الباب الأول

في آداب السلطان وفيه مطالب

مطلبٌ «في أنَّ صاحب الإمارة لا ينبغي له أنْ يعني إلَّا بأعمالها»

إنْ ابتُلِيتَ بالسلطان١ فتعوَّذ بالعلماء.٢
واعلم أنَّ من العَجَب٣ أنْ يُبتلى الرجل بالسلطان، فيريد أنْ ينتقص من ساعات نصَبه وعمله، فيزيدها في ساعات دَعَتِه وفَراغه وشهوته وعبثه ونومه.

وإنما الرأي له والحق عليه أنْ يأخذ لعمله من جميع شُغْله، فيأخذ له من طعامه وشرابه ونومه وحديثه ولهوه ونسائه قدْرَ ما يكونُ به إصلاح جسمه، وتقويةٌ له على إتمام عمله.

وإنما تكون الدَّعة٤ بعد الفراغ.
فإذا تقلَّدْتَ شيئًا من أمر السلطان فكن فيه أحد رجلين: إمَّا رجلًا مغتبطًا به،٥ محافظًا عليه مخافةَ أنْ يزول عنه.

وإمَّا رجلًا كارهًا له مُكرَهًا عليه، فالكاره عاملٌ في سُخرةٍ؛ إمَّا للملوك إنْ كانوا هم سلَّطوه، وإمَّا لله تعالى إنْ كان ليس فوقه غيرُه.

وقد علمتَ أنه مَن فرَّط في سخْرَة الملوك أهلكوه، فلا تجعل للهلاك على نفسك سلطانًا ولا سبيلًا.

وإياك — إذا كنتَ واليًا — أنْ يكونَ من شأنك حبُّ المدح والتزكية، وأنْ يعرف الناس ذلك منك، فتكون ثُلْمَةً٦ من الثُّلَمِ يتقحَّمون عليك منها، وبابًا يفتتحونك منه، وغيبة يغتابونك بها ويضحكون منك لها.
واعلم أنَّ قابِلَ المدح كمادح نفسه، والمرء جديرٌ أنْ يكون حبه المدح٧ هو الذي يحمله على ردِّه، فإن الرادَّ له محمود، والقابل له مَعِيب.

مطلبٌ «فيمن ينبغي للوالي أنْ ينال رضاه»

لِتكنْ حاجتك في الولاية إلى ثلاثِ خصال: رضى ربك، ورضى سلطان — إنْ كان فوقك — ورضى صالح مَن تَلِي عليه.

ولا عليك أنْ تلهو عن المال والذِّكْر، فسيأتيك منهما ما يحسنُ ويطيب ويُكتفى به.

واجعل الخصالَ الثلاث منك بمكانِ ما لا بُدَّ٨ لك منه، واجعل المال والذِّكْر بمكان ما أنت واجد منه بُدًّا.

مطلبٌ «فيمن يجب أنْ يكونوا بطانة وأصفياء»

اعرف الفضل في أهل الدين والمروءة في كل كُورة٩ وقَرْيةٍ وقبيلة، فليكونوا هم إخوانك، وأعوانك، وأخدانك، وأصفياءك، وبطانتك، ولطفاءَك، وثِقاتك، وخُلطاءك، ولا تَقذِفنَّ في رُوعِك١٠ أنك إنْ استشرت الرجال ظهر للناس منك الحاجة إلى رأي غيرك؛ فإنك لست تريد الرأي للافتخار به، ولكنما تريده للانتفاع به، ولو أنك مع ذلك أردت الذكر، كان أحسن الذكرين وأفضلهما عند أهل الفضل والعقل أنْ يقال: لا يتفرَّد برأيه دُون استشارة ذوي الرأي.

مطلبٌ «في أنَّ رضى الناس غاية لا تُدرك»

إنك إنْ تلتمس رضى جميع الناس تلتمسْ ما لا يُدرك.

وكيف يتَّفق لك رأي المختلفين؟ وما حاجتك إلى رضى مَن رِضاه الجَور، وإلى موافقة مَن موافقته الضلالة والجهالة؟ فعليك بالتماس رضى الأخيار منهم وذوي العقل؛ فإنك متى تُصِب ذلك تضع عنك مئونة ما سواه.

