون والتحزيزات، وقف حِمل من السكر احتفالًا بعيد الفِصح وشعار عيد القيامة. قالت وهي تُدير لأعلى نحوه وجهها البيضوي الصغير بشفتيها الشديدتي الحمرة كالزهور التي كانت على الكعكات: «جيمي، عليك أن تفعل شيئًا حيال روي … يجب أن يذهب إلى العمل. سأُصاب بالجنون إذا ظلَّ جالسًا في المنزل أكثر من ذلك يقرأ الصحف وعلى وجهه ذلك التعبير القبيح الرهيب … أنت تعرف ما أعنيه … إنه يحترمك.»

«ولكنه يُحاول أن يحصل على وظيفة.»

«إنه لا يحاول حقًّا، أنت تعرف ذلك.»

«هو يظن أنه يحاول. أظن أنه يُفكِّر في نفسه بشكل غريب … ولكني شخص جيد في الحديث عن العمل …»

«أوه أعلم، أظنه أمرًا رائعًا. يقول الجميع إنك حصلت على عملٍ في صحيفة، وإنك سوف تُمارس الكتابة.»

وجد جيمي نفسه ينظر لأسفل في عينَيها البنيتَين المتسعتَين، اللتَين كان بهما وميض في جزئهما السفلي كوميض الماء في البئر. أدار رأسه بعيدًا، وكانت ثمة غُصةٌ في حلقه فسعل. واصلا السير على طول الشارع الطروب الفاقع الألوان.

عند باب المطعم وجدا روي ومارتن شيف في انتظارهما. مروا عبر غرفةٍ خارجيةٍ إلى قاعة طويلة مزدحمة بطاولاتٍ مُكدَّسة بين لوحتَين ضاربتَين إلى الخضرة والزُّرقة لخليج نابولي. كان الهواء مُثقلًا برائحة جبن البارميزان ودخان السجائر وصلصة الطماطم. ظهرت بعض التعبيرات على وجه أليس وهي تستقر على الكرسي.

«أوه، أريد كوكتيلًا بسرعة على الفور.»

قال هيرف: «لا بد أنني ساذَج بعض الشيء، ولكن هذه القوارب التي تقف في دَلال أمام جبل فيزوف دائمًا ما تجعلني أشعر وكأنني أُسرع إلى مكانٍ ما … أظن أنني سأرحل من هنا في غضون بضعة أسابيع.»

سأل روي: «ولكن يا جيمي إلى أين تذهب؟ أليس هذا شيئًا جديدًا؟»

قالت أليس: «أليس لهيلينا رأي في ذلك؟»

احمرَّ وجه هيرف. وقال بحِدة: «ولمَ يكُون لها رأي؟»

ثم وجد نفسه يقول بعد قليل: «لقد اكتشفت للتو أنه لم يكن لي شيء هنا.»

قال مارتن فجأة: «أوه، لا أحد منا يعرف ما يريد. لذلك فنحن جيل حقير.»

قال هيرف بهدوء: «إنني أبدأ في تعلُّم بعض الأشياء التي لا أريدها. على الأقل أبدأ في امتلاك الجرأة لأعترف لنفسي بمدى كراهيتي للأشياء التي لا أريدها.»

صرخت أليس: «لكن هذا رائع، أن تتخلَّص من مسار مهني من أجل نموذج مثالي.»

قال هيرف وهو يدفع كرسيه للخلف: «معذرة.» في دورة المياه نظر لنفسه مباشرةً في المرآة المتموِّجة.

وهمس قائلًا: «لا تتكلَّم. ما تتحدَّث عنه لا تفعله مطلقًا …» كان لوجهه مظهر وجوه السُّكارى. ملأ التجويف ما بين يدَيه بالماء وغسله. عند الطاولة هتفوا عندما جلس.

قال روي: «نعم للمتجوِّل.»

كانت أليس تأكل الجبن فوق شرائح طويلة من الكُمَّثْرَى. قالت: «أعتقد أنه أمر مثير.»

صاح مارتن شيف بعد صمت: «روي يشعر بالملل.» سبح وجهه بعينَيه الكبيرتَين ونظارته العظمية عبر دخان المطعم كسمكة في حوض مائي كثير الضباب.

