الفصل الخامس

عبء نَيْنَوى

متسرِّبًا في الشفق الأحمر من ضباب تيار الخليج، ضاربًا بوق السفينة النحاسي الذي يعوي عبر الشوارع ذات الأصابع المتيبِّسة، مُحدِّقًا للعيون الرقراقة الواسعة لناطحات السحاب، ناثرًا الرصاص الأحمر على الفخذَين ذوَي العوارض للجسور الخمسة، مُهيِّجًا زوارق السحب ذات المُواء دافعًا إياها نحو الحرارة تحت أشجار الدخانية المتساقطة في الميناء.

يُجعِّد الربيع أفواهنا، يُصيبنا الربيع بقُشَعريرة هائلة من أثر دَوِي صافرات الإنذار الراعدة بضجيج مخيف هائل عبر حركة المرور المتوقِّفة، بين مربعات سكنية متجمِّدة منتبهة كرءوس أصابع الأقدام.

مشى السيد دينش بياقة معطفه الفضفاض الصوفي مرفوعة حول أذنَيه وقبعة إنجليزية كبيرة مسحوبة لأسفل بعيدًا فوق عينَيه، متوتِّرًا جيئةً وذهابًا على السطح الرطب لسفينة فوليندام. نظر للخارج عبر المطر الكثير الرذاذ على أرصفة الميناء الرمادية ومباني الواجهة البحرية المحفورة في أفقٍ من المرارة التي لا يمكن تصوُّرها. ظلَّ يهمس قائلًا لنفسه: رجل محطَّم، رجل محطَّم. في النهاية دوَّت صافرة السفينة للمرة الثالثة. وقف السيد دينش، وأصبعاه في أذنَيه، وقد حجبه قارب نجاة، يشاهد صدع المياه القذرة بين جانب السفينة والرصيف يتسع أكثر فأكثر. ارتجف سطح السفينة أسفل قدمَيه مع تسارع حركة السفينة. بدأت مباني مانهاتن تمر به زاحفةً ورمادية كما لو كانت صورةً فوتوغرافية. أسفل سطح السفينة، كانت الفرقة الموسيقية تعزف لحن أغنية «أوه تيتين تيتين». العبَّارات الحمراء، وعبَّارات السيارات، وزوارق القطر، وصنادل الرمال، والمراكب الشراعية الخشبية، والبواخر الجوَّالة، كلها انجرفت بينه وبين المدينة الشاهقة المباني المعبَّأة بالبخار التي جمعت نفسها على شكل هرم وبدأت في الغرق ضبابيةً في مياه الخليج الخضراء المائلة إلى اللون البني.

ذهب السيد دينش بالأسفل إلى غرفته الخاصة. كانت السيدة دينش ترتدي قبعةً جرسية الشكل مُعلَّقًا عليها غطاء وجه أصفر، تبكي بهدوء ورأسها على سلة فاكهة. قال بصوت أجش: «كلا سيرينا.» وتابع: «كلا … إننا نُحب مارينباد … إننا بحاجة للراحة. وَضْعنا ليس بائسًا للغاية. سأذهب وأرسل برقيةً إلى بلاكهيد … في النهاية، عناده واندفاعه هما اللذان أوصلا الشركة إلى … إلى هذا. هذا الرجل يظن أنه مَلِك على الأرض … هذا سوف … هذا سيُضايقه. إذا كانت اللعنات قادرةً على القتل لأصبحتُ ميتًا غدًا.» لِدهشته وجد الخطوط الشاحبة الباهتة في وجهه تتشقَّق في ابتسامة. رفعت السيدة دينش رأسها وفتحت فمها لتتحدَّث إليه، غير أن الدموع قد غلبتها. نظر إلى نفسه في الزجاج، وفرد كتفَيه وعدَّل قبعته. قال بأثر من مرح في صوته: «حسنًا يا سيرينا، هذه نهاية مسيرتي المهنية … سأذهب لإرسال البرقية.»

•••

تُقبل الأم بوجهها عليه وتُقبِّله؛ فيتشبَّث بيدَيه في فستانها، وتذهب تاركةً إياه في الظلام، تاركةً رائحةً باقية ضعيفة في الظلام تُبكيه. يستلقي الصغير مارتن متقلِّبًا داخل قضبان مهده الحديدية. ساد الظلام الدامس جميع الأرجاء، ظلام رهيب، وأشخاص يتحركون، هادرين، مهتزين، زاحفين في جماعاتٍ عبر النوافذ، واضعين أصابعهم في صدع الباب. من الخارج يعلو هدير العجلات نحيب قابض على حلقه. أهرامات من الظلام مُكدَّسة فوقه تسقط عليه متجعِّدة. يصرخ، ويسكت بين الصرخات. تسير المربية نحو المهد على طول معبر ضوءٍ منقذ: «لا تخَف … ليس هناك ما يُخيف.» وجهها الأسود يبتسم له، ويداها السوداوان تُسوِّيان الأغطية. «هذه مجرد سيارة إطفاء تمر … لن تخيفك سيارة إطفاء.»

•••

رجعت إلين للخلف في سيارة الأجرة وأغمضت عينَيها لثانية. لم يكن بوسعها التخلُّص حتى بالاستحمام وقيلولة لنصف ساعة من إنهاك ذكرى المكتب، ورائحته، وصوت سقسقة الآلات الكاتبة، والعبارات المكرَّرة اللانهائية، والوجوه، والأوراق المكتوبة على الآلة الكاتبة. شعرت بالتعب الشديد؛ لا بد أن ثمة هالات تحت عينَيها. توقَّفت سيارة الأجرة. كان الضوء أحمر في إشارة المرور أمامها. وكانت الجادة الخامسة مكدَّسةً حتى حواف الأرصفة بسيارات الأجرة، والليموزين، والحافلات البخارية. كانت متأخِّرة؛ وقد تركت ساعة يدها في المنزل. فشعرت بالدقائق بطول الساعات كرصاص مُعلَّق حول رقبتها. جلست على حافة المقعد، وقبضتاها مشدودتان بإحكام لدرجة أنها استطاعت أن تشعر من خلال قفازَيها بأظافرها الحادة تحفر في راحتَيها. اندفعت سيارة الأجرة في النهاية إلى الأمام، وكانت هناك عاصفة من العوادم وأزيز المحرِّكات، وبدأت الكتلة المرورية في التحرُّك في حي ميري هيل. لمحت ساعةً عند إحدى النواصي. الثامنة إلا ربعًا. توقَّفت حركة المرور مرةً أخرى، صرخت مكابح سيارة الأجرة، ودُفعت إلى الأمام في مقعدها. رجعت للخلف وعيناها مغمضتان، والدم ينبض في صُدغَيها. كانت جميع أعصابها كأسلاك متشابكة حادة من الفولاذ تقطعها من الداخل. ظلَّت تسأل نفسها: «ماذا يهم؟ سينتظر. لست في عجلة لرؤيته. لنرَ، كم مربعًا سكنيًّا؟ … أقل من عشرين، ثمانية عشر.» لا بد أن الناس قد اخترعوا الأرقام كي لا يُجن جنونهم. إن جدول الضرب أفضل من الأخصائي النفسي كوي في علاج التوتُّر العصبي. ربما هذا ما ظنَّه الهَرِم بيتر ستويفسانت، أو مَن وضع أرقام الشوارع بالمدينة أيًّا مَن كان. كانت تبتسم لنفسها. بدأت سيارة الأجرة تتحرَّك مرةً أخرى.

كان جورج بالدوين يمشي ذهابًا وإيابًا في بهو الفندق، آخذًا نفثات قصيرةً من سيجارته. وكان ينظر في الساعة بين الحين والآخر. كان جسده كله مشدودًا متوتِّرًا كوتر آلة كمان عالي الصوت. كان جائعًا ومُفعمًا بأمور يريد أن يتحدَّث عنها؛ كان يكره أن يكون في انتظار أحد. عندما دخلت، باعثةً الارتياح والنعومة والابتسامة، أراد الذهاب إليها وضربها على وجهها.

قالت وهي تربت على ذراعه: «هل تُدرك يا جورج أن ما يحول بيننا وبين الجنون وجود الأرقام التي لا تعرف العاطفة أو الإحساس؟»

«إن الانتظار مدة ٤٥ دقيقةً كفيل لدفع أي شخص إلى الجنون، هذا كل ما أعرفه.»

«يجب أن أشرح ذلك. إنه نظام. أظن أن كل شيء قادم في سيارة أجرة … تذهب وتطلب أي شيء تريده. أنا ذاهبة إلى حمام السيدات لدقيقة … ورجاءً اطلب لي شراب المارتيني. أنا مُجهَدة الليلة، مُجهَدة للغاية.»

«أيتها الصغيرة المسكينة، بالطبع سأفعل ذلك … ولا تتأخري وقتًا طويلًا من فضلك.»

شعر بركبتَيه ضعيفتَين تحته، وكأن جليدًا يذوب وهو يدخل غرفة الطعام المزيَّنة بالكثير من الزخارف المذهَّبة. يا إلهي يا بالدوين أنت تتصرَّف كمراهق في السابعة عشرة من عمره … وبعد كل هذه السنوات أيضًا. لن تصل إلى أي شيء بهذه الطريقة … «حسنًا يا جوزيف، ماذا ستُقدِّم لنا لنأكله الليلة؟ أنا جائع … ولكن أولًا يمكنك أن تُرسل لي فريد ليعد أفضل كوكتيل مارتيني يصنعه في حياته.»

قال النادل الروماني الطويل الأنف بالفرنسية وهو يعطيه قائمة الطعام في زهو: «جيد جدًّا يا سيدي.»

ظلَّت إلين فترةً طويلة تنظر في المرآة، مزيلةً عن وجهها بعضًا من بودرة التجميل الزائدة، ومحاوِلةً عزم أمرها. وظلَّت تلف دمية مُتخيَّلة حول نفسها وتضعها في أوضاع متنوِّعة. تلت ذلك بعض الإيماءات، مثَّلتها على مراحل مختلفة كالعارضات. ثم ابتعدت فجأةً عن المرآة مع هز كتفَيها الشديدَي البياض وسارعت إلى غرفة الطعام.

«أوه يا جورج أنا جائعة، أتضوَّر جوعًا.»

قال بصوت طقطقة: «وأنا كذلك.» ثم أسرع بالقول كما لو كان خائفًا من مقاطعتها له: «ويا إلين، لديَّ أخبار لكِ.»

«وافقت سيسلي على الطلاق. سوف نسرع في الأمر بهدوء في باريس هذا الصيف. الآن ما أريد أن أعرفه هو، هل …؟»

انحنت وربتت على يده التي أمسكت بحافة الطاولة. «دعنا نتناول عشاءنا أولًا يا جورج … علينا أن نكون عقلانيين. الرب يعلم أننا أفسدنا الأمور بما فيه الكفاية في الماضي، كلانا … دعنا نشرب نخب موجة الجريمة.» كانت رغوة الكوكتيل الناعمة المتناهية الصغر مُهدِّئةً في لسانها وحلقها، وتوهَّجت تدريجيًّا بدفء عبر جسمها. نظرت إليه ضاحكةً بعينَين متلألئتَين. شرب كأسه على جرعة واحدة.

قال مُتوقِّدًا ضعيف الحيلة: «بحق الرب يا إلين، إنكِ أكثر الأشياء روعةً في العالم.»

شعرت خلال العشاء ببرودة جليدية تدريجية تتسرَّب داخلها كتأثير مخدر النوفوكين. لقد عزمت أمرها. بدا الأمر كما لو كانت قد التقطت صورةً لنفسها في مكانها، مُجمَّدةً إلى الأبد في إيماءة واحدة. كان ثمة شريط حريري غير مرئي من المرارة يضيق حول حلقها، يخنقها. خلف الصحون، والمصباح الوردي العاجي، وقطع الخبز المكسورة كان وجهه فوق مقدمة قميصه البيضاء يرتعش ويومئ، وتورَّدت وجنتاه، وأضاء المصباح أنفه حينًا من أحد جانبَيه وحينًا آخر من الجانب الآخر، وتحرَّكت شفتاه المشدودتان فصيحتَين فوق أسنانه الصفراء. شعرت إلين بأنها تجلس وكاحلاها متقاطعان، جامدةً كتمثالٍ خزفيٍّ تحت ملابسها، وبدا وكأن كل شيءٍ فيها يتصلَّب ويُطلَى بالمينا، وظهر الهواء بخطوطٍ زرقاء وسط دخان السجائر وكأنه قد استحال زجاجًا. كان وجهه المتخشِّب الأشبه بوجه دمية متحرِّكة يهتز فاقدًا الوعي أمامها. ارتجفت وحنت كتفَيها لأعلى.