مطلبٌ «فيما ينبغي للسلطان نحو أصفيائه وسائر رعيته»

لا تُمَكِّنْ أهل البلاء الحَسَن عندك من التدلُّل١١ عليك، ولا تُمكننَّ مَن سواهم من الاجتراء عليهم والعيب لهم.١٢

لِتعرفْ رعيتُك أبوابك التي لا يُنال ما عندك من الخير إلَّا بها، والأبوابَ التي لا يخافُك خائف إلَّا من قِبَلها.

احرص الحرص كلَّه على أنْ تكون خابرًا أمورَ عُمَّالك، فإنَّ المُسيء يَفْرَق من خُبْرتك قبل أنْ يُصيبه وَقْعُك به وعقوبتك، وإنَّ المحسن يستبشر بعلمك قبل أنْ يأتيه معروفك.

لِيعرف الناس — فيما يعرفون من أخلاقك — أنك لا تُعاجل بالثواب ولا بالعقاب، فإنَّ ذلك هو أدوم لخوف الخائف ورجاء الراجي.

مطلبٌ «في الحثِّ على احتمال نصح النصيح وعَذْله»

عوِّدْ نفسك الصبرَ على مَن خالفك من ذوي النصيحة، والتجرُّعَ لمرارة قولهم وعذْلهم، ولا تُسهِّلنَّ سبيل ذلك إلَّا لأهل العقل والسِّنِّ والمروءة؛ لئلا ينتشر من ذلك ما يجترئُ به سفيه أو يستخفُّ به شانئ.١٣

مطلبٌ «في أنَّ السلطان لا ينبغي له أنْ يعني بغير الخطير من الرجال والأعمال»

لا تتركُنَّ مباشرة جسيم أمرك فيعودَ شأنك صغيرًا، ولا تُلزمن نفسك مباشرة الصغير، فيصيرَ الكبيرُ ضائعًا.

واعلم أنَّ مالك لا يُغني الناسَ كلهم فاخصص به أهل الحق، وأنَّ كرامتك لا تُطيق العامَّةَ كلها فتَوَخَّ بها أهل الفضل، وأنَّ قلبك لا يتسع لكل شيء ففرِّغه للمهم، وأنَّ ليلك ونهارك لا يستوْعبان حاجاتك وإنْ دأبتَ فيهما، وأنْ ليس لك إلى إدامة الدأب فيهما سبيل مع حاجة جسدك إلى نصيبه منهما، فأحسنْ قسمتهما بين عملك ودَعَتِك.

واعلم أنَّ ما شَغَلْتَ من رأيك بغير المهم أزرَى بك في المهم، وما صرفت من مالك في الباطل فقدتهُ حين تريده للحق، وما عدلت به من كرامتك إلى أهل النقص عن أهل الفضل، وما شغلت من ليلك ونهارك في غير الحاجة أزرى بك عند الحاجة منك إليه.

مطلبٌ «في تحذير السلطان من الإفراط في الغضب والتسرع في الرضى»

اعلم أنَّ من الناس ناسًا كثيرًا١٤ يبلغ من أحدهم الغضب — إذا غضب — أنْ يحمله ذلك على الكُلُوح١٥ والقُطُوب١٦ في وجه غير من أغضبه، وسوءِ اللفظ لمن لا ذنب له، والعقوبة لمن لم يكن يَهِمُّ١٧ بمعاقبته، وشدَّة المعاقبة باللسان واليد لمَن لم يكن يُريد به إلَّا دون ذلك، ثم يبلغ به الرضى — إذا رضي — أنْ يتبرَّع بالأمر ذي الخطر١٨ لمَن ليس بمنزلة ذلك عنده، ويُعطي مَن لم يكن يريد إعطاءه، ويُكرم من لم يرد إكرامه، ولا حقَّ له ولا مودة عنده.
فاحذر هذا الباب الحذر كلَّه! فإنه ليس أحدٌ أسوأ فيه حالًا من أهل السلطان الذين يُفرطون باقتدارهم في غضبهم، وبتسرَّعهم في رضاهم، فإنه لو وُصِفَ بهذه الصفة مَن يُلْتَبَسُ بعقله أو يتخبَّطه المسُّ؛١٩ أنْ يُعاقِب عند غضبه غير مَن أغضبه، ويَحْبو٢٠ عند رضاه غير مَن أرضاه لكان جائزًا ذلك في صفته.