«كنت أُفكِّر لتوي في جميع الأماكن التي يجب أن أذهب إليها للبحث عن وظيفة غدًا.»

واصَل مارتن بشكل ميلودرامي: «أُتريد وظيفة؟ أُتريد أن تبيع روحك لمقدِّم العطاء الأعلى؟»

قال روي مُتذمِّرًا: «يا إلهي، إذا كان هذا هو كل ما لديك لتبيعه …»

«إن نومي في الصباح هو ما يُقلقني … لا يزال من الفظيع أن تتخلَّى عن شخصيتك وكل تلك الأشياء. الأمر لا يتعلَّق بقدرتك على القيام بالعمل، بل بشخصيتك.»

«البغايا هن وحدهن الصادقات …»

«لكن يا إلهي، العاهرة تبيع شخصيتها.»

«إنها تؤجِّرها فحسب.»

«لكن روي يشعر بالملل … جميعكم تشعرون بالملل … أنا أكثركم شعورًا بالملل.»

قالت أليس بإصرار: «إننا نتمتَّع بأجمل الأوقات في حياتنا. مهلًا يا مارتن، ما كُنَّا لنجلس هنا لو كُنَّا قد شعرنا بالملل، أليس كذلك؟ … أتمنَّى أن يُخبرنا جيمي أين يتوقَّع أن يذهب في رحلاته الغامضة.»

«كلا، أنتم تقولون لأنفسكم كم هو ممل، ما نفعه للمجتمع؟ ليس لديه المال، ليس لديه زوجة جميلة، ليس لديه مهارة المحادَثة الجيدة، ليس لديه نصائح للمُضاربة في البورصة. إنه عبء على المجتمع … الفنان عبء.»

«الأمر ليس كذلك يا مارتن … إنك تتحدَّث بجهل وحماقة.»

لوَّح مارتن بذراعه عبر الطاولة. انقلبت زجاجتا نبيذ. وضع نادل بدا عليه الخوف منديلًا فوق تيار السائل الأحمر. ودون أن يلاحظ مارتن ذلك، تابع قائلًا: «كل هذا ادعاء … عندما تتحدَّث فإنك تتحدَّث بأطراف ألسنتك الكاذبة. أنت لا تجرؤ على الكشف عن روحك الحقيقية … ولكن الآن يجب أن تستمع إليَّ للمرة الأخيرة … للمرة الأخيرة أقول … تعالَ إلى هنا أيها النادل أنت أيضًا، انحنِ وانظر إلى الهُوَّة السوداء لروح الإنسان. وهيرف يشعر بالملل. جميعكم تشعرون بالملل، الذباب يشعر بالملل يطن على لوح النافذة. تعتقدون أن لوح النافذة هو الغرفة. لا تعرفون ما يوجد في العُمق والظلام في الداخل … إنني ثَمِل للغاية. زجاجة أخرى أيها النادل.»

«اسمع، اكبح جماح نفسك يا مارتن … لا أعرف ما إذا كان بمقدورنا أن ندفع الفاتورة على ما هي عليه حتى الآن … لسنا بحاجة للمزيد.»

«زجاجة نبيذ أخرى وأربع زجاجات من شراب الجرابَّا أيها النادل.»

قال روي ممتعضًا: «حسنًا، يبدو أنها ستكون ليلةً ليلاء.»

«لو تطلَّب الأمر يمكنني أن أدفع بجسدي … اخلعي قناعكِ يا أليس … إنكِ طفلة صغيرة وجميلة خلف قناعكِ … تعالَي معي إلى حافة الهُوَّة … أوه، أنا ثَمِل جدًّا لدرجة تُعيقني أن أخبركِ بما أشعر.» نظَّف نظارته ذات الإطار الشبيه بصدفة السُّلَحفاة وكوَّمها في يده، فاندفعت العدستان متلألئتَين على الأرضية. انحنى النادل فاغرًا فاه وسط الطاولات وراءهما.

جلس مارتن بعينَين طارفتَين للحظة. تبادل بقيتهم النظرات. ثم انطلق ناهضًا على قدمَيه. «أرى غطرستك المتكَلَّفة بعض الشيء. لا عجب أنه لم يعُد بإمكاننا أن نتناول عشاءً لائقًا، والانخراط في محادثات لائقة … يجب أن أُثبت إخلاصي الرجعي، أن أُثبت …» بدأ يشد ربطة عنقه.