اندفع قائلًا: «ما الأمر يا إلين؟» قالت كاذبة:

«لا شيء يا جورج … أظن أنني انتابتني القُشَعريرة.»

«هل يمكنني أن أُحضر لك معطفًا أو شيئًا من هذا القبيل؟»

هزَّت رأسها.

قال عندما نهضا من على الطاولة: «حسنًا ما رأيكِ؟»

سألت مبتسمة: «ماذا؟ أبعد العودة من باريس؟»

ثم قالت بهدوء: «أظن أنني أستطيع أن أتحمَّل إذا كنت تستطيع أنت أيضًا يا جورج.»

كان يقف في انتظارها عند الباب المفتوح لسيارة أجرة. رأته يقف متأهِّبًا ومتأرجحًا في الظلام يرتدي قبعةً تميل للون البني ومعطفًا بنيًّا فاتحًا، ومبتسمًا كبعض المشاهير في قسم التصوير الفوتوغرافي بصحف يوم الأحد. ضغطت تلقائيًّا على يده التي ساعدتها في ركوب السيارة.

قال مرتجفًا: «إلين، ستعني لي الحياة شيئًا الآن … يا إلهي، لو تعرفين كم كانت الحياة فارغةً لسنوات عديدة. لقد كنت كلعبة ميكانيكية من الصفيح، أجوف تمامًا من داخلي.»

قالت بصوت مختنق: «دعنا لا نتحدَّث عن الألعاب الميكانيكية.»

صرخ: «كلا، دعينا نتحدَّث عن سعادتنا.»

ضغط على شفتَيه بعناد مُوجِّهًا إياهما إلى شفتَيها. وخلف الزجاج المهتز لنافذة سيارة الأجرة، كشخص يغرق، رأت من زاوية عينها وجوهًا تدور، وأضواء الشوارع، وعجلات مسرعةً ذات وميض كوميض النيكل.

•••

يجلس الرجل الهَرِم ذو القبعة ذات النقشة المربعة على منحدر الحجر الأسمر الرملي ووجهه في يدَيه. ومع وهج برودواي في ظهورهم، ثمة سيل لا ينقطع من الأشخاص المارين به في الشارع باتجاه المسرح. يبكي الرجل الهَرِم من بين أصابعه وتفوح منه رائحة شراب الجن الكريهة. من حين لآخر يرفع رأسه ويصرخ بصوت أجش: «لا أستطيع، ألَا ترى، لا أستطيع؟» يبدو الصوت غير بشري كما لو كان صوت تصدُّع في لوح خشبي. أسرعت الخطى. ينظر الأشخاص في منتصف العمر في الاتجاه الآخر. وتُجلجِل فتاتان بالضحك عندما يرَونه. ويُحدِّق أطفال الشوارع المتدافعون داخلين وخارجين في الحشد المظلم. «شراب بام هوتش.» «سينال ما يستحق عندما يمر الشرطي في المربع السكني.» «حظر الخمور.» يرفع الرجل الهَرِم وجهه المبلَّل من بين يدَيه، مُحدِّقًا بعينَيه الداميتَين الضريرتَين. يتراجع الناس ويخطون على أقدام مَن وراءهم. وكالخشب المتشقِّق يخرج صوته. «ألَا ترى أنني لا أستطيع؟ … لا أستطيع … لا أستطيع.»

•••

عندما سقطت أليس شيفيلد وسط تدفُّق النساء الداخلات عبر أبواب متجر لورد آند تیلور وشعرت باقتراب رائحة الأشياء في فتحتَي أنفها، أخذ شيء ينقر في رأسها. ذهبت أولًا إلى منضدة بيع القفازات. كانت الفتاة صغيرةً للغاية، وكانت لها رموش سوداء طويلة منحنية وابتسامة جميلة، وتحدَّثتا عن تموُّجات الشعر الدائمة، بينما قاست أليس قفازًا رماديًّا من جلد الماعز، وآخر أبيض بحافة صغيرة كقفاز مُصفَّح. وقبل القياس، وضعت الفتاة بلباقة البودرة داخل كل قفاز من رجَّاج خشبي طويل العنق. طلبت أليس ستة أزواج.

«نعم. السيدة روي شيفيلد … نعم لديَّ حساب جَارٍ، ها هي بطاقتي … ستُرسل لي الكثير من الأشياء.» وكانت تقول لنفسها طوال هذا الوقت: «من السُّخف أن أرتدي الرث من الثياب طوال الشتاء … عندما تُرسل الفاتورة، سيُضطر روي أن يجد طريقةً لدفعها، هكذا ببساطة. حان الوقت لأن يتوقَّف عن أحلام اليقظة على أي حال. لقد دفعت له الفواتير بما فيه الكفاية عندما كان معي المال، يعلم الرب ذلك.» ثم بدأت تنظر إلى الجوارب الحريرية بلون البشرة. غادرت المتجر ورأسها لا يزال يدور من مشاهد مناضد البيع التي عليها أثر من ضباب كهربائي بنفسجي، والقطع المطرَّزة والمزيَّنة، والشراشيب، والحرائر المخضَّبة بألوان نبات الكبوسين، وكانت قد طلبت فساتين صيفيةً ومعطفًا للسهرة.

التقت في صالة ميلارد برجل إنجليزي طويل وأشقر ذي رأس مخروطي الشكل وشارب أشقر فاتح للغاية ومدبب الخصلات تحت أنفه الطويل.

«أوه يا باك، إنني أحظى بأعظم الأوقات. لقد كنت أذهب إلى متجر لورد آند تیلور كثيرًا بجنون. هل تعلم أنه لا بد أن عامًا ونصفًا قد مرَّ منذ آخر مرة أشتري فيها أي ملابس؟»

قال وهو يوجِّهها إلى إحدى الطاولات: «أيتها المسكينة. احكي لي.»

تركت نفسها ترتمي على كرسي فجأةً وهي تئن: «أوه يا باك، لقد سئمت للغاية من كل هذا … لا أعرف إلى متى يمكنني التحمُّل.»

«حسنًا، لا يمكنكِ إلقاء اللوم عليَّ … أنتِ تعرفين ما أُريدكِ أن تفعليه …»

«حسنًا، افترض أنني فعلت ذلك، ماذا إذن؟»

«سيكون أمرًا رائعًا، سننسجم معه مثل أي شيء … ولكن يجب أن نتناول القليل من حساء لحم البقر أو شيئًا من هذا القبيل. عليكِ أن تختاري.» ضحكت. «يا عزيزي القديم، ذلك ما أحتاجه بالضبط.»

«حسنًا، ما رأيكِ أن ننطلق إلى كالجاري؟ أعرف رجلًا هناك أظنه سيعطيني وظيفة.»

«أوه، لنذهب على الفور. لا أهتم بالملابس أو أي شيء … بإمكان روي أن يُرجع هذه الأشياء إلى متجر لورد آند تیلور … هل معك أي أموال يا باك؟»

أخذ التورُّد يتدفَّق إلى عظام وجنتَيه، وانتشر على صُدغه حتى أذنَيه المسطحتَين غير المنتظمتَين. «أعترف يا آل يا حبيبتي أنه ليس معي بنس واحد. يمكنني دفع ثمن الغداء.»

«أوه يا للهول، سأوقِّع شيكًا؛ فالحساب باسمَينا كلَينا.»

«سأوقِّعه باسمي في بيلتمور، إنهم يعرفونني هناك. عندما نصل إلى كندا سيكون كل شيء على ما يرام تمامًا، يمكنني أن أؤكِّد لكِ ذلك. في ظل سيادة صاحب الجلالة، فإن للاسم بوكمينستر وزنًا أكبر ممَّا له في الولايات المتحدة.»

«أوه، أعرف يا عزيزي؛ فلا يقيمون وزنًا لشيء سوى المال في نيويورك.»

عندما كانا يسيران في الجادة الخامسة، علَّقت ذراعها في ذراعه فجأة. «أوه يا باك، لديَّ شيء فظيع للغاية ينبغي أن أقوله لك. إنه يُشعرني بإعياء مميت … أنت تعرف ما قلته لك عن الرائحة الكريهة التي كانت لدينا في الشقة والتي ظنناها رائحة فئران، أليس كذلك؟ هذا الصباح قابلت المرأة التي تعيش في الطابق الأرضي … أوه يشعرني التفكير في الأمر بالإعياء. كان وجهها أخضر كلون تلك الحافلة … يبدو أن أحد المحقِّقين قد فتَّش في أنابيب المياه لديهم … وقد اعتقلوا المرأة في الطابق العلوي. أوه إنه أمر مقزِّز للغاية. لا أستطيع أن أُخبرك عنه … لن أعود إلى هناك أبدًا. سأموت إذا عدت … لم تكن هناك قطرة ماء في المنزل طيلة أمس.»

«ماذا كان الأمر؟»

«إنه أمر مروِّع للغاية.»

«أخبريني يا صغيرتي.»

«لن يعرفوك يا باك عندما تعود إلى منزلك في أوربن مانور.»

«ولكن ماذا كان في الأمر؟»

«كانت هناك امرأة في الطابق العلوي أجرت عمليات غير قانونية، عمليات إجهاض … كان هذا ما تسبَّب في انسداد أنابيب المياه.»

«يا إلهي!»

«كانت هذه بطريقة ما هي القشة التي قصمت ظهر البعير … وكان روي يجلس في وهَنٍ منكبًّا على صحيفته اللعينة في وسط تلك الرائحة النتنة بذلك التعبير القبيح الرهيب على وجهه.»

«أيتها الفتاة الصغيرة المسكينة.»

«ولكني يا باك لم أستطِع صَرْف شيك بأكثر من ٢٠٠ دولار … سيكون ذلك سحبًا على المكشوف بالفعل. هل سيُمكِّننا ذلك من الوصول إلى كالجاري؟»

«ليس على نحو مريح للغاية … هناك رجلٌ أعرفه في مونتريال يمكنه أن يعطيني وظيفةً في كتابة ملاحظات اجتماعية … من البغيض أن أفعل ذلك، ولكن يمكنني استخدام اسم مستعار. ثم يمكننا الفرار من هناك عندما نحصل على المزيد من المال أو أصداف البحر كما تسمينها … ماذا عن صرف هذا الشيك الآن؟»

وقفت في انتظاره بجانب مكتب المعلومات بينما ذهب هو لإحضار التذاكر. شعرت بالوحدة والصِّغر وسط قبو المحطة الأبيض الواسع. كانت حياتها كلها مع روي تمر على ذهنها كفيلم يُعرَض من نهايته لبدايته، أسرع وأسرع. عاد باك وهو يبدو سعيدًا ومسيطرًا، وكانت يداه مليئتَين بالدولارات وتذاكر السكة الحديدية. قال: «لا توجد قطارات قبل الساعة السابعة وعشر دقائق يا آل. أقترح أن تذهبي إلى سينما بالاس وتتركي لي تذكرةً في شباك التذاكر … سأُسرع وأحضر عدتي. لن أستغرق ثانية … ها هي خمسة دولارات.» وقد ذهب، وكانت تمشي بمفردها في شارع ٤٣ في أحد أيام شهر مايو الحارة في فترة ما بعد الظهيرة. لسبب ما أجهشت بالبكاء. حدَّق الناس إليها؛ فلم تكن تستطيع مَنْع نفسها عن البكاء. سارت بإصرار والدموع تنهمر على وجهها.