مطلبٌ «في أنواع المُلك»

اعلم أنَّ المُلك ثلاثةٌ: مُلك دِينٍ، ومُلك حزمٍ، ومُلك هوًى.

فأمَّا مُلك الدَّين فإنه إذا أقام للرعية دينهم، وكان دينهم هو الذي يُعطيهم الذي لهم ويُلحق بهم الذي عليهم، أرضاهم ذلك، وأنزل الساخط منهم منزلة الراضي في الإقرار والتسليم.

وأمَّا مُلك الحزم فإنه يقوم به الأمر ولا يَسلَم من الطعن والتسخُّط، ولن يضرَّ طعنُ الضعيف مع حزم القويِّ.

وأمَّا مُلك الهوى فَلَعِبُ ساعةٍ ودَمارُ دهرٍ.

مطلبٌ «في التحذير مما لم يُبْنَ على حزم من أعمال السلطان»

إذا كان سلطانك عند جِدَّة٢١ دولةٍ، فرأيتَ أمرًا استقام بغير رأي، وأعوانًا أجْزَوا٢٢ بغير نَيْل، وعملًا أَنْجَح٢٣ بغير حزم، فلا يغرَّنك٢٤ ذلك ولا تَسْتَنِيمَنَّ إليه، فإن الأمر الجديد رُبَّما يكون له مهابةٌ في أنفس أقوام، وحلاوةٌ في قلوب آخرين، فيُعينُ قومٌ على أنفسهم ويعين قومٌ بما قِبَلَهم، ويَسْتَتِبُّ ذلك الأمر غيرَ طويلٍ، ثم تصير الشئون إلى حقائقها وأصولها.

فما كان من الأمور بُنِي على غير أركانٍ وثيقة ولا دعائمَ مُحكمة، أوشكَ أنْ يتداعى ويتصدَّع.

لا تكوننَّ نَزْر الكلام والسلام، ولا تبلُغنَّ بهما إفراط الهشاشة والبشاشة، فإنَّ إحداهما من الكِبْر والأخرى من السُّخْفِ.

مطلبٌ «في حضِّ السلطان على التوثق من رأي الأعوان قبل الإقدام»

إذا كنت إنما تضبط أمورك وتصول على عدوِّك بقومٍ لستَ منهم على ثِقة من دِين ولا رأي ولا حِفاظٍ٢٥ من نيَّة، فلا تفعلْ نافلةً٢٦ حتى تحمِلهم — إنْ استطعت — على الرأي والأدب الذي بمثله تكون الثقة، أو تستبدِل بهم إنْ لم تستطع نقلهم إلى ما تريد، ولا تَغُرَّنك قوتك بهم على غيرهم، فإنَّما أنت في ذلك كراكبِ الأسد الذي يهابُهُ مَن نظر إليه، وهو لِمَرْكَبه أهْيَب.

مطلبٌ «في تحذير السلطان من أمَّات الرذائل: الغضب والكذب والبخل وكثرة الحلف»

ليس للمَلِك أنْ يغضب؛ لأن القُدرة من وراء حاجته.

وليس له أنْ يكذب؛ لأنه لا يقدر أحد على استكراهه على غير ما يريد.

وليس له أنْ يبخل؛ لأنه أقل الناس عذرًا في تخوُّف الفقر.

وليس له أنْ يكون حَقُودًا؛ لأن خطره٢٧ قد عَظُم عن مجاراة كل الناس.
وليس له أنْ يكون حلَّافًا؛ لأن أحق الناس باتقاء الأيمان الملوك، فإنما يَحمل الرجل على الحَلِف إحدى هذه الخصال: إمَّا مَهانة٢٨ يجدها في نفسه، وضَرَعٌ٢٩ وحاجة إلى تصديق الناس إياه.
وإمَّا عِيٌّ٣٠ بالكلام، فيجعل الأيمانَ له حَشْوًا ووصلًا.
وإمَّا تُهمةٌ قد عرفها من الناس لحديثه، فهو يُنْزِل نفسه منزلةَ مَن لا يُقبَل قوله إلَّا بعد جَهْد اليمين.٣١
وإمَّا عَبَثٌ٣٢ بالقول وإرسال لِلِّسان على غير روِيَّة ولا حُسن تقدير، ولا تعويدٍ له قول٣٣ السَّداد والتثبُّت.