أخذ روي يُكرِّر: «اسمع أيها الهَرِم مارتن، اهدأ.»

«لن يوقفني أحد … يجب أن أُواجه صدق السواد … يجب أن أركض حتى نهاية الرصيف الأسود على النهر الشرقي وأُلقي بنفسي.»

ركض هيرف وراءه عبر المطعم إلى الشارع. ألقى معطفه عند الباب، وألقى بصدريته عند الناصية.

لهث روي مترنِّحًا أمام كتف هيرف: «يا إلهي، إنه يركض كالغِزلان.» التقط هيرف المعطف والصدرية، وطواهما تحت ذراعه وعاد إلى المطعم. كانا شاحبَين عندما جلسا على جانبَي أليس.

ظلَّت تسأل: «هل سيفعل ذلك حقًّا؟ هل سيفعل ذلك حقًّا؟»

قال روي: «كلا، بالطبع لا. سيذهب إلى المنزل؛ لقد كان يسخر منا لأننا خدعناه.»

«ماذا لو أنه فعل ذلك حقًّا؟»

قال جيمي بحزن: «أكره أن أراه … إنني أحبه كثيرًا. لقد أسمينا ابننا على اسمه. ولكن إذا كان يشعر حقًّا بالحزن الشديد فبأي حق نمنعه؟»

تنهَّدت أليس قائلة: «أوه يا جيمي، اطلب بعض القهوة.»

في الخارج، انطلقت سيارة إطفاء نائحة خفاقة هادرة في الشارع. كانت أياديهم باردة. ارتشفوا القهوة دون أن ينبسوا بكلمة.

•••

خرجت فرانسي من متجرٍ يبيع كل شيء بخمسة أو عشرة سنتات إلى زحمة رجوع الحشود إلى منازلها في نهاية اليوم في الساعة السادسة. كان داتش روبرتسون في انتظارها. كان يبتسم وقد تورَّد وجهه.

«عجبًا يا داتش ماذا …» علقت الكلمات في حلقها.

«ألَا يعجبك؟ …» سارا في شارع ١٤ حيث تدفَّقت غَمامة من الوجوه مارة بهما على كلا الجانبَين. كان يقول بهدوء: «كل شيء على ما يرام يا فرانسي.» كان يرتدي معطفًا ربيعيًّا باللون الرمادي الفاتح وقبعةً فاتحةً من اللبد لتتماشى معه. وتألَّق حذاء أوكسفورد جديد مدبَّب وأحمر في قدمَيه. «ما رأيكِ في الزي؟ قلت لنفسي إنه لم يكن هناك فائدةٌ من محاولة فعل أي شيء دون أن أبدوَ مترفًا من الخارج.»

«ولكن يا داتش كيف حصلت عليه؟»

«سرقت رجلًا في متجر للسيجار. يا إلهي، لقد كان الأمر سهلًا.»

«صه، لا تتحدَّث بصوتٍ عالٍ هكذا؛ قد يسمعك أحد.»

«لن يعرفوا ما الذي أتحدَّث عنه.»

•••

جلس السيد دينش في ركن مخدع السيدة دينش الذي يرجع لعهد لويس الرابع عشر. جلس منحني الجسم بالكامل لأعلى على كرسيٍّ صغيرٍ مُذهَّبٍ وردي الظهر وكرشه مسترخٍ على ركبتَيه. في وجهه الأخضر المترهِّل كان أنفه البدين والطيات الواصلة من حافتَي فتحتَي أنفه إلى زوايا فمه العريض يُكوِّنان مُثلَّثَين. كان يحمل كومةً من البرقيات في يده، وفي أعلاها رسالة مترجَمة في وُرَيقة زرقاء نَصُّها: عَجْز في فرع هامبورج بما يقارب ٥٠٠ ألف دولار، توقيع هاينز. بحث في كل مكانٍ عن الغرفة الصغيرة المزدحمة بأشياء لامعة، ورأى الحروف الأُرجوانية لعبارة «بما يقارب» تهتز في الهواء. ثم لاحظ أن الخادمة، التي كانت شاحبة البشرة من الخلاسيين وترتدي قلنسوةً منفوشة، قد دخلت إلى الغرفة وكانت تُحدِّق إليه. لمعت عينه عند رؤية صندوقٍ مُسطَّحٍ كبيرٍ من الورق المقوَّى كانت تحمله بيدَيْها.

