البهائم تفكر في مصيرها

وعاد الثور والحمار لينزربا بعدما أنهكهما التعب. كانا تحت النير يحرثان الأرض طول النهار، فما دخلا المزرب حتى ربطهما صاحبهما، وراحا يلحسان ما علق في أرض المعلف من بقايا التبن والهشيم، ولما لم يظفرا بشيء انبطحا وجهًا لوجه وشرعا يعالجان مشكلتهما الاجتماعية المعقدة على مستوى عال، فقال الثور: نحرث ونحرث، والعشاء تبن وحشيش يابس، وعند طلوع الضوء يأتينا الطعام المعهود. أتقول: إن على وجه الأرض من هم أشقى منا!

فأجهش الحمار بالبكاء ثم نهق قائلًا: نعم، نحن أشقى من عليها وأنا أشقى الأشقياء. أنت يا زميلي لك عمل واحد، تفلح الأرض وتستريح، أما أنا فأين كنت اليوم! أما كنت مشدودًا معك لأن رفيقتك نفساء؟ ويوم لا تكون للفلاحة يد يفكر صاحبنا بإيجاد عمل لي، وإذا لم يجده خلقه. فإما أن يسوقني لحمل الحطب، وإما أن يذهب بي إلى الطاحون، وإن كان لا عمل عنده حط الجلال على ظهري وبسط فوقه طراحة وركب ليزور أحد أصحابه في القرى المجاورة. والأنكى من كل هذا الشقا والتعب مثلهم الذي يردد ويرددونه على مسمعي: حمله واركب. آخرته للكلاب.

فخار العجل يقول: ألا يكفيك يا ذكي أنك تموت موتة ربك! لا تذبح مثلي متى شيخت أو قصرت، فتموت قبل الأوان.

وفي تلك الهنيهة الحافلة بالتأملات العقلية دخل صاحبهما يحمل سل التبن فقطعا الحديث لئلا يتسرب إليه شيء من أسرارهما الاجتماعية. ولما امتلأ المعلف تبنًا قاما، وهما يقولان معًا: وهل يعطى حمار وثور غير مثل هذا العشاء؟

فقال الثور: نحن ولت أيامنا، وانقضى زمان عزنا. رحم الله نصيف اليازجي القائل:

متى ترى الكلب في أيام دولته
فاجعل لرجليك أطواقًا من الزرد

هذا زمان الكلاب والقطط يا أخي. ليس الكلاب التي تطارد الوحوش الضارية، ولا القطط التي تصطاد الفيران والجرذان، بل تلك التي تجلس في الأحضان، وتتبادل وأصحابها القبلات وتدلل وتأكل خير الطعام من ألباننا ولحومنا، ومن السمك والسردين واللحوم المعلبة، أما نحن الذين نخدم خدمة نصوحًا، ونستخرج الخيرات من قلب الأرض فنرضى بالأكل من حيث كان … ليس من يبالي بنا، فلولا كتفي وظهرك من أين كانت تأكل الناس؟! أما كانوا يحلون محلنا ليقوموا بأعمالنا وأشغالنا الشاقة؟

فقاطعه الحمار قائلًا: ولماذا لم تقل كتفي أيضًا، أما كنا اليوم نفلح الأرض معًا؟

– بلى يا صاحبي، فلولانا ما أعطت الأرض غلة. تأمل، نزرع ما نزرع تحت المطر، محتملين البرد ولا نذوق حبة من الحبوب التي نسقيها عرق جلودنا. وإذا نبت الزرع وحاولنا رعيه أو أن نقضم قضمة منه، علا الصياح من كل فج عميق، وانقضوا علينا بعصيهم، كأن لا حق لنا بشيء من إنتاجنا. الحق مع الذي قال: ابن آدم كافر أسود رأس.

فقال الحمار: وطِّ صوتك لئلا يسمع صاحبنا. قرَّب حتى أوشوشك. أما سمعت بعد بالآلات التي تفلح وتزرع وتقلب الأرض ظهرًا لبطن! قصرت حياتنا على وجه الأرض. سوف يُستغنى عنا.

فقال الثور: كيف! ومن أين يأتون باللحوم والألبان إذا انقرضنا، أيأكل بعضهم لحم بعض؟

فضحك الحمار وقال: ما أقل عقلك يا بهيم، صحيح أنك فدان! نسيت أن عندهم الغنم والمعزى وحيوانات أخرى.

