مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على محمد، المصطفى لنشر الهُدى وإعلاء كلمة الدين، وعلى آله الأكرمين، وصحبه الصديقين أجمعين، أما بعد:

فقد كشفت هذه الحرب — التي لم يسبق في تاريخ البشر مثيلٌ لها — حقائقَ هي في معناها الصحيح آياتٌ بينات، وعِظات بليغات، ولعل أُولى هذه الحقائق والعِظات، وأجدرها بالعناية والتسجيل والالتفات؛ هي مصرع فرنسا! هذه الأمة التي بلغت من المدنيَّة مُنتهاها، ومن الحضارة أعلى ذُراها، فإذا بها يُغِير عليها المُغِير، فتقع صَرْعى لا حول لها ولا قوة.

سقوط الأخلاق هو سر التدهور

ولم يفُتْ على بعض الزعماء الوطنيين معرفةُ سرِّ هذا السقوط، فقد أذاع الماريشال «بيتان» على أثر الهزيمة والتسليم نداءً وجَّهَه إلى الشعب الفرنسي، ولكن بعد فوات الأوان.

ولم يكتم الماريشال «بيتان» في ندائه أن سقوط أمته يرجع إلى انحلال الأخلاق فيها؛ فقد عمَّها الترف، وسادتها الشهوات، وتحكَّم في نفوس أبنائها وبَناتها حبُّ اللهو والعبث: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا الآية الشريفة.

وإذن، فلا عجب إذا كانت الأمم التي تذهب الفضائل عنها، وتتمرغ في حَمْأةِ الرذائل، مصيرُها السقوطُ والتدهور.

عظمة الأمم بعظمة الأخلاق

ولا يمكن أن يُكتَب البقاء والسلطان لأية مَدنيَّة من المَدنيَّات إلا إذا كانت قائمة على أُسس الأخلاق التي هي أهم ركن من أركان صروح الأمم، ولا يمكن أن تزدهر حضارة من الحضارات إلا إذا تمشَّت مع تعاليم الدين ومبادئه. والأممُ التي تتناسى تعاليم دينها وتهمل الاستمساك بمبادئه، وتقتل في مجموعها روحَ الرجولة؛ لا شك في أن مصيرها الضَّعْف، إن لم يكن الفناء.

لذلك دأَبتُ — وما زلت أَدْأبُ — في تنبيه قومي من المصريين، ثم إخواننا الشرقيين، إلى ضرورة الاستمساك بمبادئ الدين وتعاليمه، وأهمها العمل على نشر الأخلاقِ الكريمة؛ مَبعثِ الفضائل جميعها.

وما رحلاتي السنوية إلى البلاد المقدسة في مواسم الحج، ووصفها، والكتابة عنها، ونشرها في كتب متعاقبة، إلا عملًا أحاول به أن أُعطي لمواطنيَّ الكرام أقوى الأدلة وأقطع البراهين على أن عظَمة الأمم بعظَمة الأخلاق.

وماذا عسى في البلاد المقدسة «بلاد الحجاز» غير رمال وصحراوات؟!

فكيف إذن نشأت في تلك الرمال والصحراوات أمةٌ دانت لها رقابُ سائر الأمم؟ وخرجت منها مبادئ ما زالت وستظل أبدًا عقيدةَ مئات الملايين من البشر؟

حقًّا إن الأمة العربية الضاربة في صحراوات الحجاز ما كانت لتسُود العالم إلا بفضل تعاليم دينٍ هو الدينُ الإسلامي ومبادِئُه القويمة؛ فقد جاء خيرَ شريعة لتنظيم هذا الكون.

رحلة الحجاز

وإن رحلة الحجاز لا تُكلِّف المرء إلا القليل من المال والوقت، فعلى القادرين من مواطنيَّ وإخواننا الشرقيين أن يزوروا مكة في موسم الحج ليروا رؤيا العين كيف أن تلك الرمال، وتلك الصحاري، أنشأت أمة بزَّت في حضارتها سائرَ الحضارات، وشعَّتْ على العالم من دِينها نورَ العلوم والفنون، ووضعتْ أمام أنظار الأمم، من بعدُ، أنموذجًا هو المثل الأعلى لمكارم الأخلاق.

ويقينًا، إن زيارة بلاد الحجاز سيكون لها شأنٌ في إلباس أصحابها لباسَ التقوى، فيعودون إلى ديارهم بأرواح مُطهَّرة، وقد انطوَت نفوسهم على الطُّهر والصلاح.

•••

وإذا كان الذي يتوجَّه إلى الله في الصلاة، أو ذاك الذي يزور ضريحَ أحد الأولياء الصالحين، يشعر براحة تَسرِي في جميع جوانحه، ويحسُّ بروحه مُحلِّقة في آفاق هنيئة مجهولة منه، فما بالنا بمَن يرى البيت العتيق ويطوف به، ويُصلِّي في مقام إبراهيم، ويسعى بين الصفا والمروة، ويقف على عرفة، ويرجُم الشيطان في منى! نقول: فما بالنا بمَن يؤدي فريضةَ الحج كاملة!

إنه ولا ريب يُدرك من طبيعة البلاد سرَّ سيادة الأمة العربية التي ما جاءت إلا عن طريق تعاليم دِينٍ لُحْمتُه وسَدَاهُ إصلاحُ حال الأخلاق، فهي القادرة وحدها على تكوين أمم قوية الجانب، مهيبة السلطان.

•••

ففي سبيل تحقيق الغاية الشريفة التي أسعى للوصول إليها، وهي الحثُّ على الاستمساك بمكارم الأخلاق، أطلعُ على مواطنِيَّ وإخواني الشرقيين بهذا الكتاب، والله المستعان.

وإنه تعالى ولي التوفيق.

إمام

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