مطلبٌ «في أن لا عيب على المَلِك أنْ يلهو إذا وثق من تدبير ملكه»

لا عيب على المَلِك في تعيُّشه وتنعمه ولعبه ولهوه، إذا تعاهد٣٤ الجسيمَ من أمره بنفسه، وأحكم المهمَّ، وفوَّض ما دُون ذلك إلى الكُفاة.٣٥

مطلبٌ «في أنَّ أحق الناس باتهام نظره بعين الريبة السلطان»

كلُّ أحد حقيق — حين ينظر في أمور الناس — أنْ يتَّهِمَ نظره بعين الريبة،٣٦ وقلبَه بعين المقت،٣٧ فإنهما يُزيِّنان الجَوْر،٣٨ ويحملان على الباطل، ويُقَبِّحان الحَسن، ويُحسِّنان القبيح.
وأحق الناس باتهام نظره بعين الريبة وعين المقت؛ السلطانُ الذي ما وقع في قلبه ربا٣٩ مع ما يُقَيض له من تزيين القُرَناء والوزراء.

وأحق الناس بإجبار نفسه على العدل في النظر والقول والفعل؛ الوالي الذي ما قال أو فعل كان أمرًا نافذًا غيرَ مردود.

لِيعلم الوالي أنَّ الناس يَصِفُون الوُلاة بسُوءِ العهد ونسيان الوُد، فلْيكابِر نقض قولهم، ولْيُبطل عن نفسه وعن الولاة صفات السوء التي يُوصفون بها.

مطلبٌ «في حض السلطان على الإمعان في تفقد أمر رعيته»

حقُّ الوالي أنْ يتفقَّد لطيف أمور رعيته، فضلًا عن جسيمها، فإن لِلَّطيف موضعًا يَنْتفِع به، وللجسيم موضعًا لا يَستغني عنه.

لِيتفقَّد الوالي — فيما يتفقد من أمور رعيته — فاقة٤٠ الأخيار والأحرار منهم، فليعملْ في سَدِّها، وطغيان السفلة منهم فليقمَعْه،٤١ ولْيَسْتوحش٤٢ من الكريم الجائع واللئيم الشبعان، فإنما يَصُول الكريم إذا جاع، واللئيم إذا شبع.

مطلبٌ «فيما ينبغي للوالي أنْ يتخلَّى عنه»

لا ينبغي للوالي أنْ يحسُدَ الولاة إلَّا على حسن التدبير.

ولا يحسُدنَّ الوالي مَن دونه، فإنه أقلُّ في ذلك عذرًا من السُّوقة التي إنما تحسُدُ مَن فوقها، وكُلٌّ لا عُذْر له.

لا يلومنَّ الوالي على الزَّلَّة مَن ليس بمُتَّهَم عنده في الحرص على رضاه إلَّا لَوْمَ أدَب وتقويم، ولا يعدِلنَّ بالمجتهد في رضاه البصير بما يأتي أحدًا.

فإنهما إذا اجتمعا في الوزير والصاحب نام الوالي واستراح، وجُلِبت إليه حاجاته، وإنْ هدأ عنها، وعُمِل له فيما يُهمُّه وإنْ غَفَلَ.

لا يُولعَنَّ الوالي بسوء الظنِّ لقول الناس، ولْيجعل لحُسن الظن من نفسه نصيبًا موفورًا يروِّح٤٣ به عن قلبه ويُصدِر٤٤ عنه في أعماله.

لا يُضيِّعَنَّ الوالي التثبُّت عندما يقول، وعندما يُعطي، وعندما يَعْمل.

فإنَّ الرجوعَ عن الصمت أحسنُ من الرجوع عن الكلام، وإنَّ العطيَّة بعد المنع أجملُ من المنع بعد الإعطاء، وإنَّ الإقدام على العمل بعد التأنِّي فيه أحسنُ من الإمساك عنه بعد الإقدام عليه.

وكل الناس محتاجٌ إلى التثبت.

وأحوجهم إليه ملوكُهم الذين ليس لقولهم وفعلهم دافعٌ، وليس عليهم مستحِثٌّ.

مطلبٌ «فِي حَثِّ السلطان على الأخذ بالدين والبر والمروءة»

لِيعلم الوالي أنَّ من الناس حُرصاءَ على زِيِّه٤٥ إلَّا مَن لا بال له،٤٦ فليكن للدِّين والبرِّ والمروءة عنده نَفاق،٤٧ فيُكسِد٤٨ بذلك الفُجُور والدناءة في آفاق الأرض.