فتضاحك الثور وقال: كل عشرين رأس غنم لا تحلب قدر بقرة واحدة. ولكن أنت ما يحل بك يا مسكين! فجلدك لا يسكف ولحمك لا يؤكل.

فاستضحك الحمار وقال هازئًا: ناس كثيرون يأكلون لحمي، فإذا ضاق بوجهي هذا المحيط وقل الرزق أهاجر، مع الذين يهاجرون، أما قال الشاعر: وأرض الله واسعة الفضاء.

فهز الثور قرنيه استخفافًا وقال: هذا آخر زمان، الحمار فيه يقول الشعر. إلى أين تهاجر يا جحش، ومن يستقبلك على البور أو في المطار، نحن همل ليس من يسأل عنا. الكلاب خير منا. الكلاب محظوظة في هذا الزمان. فبعد ما كانوا يتنجسون منها، حتى قالوا: فلان قعد مني مقعد الكلب، صار للكلاب صدر الديوان.

فحرك الحمار أذنيه وقال: سبحان الله! الدنيا أدوار، وهذا الإنسان يلعب بمقدراتنا.

وسمع الثور حس صاحبه فأسرَّ الكلام وقال الحمار: هس، هس، ذهبت أيام البراذع والجلال والجلاجل، كما مضت الأيام التي لم تكن تذبح فيها بقرة.

– أنا ما رأيت يومًا أبيض في حياتي، فكل أيامي إما أن أكون محملًا وإما مركوبًا، واليوم صرت أفلح. اكتمل النقل بالزعرور كما يقولون.

وشق الفلاح باب القبو فكفا عن الكلام وشرعا يقضمان. فرد الباب عليهما وذهب، وبعد ساعة زمان جاء وفكهما وأطلق سراحهما ليرعيا في مرج قريب، فصادفا جملًا وبغلًا وقعدوا جميعًا يتشاكون فقال البغل: أنتما يا حمار ويا ثور، رضيتما بالتبن الحاف فصار طعامكما الدائم، ألا تعرفان الإنسان طميعًا بخيلًا شحيحًا؟! الحق على من خلفاكم وعوداكم هذه العيشة الذليلة. الذنب ذنب المربي، أما أنا فلا بد لي من الشعير، كما لا بد لأخي الجمل من الفول والكرسنة. أضربنا عن الطعام فوقف العمل، واضطر صاحبنا أن يرضينا ليشتغل ويقبض.

فشقشق الجمل وقال: هاتيك أيام راحت وا حزني عليها. أيام كنا نأكل فيها الكرسنة والفول المنقوعين، أما اليوم فلا فول ولا مكيول. ولا من يحزنون. كنت فيما مضى أشكو الأحمال الثقيلة، أما في هذه الأيام فالحمل نادر والأكل أندر. هذا الزمان كما قلنا، زمان الكلاب والقطط، تأكل خير أكل وتنام على صوف، ولا تعمل شيئًا.

فنظر الحمار إلى الثور نظرة ذات معنى فقال البغل: صرح يا ابن أبي، قل بماذا تفكر، فنحن في المصيبة سواء.

ولما استوثق الحمار من أخيه البغل قال له: اسأل خالك الحصان، أما مر ورآني مكدونًا قبالة هذا العجل لأن رفيقته نفساء.

فقال البغل: وماذا عملت يا حمار! هم يتزوجون ويخلفون وأنت تشتغل عنهم! قل لي ماذا عملت؟

– ماذا عملت؟ أكلت كم عصا ومشيت غصبًا عن رقبتي. فتقدم البغل ينظر إلى الجرح الذي أحدثه النير في رقبة الحمار، ثم هز رأسه وقال: لم يسموك حمارًا عن عبث، فلو كنت عملت مثلي لنجوت.

فصاح الحمار: وماذا عملت؟ علمني حتى أعمل مثلك.

فقال البغل: تعنفصت ولبطت وكدشت، ولما لم أنقد له خاف وتركني، وجاء بك يا جحش لتحل محلي.

فقال الحمار: الحكم إذن على الطائع.

