الفصل الأول

مُعَلِّمُ الرِّمايَةِ

(١) فاتِحَةُ الْقِصَّةِ

كانَ فِي بِلادِ الْهِنْدِ، ويا ما أَعْجَبَ مَا كانَ فِي تِلْكَ الْبِلادِ! كانَ فِيهَا مَلِكٌ كَبِيرُ الْقَدْرِ وَالشَّانِ، عَظِيمُ الْقُوَّةِ وَالسُّلْطَانِ، جَلَسَ عَلَى الْعَرْشِ مُنْذُ طُفُولَتِهِ، وَسَاسَ أُمُورَ بِلادِهِ فِي عَهْدَيْ صِباهُ وَكُهُولَتِهِ، وَامْتَدَّ حُكْمُهُ إِلَى زَمَنَيْ هَرَمِهِ وَشَيْخُوخَتِهِ.

figure

وَقَدْ بَدَأَتِ الْقِصَّةُ حِيْنَ كَبِرَ الْمَلِكُ «بِهِشْما» — وَهَذَا هُوَ اسْمُهُ، كَما عَرَفْناهُ مِمَّا قَرَأْناهُ، مِنْ أَحادِيثِ الْقَصَّاصِينَ وَأنْباءِ الرُّوَاةِ — فَقَدْ أخْبَرَنا الأَثْباتُ مِنْهُمْ وَالثِّقاتُ، أَنَّ الْمَلِكَ «بِهِشْما» قَدْ تَبَدَّلَ — عَلَى مَرِّ السِّنِينَ وَكَرِّ الأَعْوَامِ — ضَعْفًا مِن قُوَّةٍ، وَعَجْزًا مِن فُتُوَّةٍ؛ وَقَوسَتْ ظَهْرَهُ الأيَّامُ، حِيْنَ أشْرَفَتْ حَياتُهُ عَلَى الْخِتامِ. وَقَدْ أعْجَزَتْهُ الشَّيْخُوخَةُ عَنِ الِاضْطِلاعِ بِمَهامِّ الدَّوْلَةِ، وَتَدْبِيرِ سِياسَةِ الْمَمْلَكَةِ، وَالْعِنايَةِ بِشُئُونِ الشَّعْبِ.

(٢) أَبْناءُ الْعَمِّ

وَكانَ الْمَلِكُ «بِهِشْما» قَدْ خَلَّفَ — وَهُوَ فِي مُقْتَبَلِ شَبابِهِ وَلَدَيْنِ، سَمَّى أَكْبَرَهُما «دَرَسْتراسا» وَسَمَّى الآخَرَ «بَنْدُو». وَكانَ أَوَّلُهُما — لِسُوءِ حَظِّهِ — أَكْمَه، أَعْنِي: أَنَّهُ وُلِدَ أَعْمَى؛ فَلَمْ يُمْكِنْهُ عَماهُ، أَنْ يُعاوِنَ أَباهُ. وَكانَ النَّاسُ يُطْلِقُونَ عَلَيْهِ لَقَبَ: «الضَّرِيرِ» (الأَعْمَى)، كَما يُطْلِقُونَ عَلَى أَوْلادِهِ لَقَبَ: أَبْناءِ «الضَّرِيرِ» (أَوْلادِ الأَعْمَى). أَمَّا وَلَدُهُ الآخَرُ «بَنْدُو» فَلَمْ يَطُلْ عُمْرُهُ، وَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ أَعْجَلَهُ حِمامُهُ (أَسْرَعَ إِلَيْهِ الْمَوْتُ)، وَخُتِمَتْ — فِي رِيْعانِ شَبابِهِ — أَيَّامُهُ وَكانَ فِي حَياتِهِ مِثالَ الإِقْدَامِ والشَّجاعَةِ، وَالدُّرْبَةِ وَالْبَرَاعَةِ. فَأَحَبَّهُ أَصْدِقاؤُهُ، وَتَهَيَّبَهُ أَعْداؤُهُ، وَحالَفَهُ النَّصْرُ فِي كُلِّ مَا شَهِدَهُ مِنَ الْمَعارِكِ، وَقَدْ صَرَعَهُ سَهْمٌ غادِرٌ فِي آخِرِ مَعْرَكَةٍ قَادَها، بَعْدَ أَنْ تَمَّتْ لَهُ الْغَلَبَةُ وَكُتِبَ لَهُ النَّصْرُ عَلَى أَعْداءِ بِلادِهِ. فَكانَ لِمَصْرَعِهِ دَوِيٌّ عَظِيمٌ، وَأَطْلَقَ عَلَيْهِ النَّاسُ — مُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْمِ — لَقَبَ: «الشَّهِيدِ»؛ كَمَا أَطْلَقُوا عَلَى أَبْنَائِهِ لَقَبَ: «أَبْناءِ الشَّهِيدِ».

فَلَمَّا كَبِرَ أَبْناءُ «الضَّرِيرِ» وَأَبْناءُ «الشَّهِيدِ»، وَبَلَغُوا مَبْلَغَ الرِّجالِ، وَعُقِدَتْ عَلَيْهِمْ كِبارُ الآمالِ، كانَ جَدُّهُمْ «بِهِشْما» قَدْ بَلَغَ سِنَّ الشَّيْخُوخَةِ، وَابْيَضَّ شَعْرُهُ، وَوَهَنَتْ (ضَعُفَتْ) قُواهُ، وَارْتَعَشَتْ — مِن الْكِبَرِ — يَداهُ. فَلَمْ يَجِدْ بُدًّا (مَفَرًّا) مِنَ التَّخَلِّي عَنْ أعْباءِ الْمُلْكِ.

(٣) دُرْيُدْهانا

قُلْتُ لَكَ إِنَّ أَبْناءَ «الضَّرِيرِ» وَأَبْناءَ «الشَّهِيدِ» كانُوا حَفَدَةَ «بِهِشْما»، كَما قُلْتُ لَكَ إِنَّ أَوَّلَ هَذَيْنِ الْوَلَدَيْنِ عاشَ أَعْمَى، وَالثَّانِيَ ماتَ فِي رَيْعانِ شَبابِهِ. وَالآنَ أَقُولُ لَكَ: إِنَّ «دُرْيُدْهانا» كانَ كَبِيرَ أُسْرَةِ «الضَّرِيرِ» وَزَعِيمَها، وَإنَّهُ كانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الْمُتَناقِضاتِ: كانَ يَجْمَعُ إِلَى كَيْدِ الضُّعَفاءِ وَحِقْدِ الْجُبَناءِ، فِطْنَةَ الأذْكِياءِ، وَبَذْلَ الْكُرَماءِ، وَطُمُوحَ الأقْوِياءِ.