مطلبٌ «فيما يحتاج إليه الوالي من الآراء»

جِمَاع٤٩ ما يحتاج إليه الوالي من أمر الدنيا رأيان: رأي يُقَوِّي به سلطانَه، ورأيٌ يُزيِّنه في الناس.
ورأي القوة أحقهما بالبُداءة وأوْلاهما بالأَثَرة.٥٠

ورأي التزيين أحضرهما حلاوةً وأكثرهم أعوانًا.

مع أنَّ القوَّة من الزينة، والزينة من القوة، ولكنَّ الأمر يُنْسَب إلى مُعْظَمِه وأصله.

١  السلطان هنا: ولاية أمور الناس والإمارة، وقد وردت باللفظ الأخير في كثير من النُّسخ، وأمَّا لفظ السلطان الذي يعرف الآن، فقد استعمل في الإسلام ووضع لقب تفخيم لوزراء الدولة العباسية، ويقول ابن خلدون: إنَّ جعفر بن يحيى — وزير هارون الرشيد — سُمِّي سلطانًا، ويرجح عند المؤرخين أنَّ السلطان لم يكن رتبة رسميَّة إلَّا في أواخر القرن الرابع للهجرة؛ إذ سمي به محمود القزنوي بن سبكتكين، ويرون على هذا الرأي أنه أول سلطان في الإسلام بعد أنْ كانت رتبته أمير الأمراء، ثم صار بعدُ لملوك الأتراك والأكراد والجراكسة وغيرهم من السلاجقة والأيوبية والمماليك والعثمانيين.
٢  يقال: تعوذ به: اعتصم ولجأ إليه.
٣  العجب: إنكار ما يرد عليك، ومما لا ريب فيه أنَّ اشتغال صاحب السلطان بعبثه وشهواته وعنايته بدعته ورفاهيته في ملك، هو أحوج ما يكون إلى تلك الأوقات التي أنفقها في لذائذه، وذلك النصب الذي أضاعه في شهوات نفسه، مما يستفز الدهش ويثير العُجب.
رأى صاحب السعادة أحمد زكي باشا في تحقيق نسخته، أنَّ الأولى استبدال لفظ العيب بلفظ العجب ليستقيم المعنى، ولكنه رجع آخر الكتاب فارتضى العجب واستقام له المعنى.
٤  الدَّعة: الراحة والخفض.
٥  مسرورًا.
٦  الثلمة بالضم: فرجة المكسور والمهدوم والجمع ثُلم.
٧  المدح مفعول للمصدر الذي هو حبه.
٨  أي بمكان ما لا مفر لك منه ولا مندوحة عنه.
٩  الكورة بالضم: الصقع، وفي المفردات: قيل لكل مِصْر كورة، وهي البقعة يجتمع فيها قُرى ومحالٌّ، «قال أحمد زكي باشا: وذلك من التقاسيم الجغرافية القديمة، مثل الرستاق في بلاد فارس، والمِخْلاف في بلاد اليمن، والجند في بلاد الشأم، وكما نقول نحن مديرية فيما يختص بأرض مصر.» ثم ذكر في الاستدراك آخر الكتاب أنَّ هذا مأخوذ بعضه عن ياقوت. أمَّا ياقوت فإنه قال في «مخاليف اليمن» هي بمنزلة الكور والرساتيق، وفي مادة «رستاق» قال: وربما جعل من نواحي كرمان.
وفي «أجناد الشأم» بذكر قول أحمد بن يحيى بن جابر: اختلفوا في الأجناد؛ فقيل سمَّى المسلمون فِلَسْطين جندًا؛ لأنه يجمع كورًا، والتجند التجمع، ثم قال أيضًا: … ولم تزل قنسرين وكورها مضمومة إلى حمص حتى كان يزيد بن معاوية، فجعل قنسرين وأنطاكية ومنبج جندًا يرأسه. وقد كان ياقوت جعل قنسرين أحد أجناد الشأم الخمسة.
فيستخلص من هذا كله أنَّ حاشية المحقق أحمد زكي باشا قد دخلها السهو، وأنَّ الكورة لا توازي الجند في الشأم كما يقول.
١٠  الروع بالضم: القلب، وقيل موضع الفزع منه.
١١  يقال تدلل عليه: أظهر الجرأة إيهامًا بالمخالفة وليس في نفسه خلاف.