•••

«التأمين ضد الزلازل، هذا ما يُطلقون عليه! سيعود عليهم بالكثير من الخير عندما يحل غضب الرب على المدينة طاردًا من فيها بالدخان كعش دبابير ويلتقطها ويهزها كقطة تهز فأرًا … تأمين ضد الزلازل!»

تمنَّى جو وسكيني أن يرحل الرجل ذو اللحية الشبيهة بفرشاة تنظيف الزجاجات والذي كان يقف عند معسكرهما يغمغم ويصرخ. لم يعرفا ما إذا كان يتحدَّث إليهما أم إلى نفسه. تظاهرا أنه لم يكن هناك وواصلا بتوتر تحضير قطعة من لحم الخنزير للشواء على مشواة مصنوعة من إطار مظلة قديمة. أسفلهما ووراء الشريط الأخضر ذي المسحة الكبريتية للأشجار النامية كانت مياه نهر هدسون تتحوَّل إلى اللون الفضي في ضوء المساء والحاجز الأبيض لمنازل مانهاتن العلوية.

همس جو، مشيرًا بحركةٍ سريعةٍ ملتويةٍ حول أذنه: «لا تقُل شيئًا. إنه مجنون.»

كان سكيني قد أصابته القُشَعريرة أسفل ظهره، وشعر بأن شفتَيه تزداد برودة، فأراد أن يركض.

هكذا قال الرجل فجأةً: «أهذا لحم خنزير؟» بصوت خرخرةٍ يتسم بالعطف.

قال جو مرتجفًا بعدما توقَّف قليلًا: «نعم.»

«ألَا تعلمان أن الرب الإله نهى أبناءه عن أكل لحم الخنزير؟» رجع صوته إلى غنائها المغمغِم الصارخ. «جبرائيل، الأخ جبرائيل … أمن الصواب أن يأكل هؤلاء الأبناء لحم الخنزير؟ … بالطبع. المَلَك جبرائيل، إنه صديقٌ مقرَّب لي، انظرا، لقد قال إنه لا بأس هذه المرة إن لم تفعلا ذلك مرةً أخرى … انتبه يا أخي، ستحرقه.» كان سكيني قد نهض واقفًا على قدمَيه. «اجلس يا أخي. لن أُوذِيَك. أنا أفهم يا أبناء. إننا نُحب الأبناء أنا والرب الإله … أنتما تخافان مني لأنني مُشرَّد، أليس كذلك؟ حسنًا، دعاني أخبركما بشيء، لا تخافا أبدًا من المُشرَّدين. المُشرَّدون لن يؤذوكما، إنهم أشخاص طيبون. الرب الإله كان مُشرَّدًا عندما عاش على الأرض. يقول صديقي الملاك جبرائيل إنه عاش حياة المُشرَّدين كثيرًا … انظرا لقد أحضرت بعض الدجاج المقلي وأعطَتْني امرأة عجوز ملونة … يا ربي!» جلس متأوِّهًا على صخرةٍ بجانب الصبيَّين.

قال جو، وهو يؤدِّي بعض تمارين الإحماء: «كُنا سنلعب دور الهنود الحمر، ولكن الآن أظن أننا سنلعب دور المُشرَّدين.» أحضر المُشرَّد حُزمة صحفٍ من جيب معطفه غير محدَّد المعالم والذي خضَّرته عوامل الطقس، وبدأ يفكها بحرص. بدأت الرائحة الطيبة تأتي من لحم الخنزير. عاد سكيني للجلوس، ولا يزال يبتعد قدر المستطاع دون أن يفوته شيء. قسَّم المُشرَّد دجاجته عليهم وبدءوا في تناول الطعام معًا.

«جبرائيل أيها الكشافة الهَرِم، هلَّا نظرت إلى ذلك؟» شرع المُشرَّد في صراخه الغنائي الذي جعل الصبيَّين يشعران بالخوف مجدَّدًا. كان الظلام على وشك أن يحل. وكان المُشرَّد يصرخ وفمه ممتلئ بالطعام مشيرًا بعصا طبل نحو الأضواء الوامضة على شكل رُقعة شطرنج، المتواصلة في طريق ريفرسايد درايف. «يا إلهي، اجلس هنا دقيقةً وانظر إليها يا جبرائيل … انظر إلى العاهرة العجوز إن لم تكن تمانعني في التعبير. التأمين ضد الزلازل، يا إلهي إنهم بحاجة إليه أليس كذلك؟ هل تعلمان كم من الوقت استغرقه الإله في تدمير برج بابل يا رفيقيَّ؟ سبع دقائق. هل تعلمان كم من الوقت استغرقه الرب الإله في تدمير بابل ونَيْنَوى؟ سبع دقائق. الشر في مربع سكني واحد في مدينة نيويورك أكثر بكثير ممَّا كان في ميل مربع في نَيْنَوى، وكم من الوقت تظنان أن الرب إله السبت اليهودي سيستغرق في تدمير مدينة نيويورك وبروكلين وبرونكس؟ سبع ثوانٍ. سبع ثوانٍ … قل لي أيها الطفل، ما اسمك؟» خفض صوته إلى صوت الخرخرة المنخفض ومر على جو بعصا طبلته.

«جوزيف كاميرون باركر … نعيش في يونيون سكوير.»

«وما اسمك أنت؟»

«أنطونيو كاميرون … ويناديني أصدقائي سكيني. هذا هو قريبي. ولكن أهله غيَّروا اسمهم إلى باركر، أترى؟»

«تغيير اسمك لن يُفيد … لقد سجَّلوا جميع الأسماء المستعارة في كتاب الدينونة … والحق أقول لكما إن يوم الرب قد اقترب … بالأمسِ فقط قال لي جبرائيل: «حسنًا يا يونان، هل ندعها تنشق؟» وقلت له: «جبرائيل أيها الكشافة الهَرِم، فكِّر في النساء والأطفال والرُّضَّع الصغار الأبرياء. إن زلزلتها بزلزال ونار وكبريت من السماء فسيُقتلون جميعًا حالهم كحال الأغنياء والمذنبين»، وقال لي: «حسنًا أيها الحصان الهَرِم يونان، افعل ما يحلو لك … سنمنحهم مهلةً أسبوعًا أو أسبوعَين.» … ولكن من المروِّع التفكير في الأمر، أيها الرفيقان، النار والكبريت والزلزال وموجة المد وتحطُّم البنايات الطويلة بعضها في بعض.»

صفع جو سكيني فجأةً على ظهره. وقال هاربًا: «إنه دَورك.» تبعه سكيني متعثِّرًا على طول الطريق الضيق وسط الشُّجيرات. لحقه على الأسفلت. «يا إلهي، هذا الرجل مجنون.»

قاطعه جو: «اصمت، ألَا تستطيع؟» كان يختلس النظر إلى الوراء عبر الشُّجيرات. كانت رؤيةُ الدخان الرقيق المنبعث من النار الصغيرة التي أشعلاها أمام صفحة السماء؛ لا تزال بإمكانهما. أصبح المُشرَّد بعيدًا عن الأنظار. وكل ما كان بمقدورهما سماعه هو صوته المنادي: «جبرائيل، جبرائيل.» ركضا لاهثَين نحو المصابيح القوسية الآمنة ذات المسافات المتباعدة بانتظام ونحو الشارع.

•••

ابتعد جيمي هيرف من أمام الشاحنة؛ إذ كان رفرف السيارة قد لامس لتوه أسفل واقي المطر الذي كان يرتديه. وقف لحظةً خلف محطة القطارات السريعة بينما كانت الرقاقة الثلجية تذوب عن عموده الفقري. انفتح فجأةً أمامه باب سيارة ليموزين وسمع صوتًا مألوفًا لم يستطِع التعرُّف عليه.

«تعالَ يا سيد هيرف … هل يمكنني اصطحابك إلى مكان ما؟» عندما دخل دون تفكير، لاحظ أنه ركب سيارة رولز رويس.

كان الرجل البدين ذو الوجه الأحمر والقبعة الدربية هو كونغو. «اجلس يا سيد هيرف … إنني سعيد جدًّا برؤيتك. إلى أين كنت ذاهبًا؟»

«لم أكن في طريقي لأي مكان بعينه.» «تعالَ إلى المنزل، أريد أن أريك شيئًا. كيف حالك اليوم؟»

«أوه جيد؛ كلا أعني أنني في فوضى عفنة، ولكن كلا الأمرَين سواء.»

«غدًا، قد أكون في السجن … ستة أشهر … ولكن ربما لا.» ضحك كونغو من حلقه ومدَّ بحرص ساقه الاصطناعية.

«إذن لقد تمكَّنوا منك أخيرًا يا كونغو، أليس كذلك؟»

«إنها مؤامرة … ولكن لم يعُد اسمي كونغو جايك يا سيد هيرف. نادني أرماند. أنا متزوِّج الآن، واسمي أرماند دوفال، وأعيش في بارك أفينيو.»

«ماذا عن مَركِيز بلدية كولوماريس؟»

«ذلك لأغراض العمل فحسب.»

«إذن تبدو الأمور جيدةً تمامًا، أليس كذلك؟»

أومأ كونغو برأسه. «إذا ذهبت إلى أتلانتا، وهو ما لا آمل فيه، خلال ستة أشهر، فسأخرج من السجن مليونيرًا … يا سيد هيرف، إذا كنت بحاجة إلى المال، فما عليك سوى إخباري … يمكنني أن أُقرضك ١٠٠٠ دولار. أمامك خمس سنوات حتى تردها. أنا أعرفك.»

«أشكرك، ولكن ليس المال بالتحديد ما أحتاجه، وتلك هي المشكلة.»

«كيف حال زوجتك؟ … إنها جميلة جدًّا.»

«لقد تم بيننا الطلاق … قدَّمت لي الأوراق هذا الصباح … هذا كل ما كنت أنتظره في هذه المدينة الملعونة.»

عضَّ كونغو على شفتَيه. ثم ربت برفق على ركبة جيمي بالسبابة. «خلال دقيقة سنصل إلى المنزل … سأجلب لك شرابًا جيدًا جدًّا.» … ثم صاح كونغو في السائق، وهو يدلف إلى المدخل الرخامي للعمارة السكنية، بعرجة تنم عن الفخامة متكئًا على عصًا ذات قبضة ذهبية: «أجل، انتظر.» قال وهما يصعدان في المصعد: «ربما تبقى لتناول العشاء.» «يؤسفني أنني لا أستطيع الليلة، يا كوﻧ… يا أرماند.»

«لديَّ طباخ جيد جدًّا … عندما أتيت إلى نيويورك لأول مرة ربما قبل ٢٠ عامًا، كان هناك رجل على متن السفينة … هذا هو الباب، انظر إيه دي، أرماند دوفال. هربت أنا وهو بعيدًا معًا، ودائمًا يقول لي: «أرماند، أنت لن تنجح أبدًا، أنت كسول للغاية، وتركض وراء الشابات كثيرًا …» الآن يعمل طباخًا عندي … طاهٍ درجة أولى، طاهٍ بشريط أزرق، أليس كذلك؟ إن الحياة لشيء غريب يا سيد هيرف.»

قال جيمي هيرف وهو يميل إلى الخلف في كرسي إسباني عالي الظهر بالمكتبة المصنوعة من خشب شجر الجوز الأسود وفي يده كأس من شراب البوربون المعتَّق: «مرحى، هذا جيد. كونغو … أعني أرماند، إذا كنتُ إلهًا وكان عليَّ أن أُقرِّر من في هذه المدينة يجب أن يربح مليون دولار ومن يجب ألَّا يربح هذا المبلغ، أقسم أنك مَن كنت سأختار.»