(٤) أَرْجُونا

بَقِيَ عَلَيْكَ أَنْ تَعْرِفَ أَنَّ «يُدِشْتِ-هِيرا» كانَ كَبِيرَ أُسْرَةِ «الشَّهِيدِ» وَزَعِيمَ إِخْوَتِهِ الأرْبَعَةِ، وَهُمْ عَلَى تَرْتِيبِ أَسْنانِهِمْ (عَلَى حَسَبِ أَعْمارِهِمْ): «بِهْما» وَ«أَرْجُونا» وَالتَّوْأَمانِ.

أَمَّا «أَرْجُونا» فَكانَ أَوْسَطَ إِخْوَتِهِ سِنًا، وَأَعْلاهُم قَدْرًا، وَأَوْفَرَهُم فَضْلًا، وَأَمْضَاهُم عَزْمًا، وَأَعْظَمَهُم جُرْأَةً، وَأَرْجَحَهُم عَقْلًا.

figure

وَأَمَّا أَخَوَاهُ الأصْغَرَانِ، فَكانا أَعْجَبَ تَوْأَمَيْنِ عَرَفَتْهُما بِلادُ الْهِنْدِ. فَقَدْ كانا — لِطُولِ أُلْفَتِهِما وَتَوافُقِ رَغَباتِهِما وَاتِّحادِ أَهْوائِهِما — لا يَفْتَرِقانِ فِي جِدٍ وَلا لَعِبٍ، وَلا يَخْتَلِفانِ فِي حُزْنٍ وَلا طَرَبٍ؛ يَضْحَكُ أَحَدُهُما إِذَا ضَحِكَ أَخُوهُ وَيَبْكِي إِذَا بَكَى، وَيَفْرَحُ إِذَا فَرِحَ وَيَتَأَلَّمُ إِذَا اشْتَكَى.

(٥) أُمْنيَّةُ الشَّيْخِ

وَكانَ أَكْبَرُ مَا يَتَمَنَّاهُ الشَّيْخُ «بِهِشْما» أَنْ يَرَى حَفَدَتَهُ (أَبْناءَ وَلَدَيْهِ) مُتَّحِدِينَ أَقْوِياءَ، يَذُودُونَ (يُدافِعُونَ) عَنْ وَطَنِهِم وَيَرُدُّونَ عادِيةَ الْمُعْتَدِينَ، وَبَطْشَ الْغُزَاةِ الْمُغِيرِينَ. وَبَحَثَ الشَّيْخُ عَنْ مُعَلِّمٍ يَعْهَدُ إِلَيْهِ بِتَعْلِيمِ حَفَدَتِهِ، وَطالَ بَحْثُهُ عَلَى غَيْرِ فائِدَةٍ، فَتَمَلَّكَهُ الْحُزْنُ وَساوَرَهُ الْقَلَقُ، بَعْدَ أَنْ رَأَى «دُرْيُدْهَانا» وَابْنَ عَمِّهِ «يُدِشْتِ-هِيرَا» يَقْتَرِبانِ مِن سِنِّ الرُّجُولَةِ، دُونَ أَنْ يَتَدَرَّبا عَلَى الرِّمايَةِ، وَيَتَمَرَّسا بِضُرُوبِ الْحَرْبِ، وَفُنُونِ الطَّعْنِ وَالضَّرْبِ؛ وَضاعَفَ مِن آلامِهِ أَنْ رَآهُما مُتَخَلِّفَيْنِ عَنْ أَتْرَابِهِما مِن شَبابِ الأُمَرَاءِ الْمُدَرَّبِينَ.

(٦) الْمُعَلِّمُ الْبارِعُ

وَشاءَ اللهُ — سُبْحانَهُ — أَلاَّ تَطُولَ حَيْرَةُ الشَّيْخِ، فَلَمْ يَلْبَثِ الأُمَرَاءُ الصِّغارُ أَنْ وَفِّقُوا إِلَى تَحْقِيقِ طِلْبَةِ جَدِّهِم، وَكانَ اهْتِدَاؤُهُم إِلَى أُسْتاذِهِم الْمَنْشُودِ أَسْعَدَ مُصادَفَةٍ ساقَها الْقَدَرُ إِلَى ذَلِكَ الشَّيْخِ الْهَرِمِ، وَأَبْهَجَ مُفاجَأةٍ أَدْخَلَتِ السُّرُورَ عَلَيْهِ.

(٧) الْكُرَةُ الْغارِقَةُ

كانَ الأُمَراءُ يَلْعَبُونَ عَلَى مَقْرَبَةٍ مِن إِحْدَى الآبارِ، فَقَذَفَ أَحَدُهُمْ بِالْكُرَةِ، فَهَوَتْ إِلَى الْبِئْرِ وَاسْتَقَرَّتْ عَلَى سَطْحِ مَائِها. وَكانَتْ كُرَةً ثَمِينَةً مُحَلَّاةً بِبَدائِعِ النُّقُوشِ، مُزْدَانَةً بِرَوائِعِ التَّصاوِيرِ. وَقَدِ افْتَنَّ صَانِعُها فِيما أَبْدَعَهُ مِن صُوَرِ الْقُرُودِ وَالنُّمُورِ وَما إِلَيْها مِن حَيَوانِ الْغابَةِ. وَحاوَلَ الأُمَراءُ الصِّغارُ أَنْ يَسْتَرِدُّوا الْكُرَةَ بِالْعِصِيِّ تارَةً وَبِالْحِجَارَةِ تارَةً أُخْرَى، فَلَمْ يُحالِفْهُمُ التَّوْفِيقُ، وَلَمْ يَظْفَرُوا مِن سَعْيِهِمْ بِغَيْرِ إِغْرَاقِهَا فِي قَرارِ الْبِئْرِ، فَاشْتَدَّ بِهِمُ الْقَلَقُ وَساوَرَهُمُ الْيَأْسُ مِن اسْتِرْدادِ كُرَتِهِمِ الثَّمِينَةِ. وَأَيْقَنُوا أَنَّهُمْ فَقَدُوها إِلَى الأَبَدِ. وَحانَتْ مِن الأُمَراءِ الْتِفاتَةٌ، فَرَأَوُا الشَّيْخَ النَّاسِكَ الذَّكِيَّ «دُرُونا» جالِسًا عَلَى مَقْرَبَةٍ مِنهُمُ، وَهُوَ يَشْخَصُ بِبَصَرِهِ إِلَيْهِمْ وَيَتْبَعُهُمْ بِنَظَراتِهِ النَّفَّاذَةِ.