«ما ذلك؟»

«شيء للسيدة يا سيدي.»

«أحضريه هنا … متجر هيكسون … وما حاجتها لشراء المزيد من الفساتين، أتقولين لي … هيكسون … افتحيه. إذا بدا باهظ الثمن فسأُرجعه.»

سحبت الخادمة بحذرٍ شديدٍ طبقةً من المناديل الورقية، كاشفةً عن فستان سهرة خوخي وأخضر بلون البازلاء.

وقف السيد دينش على قدمَيه مهمهِمًا: «يجب أن تتذكَّر أن الحرب لا تزال قائمةً … أخبريهم أننا لن نستلمه. أخبريهم أنهم أخطئوا العنوان.»

التقطت الخادمة الصندوق وهي تحني رأسها وخرجت رافعةً أنفها. جلس السيد دينش على الكرسي الصغير وبدأ ينظر في البرقيات مرةً أخرى.

جاء صوت صاخب من الغرفة الداخلية: «آنيي، آنيي» وتبعه رأس في قبعة من الدانتيل على شكل قبعة الحرية وجسم كبير في لباس نوم منفوش قبيح. «عجبًا يا جي دي، ماذا تفعل هنا في هذا الوقت من الصباح؟ إنني في انتظار مصفِّف الشعر الخاص بي.»

«إنه أمر مهم جدًّا … لقد تلقَّيت للتو برقيةً من هاينز. سيرينا يا عزيزتي، بلاكهيد ودينش في موقف سيئ من جميع الجوانب.»

جاء صوت الخادمة من خلفه: «نعم يا سيدتي.»

هزَّ كتفَيه ومشى نحو النافذة. شعر بالتعب والمرض والثِّقل. مرَّ بالشارع صبي على دراجة، وكان يضحك ووجنتاه متورِّدتَان. رأى دينش نفسه، شَعَر بنفسه لثانية جذَّابًا ونحيفًا يركض بلا شيء على رأسه في شارع باين قبل سنوات ينظر لكواحل الفتيات بطرف عينه. رجع إلى الغرفة. كانت الخادمة قد ذهبت.

استهلَّ قائلًا: «سيرينا، ألَا تستطيعين أن تفهمي جِدية الأمر؟ … إنه هذا الركود. وعندما يبلغ ذروته سيذهب سوق الحبوب بأكمله إلى الجحيم. إنه خراب، أؤكِّد لكِ …»

«حسنًا يا عزيزي، لا أفهم ما تتوقَّع مني أن أفعله حيال ذلك.»

«اقتصدي … اقتصدي. انظري إلى أي مدًى ارتفع سعر المطَّاط … هذا الفستان من متجر هيكسون …»

«حسنًا، لن تجعلني أذهب إلى حفلة بلاكهيد وأنا أبدو كمعلِّمة في مدرسة ريفية، أليس كذلك؟»

امتعض السيد دينش وهزَّ رأسه. «أوه لن تفهمي؛ ربما لن تكون هناك أي حفلة … اسمعي يا سيرينا، ليس ثمة لغو في الأمر … أُريدك أن تجهِّزي حقيبةً حتى نتمكَّن من الإبحار في أي يوم … أحتاج إلى فترة من الراحة. أفكِّر في الذهاب إلى مارينباد للاستشفاء … سيُفيدك ذلك جدًّا أيضًا.»

جاءت عينها في عينه فجأة. وأصبحت جميع التجاعيد الصغيرة في وجهها أعمق؛ فكان الجلد تحت عينَيها كبالون لعبة منكمش. اقترب منها ووضع يده على كتفها وكان يضمُّ شفتَيه ليقبِّلها عندما ثارت فجأة.

«لن أجعلك تتدخَّل بيني وبين صانعي ملابسي … لن أسمح بذلك … لن أسمح بذلك …»

«أوه، افعلي ما تُريدين.» غادر الغرفة ورأسه منحنٍ بين كتفَيه المنحدرَين السميكَين.

«آنييي!»

«نعم يا سيدتي.» عادت الخادمة إلى الغرفة.