«ربما تدخل السيدة بعد قليل. إنها جميلة جدًّا، سترى.» لوَّح بأصابعه حول رأسه مشيرًا لتجعُّدات شعرها. «إنها ذات شعر أشقر فاتح جدًّا.» عبس فجأة. «لكن يا سيد هيرف، إذا كان هناك أي شيء في أي وقت أستطيع أن أفعله من أجلك، مال أو مثل ذلك، ستخبرني، أليس كذلك؟ لقد مرَّت ١٠ سنوات إلى الآن وأنا وأنت صديقان جيدان … أتريد شرابًا آخر؟»

مع كأس بوربون ثالثة بدأ هيرف يتكلَّم. جلس كونغو يستمع وشفتاه الغليظتان مفتوحتان قليلًا، مع إيماءة برأسه بين الحين والآخر. «الفرق بيني وبينك هو أنك تصعد السلم الاجتماعي يا أرماند، بينما أنا أنزله … عندما كنتَ أنت خادمًا على متن قارب بخاري كنتُ أنا طفلًا صغيرًا بشعًا شاحب الوجه يعيش في فندق ريتز. تمتَّع أبي وأمي بجميع هذه الأشياء الضخمة من الرخام وخشب الجوز على طراز فيرمونت وبابل … لم يعد هناك شيء يمكنني فعله حيال ذلك … والنساء كالفئران، كما تعلم، يغادرْنَ السفينة الغارقة. سوف تتزوَّج هذا الرجل بالدوين الذي عُيِّن للتو في منصب المدعي العام. يُقال إنهم يُعدونه لمنصب حاكم المدينة بترشيحه عن حزب الإصلاح … إنه وهم السُّلطة، هذا ما يؤرِّقه. النساء يقعْنَ في حب ذلك للغاية. لو كنت أظن أنها ستعود عليَّ بأي نفع، أُقسم أنني كنت سأنشط وأنتفض وأجني ميلون دولار. لكنني لم أعد أشعر بأي إحساس عضوي من تلك الأشياء. يجب أن أمارس شيئًا جديدًا، مختلفًا … سيكون أبناؤك كذلك يا كونغو … لو كنت قد حصلت على تعليم لائق وبدأت في وقت مبكِّر بما يكفي لكنت قد أصبحت عالِمًا عظيمًا. لو كانت لي تجارب جنسية كثيرة لكنت قد أصبحت فنانًا أو متدينًا … ولكن ها أنا هنا بحق المسيح في الثلاثين من عمري تقريبًا ومتلهِّف جدًّا للعيش … لو كنتُ رومانسيًّا بما يكفي أظن أنني كنت سأقتل نفسي قبل وقت بعيد لا لشيء إلا لأجعل الناس يتحدَّثون عني. لا أملك من الثبات الذي يجعلني أنجح في شيءٍ حتى في أن أُصبح سِكيرًا.»

قال كونغو وهو يُعيد ملء الأكواب الصغيرة مبتسمًا ببطء: «يبدو يا سيد هيرف أنك تفكِّر زيادةً عن اللزوم.»

«بالطبع يا كونغو، بالطبع، ولكن ماذا سأفعل بحق الجحيم حيال ذلك؟»

«حسنًا عندما تحتاج إلى بعض المال، تذكَّر أرماند دوفال … هل تريد شرابًا آخر؟»

هزَّ هيرف رأسه. «يجب أن أغادر … إلى اللقاء يا أرماند.»

في القاعة الرخامية ذات الأعمدة، صادف نيفادا جونز. كانت مزينةً بزهور الأوركيد. «مرحبًا يا نيفادا، ماذا تفعلين في قصر الخطيئة هذا؟»

«أنا أعيش هنا، ما رأيك؟ … تزوَّجت من صديق لك حديثًا، أرماند دوفال. أُتريد أن تصعد وتراه؟»

«لقد رأيته لتوي … إنه لطيف للغاية.»

«إنه بالطبع كذلك.»

«ماذا فعلتِ مع الشاب توني هانتر؟»

اقتربَت منه وتحدَّثت بصوت منخفض. «فلتنسَ أمري وأمره فحسب، هلَّا فعلت؟ … يا إلهي، أنفاسك معبَّأة برائحة الشراب … توني هو أحد أخطاء القدر، لقد انتهت علاقتي به … وجدته ذات يوم يمضغ حواف السجادة متدحرجًا على أرضية غرفة الملابس لأنه كان يخشى أن يخونني مع أحد البهلوانات … أخبرته أنه من الأفضل أن يذهب ويكون على طبيعته وانفصلنا في حينها … ولكني بصراحة عازمة على أن أحظى بنعمة الزواج هذه المرة، بإخلاص، لذلك أرجوك لا تدع أحدًا يخبر أرماند بأي شيء حول توني أو بالدوين … على الرغم من أنه يعلم أنه لم يرتبط بتمثال من الجص للسيدة العذراء … لمَ لا تصعد وتأكل معنا؟»

«لا أستطيع. حظًّا سعيدًا يا نيفادا.» يخرج جيمي هيرف والويسكي دافئ في معدته ويشعر بوخز في أصابعه إلى بارك أفينيو في الساعة السابعة، حيث طنين سيارات الأجرة وتداخل روائح البنزين والمطاعم والشفق.

•••

كانت تلك هي الليلة الأولى التي يذهب فيها جيمس ميريفال إلى نادي متروبوليتان منذ أن اشترك فيه؛ فقد كان خائفًا أن يكون ذا أجواء قديمة الطراز لا تناسب عمره، مثله في ذلك مثل إمساكه بالعصا. جلس في كرسي جلدي عميق بجوار النافذة يدخِّن سيجارًا بخمسة وثلاثين سنتًا ويضع صحيفة «وول ستريت جورنال» على ركبته ونسخةً من صحيفة «كوزموبوليتان» مائلةً على فخذه اليمنى، وعيناه في الليل تصدعهما أضواء كالكريستال، وترك نفسه لأحلام اليقظة: الكساد الاقتصادي … ١٠ ملايين دولار … ركود ما بعد الحرب. سأُخبر العالم بالانهيار. «خسارة بلاكهيد ودينش ١٠ ملايين دولار» … غادر دينش البلاد منذ بضعة أيام … بلاكهيد منعزل عن العالم في منزله في منطقة جريت نيك. إحدى أقدم شركات الاستيراد والتصدير الأكثر احترامًا في نيويورك، ١٠ ملايين دولار. «أوه دائمًا ما يكون الطقس جميلًا عندما يجتمع الرفقاء الجيدون.» هذه هي ميزة العمل المصرفي. فحتى في حالة العجز، هناك أموال في متناول اليد، ضمانات. تنطوي هذه المقترحات التجارية دائمًا على هامش من المخاطرة. وتشملنا ذهابًا وإيابًا، أليس كذلك يا ميريفال؟ هذا ما قال بيركنز الهَرِم عندما خلط له كونينجام كوكتيل الجاك روز … «بقدح على الطاولة وأغنية جيدة ترن بوضوح.» لهذا الرجل علاقات جيدة. عرفت مايسي ما كانت تفعله بعد كل شيء … رجل في وضع كهذا من المحتمل دائمًا أن يتعرَّض للابتزاز. من الحماقة ألَّا يقاضيهم … الفتاة مجنونة، تزوَّجت من رجل آخر بالاسم نفسه … يجب أن تكون في مصحة، بحالة كتلك. يا إلهي، إنني لم أكشف الرجل لمصلحته. والظروف برَّأته تمامًا، حتى أمي اعترفت بذلك. «أوه، عانى سندباد في طوكيو وروما» … هذا ما اعتاد جيري عناءه. المسكين الهَرِم جيري لم يشعر قط بالانسجام في الطابق الأرضي لنادي متروبوليتان … فهو يأتي من نسل فقير. لنفكِّر في جيمي الآن … ليس لديه حتى هذا العذر، غير منسجم وفاشل، غير متكافئ منذ زمن بعيد … أظن أن الهَرِم هيرف كان شديد الجموح، إنه رحَّالة. لطالما سمعت أمي تقول إن الخالة ليلي كانت تصبر عليه كثيرًا. لا يزال يمكنه أن ينجح بكل ما لديه من مزايا … حالم، مهووس بالتجوُّل … تلك الأمور البوهيمية. وقد فعل له أبي كل شيء كما فعل لي … وهذا الطلاق الآن. والزنا … ربما هو على علاقة بعاهرة. ربما يكون مصابًا بالزهري أو شيء من هذا القبيل. خسارة ١٠ ملايين دولار.

فشل. نجاح.

نجاح بقيمة ١٠ ملايين دولار … ١٠ سنوات من النجاح المصرفي … في عشاء جمعية المصرفيين الأمريكيين ليلة أمس تحدَّث جيمس ميريفال، رئيس شركة بانك آند تراست، ردًّا على نخب «١٠ سنوات من الخدمات المصرفية المتقدمة» … يذكِّرني أيها السادة بالهَرِم الزنجي الذي كان مُغرَمًا للغاية بالدجاج … ولكن إذا سمحتم لي ببضع كلمات جادة في هذه المناسبة الاحتفالية (وميض التقاط صورة فوتوغرافية)؛ هناك ملاحظة تحذيرية أود أن أُعلنها … أشعر أنه من واجبي بصفتي مواطنًا أميركيًّا ورئيسًا لمؤسسة كبيرة على الصعيد الوطني، بل الدَّوْلي بعبارة أفضل، كلا، بل ذات صِلات وولاءات عالمية (وميض التقاط صورة فوتوغرافية) … أخيرًا تمكَّن جيمس ميريفال من رفع صوته فوق صوت التصفيق الراعد، واهتزَّ تأثرًا رأسه الأشيب كالفولاذ الباعث على الإجلال، وواصل حديثه … أيها السادة لقد شرَّفتموني كثيرًا … اسمحوا لي فقط أن أضيف أنه في كل المِحن والشدائد، والعجز وسط المياه المظلمة أو الازدراء والرفض للمنحدرات السريعة للتقدير الشعبي، وسط ساعات الليل التي لا تزال قصيرة، وفي هدير الملايين في الظهيرة، فإن عصاي التي أتوكَّأ عليها، خبز حياتي، مصدر إلهامي لطالما كان ولائي الثالوثي لزوجتي وأمي وعَلَم بلادي.

تهاوى الرماد الطويل لسيجاره وسقط على ركبتَيه. وقف جيمس ميريفال على قدمَيه وأزال برزانة الرماد الخفيف عن بنطاله. ثم جلس مرةً أخرى وبدأ بعبوس متعمَّد قراءة المقالة عن الصرف الأجنبي في صحيفة «وول ستريت جورنال».

•••

يجلسان على كرسيَّين بلا ظهر أو ذراعَين عند عربة الغداء.

«أخبرني يا بُني، كيف انضممت لهذا الزورق القديم بحق الجحيم؟»

«لم يكن هناك أي شيء آخر ذاهب إلى الشرق.»

«حسنًا، هل أنت متأكِّد من أنك قد سكبت مرق اللحم هذه المرة يا فتى؛ فالقائد مدمن مخدِّرات، والضابط الأول هو أسوأ محتال خارج إصلاحية سنج سنج، والطاقم بأكمله من عُمال الدرجة الثانية، القارب القديم لا يستحق الإنقاذ … ماذا كانت آخر وظيفةٍ لك؟»

«موظف لَيلي في فندق.»

«استمع إلى ذلك المجنون … يا إلهي، انظر إلى الرجل الذي سيتخلَّى عن وظيفةٍ جيدةٍ في فندقٍ فاخرٍ في مدينة نيويورك ليعمل خادمًا على متن اليخت البخاري لديفي جونز … ستصبح طباخًا بحريًّا رائعًا.» يتورَّد وجه الرجل الأصغر سنًّا. صرخ في وجه العامل الواقف إلى المنضدة: «ماذا عن ذلك الهامبورجر؟»

بعد أن تناولا الطعام، وبينما يُنهون احتساء قهوتهما، يستدير إلى صديقه ويسأله بصوتٍ منخفض: «قل لي يا روني، هل سافرت إلى الخارج من قبلُ … في الحرب؟»

«ذهبت إلى بلدة سان نازير عدة مرات. لماذا تسأل؟»

«لا أعرف … يُثيرني الأمر فحسب … لقد قضيتُ عامَين هناك. لم تعُد الأمور كما كانت. كنت أظن أن كل ما أردته هو الحصول على وظيفةٍ جيدةٍ وأن أنعم بالزواج والاستقرار، والآن لا أهتم بكل ذلك … يمكنني البقاء في وظيفةٍ لمدة ستة أشهر أو نحو ذلك، ثم أشعر بالرغبة العارمة في الرحيل، أترى؟ لذا ظننت أنه ينبغي أن أرى الشرق قليلًا …»

يقول روني وهو يهزُّ رأسه: «لا تلقِ بالًا. ستراه، لا تقلق.»