١٢  يريد: ولا تُطمع فيهم غيرهم فيجترئوا عليهم ويعيبوهم. ذكر الأمير شكيب أنَّ عَابَ تتعدى باللام وهو خطأ، والصواب أنْ يقال عاب الشيء: صار ذا عيب، وعابه: أضاف إليه العيب.
وهنا استدرك صاحب السعادة أحمد زكي باشا على هذا الأمير آخر الكتاب وجاء بتحقيق مستفيض، ولكن لنا عليه ملاحظات ستَرِد بعد أنْ نذكره لك قال: «وإنما احتاج ابن المقفع لاستعمال جملة: «والعيب لهم.» لاستخدام لام التقوية التي تأتي بعد المشتقات لضعفها عن العمل بنفسها، ولو قال: «وعيبهم أو وعيبهم إياهم» لكان الكلام صحيحًا، ولكنه راعى المشاكلة مع الجار والمجرور قبله في قوله: «والاجتراء عليهم.» فاستعمل والعيب لهم، وهذا من حسن الديباجة وجمال الملاءمة التي يميل إليها بلغاء الكتاب.» ا.ﻫ. قول المحقق.
وأمَّا ملاحظاتنا؛ فأُولاها: اعتباره هذا المركب جملة، وهو قول ابن المقفع: «والعيب لهم»، وهو بعيد عن تقسيم الجمل التي يعرفها النحوي والبياني والمنطقي. وثانيهما: تعريفه لام التقوية بأنها التي تأتي بعد المشتقات؛ فإن هذا التعبير مما يدلُّ على أنه رأى في لفظ العيب اشتقاقًا، وكذلك يرى الكوفيون: أنَّ المصدر مشتق، ولكن ماذا يرى المحقق في قول الله: إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ هل يعتقد أنَّ الفعل مشتق أيضًا؟! وهل يعتقد أنَّ اللام جاءت «بعد» مشتق؟!
ثالثها: أنه جعل قول ابن المقفع غير صحيح، ثم لم يلبث أنْ جعله من حسن الديباجة وجمال الملاءمة التي يميل إليها بلغاء الكتَّاب! ولستُ أدري كيف تكون اللام للتقوية ومن باب المشاكلة، ثم يكون غير صحيح؟! ولعله يريد أنَّ هذا التركيب مما يمنعه الاستعمال المسموع وتجيزه القواعد الموضوعة، فإن كان ذلك يريد فعبارته تحتاج بعدُ إلى بيان أشفى وأوضح.
والحقيقة أنَّ لام التقوية هي المزيدة لتقوية عاملٍ ضعف عن العمل، وذلك إذا تأخر كقوله تعالى: هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ، أو كان العامل فرعًا في العمل، كاسم الفاعل، واسم المفعول، والصفة المشبهة، وصيغة المبالغة؛ نحو: مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ، فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، نَزَّاعَةً لِلشَّوَى، وأمَّا ذلك التعريف الذي جاء به فلم يرض عنه كوفي ولا بصري.
١٣  الشانئ: المبغض.
١٤  ناس: اسم وُضِع للجمع كالرهط والقوم، واحده إنسان من غير لفظه، واسم الجمع يعامل معاملة المفرد كما يعامل معاملة الجمع؛ فيقال: ناس كثير كما يقال ناس كثيرون، وقيل: إنه جمع أنس وأصل أناس جمعٌ نادر، وهو ما لم يجر عليه ابن المقفع هنا، وإلَّا لوجب أنْ يقول: «ناس كثيرون».
١٥  الكلوح بالضم، ومثله الكُلاح مضمومًا أيضًا مصدر كلح الوجه كقطع: تكشر في عبوس، أو عبس فأفرط في تعبسه، وقيل: إنَّ الكلوح في الأصل بدوُّ الأسنان عند العبوس.
١٦  القُطوب مضمومًا والقَطب مفتوحًا: مصدر قطب الرجل كنصر زوى ما بين عينيه وكلح، ويقال زوى ما بين عينيه وما بين عينيه.