ترامت السيدة دينش في منتصف أريكة صغيرة مستطيلة القوائم. كان وجهها أخضر. «من فضلك يا آني، أحضري لي زجاجةً من روح النشادر الحلو والقليل من الماء … ويمكنك يا آني أن تتصلي بمتجر هيكسون وتخبريهم بأن هذا الفستان قد أرجعناه عن طريق الخطأ … خطأ السائق، ورجاءً أن يعيدوا إرساله على الفور لأنني ينبغي أن أرتديه الليلة.»

•••

السعي وراء السعادةِ سعيٌ لا مناص منه … الحق في الحياة والحرية و… في ليلةٍ مظلمةٍ بلا قمر، يسير جيمي هيرف بمفرده في شارع ساوث ستريت. خلف المنازل على أرصفة الميناء تظهر السفن كهياكل عظميَّةٍ مظلَّلة في الليل. قال بصوت عالٍ: «بحق المسيح، أعترف أنني في حيرةٍ من أمري.» في كل ليالي أبريل هذه التي سار فيها يمشِّط الشوارع وحده، استحوذت ناطحة سحاب على اهتمامه؛ كانت بناية مخددة ناتئة لأعلى بنوافذ لامعة لا حصر لها كأنها ستسقط عليه من سماءٍ ذات سحابٍ تسوقه الرياح. تُمطر الآلات الكاتبة قُصاصات ورق مطليةً بالنيكل بتتابعٍ في أذنَيه. ووجوه فتيات عرض «الحماقات» (فوليز)، يُمجِّدها الراعي الفني زيجفيلد، تبتسم وتومئ له من النوافذ. إيلي في ثوب ذهبي، إيلي مصنوعة من رقائق ذهبيةٍ رفيعةٍ نابضةٍ بالحياة تمامًا تومئ من كل نافذة. وهو يتجوَّل حول مُربَّع سكني تلو الآخر بحثًا عن باب ناطحة السحاب ذات النوافذ المُبَهرجة الطنَّانة، حول مربعٍ سكني تلو الآخر ولم يعثر على الباب بعد. في كل مرةٍ يُغمض فيها عينَيه يستحوذ عليه الحلم، في كل مرةٍ يتوقَّف عن الجدل بصوتٍ مسموعٍ مع نفسه بعبارات معقولة ورنَّانة يستحوذ عليه الحلم. كي تُبقي على عقلك أيها الشاب عليك أن تفعل أحد أمرَين … من فضلك يا سيدي، أين باب هذا المبنى؟ أهو في الجهة الأخرى من المربع السكني؟ في الجهة الأخرى من المربع السكني … أحد بديلَين لا مناص منهما، أن ترحل في قميص ناعم متسخ أو أن تبقى في ياقةٍ نظيفةٍ قابلةٍ للنزع. ولكن ما الفائدة من قضاء حياتك كلها في الفرار من مدينة الدمار؟ ماذا عن حقك الذي لا مناص منه، المقاطعات الثلاث عشرة؟ يحل عقله العِبَارات، يمشي بإصرار. لا يوجد مكانٌ مُحدَّد يريد أن يذهب إليه. فقط لو كنت ما زلت أُومِن بالكلمات.

•••

هتف المراسل مبتهجًا عندما اعتصر راحة اليد السمينة التي امتدَّت إليه من فوق منضدة متجر السيجار: «كيف حالك يا سيد جولدشتاين؟ اسمي بروستر … إنني أكتب مقالةً عن موجة الجريمة لصالح صحيفة «نيوز».»

كان السيد جولدشتاين رجلًا يُشبه اليرقة في هيئته، وكان له أنف معقوف وملتوٍ بعض الشيء في وجهه الشاحب الذي تبرز خلفه أذنان يَقِظتان ورديتان على نحو غير متوقَّع. نظر إلى المراسل نظرة شك بعينَين مشدودتَين.

«إن لم يكن لديك مانع، أود أن أسمع شهادتك حول ليلة أمس … سوء الحظ …»

«لن تحصل على شهادة مني أيها الشاب. لن تفعل شيئًا سوى أن تطبعها فيحصل الأولاد والبنات الآخرون هكذا على الفكرة نفسها.»