وَهُنا الْتَفَتَ «أَرْجُونا» لأَصْحَابِهِ قائِلًا: «ماذا عَلَيْنا إِذا لَجَأْنا إِلَى هَذا الشَّيْخِ الْجَلِيلِ، لِنَلْتَمِسَ مِنهُ الْعَوْنَ، لَعَلَّهُ يَسْتَطِيعُ — بِما أُوتِيَ مِن خِبْرَةٍ وَسَعَةِ عِلْمٍ — أَنْ يُعِيدَ إِلَيْنَا الْكُرَةَ الْغارِقَةَ». فَأَمَّنَ أَصْحابُهُ عَلَى ما قالَ، وَاتَّجَهُوا جَمِيعًا إِلَى النَّاسِكِ الْهَرِمِ، وَأَفْضَوا إِلَيْهِ بِرَجائِهِمْ فِي إِنْجازِ مُلْتَمَسِهِمْ.

(٨) بَراعَةُ النَّاسِكِ

فَابْتَسَمَ الشَّيْخُ الْوَقُورُ، وَلَمْ يَتَرَدَّدْ فِي تَلْبِيَةِ رَغْبَةِ الأُمَراءِ، وَلَكِنَّهُ سُرْعانَ ما تَوارَتِ ابْتِسَامَتُهُ، وَأَعْقَبَها التَّجَهُّمُ، وَارْتَسَمَتْ عَلَى وَجْهِهِ دَلائِلُ الْغَيْظِ وَأَماراتُ الْكَمَدِ، حِينَ تَبَيَّنَ عَجْزَ الأَمْراءِ الْفِتْيانِ عَنْ إِخْراجِ الْكُرَةِ الْغارِقَةِ. فَالْتَفَتَ إِلَيْهِمْ قائِلًا فِي لَهْجَةٍ حازِمَةٍ آسِفَةٍ: «تَبًّا لَكُمْ مِن صِبْيَةٍ عَجَزَةٍ أَغْرَارٍ! كَيْفَ تَضِيقُونَ ذَرْعًا بِإِخْراجِ الْكُرَةِ الْغارِقَةِ، وَأَنْتُمْ أَبْناءُ أَعَظَمَ أُسْرَتَيْنِ أَنْجَبَتْهُما بِلادُ الْهِنْدِ. كَيْفَ تَعْجِزُونَ يا أَبْناءَ «الضَّرِيرِ» وَ«الشَّهِيدِ»؟ أَلا تَرَوْنَ الْكُرَةَ واضِحَةً مِن خِلالِ الْماءِ الصَّافِي، لا يَحْجُبُها عَنْ أَبْصارِكُمْ شَيْءٌ؟ خَبِّرُونِي أَيُّها الضِّعافُ: مَنْ أُسْتاذُكُمُ الَّذِي يُعَلِّمُكُمُ الرِّمايَةَ وَيُدَرِّبُكُمْ عَلَى فُنُونِها؟»

فَأَجابَهُ الصِّبْيَةُ الأَمَراءُ مُتَحَسِّرِينَ: «لَيْسَ لَنا مَعَ الأَسَفِ أُسْتاذٌ يُشْرِفُ عَلَى تَعْلِيمِنا فُنُونَ الرِّمايَةِ.»

فَعَجِبَ النَّاسِكُ مِمَّا سَمِعَ، وَاشْتَدَّ دَهَشُهُ حِينَ سَمِعَهُمْ يَتَصَايَحُونَ قائِلِينَ: «خَبِّرْنا أَيُّها النَّاسِكُ الْجَلِيلُ: أَفِي مَقْدُورِكَ أَنْ تُعِيدَ إِلَيْنا الْكُرَةَ الْمَفْقُودَةَ؟ وَلَكِنْ كَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى ذَلِكَ؟!».

فَصَرَخَ فِيهِمْ غاضِبًا: «شَدَّ ما أَسْرَفْتُمْ فِي اللَّجاجَةِ وَالْهَذَيانِ، حِينَ أَكْبَرْتُمْ ما صَغُرَ مِن شَأْنِ هَذِهِ الْغايَةِ الْيَسِيرَةِ، وَعَظَّمْتُمْ مِن أَمْرِها ما حَقَرَ».

ثُمَّ انْتَزَعَ مِن إِصْبَعِهِ خاتَمًا مِن الْياقُوتِ، وَقَذَفَ بِهِ إِلَى الْبِئْرِ حَيْثُ تَسْتَقِرُ الْكُرَةُ، وَقالَ لَهُمْ فِي لَهْجَةِ السَّاخِرِ الْواثِقِ: «لَنْ أَكْتَفِيَ بِإِخْراجِ الْكُرَةِ وَحْدَها، بَلْ أَزِيدَ عَلَيْها إِخْراجَ خاتَمِ الْياقُوتِ الَّذِي قَذَفْتُ بِهِ أَمامَكُمْ.»

وَلا تَسَلْ عَنْ دَهْشَةِ الأُمَراءِ، حِينَ رَأَوُا النَّاسِكَ الْهَرِمَ يَنْحَنِي عَلَى قَبْضَةٍ مِن الْحَشائِشِ، فِيتَخَيَّرُ مِنها سَهْمًا يَضَعُهُ فِي قَوْسِهِ وَيُسَدِّدُهُ — فِي مَهارَةٍ وَإِحْكامٍ — إِلَى الْكُرَةِ الْغارِقَةِ فِي أَعْماقِ الْبِئْرِ، فِينْفَذَ السَّهْمُ فِي الْكُرَةِ، كَما تَنْفَذُ الإِبْرَةُ فِي الْحَرِيرِ.