فقال البغل: هذي يا ابن أمي شريعة الناس، ما بلغك بعد قول شاعرهم: ومن لا يَظلم الناس يُظلم. إذا أردت أن تعرف أخلاق أمة ففتش عن أمثالها، فمثل البشر يقول: الفاجر أكل ماله ومال التاجر. يعد الإنسان ألف عشرة قبل أن يركب بغلًا، بينما تراه يركب الحمار ارتجالًا. يقولون في مثلهم: الحيط الواطي كل الناس تركبه، أنت حيطك واطي، فعبثًا تشكو: شكوى الجريح إلى البئزان والرخم.

وهنا تدخل الثور ليعرض قضيته فقال له البغل: سد بوزك. ولا كلمة. أنت أقل فهمًا من الحمار. ولذلك قال الشاعر:

علي نحت القوافي من معادنها
وما علي إذا لم تفهم البقر

كان يقدر الشاعر أن يقول: الحمر بدلًا من البقر ولا ينكسر الشعر ولا القافية، فكيف تترك ابن آدم يجيعك ويكدنك مع الحمار! ألا يحط هذا من مقامك، مع أنه معك سلاح ليس لأحد منا.

فأجاب الثور: أنا معي سلاح؟ أين هو سلاحي؟

فقال الجمل: معلوم، ألا تراه، أنت أعمى يا ترى؟!

فقال البغل للجمل: اسكت يا هبيل، كل الحيوانات تحكي ما عداك. أنت طمعت البشر فينا، رقبتك باع ويقودك ولد أقل من ذراع.

وبربر الجمل ودلق جرابه الأحمر، فقال البغل: هس. ولا كلمة. فلو عرفت قوتك لما أناخوك، وحطوا على ظهرك الجبال من الأحمال، ثم نهضت بها ومشيت.

فقال الثور للبغل: يا سيدنا، قطعت حديثك معي ورحت تحدث غيري. قلت لي معك سلاح ولم تدلني عليه.

فنط الحمار وقال: أعرفتم من منا هو الحمار؟ هذا هو الحمار ألا تعرف يا ثور أنك صاحب سلاح لا ينزع منك؟! فوالله ثم والله ثم والله لو كان لي أحد قرنيك لما تركت إنسانًا يقودني.

فأجابه البغل: ولكن لك حافر فلماذا تتركه يسوقك؟!

ولما حان وقت المغيب جاء صاحبهما ليسوقهما إلى الزريبة كالمعتاد، فلبطه الحمار لبطة موفقة أطلعت روحه، فمات لساعته وكر الحيوانان إلى مزربهما لا يلويان على شيء.

ثم كان البحث عن القاتل فاتهم من اتهم. وبينما كانت التحقيقات جارية كان الحمار والثور يتحاوران، فقال الحمار للثور: هل وصلك خبر الكلب العجيب الذي ينبش المجرم ويقبض عليه؟

قال الثور: صحيح! ويعرفهم تمامًا.

فقال الحمار: هكذا يقولون، حقًّا إنه ذكاء عجيب.

فقال الثور: ما هذا ذكاء. هذي قوة شم.

فأجاب الحمار: أنت لا تعترف لأحد بشيء. شم أنت مثله لنرى ما يكون. نسيت أنه ابن جنسنا ويقبض على الناس متى اعتدوا. هذا فخر لنا يا حبيبي. فخر وأي فخر أن يخوف المجرمين من البشر كلب. ويقر الأمن فيما بينهم.

فمغمغ الثور: تف لهذا الزمان ما أردأه! صار المقام الرفيع فيه للكلب. كان يمشي خلفنا ذليلًا، وكانوا يتنجسون منه إذا لمسهم لمسًا، فصار ينام على السرير، يأخذون حليبنا ليطعموه إياه في صحن صيني ونحن ما زلنا نأكل في المعالف، وننام على زبلنا وزبل غيرنا، ونشرب من الجرن العفن الأزرق.