«من المؤسف أن تشعر بذلك يا سيد جولدشتاين … هلَّا أعطيتني سكوتش روبرت برنز من فضلك؟ … يبدو لي أن الدعاية ضروريةٌ كالتهوية … فهي تسمح بدخول الهواء النقي.» قضم المراسل طرف السيجار وأشعله، ووقف ينظر بتمعُّن إلى السيد جولدشتاين عبر حلقةٍ ملتفةٍ من الدخان الأزرق. بدأ حديثه بانبهار: «كما ترى يا سيد جولدشتاين الأمر يسير بهذه الطريقة. نحن نتعامل مع الموقف من زاوية المصلحة الإنسانية … شفقة ودموع … كما تفهم. كان أحد المصوِّرين في طريقه إلى الخارج ليلتقط لك صورة … أُراهنك أنها ستزيد من حجم الأعمال في الأسبوعَين المقبلَين … أظن أنني سأُضطر إلى الاتصال به وإخباره ألَّا يأتي الآن.»

استهلَّ السيد جولدشتاين الحديث فجأة، قائلًا: «حسنًا، هذا الرجل كان يرتدي ملابس جيدة؛ معطفًا ربيعيًّا جديدًا وما إلى ذلك، وأتى لشراء علبة سيجار ماركة كاميل … وقال وهو يفتح العلبة ويأخذ سيجارًا ليدخِّنه: «ليلة جميلة.» ثم لاحظت أن الفتاة التي معه تضع غطاءً على وجهها.»

«إذن لم يكن شعرها مُتموِّجًا؟»

«كل ما رأيته كان أشبه بأغطية الوجه التي ترتديها السيدات في العزاء. وأول شيء عرفته هو أنها كانت خلف المنضدة، وكان معها مسدس مغروس في ضلوعي، وبدأت تتحدَّث … كما تعرف شيء من قبيل المزاح … وقبل أن أتمكَّن من التفكير كان الرجل قد أفرغ آلة تسجيل النقد، وقال لي: «هل معك أي نقود في بنطالك الجينز يا رجل؟» كنت أتصبَّب عرقًا …»

«أوَهذا كل شيء؟»

«بالطبع عندما وجدت شرطيًّا كانا قد رحلا وذهبا إلى الجحيم.»

«كم سرقا من المال؟»

«أوه، حوالي ٥٠ دولارًا أمريكيًّا، وستة دولارات من جيبي.»

«هل كانت الفتاة جميلة؟»

«لا أعرف، ربما كانت كذلك. أرغب في تحطيم وجهها. يجب أن يصدر حكم بالإعدام بالكرسي الكهربائي على هذَين الطفلَين … ألَا يوجد أمان في أي مكان؟ لمَ يجب على أي شخص أن يعمل إذا كان كل ما عليك فعله هو الحصول على مسدس والسطو على جيرانك؟»

«أتقول إنهما كانا يرتديان ملابس أنيقة … أتعني كالأغنياء؟»

«نعم.»

«أنا أعمل على نظرية أنه طالب جامعي وأنها فتاة مجتمع وأنهما يفعلان ذلك من أجل التسلية.»

«كان الرجل وغدًا حاد النظرات.»

«حسنًا، هناك رجال جامعيون حادُّو النظرات … فلتنتظر مقالةً بعنوان «قُطاع الطرق في العصر الذهبي» في صحيفة الأحد القادم يا سيد جولدشتاين … تصلك صحيفة «نيوز»، أليس كذلك؟»

هزَّ السيد جولدشتاين رأسه.

«سأُرسل لك نسخةً على أي حال.»

«أريد أن أرى هذَين الطفلَين مدانَين، هل تفهم؟ إذا كان هناك أي شيء يمكنني القيام به فسأفعله بالطبع … لم يعد هناك أمان … لا تهمني أي دعاية في ملحق صحيفة يوم الأحد.»

«حسنًا، سيحضر المصوِّر حالًا. أنا متأكِّد من أنك ستُوافق على طرح المسألة يا سيد جولدشتاين … حسنًا شكرًا جزيلًا لك … يوم سعيد يا سيد جولدشتاين.»

أخرج السيد جولدشتاين فجأةً مسدسًا جديدًا لامعًا من تحت المنضدة ووجَّهه نحو المراسل.

«أنت، على رِسلك.»

