بين أنياب الأسد

مشى الأصدقاء حائرين … ماذا يفعلون؟ وفجأةً قال «محب»: هل تسمعون؟! أظن أني سمعت صوت موسيقى.

وأرهف الأصدقاء أسماعهم … لقد كانت هناك موسيقى فعلًا تأتي من مكان قريب.

قال «تختخ»: في الأغلب هذا راديو ترانزستور … إن مقر العصابة قريب منا وعلينا أن نتجه ناحية هذه الموسيقى.

استأنف الأصدقاء سيرهم مرةً أخرى، وهم يُنصتون إلى الموسيقى ويتجهون إليها. وكانت الأنغام ترتفع شيئًا فشيئًا دليلًا على أنهم يسيرون في الاتجاه الصحيح … وعندما اقتربوا تمامًا من مصدر الموسيقى قالت «ناعسة»: إنني أرى طريقًا جانبيًّا ضيقًا، وبدلًا من أن نسير جميعًا معًا، سوف أتجه أنا في هذا الطريق وعليكم أن تتفرَّقوا أنتم أيضًا، حتى لا تتمكَّن العصابة من الإيقاع بنا معًا.

وقبل أن تسمع إجابةً من أحد اختفت في الظلام. كان «محب» قد بدأ يشعر بالبرد، فأنزل البوصة التي كان يضع عليها ثيابه، وارتدى الثياب التي لم تكن قد جفَّت تمامًا بعد، ثم تقدَّم الأصدقاء في حذر من مصدر الموسيقى، ومن بين فتحة في البوصة المرتفع شاهدوا نيرانًا مشتعلةً في كومة من الحطب، وقد جلس أمامها رجل وأمامه بندقية وجهاز الراديو الترانزستور الذي كانت ترتفع منه الموسيقى … وعلى ضوء النيران شاهد الصديقان معسكرًا كبيرًا مُشيَّدًا من البوص الغليظ.

فقال «محب» هامسًا: هذا هو مقر العصابة، ولا بد أن «نوسة» و«زنجر» محبوسان هنا الآن.

تختخ: علينا أن نفترق ونبحث عن مكانهما … ونلتقي بعد ربع ساعة في هذا المكان على يسار النار.

في تلك الأثناء كانت «ناعسة» قد استطاعت من الطريق الجانبي أن تصل إلى معسكر العصابة أيضًا.

اقتربت «ناعسة» زاحفةً حتى استطاعت الاقتراب من النار المشتعلة، حيث انضم رجلان إلى الرجل الجالس بجوار النار وأخذوا يتحدثون … فعرفت في أحدهم خالها الذي زعم أنه خارج في رحلة صيد.

قال أحدهم: لقد تأخَّر «موسى بك» عن الحضور، ومن المفروض أن يصل بسرعة حتى يتصرَّف في هذه الفتاة؛ فلا بد أن رجال الشرطة في «بلطيم» سيبحثون عنها، وقد يعرفون أنها هنا … وفي استطاعتنا الفرار إذا حضر باللنش الكبير فهو سريع جدًّا.

ردَّ خال «ناعسة»: إنني أريد أجرتي عن هذه العملية حتى أستطيع مغادرة «بلطيم» نهائيًّا …

قال الثالث: على كل حال لن يتأخَّر «موسى بك» كثيرًا، لقد ذهب إلى القاهرة لعرض الكراسة الحمراء على الزعيم، فإذا كانت هي المطلوبة فسوف نُطلق سراح الفتاة ثم نختفي جميعًا.

قال الأول: وإذا لم تكن الكراسة هي المطلوبة، فماذا ستفعل؟

الثالث: لا أدري … هذه مسألة سيفصل فيها «موسى بك».

اكتفت «ناعسة» بما سمعت … وأدركت أن الرجال الثلاثة سيبقون في مكانهم بجوار النار لحين عودة «موسى»، وعليها أن تتصرَّف بسرعة قبل أن يصل.

كان المعسكر مُكوَّنًا من مجموعة من الغرف المبنية بالبوص القوي ويُشبه نصف دائرة، فأخذت «ناعسة» تدور على الغرف تنظر من نوافذها المصنوعة من البوص أيضًا، ولكنها لم تستطِع أن ترى في الظلام شيئًا، فأخذت تنادي بصوت هامس: «نوسة» … «نوسة» … «نوسة»، وكلما مرَّت بغرفة ردَّدت النداء … وأخيرًا سمعت من يرد عليها … كانت «نوسة».