١٧  من هم بالشيء همًّا، نواه وأراده وعزم عليه وقصده ولم يفعله.
١٨  الخطر بالتحريك: عِظم الأمر ورفعة شأنه.
١٩  المس بالفتح: الجنون، وقد كان العرب يزعمون أنَّ الشيطان يمس الرجل فيختلط عقله.
٢٠  يقال حبا فلانًا كذا، وبكذا: أعطاه، وأمَّا حباه عن كذا فبمعنى منعه.
٢١  الجِدَّةُ بالكسر فالتشديد: ضد القدم، وأصله من جد الحائك الثوب: قطعه، وجد الثوب صار جديدًا، يريد: في إبان ظهور الدولة ونشأة السلطان.
٢٢  الإجزاء والجزاء: الغناء والكفاية، يقال: جزى عنك وأجزى إذا غني غناءك وكفاك مهمًّا من أمرك، والمهموز الذي اختاره ابن المقفع: إنما هو لغة تميم.
٢٣  نجح الأمر وأنجح: قُضِي وتيسر، وأنجح فلان في أمره: ظفر به، وأنجح الله حاجتك: قضاها، كل ذلك ثبت في اللغة صحيح في استعمال الفصحاء، وزعم صاحب السعادة أحمد زكي باشا أنَّ هذا الفعل: إن همز اختص بالعقلاء وهو تخصيص غريب لا تعرفه اللغة، ولم يستطع المحقق نفسه أنْ يثْبُت عليه، بل اضطر إلى أنْ يعترف بأن في اللغة أنجحت الحاجة: إذا تيسرت، ثم قال: أمَّا أنجح فخاص بالعقلاء، بمعنى فاز وظفر. وهو اضطراب غريب في التخصيص، فإن هذا الاختلاف المعنوي لم ينشأ إلَّا من اختلاف الإسناد.
ألا ترى أنَّ المحقق نفسه وسائر اللغويين يتفقون على: «أنجحت الحاجة، وأنجحها الله.» مع أنَّ اختلاف الإسناد جعل في الفعلين اختلافًا معنويًّا ولفظيًّا لا شك فيه؛ أمَّا المعنوي فإن إنجاح الحاجة: تيسرها، وإنجاح الله إياها: تيسيره لها، وأمَّا اللفظي فظاهرٌ وهو أنَّ أول الفعلين لازم مطاوع لثانيهما المتعدي.
٢٤  المعروف أنَّ نون التوكيد الثقيلة هي كالخفيفة ترد في النظم كما ترد في النثر، وتؤديان وظيفة واحدة، وأن انفرد الخليل بأن التأكيد بالثقيلة عنده أبلغ من التأكيد بالخفيفة، غير أنَّ زكي باشا يذكر في استدراكاته قوله: «ومعلوم أنَّ أكثر استعمال هذه النون — أي الخفيفة — إنما يكون في النظم والأولى أنْ تكون هنا ثقيلة.» وهو قول ليس بوجيه؛ لأن النون الخفيفة كثيرًا ما وردت في المنثور، إلَّا أنها في المنظوم أبين لمساعدة الوزن على توضيحها، بخلاف المنثور الذي قلَّ فيه الضبط، فلم تُعلَم فيه الخفيفة من الثقيلة، على أنهما وردتا في التنزيل، قالت امرأة العزيز: وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ، وعندي أنَّ النون الخفيفة في هذه الآية قد أدَّت وظيفة الثقيلة من تأكيد الوعيد، بالرغم مما قيل في هذه الآية من أنَّ الخفيفة ما اكتسبت هذا التأكيد إلَّا من الثقيلة قبلها، يؤيد ذلك قوله تعالى: كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ، ومعلوم أنَّ هذه الآية نزلت في أبي جهل؛ إذ حلف باللات والعزى لئن رأى رسول الله يصلي ليطأن على رقبته، وليعفرن وجهه، فجاء رسول الله وهو يصلي، فما فجأهم منه إلَّا وهو ينكص على عقبيه وينفي بيديه، فقيل له في ذلك، فقال: إنَّ بيني وبينه لخندقًا من نار وهولًا وأجنحة، إلى آخر ما ورد مما هو مشهور، فالمقام مقام ردع وزجر ووعيد، ومعنى لنسفعًا بالناصية: لنأخذن بناصيته ولنسحبن بها إلى النار يوم القيامة، فأدت الخفيفة هنا وظيفة الثقيلة أيضًا، فإن قيل: إنَّ تأكيد التهديد والوعيد قد اكتسب أيضًا من كلمة «كلا» قبلها، كان هذا غير مقبول أيضًا؛ لورودها في بعض القراءات بالثقيلة، فقد قرأ محبوب وهارون وكلاهما عن أبي عمرو «لنسفعنَّ» بالنون الشديدة، وقرأ ابن مسعود «لأسفعن» كذلك مع إسناد الفعل إلى ضمير المتكلم وحده.