أطلق السيد جولدشتاين ضحكةً ساخرة. صاح بعدما خرج المراسل، الذي كان في طريقه بالفعل إلى مترو الأنفاق: «أنا مستعد لهم في المرة القادمة التي يأتون فيها.»

•••

خطب السيد هاربسيكورت قائلًا، وهو ينظر بلطف في عينَي إلين ويبتسم ابتسامته العريضة الباهتة: «عملنا يا عزيزتي السيدة هيرف هو أن نتدحرج على الشاطئ استباقًا لموجة الموضة قبل اندلاعها مباشرة، كما في ركوب ألواح التزلج.»

كانت إلين تحفر برقة بملعقتها في نصف ثمرة أفوكادو؛ فأبقت عينَيها في طبقها، وشفتَيها مفتوحتَين قليلًا؛ وشعرت بالراحة وبأنها نحيفة في فستانها الضيق ذي اللون الأزرق الداكن، فانتبهت خَجِلةً في وسط تشابك النظرات الجانبية والحديث الذي اتخذ نمط الغناء في المطعم.

«إنها موهبة لدرجة أنه يمكنني أن أتنبَّأ لك بأكثر ممَّا يمكنني التنبؤ به لأي فتاة أخرى، كما أنكِ أكثر جاذبيةً من أي فتاة عرفتها من قبل.»

سألت إلين، وهي تنظر إليه ضاحكةً: «أيمكنك التنبؤ؟»

«يجب ألَّا تدقِّقي في كل كلمة يتلفَّظ بها رجل هَرِم … فأنا لا أجيد التعبير عن نفسي … تلك دائمًا إشارة خطيرة. كلا، إنكِ تفهمين جيدًا، على الرغم من احتقاركِ للأمر بعض الشيء … اعترفي بذلك … ما نحتاجه في مثل هذه الدورية، أنا متأكد من أنه يمكنكِ أن تشرحيه لي بشكل أفضل بكثير.»

«بالطبع ما أنت بحاجةٍ لفعله هو أن تجعل كل قارئ يندمج في الأحداث من فوره.»

«وكأنها كانت تتناول الغداء هنا في فندق ألجونكوين.»

أضافت إلين: «ليس اليوم بل غدًا.»

ضحك السيد هاربسيكورت ضحكته القصيرة المصرصِرة، وحاول أن ينظر بعمق عبر القطرات الضاحكة المتلألئة كالذهب في عينَيها الرماديتَين. نظرت بوجه مُتورِّد لأسفل إلى النصف الفارغ الأحشاء لثمرة الأفوكادو في طبقها. ثم شعرت بنظرات التحديق الحادة للرجال والنساء الجالسين إلى الطاولات في أنحاء المكان كما لو أن هناك مرآةً وراءها.

•••

كان لفطائر البان كيك إحساس مُريح شبيه بالفِراء على لسانه. جلس جيمي هيرف في مطعم تشايلدز في وسط مجموعة مخمورة وصاخبة. كانت العيون، والشفاه، وفساتين السهرة، ورائحة اللحم المقدَّد والقهوة؛ ضبابيةً وخافقة من حوله. أكل الفطائر بشق الأنفس، وطلب المزيد من القهوة. شعر بتحسُّن. كان يخشى أن يُصاب بالإعياء. بدأ يقرأ في الجريدة. فكانت الأحرف تسبح وتنتشر كالزهور اليابانية. ثم رجعت واضحة، ومُنظَّمة، وتمر سَلسةً كعجينة سوداء وبيضاء فوق دماغه المنظَّم، الأبيض والأسود:

•••

كان للشباب المضلَّل عظيم الأثر المأساوي مرةً أخرى وسط وسائل البهجة المبهرَجة في منطقة كوني آيلاند، التي طُلِيت حديثًا لاستقبال الموسم عندما ألقى رجال بملابس مدنية القبضَ على داتش روبنسون ورفيقته، التي قيل إنها «قاطعة الطريق المتحرِّرة». الاثنان متهمان بارتكاب أكثر من ٢٠ جريمة سطو في بروكلين وكوينز. ظلَّت الشرطة تراقب الزوجَين لبضعة أيام. وكانا قد استأجرا شقةً صغيرة بمطبخ في ٧٣٥٦ جادة سيكروفت. نَمَت الشكوك أول مرة عندما نُقلت الفتاة، التي على وشك أن تصبح أمًّا، في سيارة إسعاف إلى مستشفى بريسبيتارية كنارسي. تفاجأ العاملون في المستشفى ممَّا بدا على روبنسون من الإمداد اللانهائي بالمال. كان للفتاة غرفة خاصة، وكانت الزهور والفواكه الباهظة الثمن تُرسل إليها يوميًّا، وكان هناك طبيب شهير يُستدعى للاستشارة بِناءً على طلب الرجل. وعندما وصلا للحظة تسجيل اسم الطفلة، اعترف الشاب للطبيب أنهما غير متزوِّجَين. فاتصل أحد العاملين في المستشفى بالشرطة بعد أن لاحظ الشبه بين المرأة والوصف الذي نُشر في صحيفة «إيفيننج تايمز» لقاطعة الطريق المتحرِّرة ورفيقها. راقب رجال في ثياب مدنية الزوجَين لبضعة أيام من عودتهما إلى الشقة في جادة سيكروفت، وقبضوا عليهما بعد ظهر اليوم.

القبض على قاطعة الطريق المتحرِّرة …

•••

سقطت قطعة من البسكويت الساخن على الصحيفة التي كان يقرؤها هيرف. نظر لأعلى فزعًا؛ وكانت ثمَّة فتاةٌ يهوديةٌ سوداء العينَين تجلس إلى الطاولة المجاورة تغمز له بعينها. أومأ وأشار لها كما لو كان يخلع قبعة. قال بغِلظة وبدأ يأكل البسكويت: «أشكركِ أيتها الحورية الجميلة.»

قال الشاب الذي كان جالسًا بجوارها، والذي بدا كمدرِّب ملاكمة محترف، بخُوار في أذنها: «هل انتهيت يا عزيزتي؟»

كانت أفواه الجالسين إلى طاولة هيرف مفتوحةً ضاحكة. أخذ الفاتورة وقال ليلة سعيدة على نحو غامض وخرج. كانت الساعة فوق مكتب أمين الصندوق تشير إلى الثالثة. كان الناس بالخارج لا يزالون يتجوَّلون حول دوار كولومبوس في بعثرة وضجيج. اختلطت رائحة الأرصفة المعبَّأة بالمطر مع عوادم السيارات، وكانت أحيانًا تهب نفحة من رائحة الأرض الرطبة والعشب النابت في الحديقة. وقف طويلًا عند الناصية لا يعرف أي طريق يسلك. كره العودة إلى المنزل في هذه الليالي. شعر بحزن غامض لإلقاء القبض على قاطعة الطريق المتحرِّرة ورفيقها. وتمنَّى لو كان بمقدورهما الفرار. كان يتطلَّع لقراءة أخبارهما كل يوم في الصحف. يا لهما من شيطانَين مسكينَيْن، هكذا قال لنفسه، ولديهما مولود جديد أيضًا.

في هذه الأثناء، بدأت الضوضاء تتصاعد خلفه في مطعم تشايلدز. فرجع ونظر من خلال النافذة إلى الشواية حيث كانت تَئز ثلاث كعكات زبد مهجورة. كان النُّدُل يجاهدون لإخراج رجل طويل يرتدي بِذلةً رسمية. وكان الرجل السميك الفك صديق الفتاة اليهودية التي كانت قد ألقت البسكويت يمنعه أصدقاؤه من التدخُّل. ثم شقَّ الحارس طريقه عبر الحشد. كان رجلًا قصيرًا عريض الكتفَين ذا عينَين متعبتَين غائرتَين كعينَي قرد. بهدوء وبلا اندفاع أطبق على الرجل الطويل. وفي لمح البصر كان قد ألقى به من الباب. بالخارج على الرصيف، نظر الرجل الطويل إلى مَن حوله مذهولًا وحاول التعديل من وضع ياقته. جاءت عربة الشرطة في تلك اللحظة مُجلجِلة. قفز اثنان من رجال الشرطة خارجَين من العربة وسُرعان ما ألقَيَا القبض على ثلاثة إيطاليين كانوا واقفين يتبادلون أطراف الحديث في هدوء عند الناصية. تبادل هيرف والرجل الطويل ذو البِذلة الرسمية النظرات، بالكاد تحدَّثا وسار في غاية الرصانة كلٌّ منهما في اتجاه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