قالت «نوسة» وهي تتجه ناحية النافذة: من ينادي؟

ناعسة: أنا «ناعسة» هل أنت بخير؟

نوسة: إنني خائفة وجائعة … أين الأصدقاء؟

ناعسة: إن «عاطف» و«تختخ» و«محب» يبحثون عنكما.

نوسة: إن رجال العصابة يُعلِّقون مفاتيح الأبواب بجوارها، وفي استطاعتك أن تفتحي الباب.

دارت «ناعسة» حول الغرفة واستطاعت أن تستتر بالظلام، وأخذت تتحسَّس حول الباب حتى عثرت على المفتاح، ولحسن الحظ كان صوت الموسيقى والغناء يُخفي صوت حركتها؛ فاستطاعت فتح الباب والدخول إلى «نوسة» التي احتضنتها والدموع تسيل من عينَيها بالرغم عنها وكانت ترتجف.

نوسة: هيا بنا نخرج بسرعة.

ناعسة: اخرجي أنت … أمَّا أنا فسأبقى هنا.

نوسة: لا يمكن … إن العصابة سوف تفتك بك.

ناعسة: لا تخافي … إنهم لن يُفرِّقوا بيني وبينك في الظلام، خاصةً وأنا ألبس بعض ملابسك … وعليك أن تفِري أنت والأصدقاء من الجزيرة بأسرع ما يمكن … ولا تخافي عليَّ؛ فلن يُصيبني إلا علقة من خالي … فأنا لست مهمةً للعصابة، وعليك إخطار الأصدقاء أن «موسى» ذهب إلى القاهرة لعرض الكراسة على الزعيم وسيعود الليلة، فلْيهربوا بسرعة.

لم تجِد «نوسة» فائدةً من الجدل … فأسرعت تخرج من الباب ثم تغلقه خلفها حتى لا تشك العصابة في شيء … ونظرت حولها لعلها تجد «زنجر» قريبًا، ولكنها لم تعثر له على أثر … وخشيت أن يراها أحد، فأجَّلت البحث عنه حتى تُقابل الأصدقاء.

أسرعت «نوسة» في الظلام لا تدري أين تذهب، ولكن ملابسها البيضاء كانت واضحةً في الظلام، وهكذا استطاع «تختخ» الذي كان يدور حول الغرف أن يراها … وقد ظنها «ناعسة» فاقترب منها في هدوء قائلًا: «ناعسة»؟ ارتبكت «نوسة» وظنته أحد رجال العصابة، وكادت تُطلق صيحة فزع لولا أن «تختخ» أسرع يضع يده على فمها، وفي هذه اللحظة عرف أنها «نوسة» فأحسَّ بفرح يغمر نفسه وقال: كيف فررت؟

ردَّت «نوسة» وهي تُمسك بيده لا تكاد تُصدِّق نفسها: لقد وضعت «ناعسة» نفسها في الحبس مكاني … إنها فتاة شجاعة، ولم أكن أتصوَّر أنها يمكن أن تفعل هذا.

تختخ: تعالَي بسرعة … سوف نلتقي مع بقية الأصدقاء حالًا …

وأسرعا يشقان الظلام إلى مكان اللقاء … وبعد لحظات انضم إليهما «محب» و«عاطف»، ولم تكد «نوسة» ترى شقيقها «محب» حتى ارتمت على صدره، واحتضنا بعضهما في شوق ومحبة، ثم سلَّمت على «عاطف» في حرارة.

قال «عاطف»: والآن ماذا نفعل؟

لم يردَّ أحد … كان كلٌّ منهم يُفكِّر في «ناعسة» و«زنجر» هل يتركونهما لمصيرهما أم يحاولون إنقاذهما؟

أخيرًا قال «تختخ»: لا يمكن أن نترك «ناعسة» للعصابة … ولا بد أن نُنقذها.

محب: كيف؟

تختخ: سنفتح لها الباب.

عاطف: ولكن العصابة إذا اكتشفت غيابها … أقصد غياب «نوسة» فسوف تنطلق في أثرنا، ومن المؤكد أن هؤلاء الرجال يستطيعون إمساكنا بسرعة؛ فهم يعرفون طرق الغابة أفضل منا … وكذلك هناك «زنجر» يجب أن نُفكر فيه أيضًا.