وَسَدَّدَ النَّاسِكُ سَهْمًا آخَرَ فَنَفَذَ فِي نِهايَةِ السَّهْمِ الأَوَّلِ، ثُمَّ راحَ يُسَدِّدُ سِهامَهُ فِيشْتَبِكُ الْواحِدُ بِأَعَلَى طَرَفِ الآخَرِ، حَتَّى تَأَلَّفَتِ مِن السِّهامِ عَصًا طَويلَةٌ تَرْتَفِعُ إِلَى مُتَناوَلِ يَدِهِ، فَأَمْسَكَ بِها، وَقَذَفَ بِالْكُرَةِ إِلَى الصِّبْيَةِ الْمَشْدُوهِينَ الَّذِينَ أَذهَلَهَمُ ما رَأَوْهُ مِن بَراعَةِ النَّاسِكِ وَمَهارَتِهِ، وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِ يَتَساءَلُونَ: «ما أَعْجَبَ ما صَنَعْتَ! فَخَبِّرْنا كَيْفَ تُخْرِجُ الْخاتَمَ مِن قَرارِ الْبِئْرِ السَّحِيقِ؟»

وَسُرْعانَ ما فَتَحَ النَّاسِكُ جَعْبَتَهُ، وَتَخَيَّرَ مِنها سَهْمًا وَضَعَهُ فِي قَوْسِهِ ثُمَّ سَدَّدَهُ إِلَى الْخاتَمِ. يا للهِ: أَيُّ ساحِرٍ هَذا الرَّجُلُ؟ يا لَلْعَجَبِ! أَحَقٌّ ما تَراهُ أَعْيُنُهُمْ؟ أَمْ هُوَ ضَرْبٌ مِن الأَوْهامِ خَيَّلَهُ لَهَمُ السَّاحِرُ الْعَجِيبُ؟ أَتَعْرِفُ ماذا رَأَى الأُمَراءُ الصِّغارُ؟ رَأَوُا السَّهْمَ لا يَنْطَلِقُ مِن قَوْسِهِ حَتَّى يَرْتَدَّ إِلَى صاحِبِهِ، حَامِلًا فِي طَرَفِهِ الدَّقِيقِ خاتَمَ الْياقُوتِ.

figure

هُنا لَمْ يَتَمالَكُوا أَنْ يُصَفِّقُوا وَيَقْفِزُوا حَوْلَهُ، مُرَدِّدِينَ آياتِ الإِعْجابِ بِما رَأَوْا مِن قُدْرَةٍ خارِقَةٍ، بَعْدَ أَنْ شَهِدُوا ما أَنْساهُمْ بَراعَةَ السَّحَرَةِ وَالْعَجائِبِيِّينَ (الْحُواةِ) الَّذِينَ كانُوا يَفِدُونَ فِي الْمَواسِمِ وَالأَعْيادِ، لِيَعْرِضُوا عَلَيْهِمْ ما بَرَعُوا فِيهِ مِن تَرْوِيضِ الأَفاعِي وَابْتِلاعِ السُّيُوفِ وَما إِلَى ذَلِكَ مِن فُنُونِهِمُ الْمُعْجِبَةِ.

(٩) بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ

وهنا بَرَزَ «يُدِشْتِ-هِيرا»، مِنَ الصَّفِّ، وَأَشارَ إِلَى أَصْحابِهِ أَنْ يَكُفُّوا عَنْ ضَوْضائِهِمْ — وَكانَ «يُدِشْتِ-هِيرا» أَكْبَرَ أَبْناءِ أَبِيهِ سِنًّا — وَانْدَفَعَ إِلَى النَّاسِكِ يَسْأَلُهُ مُتَوَدِّدًا: «بِماذا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُعَبِّرَ عَنْ شُكْرِنا لِهَذا الصَّنِيعِ الْباهِرِ؟ وَأَيُّ هَدِيَّةٍ نَسْتَطِيعُ أَنْ نُقَدِّمَها عَرْبُونًا لاعْتِرافِنا بِالْجَمِيلِ؟»

فَالْتَفَتَ النَّاسِكُ إِلَى الأُمَراءِ قَائِلًا: «خَبِّرُوا جَدَّكُمْ «بِهشْما» الْعَظِيمَ أَنْ «دُرُونا» — الَّذِي لا يُخْطِئُ سَهْمُهُ الْهَدَفَ — قَدْ واصَلَ السَّيْرَ أَمْيالًا حَتَّى وَفَدَ عَلَيْكُمْ، وَهُوَ الآنَ جائِعٌ عَطْشانُ، يُعْوِزُهُ الطَّعامُ وَالشَّرابُ.»

فَأَسْرَعَ الصِّبْيَةُ الأُمَراءُ إِلَى جَدِّهِمُ الْمَلِكِ، وَانْدَفَعُوا يَتَسابَقُونَ لِيُحَدِّثُوهُ بِقِصَّةِ النَّاسِكِ. وَما إِنْ سَمِعَ «بِهِشْما» بِاسْمِ «دُرُونا» حَتَّى صاحَ مُتَعَجِّبًا: «يا للهِ! «دُرُونا»! هُنا «دُرُونا» قَدْ حَلَّ بِأَرْضِنا، وَوَصَلَ إِلَى مَمْلَكَتِنا!؟ ما أَسْعَدَهُ خَبَرًا! أَسْرِعُوا بِإِحْضارِهِ أَيُّها الْحَفَدَةُ الأَعِزَّاءُ!».

figure

وَذَهَبَ الأُمَراءُ إِلَى النَّاسِكِ «دُرُونا» يَدْعُونَهُ لِلِقاءِ جَدِّهِمْ، وَأَسْرَعُوا إِلَى الْبابِ فَفَتَحُوهُ لَهُ. فَلَمَّا مَثَلَ «دُرُونا» بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ حَيَّاهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ، ثُمَّ جَلَسَ مُتَرَبِّعًا (ثَانِيًا قَدَمَيْهِ إِلَى ما تَحْتَ فَخِذَيْهِ، مُخالِفًا لَهُما) داعِمًا رَأْسَهُ بِراحَتَيْهِ (بِيَدَيْهِ)، شاخِصًا بِبَصَرِهِ إِلَيْهِ. فَابْتَدَرَهُ الْمَلِكُ مُرَحِّبًا، ثُمَّ خَتَمَ تَرْحِيبَهُ قائِلًا: «لَقَدْ طالَتْ غَيْبَتُكَ عَنَّا يا «دُرُونا» وَأَنْتَ تَعْلَمُ فَرْطَ شَوْقِنا إِلَى لُقْياكَ! عَلَى أَنَّ ذِكْراكَ لَمْ تَغِبْ عَنْ خاطِرِنا قَطُّ! وَأَخْبارَكَ لَمْ تَنْقَطِعْ عَنَّا. وَقَدْ أَثْلَجَ صَدْرَنا ما ذاعَ — فِي جَمِيعِ بِلادِ الْهِنْدِ — مِن أَنْباءِ بَراعَتِكَ فِي الرِّمايَةِ وَمَهارَتِكَ، وَزَهادَتِكَ فِي الدُّنْيا وَقَناعَتِكَ.»

(١٠) حَدِيثُ النَّاسِكِ

فَقالَ النَّاسِكُ: «شُكْرًا لَكَ يا سَيِّدِي عَلَى ما غَمَرْتَنِي بِهِ مِن ثَناءٍ. فَهَلْ تَأْذَنُ لِي فِي مُحادَثَتِكَ عَلَى انْفِرادٍ.»