يسأل الشاب الرجل الواقف إلى المنضدة: «ماذا حلَّ بك؟»

«لا بد أنهم قد أخذوك صغيرًا.»

«كنت في السادسة عشرة من عمري عندما جُنِّدت.» يأخذ باقي نقوده ويتبع روني المتثاقل في مشيته العريضة إلى الشارع. عند نهاية الشارع وراء الشاحنات وأسطح المستودعات، يمكنه رؤية الصواري ودخان البواخر والبخار الأبيض يتصاعد في ضوء الشمس.

•••

يأتي صوت الرجل من فوق السرير: «أنزلي الستائر.»

«لا أستطيع، إنها تالفة … أوه يا للهول! ها هو كل شيء يسقط.» كادت آنا تنفجر في البكاء عندما سقطت اللفافة في وجهها، وقالت وهي متجهة نحو السرير: «أصلحها أنت.»

يقول الرجل ممسكًا بها وضاحكًا: «ولمَ أهتم، لا يمكنهم رؤيتنا بالداخل.»

تتأوَّه بضجر تاركةً نفسها مرتخيةً بين ذراعَيه: «فقط تلك الأضواء تزعجني.»

إنها غرفة صغيرة على شكل صندوق أحذية بسرير حديدي في ركن الجدار المقابل للنافذة. يرتفع هدير من الشوارع إليها صاخبًا بانعكاس على شكل حرف V في المبنى. على السقف، بإمكانها أن ترى التوهُّج المتغيِّر للافتات الكهربائية على طول برودواي، بيضاء، وحمراء، وخضراء، ثم مزيجًا كفقاعة تنفجر، ومرةً أخرى بيضاء، وحمراء، وخضراء.

«أوه يا ديك، أتمنَّى أن تُصلح تلك الستارة، تلك الأضواء تُصيبني بالتوتر.»

«لا بأس من الأضواء يا آنا؛ فكأننا في المسرح … إنه الطريق الأبيض المَرِح، كما اعتادوا القول.»

«هذه الأشياء جيدة بالنسبة لكم أيها الرجال خارج البلدة، ولكنها تُوترني.»

«إذن تعملين مع مدام سوبرين الآن، أليس كذلك يا آنا؟»

«تقصد أنني خائنة للإضراب … أعرف قصدك. لقد طردَتني المرأة العجوز وكان عليَّ إمَّا أن أجد عملًا وإمَّا أن أموت …»

«فتاة لطيفة مثلكِ يا آنا يمكنها دائمًا أن تجد حبيبًا.»

«وربي إنكم أيها المشترون مجموعة قذرة … تظن لأنني أواعدك أنني سأُواعد أي شخص … حسنًا، لن أفعل ذلك، هل تفهم؟»

«لم أقصد ذلك يا آنا … يا إلهي، أنت سريعة الغضب الليلة.»

«أظن ذلك لأنني متوتِّرة … هذا الإضراب، وطرد المرأة العجوز لي، والعمل لدى مدام سوبرين … هذا كفيل بأن يُجن جنون أي أحد. فليذهبوا جميعًا إلى الجحيم، هذا كل ما يهمني. لماذا لا يريدون أن يتركوا المرء وشأنه؟ لم أفعل شيئًا لإيذاء أي أحد قط في حياتي. كل ما أريده هو أن يتركوني وحدي وأن يدعوني أحصل على راتبي وأن أقضي وقتًا ممتعًا بين الحين والآخر … يا إلهي يا ديك إنه أمر فظيع … لا أجرؤ على الخروج إلى الشارع خوفًا من أن ألقى بعض فتيات الحي القديم الذي كنت أقطنه.»

«بحق الجحيم يا آنا، الأمور ليست بهذا السوء، صدقًا كنت سآخذك إلى الغرب معي لولا زوجتي.»

استمرَّ صوت آنا في تشنُّج هادئ: «والآن لأنني قد بدأت أُعجَب بك وأريد أن أقضي معك وقتًا ممتعًا تدعوني عاهرةً لعينة.»

«لم أقُل شيئًا من هذا القبيل. لم أفكِّر حتى في ذلك. كل ما ظننته هو أنكِ مقدامة ولست كالدمية المزعجة كمعظم الفتيات … اسمعي، إن كان ذلك سيجعلك تشعرين بتحسُّن فسأحاول إصلاح هذه الستارة.»

تجلس مستلقيةً على جانبها تشاهد جسده الثقيل وهو يتحرَّك أمام الضوء الأبيض بلون الحليب القادم من النافذة. وعاد إليها في النهاية بأسنانٍ مقعقِعة. «لا يمكنني إصلاح هذا الشيء الملعون … يا إلهي الجو بارد.»

«لا تهتم يا ديك، تعالَ إلى الفراش … لا بد أن الوقت قد تأخَّر. يجب أن أكون هناك في الثامنة.»

يسحب ساعته من تحت الوسادة. «إنها الثانية والنصف … أهلًا أيتها القطة صغيرة.»

على السقف، بمقدورها أن ترى انعكاسًا للتوهُّج المتغيِّر للافتات الكهربائية، بيضاء، وحمراء، وخضراء، ثم مزيجًا كفقاعة تنفجر، ومرةً أخرى بيضاء، وحمراء، وخضراء.

•••

قالت للخادمة الملوَّنة عندما أحضرت القهوة: «ولم يدعُني حتى لحضور حفل الزفاف … صدقًا يا فلورنس كان من الممكن أن أُسامحه لو كان دعاني إلى حفل الزفاف.» كان صباح يوم الأحد. كانت جالسةً في السرير والصُّحف منتشرةٌ على حِجرها. وكانت تنظر إلى صورة في قسم التصوير الفوتوغرافي مكتوب عليها السيد والسيدة جاك كونينجام يذهبان في جولتهما الأولى لشهر العسل في طائرته البرمائية الرائعة طراز الباتروس ٧. «يبدو وسيمًا أليس كذلك؟»

«هو كذلك بالفعل يا سيدتي … ولكن ألم يكن هناك أيُّ شيءٍ يمكنكِ فعله لإيقافهما يا سيدتي؟»

«لا شيء … تعلمين أنه قال إنه سيُودعني مصحةً عقليةً إن حاولتُ … إنه يعلم جيدًا أن الطلاق في يوكاتان ليس قانونيًّا.»

تنهَّدت فلورنس.

«هكذا هم الرجال يُؤذوننا نحن الفتيات المساكين.»

«أوه لن يستمر هذا طويلًا. يمكنكِ أن ترَي من وجهها أنها فتاة صغيرة أنانية بغيضة ومُدلَّلة … وأنا زوجته الحقيقية أمام الرب والناس. الرب يعلم أنني حاولت تحذيرها. فالذي جمعه الله لا يفرِّقه إنسان … هذا في الكتاب المقدس أليس كذلك؟ … هذه القهوة بشعة للغاية هذا الصباح يا فلورنس. لا أستطيع شربها. اخرجي على الفور وأعدِّي لي واحدةً جديدة.»

خرجت فلورنس بالصينية من الباب عابسةً محدِّبة كتفَيها.

أطلقت السيدة كونينجام تنهيدةً عميقةً واستقرَّت بين الوسائد. كانت أجراس الكنيسة تدق في الخارج. قالت للصورة: «أوه يا جاك يا حبيبي حبي لك كما هو.» ثم قبَّلت الصورة. «استمع يا عزيزي، بدت أجراس الكنيسة هكذا في اليوم الذي هربنا فيه من حفل المدرسة الثانوية الراقص وتزوَّجنا في مدينة ميلواكي … لقد كان صباح يوم أحد جميل.» ثم حدَّقت في وجه السيدة كونينجام الثانية. قالت وهي تغرز أصبعها فيها: «أوه أنتِ.»

•••

عندما وقفت على قدمَيها وجدت أن قاعة المحكمة كانت تدور ببطء شديد على نحو مُثير للغثيان، وكان القاضي الأبيض ذو وجه السمكة بنظارته المستندة على أنفه، والوجوه، ورجال الشرطة، والحضور بالزي الرسمي، والنوافذ الرمادية، والمكاتب الصفراء، كلها تدور في رائحة قريبة مقزِّزة، وكان محاميها بأنفه الأبيض الأشبه بأنف صقر يمسح رأسه الأصلع، عابسًا، تدور وتدور حتى ظنَّت أنها ستتقيَّأ. لم تستطع سماع كلمة ممَّا قيل، وظلَّت ترمش لتُزيل التشويش عن أذنَيها. كان بمقدورها الشعور بداتش خلفها منحنيًا ورأسه بين يدَيه. لم تجرؤ على النظر خلفها. ثم بعد ساعات كان كل شيء حادًّا وواضحًا، وبعيدًا للغاية. كان القاضي يصرخ عليها ممَّا يشبه طرف قُمع صغير، وكانت شفتاه العديمتا اللون تتحرَّكان للداخل والخارج كفم سمكة.

«… والآن بصفتي رجلًا ومواطنًا في هذه المدينة العظيمة أُريد أن أقول بعض الكلمات للمتهمين. باختصار، يجب أن تتوقَّف مثل هذه الأشياء. الحقوق غير القابلة للتفاوض لحياة البشر وممتلكاتهم التي نَص عليها في الدستور الرجال العظماء الذين أسَّسوا هذه الجمهورية يجب إعادتها إلى سابق عهدها. إنه واجب كل رجلٍ سواء داخل منصب رسمي أو خارجه أن يحارب هذه الموجة من الفوضى بجميع الوسائل التي يقدر عليها. ومن ثم على الرغم ممَّا فعله كتاب الصُّحف العاطفيون الذين يُفسدون العقل العام ويزرعون في رءوس الضعفاء وغير الأسوياء أمثالكم فكرة أنه من الممكن مخالفة قانون الرب والإنسان، والاعتداء على الممتلكات الخاصة، وأنه بمقدوركم أن تنتزعوا بالقوة من المواطنين المسالمين ما اكتسبوه بالعمل والتفكير الجاد … وأن تُفلتوا من العقاب، على الرغم ممَّا يُسمِّيه هؤلاء الصحفيون من الكتاب الرديئين والدجالين بالظروف التخفيفيَّة، فأُطبِّق عليكما يا قاطعي الطرق أقصى درجات الصرامة في القانون. لقد حان الوقت لتقديم مثال …»

ارتشف القاضي شربة ماء. كان بإمكان فرانسي رؤية قطرات العرق الصغيرة تبرز كالخرز من مسام أنفها.

صاح القاضي: «لقد حان الوقت لتقديم مثال. ليس لأنني لا أشعر كأب حنون ومحب بالمِحَن، ونقص التعليم والقدوة، وافتقار المنزل لمحبة وعطاء الأم الذي قاد هذه الشابة إلى حياة الفسق والبؤس، حيث قادتها إغراءات الرجال القساة والشرهين وإثارة ومكر ما أسمَوه، وأحسنوا تسميته، بعصر الجاز. ولكن، في اللحظة التي تكون فيها هذه الأفكار على وشك أن تُهدِّئ الغضب الصارم للقانون بالرحمة، تلوح في الأذهان الصورة المُلِحة لفتياتٍ صغيراتٍ أخريات، ربما المئات منهن في هذه اللحظة بهذه المدينة العظيمة على وشك الوقوع في براثن غاوٍ وحشي عديم الضمير مثل هذا الرجل روبرتسون … لا يوجد عقاب كافٍ له ولمَن على شاكلته … وأتذكَّر أن الرحمة في غير محلها غالبًا ما تستحيل قسوةً على المدى الطويل. كل ما يمكننا فعله هو أن نذرف دمعةً على الأنوثة الآثمة، وأن نُصلِّي من أجل الطفل البريء الذي جلبته هذه الفتاة التعيسة إلى العالم ثمرةً لعارها …»

شعرت فرانسي بوخز بارد بدأ في أطراف أصابعها وزحف إلى ذراعَيها ليُشعرها بغثيان ودُوَار وتشوُّش في جسدها. وكان بإمكانها سماع الهمس في أرجاء القاعة، حيث كانوا جميعًا يلعقون شفاههم هامسين بهدوء: «٢٠ عامًا، ٢٠ عامًا.» قالت لنفسها كما لو كانت تخاطب صديقًا: «أظن أنني سأُصاب بالإغماء.» تهشَّم كل شيء واستحال إلى سواد.