فتبيَّن الآن أنَّ الخفيفة تؤدي ما تؤديه الثقيلة، وقد تقوم مقامها ولا وجه إذن للأولوية التي ذكرها المحقق في نسخته، على أنَّ ابن المقفع راعى في ذلك كله الأسلوب وانبساط النفس الذي يجري مع الخفيفة، ويسلس في هذا التركيب.
٢٥  أصل الحفاظ: الذود عن المحارم، يريد: إنْ لم تثق ممن تصول بهم على عدوك بأن ذودهم عنك ومساعدتهم إياك صادر عن بصيرة ونية …
٢٦  رويت: فلا تفعل نافلة، والنافلة: ما يفعله الإنسان مما ليس بواجب عليه، ولستُ أجد لها معنًى يتفق مع سابقها ولاحقها، وكذلك وردت: فلا تنفك نافعة، وهذه الرواية كسابقتها لا تنقع غلة ولا تشفي علة.
وأمَّا نحن فقد رجحنا أنها: فلا تنفك داعية، وتحريف «نافعة» عن «داعية» سهل وقريب، والمعنى على ذلك بيِّنٌ لا شُبهة فيه، يريد: إنْ لم تكن على ثقة من دخيلة أعوانك فلا تزل فيهم داعية تبرر رأيك، وتدعم حجتك، وتقوي عقيدتك حتى تحملهم على أنْ يكونوا موضعًا لثقتك.
وربما قيل في هذا التحريف: «فلا تنفعك نافعة.» وهذه الجملة مع قربها وإمكان موافقتها لا يزال فيها شيء من خفاء.
٢٧  يريد: لأن عِظم قدره ورفعة شأنه تأبى عليه أنْ يجاري الناس في رذائلهم.
٢٨  المهانة: المذلة.
٢٩  الضرع محركة: الضعف وهو مصدر ضرع كفرح لغة في ضرع إليه كقطع ومصدره ضراعة.
٣٠  العِيُّ بالكسر: مصدر عيَّ الرجل بأمره، وعن أمره وعيي بالفك، والإدغامُ أكثر، والفعل كعلم والمعنى لم يهتد إلى وجه مراده أو عجز ولم يطق أحكامه.
٣١  أي بُعد المبالغة في اليمين.
٣٢  العبث محركة: اللغو.
٣٣  قول: مفعول ثانٍ لتعويد؛ لأنه ينصب مفعولين.
٣٤  يقال تعاهد الشيء وتعهَّده: تفقده.
٣٥  الكفاة: جمع كافٍ وهو ما يكفيك.
٣٦  الرِّيبة بالكسر: الشك كالرَّيب بالفتح.
٣٧  المقت: البُغض والكراهة مصدر مَقتَ كَنَصر.
٣٨  الجور: الظلم وتجاوُزِ الحد، مصدر جار كقال.
٣٩  ربا يربو: زاد كنما ينمو.
٤٠  الفاقة: الحاجة والفقر.
٤١  يريد فليصرفه عنه.
٤٢  استوحش: ضد استأنس، يريد: لا تؤمن له ولا تستسلم إليه.
٤٣  يخفف به عن نفسه وينفِّس عن قلبه.
٤٤  يقال أصدرت في الأمر عن رأيٍ حازم؛ أي مضيت فيه بتثبُّتٍ ورويَّة، ونظن لفظ «في» سقط من الناسخ في بعض النسخ.
٤٥  أي حريصين على أنْ يشبهوه في أعماله ويقتدروا به في أفعاله.
٤٦  البال: الخطر ويريد: إلَّا من لا هِمة له ولا خطر.
٤٧  النَّفاق: الرواج.
٤٨  يريد: فيقال بذلك …
٤٩  جِماع الشيء بالكسر: جمعه.
٥٠  الأثرة بالتحريك: الاختيار واختصاص المرء نفسه بأحسن الشيء دون غيره.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