محب: أقترح أن نراقب العصابة لعلنا نجد طريقةً للتغلُّب عليها.

عاد الأصدقاء إلى قرب النيران مرةً أخرى، وكان الرجال الثلاثة يجلسون بجوار النار يتحدثون والبندقية أمامهم، وفي تلك اللحظة ارتفع في صمت الليل الساكن صوت موتور لنش فهمس «تختخ»: إنه «موسى بك»، لقد عاد من القاهرة، وحضر إلى الجزيرة، ولا بد أن زعيم العصابة اكتشف حقيقة الكراسة الحمراء، وستحاول العصابة إمَّا الانتقام من «ناعسة» التي سيتصورون في الظلام أنها «نوسة»، وإمَّا محاولة الحصول على الكراسة منا مرةً أخرى!

قال «محب» وهو ينظر إلى البندقية: لو كان في إمكاننا الحصول على هذه البندقية لاستطعنا السيطرة على الموقف!

تختخ: فلْنحاول البحث عن «زنجر»، ولست أدري لماذا لا أسمع صوته؟

تحرَّك «تختخ» و«عاطف» للبحث عن «زنجر»، وبقي «محب» و«نوسة» يراقبان توقُّف الموتور، وبعد دقائق ظهر «موسى» ومعه رجل آخر، وكان «موسى» يحمل بيده الكراسة الحمراء، وتقدَّم من النيران وقال في غضب: لقد ضحك علينا الأولاد، إن الكراسة ليست هي، إن الأوراق التي بها ليست لها أهمية على الإطلاق!

قال أحد الرجال: وماذا سنفعل؟

موسى: المشكلة أنني علمت أن أصدقاء الفتاة كانوا في قرية «برج البرلس»، ولا شك أنهم يبحثون عنها.

رجل آخر: ولكنهم لا يستطيعون الوصول إلينا هنا؛ فهم لا يعرفون أين هي، وحتى لو عرفوا أنها في الجزيرة، فلن يستطيعوا الوصول إلينا فهم لا يعرفون الطريق.

موسى: لقد خدعونا مرة، وليس من المستبعد أن يخدعونا مرةً أخرى، فلْيذهب أحدكم ليتأكَّد من وجود الفتاة.

في تلك الأثناء كان «تختخ» و«عاطف» قد عثرا على الكلب مربوطًا في طرف المعسكر، وقد كُمِّم فمه.

لم يكد «زنجر» يشم رائحة صاحبه حتى وقف منتفضًا محاولًا الزمجرة، ولكن «تختخ» أسرع إليه يحتضنه وهو يقول: لا تنبح يا «زنجر» … لا تنبح وإلَّا عرضتنا جميعًا للخطر. ثم فك رباطه، والكمامة التي كانت على فمه، وفهم الكلب الذكي الموقف، فاكتفى بأن يقف على قدمَيه الخلفيتَين، ويضع قدمَيه الأماميتَين على كتفَي «تختخ» وهو يُمرِّغ رأسه على رقبة «تختخ».

عاد «تختخ» و«عاطف» ومعهما «زنجر» إلى حيث كان يقف «محب» و«نوسة»، وشاهدا «موسى» وهو يطلب من أحد رجال العصابة التأكُّد من وجود الأسيرة مكانها.

عاد عضو العصابة وقال: إن الفتاة في مكانها.

أحضر أحد الرجال كرسيًّا ﻟ «موسى» فجلس ووقف الرجال حوله وقد اشتبكوا في مناقشة حادة وأخيرًا قال «موسى»: هاتوا الفتاة؛ فسوف نرحل حالًا من هنا … فقد تكون الشرطة أو رجال السواحل في أثرنا.

ذهب أحد الرجال لإحضار الفتاة، ووقف الأصدقاء يرقبون الموقف في الظلام وقد توترت أعصابهم، وارتفعت دقات قلوبهم.

بعد لحظات عاد الرجل ومعه «ناعسة» التي كان الظلام يُخفي شخصيتها، ولكنها لم تكد تقترب من النيران حتى اتضح كل شيء … فوقف «موسى» فزعًا، في حين صاح خالها في دهشة ورعب: «ناعسة»!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