•••

يستند فينياس بي بلاكهيد جالسًا ولاعنًا إلى خمس وسائد في وسط سريره الواسع من خشب الماهوجني على الطراز الاستعماري بثمرات أناناس منقوشة في أعمدته، ووجهه بنفسجي بلون روبه الحريري. كانت غرفة النوم الكبيرة المفروشة بأثاث من خشب الماهوجني مُعلَّقةً بها قطعة قماش جاوية مطبوعة بدلًا من ورق الحائط، وكانت فارغةً باستثناء خادم هندوسي يرتدي سترةً بيضاء وعمامةً كان يقف في مؤخرة السرير ويداه على جانبَيه، ويحني رأسه من حين لآخر أمام عاصفة من الشتائم الصاخبة، ويقول: «أجل يا سيدي، أجل يا سيدي.»

«بحق المسيح الحي لتُحضر لي أيها السيد الحقير اللعين ذلك الويسكي وإلا فسأقوم وأكسر كل عظمةٍ في جسدك، هل تسمعني، يا إلهي، ألَا يمكنني أن أُطاع في بيتي؟ عندما أقول ويسكي أعني الجاودار وليس عصير البرتقال. اللعنة. تعالَ وخذ هذا!» رفع إبريقًا من الزجاج المنحوت من فوق منضدة السرير الجانبية ورماه للخادم الهندي. ثم غاص مُجدَّدًا على الوسائد، واللعاب يغلي على شفتَيه، لاهثًا لالتقاط أنفاسه.

مسح الهندوسي في صمت بساط البلوشستاني السميك وانسلَّ خارجًا من الغرفة وفي يده كومة من الزجاج المكسور. أصبح بلاكهيد يتنفَّس بسهولة أكبر، وغرقت عيناه في تجاويفهما العميقة وضاعت في ثنايا جفنَيه الأخضرَين المترهِّلَين.

بدا نائمًا عندما دخلَت جلاديس مرتديةً معطفًا للمطر وممسكةً بمظلة في يدها. اقتربت من النافذة تمشي على رءوس أصابعها ووقفت تنظر إلى الشارع الممطر الرمادي والمنازل القديمة ذات الحجارة البنية التي تُشبه القبور في الجهة المقابلة. لجزء من الثانية كانت فتاةٌ صغيرة تدخل في ثوب نومها لتناول الإفطار في صباح يوم الأحد مع والدها في سريره الكبير.

أفاق جافلًا ينظر إليها بعينَين محتقنتَين بالدم، حيث تضيق عضلات فكه الثقيلة تحت جلده الشاحب الضارب إلى اللون الأرجواني.

«حسنًا يا جلاديس، أين ويسكي الجاودار الذي طلبته؟»

«أوه يا أبي أنت تعرف ما قاله الدكتور ثوم.»

«قال إنه سيقتلني تناول مشروب آخر … حسنًا، لم أمُت بعد، أليس كذلك؟ إنه حمار ملعون.»

«أوه ولكن يجب أن تعتني بنفسك ولا تنفعل كثيرًا.» قبَّلته ووضعَت يدًا رقيقة باردة على جبهته.

«ألم يكن لديَّ سبب لأنفعل؟ لو كنت قد أمسكت بعنق ذلك الوغد الجبان القذر … كنا سنتجاوز محنتنا لو لم يكن قد فقد أعصابه. أستحقُّ ما حدث لي لاتخاذي هذا التافه الحقير شريكًا … ٢٥، ٣٠ عامًا من العمل ذهبت جميعها إلى الجحيم في ١٠ دقائق … طوال ٢٥ عامًا كانت لكلمتي قيمتها النقدية. أفضل شيء أفعله هو أن ألحق بالشركة إلى مدينة توفة التَّوراتية، إلى الجحيم معي. وبحق المسيح الحي، فلذة كبدي قل لي ألَّا أشرب … يا إلهي القدير. أنت يا بود … يا بوب … أين ذهب ذلك الساعي اللعين؟ أنتم، فليأتِ أحدكم إلى هنا يا أبناء الكلاب، لمَ تظنون أنني أدفع لكم رواتبكم؟»

أظهرت ممرضة رأسها من الباب.

صاح بلاكهيد: «اخرجي من هنا، لا أريد أيًّا منكن أيتها العذراوات المثيرات حولي.» ألقى الوسادة من تحت رأسه. اختفت الممرضة. اصطدمت الوسادة بأحد الأعمدة وارتدَّت مرةً أخرى على السرير. أجهشت جلاديس بالبكاء.

«أوه يا أبي، لا أستطيع تحمُّل ذلك … والجميع يحترمك دائمًا … حاول السيطرة على نفسك يا أبي العزيز.»

«ولمَ يجب أن أفعل ذلك بحق المسيح؟ … انتهى العرض، لماذا لا تضحكين؟ أُسدل الستار. الأمر كله مزحة، مزحة قذرة.»

بدأ يضحك بهذيان، ثم اختنق، وعانى في التقاط أنفاسه قابضًا يدَيه مرةً أخرى. قال في النهاية بصوت مبحوح: «ألَا ترين أن الويسكي وحده هو ما جعلني أُواصل في الحياة؟ اذهبي واتركيني يا جلاديس وأرسلي لي ذلك الهندي الملعون. لطالما أحببتكِ أكثر من أي شيءٍ في العالم … تعلمين ذلك. أخبريه بسرعة أن يُحضر لي ما طلبته.»

خرجت جلاديس باكية. كان زوجها بالخارج يخطو ذهابًا وإيابًا في الردهة. «إنهم هؤلاء الصحفيون الملعونون … لا أعرف ماذا أقول لهم. يقولون إن الدائنين يريدون المحاكمة.»

قاطعت الممرضة قائلة: «السيدة جاستون، يؤسفني أنكم ستُضطرون لجلب ممرِّضين ذكور … حقيقةً لا يمكنني فعل أي شيء معه …» في الطابق السفلي كان الهاتف يرن.

عندما أحضر الهندوسي زجاجة الويسكي ملأ بلاكهيد كأسًا وارتشف جرعةً عميقة منها.

«آه، هذا يجعلك تشعر بتحسُّن، إنه كذلك فعلًا بحق المسيح الحي. إنك رجل جيد يا أتشميت … حسنًا أظن أنه سيتعيَّن عليك مواجهة الواقع وبيع كل شيء … الحمد للرب أن جلاديس قد استقرَّت في حياتها. سأبيع كل شيء ملعون لدي. أتمنَّى ألَّا يكون زوج ابنتي الغالي مُغفَّلًا. فمن حظي دائمًا أن أكون محاطًا بالكثير من المغفلين … بحق الرب سأذهب إلى السجن إن كان ذلك في صالحهما بأي شكل. لمَ لا؟ فهذا كل ما لي في حياتي. وبعد ذلك عندما أخرج سأحصل على وظيفة بحار أو حارس على رصيف الميناء. سيروق لي ذلك الأمر. لماذا لا آخذ الأمر ببساطة بعد إفساد الأمور طوال حياتي، أليس كذلك يا أتشميت؟»

قال الهندوسي منحنيًا: «بلى يا سيدي.»

قلَّده بلاكهيد قائلًا: «بلى يا سيدي … دائمًا توافقني يا أتشميت، أليس هذا مضحكًا؟» بدأ يضحك ضحكةً مخشخشة مختنقة. «أظن هذه هي الطريقة الأسهل.» ضحك أكثر فأكثر، ثم فجأةً لم يستطع مواصلة الضحك. فقد سرى تشنُّج في جميع أطرافه. لوى فمه في محاولةٍ للتحدُّث. تجوَّل بناظرَيه للحظة في أرجاء الغرفة، كانت عيناه عينَي طفل صغير تتألمان قبل أن تجهشا بالبكاء، حتى تراجع عارجًا، وفمه المفتوح يعض على كتفه. نظر إليه أتشميت بهدوء لوقت طويل ثم اقترب منه وبصق في وجهه. وعلى الفور أخرج منديلًا من جيب سترته الكَتانية ومسح البصاق عن جلده العاجي اللون المشدود. ثم أغلق فمه وأسند جسده وسط الوسائد وخرج بهدوء من الغرفة. جلست جلاديس في الصالة على كرسي كبير تقرأ مجلة. «السيد أفضل بكثير، ربما ينام قليلًا.»

قالت: «آه يا أتشميت، أنا سعيدة للغاية»، وعادت للنظر في مجلتها.

•••

نزلت إلين من الحافلة عند ناصية الجادة الخامسة وشارع ٥٣. كان الشفق الوردي يتدفَّق من الغرب اللامع، متلألئًا في أضواء نحاسية ونيكلية، فوق الأزرار، في عيون الناس. كانت جميع النوافذ على الجانب الشرقي للجادة من الطريق مضاءة. عندما وقفت مثبتة الأسنان على الرصيف تنتظر العبور، لامس وجهَها محلاق ضعيف عَطِر. وكان ثمة فتًى نحيف ذو شعر أشقر أشعث يرتدي قبعةً تبدو أجنبيةً يعرض عليها قَطْلَبًا في سلة يحملها. اشترت طاقةً ودسَّت أنفها فيها. قد تذوب الغابة كالسكر أمام فمها.

انطلقت صافرة، واحتكت التروس حيث بدأت السيارات تتدفَّق من الشوارع الجانبية، وامتلأ مكان العبور بالناس. شعرت إلين بالفتى يلمسها وهو يعبر بجانبها. فابتعدت عنه. وسط رائحة القَطْلَب اشتمَّت رائحة أخرى وهي رائحة جسده غير النظيف، رائحة المهاجرين، رائحة جزيرة إيليس، رائحة الشُّقَق المكدَّسة. وأسفل كل الشوارع المطلية بالنيكل والذهب وأجواء شهر مايو الربيعية، أزعجها شعورها برائحة التجمهر، التي انتشرت في الظلام، جماهير رابضة مثل الروائح النتنة التي تنبعث من البالوعات الفاسدة، كالغوغاء. سارت مسرعةً في الشارع المتقاطع. ودخلت من باب بجانب صفيحةٍ نحاسيةٍ صغيرةٍ مصقولةٍ ناصعة.

مدام سوبرين
أردية

لقد نسيت كل شيء وسط الرائحة الشبيهة برائحة القطط لمدام سوبرين نفسها، وهي امرأة بدينة سوداء الشعر ربما كانت روسية، والتي خرجت إليها من خلف ستارة باسطةً ذراعَيها، بينما ينتظر العملاء الآخرون على الأرائك في صالون على طراز الإمبراطورة جوزفين، وينظرون في غِبطة.

صاحت بلغة إنجليزية مثالية للغاية: «عزيزتي السيدة هيرف، أين كنت؟ لقد جهَّزنا فستانك منذ أسبوع. آهٍ يا عزيزتي، انتظري أنتِ … إنه رائع … وكيف هو السيد هاربسيكورت؟»

«لقد كنت مشغولة جدًّا … كما ترَين فأنا سأترك وظيفتي.»

أومأت مدام سوبرين برأسها ورمشت دليلًا على معرفتها، وقادتها عبر الستائر المزخرفة إلى الجزء الخلفي للمتجر.

بمزيج من الفرنسية والإنجليزية: «آه، يبدو … لست مضطرةً للعمل، يمكنكِ بالفعل أن تلاحظي ظهور بعض التجاعيد الصغيرة. ولكنها ستختفي. اعذريني يا عزيزتي.» عصرتها الذراع السميكة حول خصرها. ابتعدت إلين قليلًا … صاحت في صيحة حادة مزعجة كطائر الغِرْغِر، قائلةً بمزيج من الفرنسية والإنجليزية: «إنكِ أجمل امرأة في نيويورك … أحضري يا أنجيليكا فستان سهرة السيدة هيرف.»