فَقالَ الْمَلِكُ: «ما أَشْوَقَنِي إِلَى حَدِيثِكَ.»

فَلَمَّا خَلا الْمَكانُ إِلَّا مِنهُما، بَدَأَ النَّاسِكُ حَدِيثَهُ قَائِلًا:

«قَضَيْتُ أَيَّامَ شَبابِي — أَيُّها الْمَلِكُ الْعَظِيمُ — فِي صُحْبَةِ الأُمَراءِ، وَتَلَقَّيْتُ فُنُونَ الرِّمايَةِ وَضُرُوبَ الْحَرْبِ مَعَ أَبْنائِهِمْ. وَكانَ الأَمِيرُ «دُرُوپَادَا» أَصْدَقَ خُلَصائِي، وَأَكْرَمَ أَصْفِيائِي. وَقَدْ أَصْبَحَ ذَلِكَ الأَمِيرُ مَلِكَ «الْبَنْغالِ» وَلا يَزالُ مَلِكًا عَلَيْها إِلَى الآنَ. وَقَدْ تَحالَفْنا مُنذُ تَعارَفْنا عَلَى الْوَفاءِ جَمِيعًا، وَأَقْسَمْنا عَلَى أَنْ يَكُونَ كِلانا عَوْنًا لِصاحِبِهِ فِي الضَّرَّاءِ وَالسَّرَّاءِ عَلَى السَّواءِ. وَمَرَّتْ عَلَى ذَلِكَ أَعْوامٌ، ثُمَّ آثَرْتُ الزُّهْدَ، فَعَكَفْتُ عَلَى الْعِبادَةِ زَمَنًا، وَاخْتَرْتُ الْعُزْلَةَ، فَعِشْتُ كَما يَعِيشُ النُّسَّاكُ فِي الْغابَةِ، وَقَضَيْتُ فِي هَذِهِ الْحَياةِ الْوادِعَةِ رَدْحًا مِنَ الزَّمَنِ.

ثُمَّ رَغِبْتُ فِي الْحَياةِ الزَّوْجِيَّةِ، فَلَمْ أَلْبَثْ أَنْ رُزِقْتُ طِفْلًا مَلأَ الدُّنْيا عَلَيَّ بَهْجَةً وَسَعادَةً. فَحَبَّبَ إِلَيَّ الْعَوْدَةَ إِلَى الْمَدِينَةِ؛ بَعْدَ أَنْ طالَ أُنْسِي بِحَياةِ الْغابَةِ! وَلَوْلا غُلامِي لَمَا فَكَّرْتُ فِي الاخْتِلاطِ بِالنَّاسِ وَاسْتِئْنافِ حَياتِيَ الأُولَى.

وَكانَ «دُرُوپَادَا» أَوَّلَ مِن قَصَدْتُ لأَسْأَلَهُ الْمالَ وَالْكِساءَ. وَلَعَلَّكَ تَسْأَلُنِي: أَيُّ مَوْرِدٍ كُنْتُ أَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى تَحْصِيلِ قُوتِي فِي الْغابَةِ؟! فَإِلَيْكَ جَوابِي: لَقَدْ كانَ طُلَّابُ الرِّمايَةِ يَفِدُونَ عَلَى الْغابَةِ لِيَتَلَقَّوْا عَنِّي فُنُونَها، وَكُنْتُ أَجِدُ فِي تَدْرِيبِهِمْ عَلَى اسْتِعْمالِ أَنْواعِ السِّلاحِ سُرُورًا عَظِيمًا وَشَحْذًا لِمَوْهِبَتِي الَّتِي اخْتَصَّنِي بِها اللهُ، حَتَّى لا تَتَعَطَّلَ كِفايَتِي، فَإِنَّ الْعِلْمَ يُفْقَدُ بِالتَّرْكِ، وَالسَّيْفَ الْقاطِعَ إِذا بَطَلَ اسْتِعْمالُهُ وَطالَ إِهْمالُهُ عَلاه الصَّدَأُ، وَدَبَّ إِلَى مَعْدِنِهِ الْفَسادُ. كانَ هَذا مَصْدرَ عَيْشِي فِي الْغابَةِ، قَبْلَ أَنْ أَذْهَبَ إِلَى «دُرُوپَادَا» مَلِكِ «الْبَنْغالِ».

أَتَعْرِفُ كَيْفَ لَقِيَنِي صَدِيقِيَ الْوَفِيُّ الْكَرِيمُ؟ بِالسُّخْرِيَةِ وَالاحْتِقارِ قابَلَنِي، وَبِالْمَهانَةِ وَالطَّرْدِ شَيَّعَنِي، وَبِالنُّسْكِ وَالْفَقْرِ عَيَّرَنِي.

وا حَسْرَتاهُ! شَدَّ ما تَنَكَّرَ لِي وَامْتَهَنَ حُبِّي، وَتَعالَى عَلَيَّ وَاحْتَقَرَ صَداقَتِي، زاعِمًا أَنَّهُ لا يَعْرِفُ «دُرُونا»، كَما زَعَمَ أَنَّ جَلالَ الْمُلْكِ لا يَتَّفِقُ مَعَ حَقارَةِ الْفَقْرِ، وَأَنَّ مِن الصَّفاقَةِ وَالْغُرُورِ وَالْحَماقَةِ، أَنْ يَطْمَعَ صُعْلُوكٌ فِي مُصاحَبَةِ الْمُلُوكِ.

كَذَلِكَ قالَ «دُرُوپَادَا»، فَلا تَعْجَبْ — يا سَيِّدِي — إِذا امْتَلأَتْ نَفْسِي احْتِقارًا لِهَذا الْغادِرِ. وَلا تَدْهَشْ إِذا عاهَدْتُ نَفْسِي عَلَى تَأْدِيبِهِ، وَأَقْسَمْتُ لأُخَفِّفَنَّ مِن غُلَوائِهِ، وَلأُذِلَّنَّ مِن كِبْرِيائِهِ، وَلأَجْعَلَنَّهُ لا يَذْكُرُ اسْمِي مَدَى الْحَياةِ بِغَيْرِ الْبُكاءِ وَالأَسَفِ، وَالْحَسْرَةِ عَلَى ما جَرَّهُ إِلَيْهِ الْغُرُورُ وَالصَّلَفُ.