فقال الحمار: لا تحسد الكلاب، يكفي أن فرعًا منا يأخذ بثأرنا من البشر. الناس الجبناء الذين يغدرون، ويقتلون في الخفاء. فلو كانت لهم سلامة النية والشجاعة ما احتاجوا إلى كلاب تدل على المجرمين منهم. حسبنا فخرًا أن حيوانًا واحدًا من جنسنا يكشف مظالم الإنسان المستبد المعتقد أن الله سلطه علينا فيذبحنا ساعة يشاء. ثم يذبح أخاه الإنسان ليأخذ ماله وهو غير محتاج إليه. هل سمعت أن حيوانًا اهتم للغد، فطالب بأكثر من القوت؟ ومع ذلك يسعون للاستغناء عنا بآلات صماء، فما عساه يحل بنا في الغد؟ حقيقة إن المستقبل مظلم.

فقال الثور: والله ما أعرف لماذا لا نفكر بأن يكون لنا ضمان جماعي يؤمننا مخاوف الشيخوخة عند العجز عن السعي، أما قال المثل: من سعى على رجله رعى، وهل يحمل الرجل غير البطن الملآن.

فقال الحمار: أنا متكل على الذي خلقني. ومع ذلك أقول، وأعني ما أقول، إذا كان ليس عند الناس في لبنان مثل هذا الضمان، فكيف يكون لنا نحن البهائم.

وبينما هما يتناجيان انشق باب القبو فدخل كلب غريب لم يعرفا له صورة وجه من قبل، فظناه الكلب الذي تحدثت الصحف عن عبقريته والاستقبال الذي جرى له في المطار، فنفخ الثور وعج. ونهق الحمار وحاول أن يقطع الرسن. تمثل له شبح جريمته وتذكر حديث الكلب الذي ينبش المجرمين، فخال أنه هو، وأنه جاء ليقبض عليه، أما الثور، وهو البريء من كل إثم، فتشدد وقال: مرحبًا بالضيف، شرفتنا بهذه الزيارة أيها النسيب العزيز، الضيف له الكرامة، ولكن بيتنا خالٍ حتى من عظمة، وكل ما نرجوه منك غض النظر عن جريمتنا، ولا تفضحنا بين الناس فيشمتوا بنا. كن نصيرًا لبني عمك، فنحن كلنا من ذوي الأذناب وهم بشر ظالمون. إذا قتلنا واحدًا منهم خطأ فكم قتلوا من الملايين منا عمدًا. كن حيوانًا ولا تبع دم بني عمك بطعام مريء يعدونه لك، كنا مظلومين ففار دمنا وقتلنا صاحبنا عن غير سابق تصور وتصميم.

أما الكلب فوقف مبهوتًا صامتًا لا يفهم شيئًا مما حكاه الثور. وتشجع الحمار وقاطع الثور قائلًا: يقولون إنك ذكي جدًّا يا بن العم، والذكي مثلك لا يجهل المادة الكلية القائلة: جناية العجماء جبار، وخصوصًا أن الجاني حمار، ثم زوى ما بين عينيه ونصب أذنيه وقال: إذا كان (الاجتهاد) يبرئ الإنسان العاقل من جناية القتل عمدًا، أفلا يبرئ هذا النص الواضح كعين الشمس جحشًا مثلي! كن فهيمًا. هذا نص وليس حيلة تلبس رداء القانون.

فابتهج الثور واستضحك في عبه وقال: ومتى تعلم الحقوق هذا الحمار.

ولم يفهم الحمار ما قاله الثور وأتم حديثه: ثم لو سلمتني ماذا يصير؟ إنهم يخلون سبيلي بلا كفالة. في هذا البلد جناة كثيرون، فإذا أردت أن تبيض وجهك مع أصحابك فاقبض على واحد منهم بدلًا مني. لا تخف أن تتعب ضميرك، ففي اليوم الواحد تُرتكب عدة جنايات.

وبينما كان الثور يحاول إقناع الكلب، والكلب لا يفهم شيئًا مما يُقال، كان الحمار يتهيأ لمغامرة. يريد أن يموت قبل أن يستسلم لكلب، فلو كان أسدًا أو نمرًا لهان عليه الأمر. إذا كان المثل يقول: يأكلها السبع ولا يأكلها الضبع، فكيف بالكلب؟!

ولم تنجل الغمرة إلا عندما لف الكلب ذنبه وخرج. وظل الحمار حينًا قلقًا مشغول الفكر يبكته ضميره حتى عرف أن الكلب سوقي لا بوليصي، وقد مر من هناك عرضًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