دخلت فتاة شقراء مرهقة ذات وجنتَين غائرتَين ومعها فستان على مِشجَب. خلعت إلين بذلتها الخفيفة الرمادية المفصَّلة. استدارت السيدة سوبرين حولها، مُخرخِرة. بمزيج من الإنجليزية والفرنسية: «انظري يا أنجيليكا إلى هذَين الكتفَين، ولون الشعر … آه إنه الحلم»، واقتربت جدًّا بعض الشيء كقطةٍ تريد أن تحك ظهرها. كان الفستان باللون الأخضر الفاتح مع شق قرمزي وأزرق داكن.

«هذه آخر مرة أرتدي فيها فستانًا كهذا، لقد سئمت ارتداء الأزرق والأخضر دائمًا …» كانت السيدة سوبرين، وفمها مليء بالدبابيس، عند قدمَيها، منهمكةً دون داعٍ في ذيل الفستان.

كانت تتمتم وشفتاها شبه منغلقتَين: «إنها البساطة اليونانية المثالية، مشدود جيدًا مثل الإلهة ديانا … روحانية مع الربيع … أقصى درجات ضبط النفس كالسبَّاحة أنيت كيليرمان، ممسكةً بشعلة الحرية، العذراء الحكيمة.»

كانت إلين تقول لنفسها: إنها محقة، تغيَّر شكلي كثيرًا. تقف ناظرةً إلى نفسها في مرآة الحائط الطويلة. سأفقد قوامي، ممَّا يؤدِّي إلى التردُّد كثيرًا في سن اليأس على صالونات التجميل، واللجوء إلى استعمال العديد من مستحضرات التجميل، وإلى عمليات تجميل الوجه.

قالت الخيَّاطة بالفرنسية وهي تقف عند قدمَيها وتأخذ الدبابيس من فمها: «انظري إلى هذا يا عزيزتي؛ إنه تحفةُ متجر سوبرين.»

شعرت إلين بالسخونة فجأة، كما لو كانت قد تعثَّرت في شبكة شائكة، إحساس خانق مروِّع بسبب الحرير المصبوغ والكريب والموسلين كان يؤلم رأسها؛ فحرصت على الخروج إلى الشارع مرةً أخرى.

صرخت الفتاة الشقراء فجأة: «أشم رائحة دخان، هناك شيء ما.» هسهست مدام سوبرين: «صه.» اختفت كلتاهما عبر باب مغطًّى بمرآة.

تحت كوَّة في الغرفة الخلفية لمتجر سوبرين تجلس آنا كوهين تخيط قصاصةً في فستان بغرز صغيرة سريعة. على الطاولة أمامها ترتفع كومة كبيرة من التُّلِّ الشديد اللمعان كبياض بيضة مخفوق. تُدندن: «تشارلي يا بُني، أوه تشارلي يا بُني» تخيط المستقبل بغرز صغيرة وسريعة. إن كان إلمير يريد الزواج مني فربما أنا كذلك؛ المسكين إلمير، إنه فتًى لطيف ولكنه حالم للغاية. من الغريب أن يقع في غرام فتاة مثلي. سينضج، أو ربما في الثورة، سيصبح رجلًا عظيمًا … ينبغي أن أمتنع عن الحفلات عندما أُصبح زوجةً لإلمير. ولكن ربما نستطيع توفير المال وفتح متجر صغير في الجادة إيه في موقع جيد؛ سنجني هناك أموالًا أكثر ممَّا نجنيه في شمال المدينة. صيحات الموضة الباريسية.

أُراهن أنه بمقدوري أن أنجح كتلك العاهرة العجوز. عندما يكون المرء سيد نفسه، لن يكون هناك هذا القتال حول الإضراب عن العمل والامتناع عن الإضراب … الفرص متكافئة أمام الجميع. يقول إلمير إن هذا كله عبث. لا أمل للعُمال إلا في الثورة. «أوه، أنا مجنونة بهاري، وهاري مجنون بي» … إلمير في محطة الهاتف يرتدي معطفًا للسهرة وغطاءً للأذن، طويل القامة كرودلف فالنتينو، قوي البنية كدوج فيربانكس. أُعلنت الثورة. الحرس الأحمر يسير في الجادة الخامسة. وآنا في تجعيدات شعرها الذهبية وقطة صغيرة تحت ذراعها تميل معه خارج النافذة الأطول. يُرفرف الحمام البهلواني الأبيض أمام المدينة أسفلهما. تتلون الجادة الخامسة بالأعلام الحمراء، وتتألَّق بفرق المشاة، وتُغنِّي أصوات جُشاء الأغنية الألمانية «العلم الأحمر» باللغة اليديشية، وبعيدًا من عند مبنى وول وورث تهتز لافتة في الريح. «انظر يا حبيبي إلمير» «إلمير داسكن مرشَّحًا لمنصب حاكم المدينة». ويرقصون رقصة شارلستون في جميع المباني المكتبية … «قرعة طبل». «قرعة طبل». «رقصة شارلستون تلك … قرعة طبل». «قرعة طبل» ربما أنا أحبه بالفعل. خذني يا إلمير. إلمير مُحِب مثل فالنتينو، يُطبق عليَّ محتضنًا بذراعَين قويَّين ضاغطَين حانيَين كذراعي دوج، إلمير.

كانت في الحلم تخيط أصابع بيضاء تُشير لها بالمجيء. يتلألأ التُّلُّ الأبيض الناصع البياض. وتخرج فجأةً من التُّلِّ يدٌ حمراء ممسكة بها؛ لا يمكنها مقاومة التُّلِّ الأحمر في كل مكان حولها، فيلتف حول رأسها. تستحيل الكوَّة سوداء بدُوَّامة من الدخان. وتمتلئ الغرفة بالدخان والصراخ. تقف آنا على قدمَيها، تدور وتقاتل بيدَيها التُّل المحترق في كل مكان حولها.

تقف إلين ناظرةً لنفسها في مرآة مستطيلة بغرفة القياس. تزداد رائحة الأقمشة المحروقة قوة. بعدما ظلَّت تجيء وتذهب متوتِّرةً لفترة وجيزة، تعبر الباب الزجاجي إلى ممر مليء بالفساتين المعلَّقة، وتغطس تحت سحابة من الدخان، وترى عبر تدفُّق العيون غرفة العمل الكبيرة حيث تصرخ الفتيات المحتشدات خلف مدام سوبرين، والتي توجه مُطفِئةً كيميائية نحو أكوام البضائع المتفحِّمة حول إحدى الطاولات. ويلتقطن شيئًا يئن من وسط البضائع المتفحِّمة. بطرف عينها ترى ذراعًا ممزَّقة، ووجهًا أحمر محترقًا ومسودًّا، ورأسًا أصلع مروِّعًا.

تصرخ بها مدام سوبرين لاهثة: «أوه يا سيدة هيرف، من فضلكِ أخبريهم في الأمام أنه لا يوجد شيء، لا شيء على الإطلاق … سأكون هناك في الحال.» تجري إلين بعينَين مغمضتَين عبر الممر المليء بالدخان إلى الهواء النظيف في غرفة القياس، ومن ثم عندما توقَّفت قدماها عن الركض، ذهبت عبر الستائر إلى النساء المضطربات في غرفة الانتظار.

«طلبت مني مدام سوبرين أن أُخبر الجميع أنه لا يوجد شيء، لا شيء مطلقًا. مجرد شعلة صغيرة في كومة من القُمامة … أطفأتها بنفسها بمُطفِئة.»

تقول النساء كل منهن للأخرى عائدات للجلوس على أرائك من طراز الإمبراطورة جوزفين: «لا شيء، لا شيء على الإطلاق.»

تخرج إلين إلى الشارع. تصل سيارات الإطفاء. ويصد رجال الشرطة الحشود. تريد أن تذهب بعيدًا لكنها لا تستطيع؛ إذ تنتظر شيئًا. سمعت في النهاية رنينًا في الشارع. بينما تتراجع سيارات الإطفاء مصلصِلة، تصل سيارة الإسعاف. وأحضر المُسعِفون النقَّالة المطوية. تتنفَّس إلين بصعوبة. وتقف بجوار سيارة الإسعاف خلف شرطي عريض يرتدي ملابس زرقاء. تحاول معرفة السبب وراء تأثُّرها الشديد؛ فقد كان الأمر كما لو أن جزءًا سيُلف في ضمادات ويُحمل على نقَّالة. سرعان ما خرجت الوجوه المعهودة للمُسعِفين بزيهم الداكن.

بطريقة ما تمكَّنت من السؤال من تحت ذراع شرطي: «هل أُصيبت بحروق خطيرة؟»

«لن تموت … ولكن الأمر صعب على أي فتاة.» شقَّت إلين طريقها وسط الحشد وهُرعت نحو الجادة الخامسة. اقترب الليل. تسبح الأضواء ساطعةً في الليل بزُرقة صافية كما في أعماق البحار.

لماذا يؤثِّر فيَّ الأمر إلى هذا الحد؟ ظلَّت تسأل نفسها. ما هو إلا سوء حظ أدرك أحد الأشخاص، الأمر الذي يحدث كل يوم. لا يبدو أن الاضطرابات والأنين ودوي سيارات الإطفاء قد تتلاشى من داخلها. تقف في حيرة عند إحدى النواصي، بينما تمر بها السيارات والوجوه وامضةً وصاخبة. ينظر إليها شاب يرتدي قبعةً قشية بطرف عينَيه، محاوِلًا أن يصطحبها. فتُحدِّق في وجهه بلا اهتمام. يرتدي ربطة عنق مُخطَّطةً بالأحمر، والأخضر، والأزرق. تمر به مسرعة، وتعبر إلى الجانب الآخر من الجادة، وتستدير إلى شمال المدينة. الساعة السابعة والنصف. عليها أن تلتقي بشخص ما في مكان ما، ولكنها لا تستطيع التفكير في المكان. ثمة فراغ مُرهِق مرعب بداخلها. أوه يا إلهي، ماذا أفعل؟ هكذا تقول متذمِّرةً لنفسها. عند الناصية التالية تستقل سيارة أجرة. «اذهب إلى فندق ألجونكوين من فضلك.»

تتذكَّر كل شيء الآن، في الساعة الثامنة ستتناول العشاء مع القاضي شامير وزوجته. يجب أن تكون قد ذهبَت إلى المنزل لتغيير ملابسها. سيغضب جورج عندما يراني أدخل هكذا بكل هدوء. إنه يُحب أن يتباهى بي وأنا مرتدية كل شيء كشجرة كريسماس، كدمية تتحدَّث وتسير، اللعنة عليه.

تسند ظهرها إلى ركن داخل سيارة الأجرة وعيناها مغمضتان. يجب أن تُتيح لنفسها مزيدًا من الاسترخاء. من السُّخف أن تعيش دائمًا في توتُّر حيث كل شيء صارخ كالطباشير عند احتكاكه بسَبورة. افترض أنني أُصبت بحريق فظيع، مثل تلك الفتاة، وأصبحت مشوَّهةً مدى الحياة. ربما يمكنها الحصول على الكثير من المال من الهَرِم سوبرين لتبدأ به حياتها المهنية. افترض أنني ذهبت مع ذلك الشاب ذي ربطة العنق القبيحة الذي حاول أن يصطحبني … نمزح ونحن نتناول الحلوى والآيس كريم مع نافورة من المياه الغازية، ونركب الحافلة إلى شمال المدينة ثم نعود، وركبتاه تضغط على ركبتَي وذراعه حول خصري، وبعض المُداعبة عند المدخل … ثمة حَيَوات يمكن للمرء أن يعيشها ولكن فقط إن لم يأخذ كل شيء على محمل الجد. بمَ أهتم، بأي شيء، برأي الناس، بالمال، بالنجاح، بردهات الفنادق، بالصحة، بالمظلات، ببسكويت أنيدا؟ … إنني أُشبه لعبةً ميكانيكية تالفة في الطريقة التي يتعامل بها عقلي مع المشكلات طوال الوقت. آمل ألَّا يكونوا قد طلبوا العشاء بعد. سأجعلهم يذهبون إلى مكان آخر إن لم يكونوا قد طلبوا الطعام. تفتح حقيبة التجميل الخاصة بها وتبدأ في وضع مسحوق التجميل على أنفها.

