الحِرز

الحركة بالمكان أصبحت غير المعتادة، قلق وتربُّص، وعيون مترنِّحة بين الوجوه، لم يعد الطلبة يفترشون السلالم ومداخل الكليات كما كان الأمر منذ أيام، ولم تَعُد ضحكات فتيات «سنة أولى» تسطو على القلوب والمكان.

بدأت تلك الحالة منذ صدور القرار الذي فاجأ الجميع؛ أساتذة، وطلبة، بعد مشاجرة بين عدد من الطلبة استُخدمت فيها «أسلحة بيضاء».

بقدر ما كانت المشاحنة صادمةً لسقوط مصابين وقتيل، فإن القرار الذي اتخذه مجلس الجامعة، بالاتفاق مع الجهات الأمنية، بتشكيل لجنة لتفتيش الطلبة المشتبه فيهم، كان هو أيضًا لا يقل رعونة.

قام فراشو الكليات بتعليق القرار على الجدران، ومداخل الجامعة، وداخل الحمامات، وعلى أبواب القاعات، ولم تَسلَم الكافتيريات، وأشجار الحدائق، وأماكن تجمُّعات الطلبة، حتى لا يتحجج أحد بعدم رؤيته للقرار.

تجمهر الطلبة على المكان المعلَّق به القرار وتعالت الصيحات وتناثرت الأحاديث الجانبية الساخرة منه، تعدَّدت التأويلات ما بين من رأى فيه مجرد حجة للتضييق الأمني على العمل السياسي بالجامعة، مع «عدم وضوح آليات الاشتباه، أو الأشياء التي ستُعتبر أحرازًا مشبوهة»، فيما سخر آخرون من القرار، ووصفوه بأنه «حبر على ورق»؛ فالأعداد التي تضمها الجامعة ستعوق تنفيذه. وقال خبثاء آخرون: «إنه فرصة للتعرُّف على الخبايا والممنوعات لدى الطلبة»، وسط ضحكات غير بريئة.

وامتعض بعض الأساتذة، وقالوا: «إنه مدخل إلى التدخُّل في عمل الجامعات، وإذا كان القرار يقتصر على الطلبة حاليًّا، فقد يمتد ليشمل الأساتذة، وقد يفاجأ الأساتذة باقتحام محاضراتهم، والتدخُّل في المناهج وفي عملهم بحجج مماثلة.»

مضت الأيام التالية للقرار خاليةً من أي تغيير، فلم تظهر اللجنة المذكورة، ولم تظهر سوى بوابات إلكترونية على أبواب الجامعة، أشاعت جوًّا من المشاحنات المكتومة بين حراس الجامعة والطلبة، وسكنت الوجوه نظرات الشك بين الجميع، خاصةً مع عدم الإعلان عن أسماء كل أعضاء اللجنة، ومخبريها.

اليوم، اقتحم أعضاء اللجنة محاضرةً لأحد الأساتذة، مدجَّجين بالقرار الإداري، فلم يستطِع الأستاذ الاعتراض. تقدموا بنظرات فاحصة للوجوه، مرُّوا على المقاعد، وطالبوا ببطاقات الهُوية من بعض الطلبة، تحرَّشوا بحقائب الفتيات وسط نظراتٍ بعضُها مستنكرة وأخرى تتربَّص للتعرُّف على أسرار الحقائب اللامعة.

في آخر القاعة كانت تجلس، متململةً في مقعدها، تطل من جبينها قطرات الخوف، محتضنةً شنطة يدها في فزع.

التقت عيناها بعينَي عضو اللجنة، مرة، مرتين، وفي الثالثة انتبه العضو لقلقها، فمال على رأس كبيرهم، وأنصت الأخير إليه لحظات، تبعها تربُّص للعيون بها، ثم اتجهت الخطوات إليها بتؤدة وهدوء مفتعلَين، فأشاعت برودةً زادت من قشعريرة جسدها.

في طريقه تفحَّصها كبير اللجنة، بمظهرها المتوسط الحال، ودفاترها الباهتة الألوان التي تشبهها. فكَّر أنها من النوع الذي يسهل «اصطياده» من قبل الجماعات المتطرفة، أو ربما تكون شنطتها عامرةً بما اصطادته هي من الشنط الثمينة.

سألها أن تعطيه حقيبتها، فرفضت، فسألها ماذا تخبئ بها، فصمتت، والتزمت صمتها، وسط همهمات زملائها. اقتادوها وهي متشبثة بحقيبتها، وبنظرات الحسرة على وجهها الذي حاولت أن تديره عن نظرات الاستفهام من حولها.

في مكتب عميد الكلية، حاولوا أخذ الحقيبة، فرفضت بوجه دامع، مستعطفةً أن يبقوها لها، فطلبوا منها أن تبلِّغهم بما فيها، على أن يرفقوا بها إن أبلغتهم بمن حرَّضها على فعلها، وهل قامت بالفعل بما طُلب منها، أم أنها في مرحلة «التخطيط».

بعدما دارت بعقلها الأسئلة والاستجوابات، وافقت على منحهم سرها الأكبر، في شنطتها وجدوا بقايا سندوتشات الطلبة التي تجمعها من الطاولات بالاتفاق مع عامل الكافتيريا، أو من مقاعد الدراسة بعد انتهاء وقت المحاضرات.

تسمَّرت أعين أعضاء اللجنة على الحِرز، فيما تعالت أصوات الاحتجاجات من زملائها خارج المكتب، تُدين اعتقالها وتضييق الحريات على الطلبة، وتطالب بالسماح بالعمل السياسي والحزبي داخل الجامعة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