عندما تتوقَّف سيارة الأجرة ويفتح البوَّاب الطويل الباب، تخرج بخطوات بناتية مدبَّبة راقصة، وتدفع الأُجرة، وتستدير، وتتورَّد وجنتاها بعض الشيء، وتتألَّق عيناها في ليل الشوارع العميقة، الأزرق كالبحر، وتعبر الأبواب الدوَّارة.

وبينما تمر عبر الأبواب الدوَّارة اللامعة الصامتة، التي تدور أمام يدها اللامسة للزجاج بقفازها، باغتتها فجأةً في غصة فكرة أنها ربما تكون قد نسيت شيئًا. القفازات، المحفظة، حقيبة التجميل، المنديل، كل شيء معي. ليس معي مظلة. تُرى هل نسيتها في سيارة الأجرة؟ ولكنها كانت قد تقدَّمت بالفعل مبتسمةً نحو رجلَين أشيبَين يرتديان قميصَين باللونَين الأسود والأبيض، وكانا ينهضان مبتسمَين ويمدان أيديهما.

•••

سار بوب هيلدبراند مرتديًا روبًا وملابس النوم جيئةً وذهابًا أمام النوافذ الطويلة وهو يدخِّن غليونًا. وعبر الأبواب المنزلقة وإلى داخل الواجهة جاء صوت طنين الكئوس وحك الأقدام والضحك وأغنية «التصرُّف بجموح» (رانينج وايلد) مُصرصِرةً صرصرةً مغمغِمةً من إبرة الفونوغراف الثَّلِمة.

«لماذا لا تبيت هنا الليلة؟» هكذا كان هيلدبراند يقول بصوته الجاد العميق. «هؤلاء الناس سيرحلون تدريجيًّا … يمكننا أن نُعد لك الأريكة للنوم.»

قال جيمي: «لا، شكرًا. سيبدءون في الحديث عن التحليل النفسي خلال دقيقة وسيبقَون هنا حتى الفجر.»

«ولكن من الأفضل بكثير أن تستقل قطار الصباح.»

«لن أستقلَّ أي قطار من القطارات.»

«أخبرنا يا هيرف، هل قرأت عن الرجل في فيلادلفيا الذي قُتل لأنه ارتدى قبعته القشية في الرابع عشر من مايو؟»

«وربِّي لو كنت داعيًا لدين جديد، لاتخذته قِديسًا.»

«ألم تقرأ عنه؟ لم يكن الأمر لطيفًا على الإطلاق … كان لدى هذا الرجل من الطيش ما جعله يدافع عن قبعته القشية. شخص ما لكمها وبدأ في الصراع معه، وفي وسط ذلك جاء أحد أبطال نواصي الشوارع هؤلاء من ورائه وضربه في رأسه بقطعة من أنبوب من الرصاص. حملوه من فوق الأرض وجمجمته مهشَّمة ومات في المستشفى.»

«ماذا كان اسمه يا بوب؟»

«لم ألحظ.»

«تحدَّث عن الجندي المجهول … ذلك بطل حقيقي في رأيك؛ الأسطورة الذهبية للرجل الذي يرتدي قبعةً قشية خارج الموسم.»

عُلِّق رأس بين بابَي البوابة المزدوجة. ونظر منهما رجل متورِّد الوجه وشعره فوق عينَيه. «ألَا أُحضر لكم يا سادة جرعة من شراب الجن … جنازة مَن هذه على أي حال؟»

قال هيلدبراند بتذمُّر: «أنا ذاهب لأنام، لا تجلب لي الجن.»

قال هيرف: «إنها جنازة القديس ألويسيوس قديس فيلادلفيا، بِكر وشهيد، الرجل الذي كان يرتدي قبعةً قشية في غير موسمها. يمكنني أن أرتشف قليلًا من الجن. يجب أن أركض خلال دقيقة … وداعًا يا بوب.»

«وداعًا أيها الرحَّالة الغامض … دعنا نعرف عنوانك، هل تسمعني؟»

كانت الغرفة الأمامية الطويلة مليئةً بزجاجات الجن، ومزر الزنجبيل، ومطافئ السجائر المكدَّسة بسجائر نصف مدخَّنة، وأزواج يرقصون، وأشخاص ممدَّدون على الأرائك. صدع صوت الفونوغراف بلا نهاية بأغنية «سيدتي … سيدتي أحسني معاملتي (ليدي … ليدي بي جود).» دُفع بكأس من الجن في يد هيرف. واقتربت منه فتاة.

«كنا نتحدَّث عنك … هل تعلم أنك كنت رجلًا غامضًا؟»

جاء صوت مخمور صاخب: «جيمي، أنت مشتبَه في كونك قاطع الطريق ذا الشعر القصير.»

قالت الفتاة، وهي تضع ذراعها حول خصره: «لماذا لا تمارس الجريمة يا جيمي؟ سأحضر إلى محاكمتك، صدقًا سأفعل.»

«كيف لكِ أن تعرفي أنني لا أُمارسها؟»

قالت فرانسيس هيلدبراند، التي كانت تحضر وعاءً من الثلج المُكسَّر من المطبخ الصغير: «هناك شيء غامض يجري.»

أمسك هيرف بيد الفتاة بجانبه وجعلها ترقص معه. ظلَّت تتعثَّر فوق قدمَيه. رقص معها بحريةٍ ونشاطٍ حتى أصبح أمام باب الردهة؛ ثم فتح الباب ورقص معها بخطواتٍ سريعةٍ وقصيرةٍ حتى أصبحا في الردهة. فمدَّت فمها دون تفكير ليُقبِّلها. قبَّلها بسرعة وأخذ قبعته. وقال: «ليلة سعيدة.» أجهشت الفتاة في البكاء.

عندما خرج إلى الشارع أخذ نفسًا عميقًا. وشعر بالسعادة، سعادة أكبر بكثير من تلك التي يشعر بها في حي جرينتش فيليج البوهيمي. كان يبحث عن ساعته عندما تذكَّر أنه قد رهنها.

الأسطورة الذهبية للرجل الذي ارتدى قبعةً قشية في غير موسمها. يسير جيمي هيرف غربًا على طول شارع ٢٣، ضاحكًا لنفسه. أعطني حريتي أو اقتلني، هكذا قال باتريك هنري واضعًا قبعته القشية في الأول من مايو. وقد نال ما طلب. لا توجد عربات ترام، وثمة عربة حليب تمر مُقعقِعةً من حين لآخر، ومنازل تشيلسي كسيرة الفؤاد مظلمة … تمر سيارة أجرة وتتبعها ضوضاء غناء مشوَّشة. عند ناصية الجادة التاسعة لاحظ عينَين كثقبَين في صحيفة بيضاء مُثلَّثة، حيث كانت امرأة ترتدي معطف مطر تشير إليه بالمجيء من عند المدخل. بعدها كان اثنان من البحارة الإنجليز يتجادلون بلهجة كوكنية في حالة سُكر. يصبح الهواء لبنيًّا يشوبه الضباب عندما يقترب من النهر. يمكنه سماع صوت القوارب البخارية الضخم الناعم الذي ينخفض بابتعاده.

يجلس لوقت طويل في انتظار العبَّارة في غرفة الانتظار القرمزية الضوء. يجلس يدخِّن في سعادة. يبدو أنه غير قادر على تذكُّر أي شيء، لا يوجد مستقبل سوى النهر الضبابي والعبَّارة التي تلوح كبيرةً في الأفق بأضوائها تباعًا كابتسامة زنجي. يقف خالعًا قبعته على القضيب ويشعر برياح النهر في شعره. ربما سيُصاب بالجنون، ربما يكون هذا فقدان الذاكرة، ربما مرض ما باسم يوناني طويل، ربما سيجدونه يقطف التوت الشوكي في نفق هادسون. يضحك بأعلى صوته حتى إن الرجل الهَرِم الذي جاء لفتح البوابات نظر إليه بطرف عينَيه. مجنون، مخبول، هذا ما يقوله لنفسه. ربما هو على حق. وربي لو كنت رسامًا، لربما سمحوا لي بالرسم في مصحة المجانين، ولكنت قد رسمت القديس ألويسيوس قديس فيلادلفيا بقبعةٍ قشيةٍ على رأسِه بدلًا من هالة القديسين، ولرسمت في يده أنبوبًا من الرصاص، أداة استشهاده، ولرسمت نفسي صغيرًا أُصلِّي عند قدمَيه. الراكب الوحيد في العبَّارة، كان يتجوَّل في أنحائها كما لو كان يملكها. يختي المؤقَّت. بحق جوبيتر هذه هي كآبة الليل بحق، هكذا يُتمتم. يواصل محاولة شرح سبب ابتهاجه لنفسه. ليس لأنني مخمور. ربما أكون مجنونًا، ولكنني لا أظن ذلك …

قبل أن تغادر العبَّارة يصعد حصان وعربة على متنها، عربة ذات زُنبركات محطَّمة ومحمَّلة بالزهور يقودها رجل صغير البِنية بني البشرة بعظمتَي وجنتَين مرتفعتَين. يسير جيمي هيرف حولها، وخلف الحصان الواهن ذي الوركَين الشبيهَين بمِشجبَين للقبعات يجد العربة الصغيرة المعوجَّة مبهجةً على نحو غير متوقَّع، ومكدَّسةً بأوانٍ من نبات إبرة الراعي القرمزي والوردي، والقَرنفُل، والآلوسن، والورود الصناعية، واللوبيليا الزرقاء. فاحت منها رائحة تربة الربيع في شهر مايو الغنية، رائحة أواني الزهور الندية والدفيئات. يجلس السائق متحدِّبًا وقبعته على عينَيه. يشعر جيمي برغبة في سؤاله إلى أين يذهب بكل تلك الزهور، لكنه يُخمدها ويسير إلى مقدِّمة العبَّارة.

ومن ضباب النهر المظلم الفارغ، ينفتح منزلق العبَّارات فجأةً كالمتثائب بفم أسود ذي حلق مضيء. يُسرع هيرف عبر العتمة الجوفاء ويخرج إلى الشارع الذي يُغيِّم عليه الضباب. ثم يصعد جُرفًا. ثمة آثار أقدام تحته وقعقعة قطار شحن، هسهسة محرِّك. وعلى قمة تل يتوقَّف لينظر خلفه. لا يستطيع أن يرى سوى الضباب متباعدًا مع صف من المصابيح القوسية المغبَّشة. ثم يواصل السير مستمتعًا بالتنفُّس على إيقاع نبض دمائه، ووطء قدمَيه على الرصيف، بين صفوف المنازل الخشبية التي تفوق روعتها الخيال. يخف الضباب تدريجيًّا، وتتسرَّب لُؤلئِيَّة الصباح من مكانٍ ما.

يُدركه الشروق سائرًا على طول طريق أسمنتي بين أراضي المكبَّات المليئة بأكوام القُمامة المدخَّنة. وتُشرق الشمس حمراء عبر الضباب على محركات البخار الصدئة، وهياكل الشاحنات، والقوائم المستعرضة لسيارات الفورد، وكتل عديمة الشكل لمعدِن متآكل. أسرع جيمي الخطى للتخلُّص من الرائحة. إنه جائع، وقد بدأ حذاؤه يتسبَّب في ظهور البُثور على إبهامَي قدمَيه. في مفترق طرق حيث لا يزال ضوء التحذير يومض مرارًا وتكرارًا توجد محطة بنزين، وفي مقابلها عربة غداء مكتوب عليها «الخنفسة المضيئة». صرف ربع الدولار الأخير معه بحذرٍ على الفطور. وبذلك يتبقَّى معه ثلاثة سنتات علَّها تجلب له الحظ الحَسَن أو السيئ، فكلاهما سواء. وصلت شاحنة أثاث ضخمة لامعة وصفراء لتوها في الخارج.

سأل الرجلُ ذا الشعر الأحمر الجالس إلى عجلة القيادة: «اسمع، هل توصلني؟»

«كم تبعُد وجهتك؟»

«لا أعلم … بعيدة جدًّا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