لَقَدْ وَهَبْتُ حَياتِي لِهَذِهِ الْغايَةِ. فَأَنا أَسْتَيْقِظُ مَعَ الْفَجْرِ — فِي كُلِّ يَوْمٍ — لِتَدْرِيبِ الطُّلابِ عَلَى الرِّمايَةِ، وَتَلْقِينِهِمْ أُصُولَها. وَما إِنْ عَلِمْتُ بِرَغْبَتِكَ فِي تَثْقِيفِ حَفَدَتِكَ، حَتَّى واصَلْتُ اللَّيْلَ بِالنَّهارِ، لِكَيْ أَبْلُغَ حاضِرَةَ مُلْكِكَ، لِتَحْقِيقِ هَدَفِكَ، وَإِنْجازِ رَغْبَتِكَ.»

(١١) مُعَلِّمُ الْحَفَدَةِ

فَأَجابَهُ «بِهِشْما» قائِلًا:

«شُكْرًا لَكَ أَيُّها النَّاسِكُ الْجَلِيلُ. الآنَ تَهْدَأُ بالًا وَتَقَرُّ عَيْنًا، فَأَنْتَ لِحَفَدَتِي — مِنذُ الْيَوْمِ — فِي مَرْتَبَةِ الْوالِدِ وَمِنزِلَةِ الأُسْتاذِ، وَسَتَعِيشُ فِي قَصْرِي مَوْفُورَ الإِعْزازِ وَالإِجْلالِ.

لَقَدْ ساقَتْكَ الْعِنايَةُ الإِلَهِيَّةُ لِتَدْرِيبِ أَبْناءِ: الضَّرِيرِ وَالشَّهِيدِ، بَعْدَ أَنْ طالَ بِهِمُ الشَّوْقُ، وَجَهَدَهُمُ الْبَحْثُ عَنْ مُدَرِّسٍ كُفْءٍ بارِعٍ فَكُلِّلَ سَعْيُهُمْ بِالنَّجاحِ.»

فَلَمَّا جاءَ الْيَوْمُ التَّالِي، ذَهَبَ النَّاسِكُ«دُرُونا» مَعَ الأَمُراءِ إِلَى بُقْعَةٍ فَسِيحَةٍ فِي الْغابَةِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْلِسُوا حَوْلَهُ عَلَى هَيْئَةِ دائِرَةٍ. ثُمَّ سَأَلَهُمْ فِي لَهْجَةٍ جادَّةٍ حازِمَةٍ:

«لَقَدِ الْتَقَتْ رَغَباتُكُمْ فِي هَدَفٍ واحِدٍ، هُوَ الْفَوَقانُ عَلَى جَمِيعِ أُمَراءِ الْهِنْدِ فِي فُنُونِ الْحَرْبِ، وَالتَّمَرُّسِ بِمُخْتَلِفِ أَسْلِحَتِها وَعَتادِها. وَقَدْ أَخَذْتُ نَفْسِي بِتَحْقِيقِ مَطْلَبِكُمُ الْجَلِيلِ، ذَلِكَ عَهْدٌ عَلَيَّ وَمِيثاقٌ.

وَقَدْ بَقِيَ لِي مَطْلَبٌ وَقَفْتُ ما بَقِيَ مِن حَياتِي عَلَى تَحْقِيقِهِ؛ فَهَلْ تُعاهِدُونَنِي عَلَى الْوَفاءِ بِذَلِكَ مَتَى جَدَّ الْجِدُّ؟»

وَما إِنْ سَمِعَ الأُمَراءُ قَوْلَتَهُ، حَتَّى دَبَّ الْهَلَعُ إِلَى نُفُوسِهِمْ، وَارْتَسَمَ الْفَزَعُ عَلَى أَسارِيرِهِمْ، بَعْدَ أَنْ جَهِلُوا ما يَعْنِيهِ، فَعَقَدَ الدَّهَشُ وَالْحَيْرَةُ أَلْسِنَتَهُمْ.

وَلَكِنْ سُرْعانَ ما دَوَّى صَوْتٌ عالِي النَّبَراتِ، وَهُوَ صَوْتُ «أَرْجُونا»: أَوْسَطِ أَبْناءِ الشَّهِيدِ، يُجَلْجِلُ فِي حَماسَةٍ وَقُوَّةٍ، مُلَبِّيًا دَعْوَةَ أُسْتاذِ الرِّمايَةِ، مُعْلِنًا فِي غَيْرِ تَهَيُّبٍ وَلا تَرَدُّدٍ، أَنْ يَقِفَ حَياتَهُ كُلَّها عَلَى نُصْرَةِ أُسْتاذِهِ وَتَحْقِيقِ رَغْبَتِهِ.

وَرَآهُ النَّاسِكُ يَقْفِزُ مُتَّجِهًا إِلَيْهِ، وَهُوَ يَنْطِقُ بِهَذِهِ الْكَلِماتِ الْفِياضَةِ بِالصِّدْقِ وَالإِخْلاصِ، فانْدَفَعَ يُعانِقُهُ فِي لَهْفَةٍ وابْتِهاجٍ.

figure

وَهَكَذا تَوَثَّقَتْ أَواصِرُ الْمَوَدَّةِ بَيْنَ الأُسْتاذِ الْكَبِيرِ وَالْبَطَلِ الصَّغِيرِ، فَلَمْ يَأْلُ جَهْدًا فِي تَعَهُّدِهِ بِكُلِّ ما أُوتِيَ مِن خِبْرَةٍ وَدُرْبَةٍ وَمَهارَةٍ؛ كَما يَتَعَهَّدُ الْوالِدُ وَلَدَهُ، وَراحَ يُؤْثِرُهُ بِصادِقِ عَطْفِهِ، وَيُفَضِّلُهُ عَلَى جَمِيعِ الأُمَراءِ.

وَكانَ الأَمِيرُ الْفَتَى حَرِيصًا عَلَى التَّعَلُّمِ؛ فَلَمْ يُضِعْ لَفْظًا واحِدًا — تَنْطِقُ بِهِ شَفَتاهُ — إِلَّا حَفِظَهُ وَوَعاهُ.

وَلَمْ يَلَبْثِ الْفَتَى أَنْ حَذَقَ فُنُونَ الْحَرْبِ وَبَرَعَ فِي أَسالِيبِ الرِّمايَةِ كُلِّها، وَفاقَ فِيها جَمِيعَ إِخْوانِهِ، وَسارَ فِي ذَلِكَ سِيرَةَ أُسْتاذِهِ فِي تَعَهُّدِ قَوْسِهِ وَسِهامِهِ.

وَذاتَ يَوْمٍ ظَلَّ الأُسْتاذُ يُمَرِّنُ الأُمَراءَ فِي الْغابَةِ، حَتَّى حَلَّ ظَلامُ اللَّيْلِ — وَهُمْ عَلَى مَسافَةٍ بَعِيدَةٍ مِن الْقَصْرِ — فَأَشارَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَجْلِسُوا، وَقَدَّمَ لِكُلٍّ مِنهُمْ قَلِيلًا مِن الرُّزِّ وَالْفاكِهَةِ، حَتَّى لا يَهْلِكُوا جُوعًا بَعْدَ أَنْ جَهَدَهُمُ التَّعَبُ طُولَ النَّهارِ.

(١٢) نَجْوَى «أَرْجُونا»

وَلَمَّا انْتَهَى «أَرْجُونا» مِنَ الطَّعامِ، طافَ بِذِهْنِهِ خاطِرٌ جَدِيدٌ، فَراحَ يُسائِلُ نَفْسَهُ مُتَعَجِّبًا.

«لَقَدْ أَكَلْتُ طَعامِي اللَّيْلَةَ فِي ظَلامٍ دامِسٍ، وَكانَتْ يَدِي تَمْتَدُّ إِلَى الزَّادِ، ثُمَّ تَحْمِلُهُ إِلَى فَمِي فِي يُسْرٍ وَسُهُولَةٍ.

وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنْ يَتِمَّ هَذَا، دُونَ أَنْ أَسْتَعِينَ بِعَيْنِيَّ. وَكانَ السِّرُّ فِي ذَلِكَ أَنَّ يَدِي قَدْ مَرَنَتْ عَلَى حَمْلِ الطَّعامِ إِلَى فَمِي، وَأَلِفَتْ ذَلِكَ وَتَعَوَّدَتْهُ زَمَنًا طَوِيلًا.

فَما بالُ يَدِي لَمْ تَتَعَوَّدْ إِلَى الآنَ أَنْ تَشُدَّ الْقَوْسَ وَتَرْمِيَ السَّهْمَ، لِتُصِيبَ الْهَدَفَ — مُكْتَفِيةً فِي إِصابَتِهِ بِالأُذُنِ — دُونَ حاجَةٍ إِلَى الْعَيْنِ؟ لِماذا لا أَسْتَغْنِي بِسَماعِ الصَّوْتِ عَنْ رُؤْيَةِ مَصْدَرِهِ؟»

وَهَكَذا بَدَأَ تَدْرِيبَهُ عَلَى الصَّيْدِ فِي الظَّلامِ، فَراحَ يُصَوِّبُ سِهامَهُ إِلَى الطُّيُورِ الْمُغَرِّدَةِ عَلَى غُصُونِ الأَشْجارِ الْعالِيَةِ، مُكْتَفِيًا بِصَوْتِها، مُسْتَعِينًا بِتَغْرِيدِها عَنْ رُؤْيَتِها.

(١٣) فَرْحَةُ الأُسْتاذِ

وَسَمِعَ «دُرُونا» رَنِينَ الْقَوْسِ — وَهِيَ تَرْمِي بِالسَّهْمِ فَأَدْرَكَ ما جالَ بِخاطِرِ تِلْمِيذِهِ.

فانْدَفَعَ إِلَيْهِ يَشُدُّ عَلَى يَدِهِ مُهَنِّئًا، وَيَقُولُ لَهُ مُتَحَمِّسًا: «إِنَّ اسْمَ «أَرْجُونا» وَشِيكٌ أَنْ يُدَوِّيَ فِي الآفاقِ، وَيُصْبِحَ أَعْظَمَ مَنْ رَمَى بِالسِّهامِ.!»

وَكانَ الأَمِيرُ الْفَتَى «دُرْيُدْهانا» عَلَى مَقْرَبَةٍ مِنْهُما، وَكانَ قَلْبُهُ مُفْعَمًا بِالْحِقْدِ عَلَى ابْنِ عَمِّهِ، لِما مَيَّزَهُ اللهُ بِهِ مِنْ بَراعَةٍ خارِقَةٍ (فائِقَةٍ).

فَلَمَّا سَمِعَ ثَناءَ مُعَلِّمِ الرِّمايَةِ عَلَيْهِ، كادَ الْحَسَدُ يُزْهِقُ رُوحَهُ الشِّرِّيرَةَ الْخَبِيثَةَ، فَراحَ يَحْرُقُ الأُرَّمَ (يَحُكُّ أَضْراسَهُ بَعْضَها بِبَعْضٍ مِنْ شِدَّةِ الْغَيْظِ)، شَأْنُ ضِعافِ النُّفُوسِ وَمَرْضَى الْقُلُوبِ، الَّذِينَ يَقْعُدُ بِهِمُ الْعَجْزُ عَنْ إِحْرازِ قَصَبِ السَّبْقِ، فَلا يَجِدُونَ وَسِيلَةً لِشِفاءِ صُدُورِهِمْ غَيْرَ الْكَيْدِ وَالدَّسِّ وَالْوَقِيعَةِ.

وَأَقْبَلَ الْفَتَى عَلَى نَفْسِهِ يُخاطِبُها قائِلًا:

«لَئِنْ أَعْجَزَتْنِي مُباراةُ هَذا الْبارِعِ الْفَذِّ، لَمْ يُعْجِزْنِي أَنْ أَهْتَدِيَ إِلَى مَنْ يُنافِسُهُ وَيَقْهَرُهُ وَيُرِيحُنِي مِنْهُ. نَعَمْ يُرِيحُنِي مِنْهُ، فَلَنْ يَطِيبَ لِيَ الْعَيْشُ ما دامَ هَذا الْفَتَى عَلَى قَيْدِ الْحَياةِ!».

وَهَكَذا نَمَتْ أَحْقادُ الْحاسِدِ، وَتَأَجَّجَتْ نِيرانُ الْغَيْرَةِ فِي صَدْرِهِ، كُلَّما رَأَى بَراعَةَ مُنافِسِهِ تَزْدادُ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ.

كانَ «بِهِشْما» قَدْ وَكَلَ إِلَى «دُرُونا» — مُعَلِّمِ الرِّمايَةِ — تَعْلِيمَ حَفَدَتِهِ — كَما عَلِمْتَ — وَلَكِنَّ شُهْرَةَ «دُرُونا» وَذُيوعَ صِيتِهِ جَذَبا إِلَيْهِ كَثِيرًا مِنْ أُمَراءِ الْمَمالِكِ الْمُجاوِرَةِ الأُخْرَى.

وَقَدْ أَذِنَ لَهُ الْمَلِكُ فِي تَعْلِيمِهِمْ مَعَ حَفَدَتِهِ، وَهُوَ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ بَراعَةِ حَفَدَتِهِ وَفَوْزِهِمْ عَلَى كُلِّ مُنافِسٍ.

وَكانَ بَيْنَ الزَّائِرِينَ الْجُدُدِ صَبِيٌّ يُسَمَّى «كَرْنا» تَلُوحُ عَلَى أَسارِيرِهِ (خُطُوطِ جَبِينِهِ) سِماتُ الإِمارَةِ وَالنُّبْلِ، وَرَجاحَةُ الْعَقْلِ، وَإِنْ كانَ مَجْهُولَ الأَبَوَيْنِ.

وَكانَتْ تَبْدُو فِي نَظَراتِهِ الْحَزِينَةِ الْهادِئَةِ مَعانٍ غَيْرُ واضِحَةِ الْمَعالِمِ. وَقَدْ رَضِيَهُ الأُمَراءُ زَمِيلًا لَهُمْ حِينَ رَأَوْا مُعَلِّمَ الرِّمايَةِ يُحْسِنُ اسْتِقْبالَهُ، وَيُكْرِمُ وِفادَتَهُ، وَيَخْتَصُّهُ بِعَطْفِهِ؛ وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهُ بِسُوءٍ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ فِيهِ ظُنُونُهُمْ، وَتَبايَنَتْ آرَاؤُهُمْ.

•••

وَقَدْ تَجَلَّتْ بَراعَتُهُ مُنْذُ قُدُومِهِ، وَلاحَتْ نَجابَتُهُ وَدُرْبَتُهُ عَلَى جَمِيعِ أَنْواعِ السَّلاحِ.

وَكانَ مِثالَ الطَّالِبِ الْجادِّ؛ يُحْسِنُ الاسْتِماعَ إِلَى ما يَقُولُ الأُسْتاذُ فِي انْتِباهٍ وَيَقَظَةٍ دَائِمَيْنِ، فَلا تَفُوتُهُ كَلِمَةٌ واحِدَةٌ، وَلا تَعْزُبُ عَنْهُ (لا تُفْلِتُ مِنْهُ) إِشارَةٌ أَوْ حَرَكَةٌ.

فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ فاقَ أَصْحابَهُ، وَبَذَّ رِفاقَهُ، وَاجْتَمَعَ الرَّأْيُ عَلَى أَنَّ بَراعَتَهُ لا تَقِلُّ عَنْ بَراعَةِ «أَرْجُونا» نَفْسِهِ.

وَهَكَذا بَدَأَ التَّنافُسُ الْحَمِيدُ بَيْنَ الْبَطَلَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ.

وَرَأَى الْفَتَى الْحاسِدُ «دُرْيُدْهانا» كَبِيرُ أَبْناءِ «الضَّرِيرِ» فُرْصَةً لِلْكَيْدِ لِمُنافِسِهِ. فَراحَ يَتَقَرَّبُ إِلَى «كَرْنا» وَيَغْمُرُهُ بِالثَّناءِ وَالْعَطاءِ.

وَقَدْ أَهْدَى إِلَيْهِ ذاتَ يَوْمٍ كِيسَ نُقُودٍ مُطَرَّزًا بِالْياقُوتِ وَالزُّمُرُّدِ، كَما أَهْدَى إِلَيْهِ فِيلًا صَغِيرًا وَصُنْدُوقًا ثَمِينًا مِنَ الآبُنُوسِ، نُقِشَتْ عَلَيْهِ بَدائِعُ لا تُحْصَى، فَإِذا فُتِحَ فاحَ مِنْهُ عِطْرٌ ذَكِيٌّ يُنْعِشُ الأَرْواحَ وَيُبْهِجُ النُّفُوسَ.

وَهَكَذا اسْتَجْلَبَ مَوَدَّةَ «كَرْنا» واكْتَسَبَ صَداقَتَهُ. ثُمَّ راحَ يُعْمِلُ الْحِيلَةَ لإِذْكاءِ نارِ الْحِقْدِ بَيْنَ «كَرْنا» وَبَيْنَ ابْنِ عَمِّهِ «أَرْجُونا»، وَيَفْتَنُّ فِي تَحْوِيلِ الْمُنافَسَةِ الشَّرِيفَةِ إِلَى خُصُومَةٍ عَنِيفَةٍ.

وَقَدْ أَخْفَقَ فِيما هَدَفَ لَهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَيْأَسْ مِنْ بُلُوغِ مَأْرَبِهُ الْخَبِيثِ.

وَرَأَى الطُّلابُ أَنَّ الْفَتَى الصَّامِتَ كانَ يَقِلُّ كَلَامُهُ مَعَ أَبْناءِ «الشَّهِيدِ» وَيَكْثُرُ مَعَ أَبْناءِ «الضَّرِيرِ»، وَزادَ ذَلَكَ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ.

(١٤) يَوْمُ الامْتِحانِ

وَمَرَّتِ الأَيَّامُ تِباعًا، ثُمَّ خَطَرَ لِمُعَلِّمِ الرِّمايَةِ أَنْ يَمْتَحِنَ طُلَّابَهُ، فَجَمَعَهُمْ فِي مَيْدانٍ فَسِيحٍ، وَأَحْضَرَ مَعَهُ تِمْثالًا صَنَعَهُ عَلَى هَيْئَةِ طائِرٍ، وَثَبَّتَهُ فِي رَأْسِ شَجَرَةٍ عالِيَةٍ. ثُمَّ قالَ لِطُلَّابِهِ:

«قِفُوا عَلَى مَسافَةِ ثَلاثِينَ خُطْوَةً، وَتَأَهَّبُوا (اسْتَعِدُّوا) لِلرِّمايَةِ واحِدًا بَعْدَ واحِدٍ، وَلْيَكُنْ رَأْسُ هَذا الطَّائِرِ هَدَفَ رِمايَتِكُمْ جَمِيعًا. صَوِّبُوا إِلَيْهِ سِهامَكُمْ، وَحاوِلُوا أَنْ تُحَطِّمُوهُ.»

وَتَأَهَّبَ الْجَمِيعُ لِتِنْفِيذِ إِشارَةِ الأُسْتاذِ، وَصَوَّبُوا إِلَيْهِ سِهامَهُمْ، وَنُفُوسُهُمْ ثائِرَةٌ يَسُودُها الاضْطِرابُ وَالْقَلَقُ. وَاسْتَأْنَفَ «دُرُونا» قائِلًا:

«لِيَكُنْ أَوَّلُ الرُّماةِ أَكْبْرَ الأُمَراءِ سِنًّا.»

فَوَقَفَ «دُرْيُدْهانا» رافِعًا قَوْسَهُ. فَصاحَ بِهِ الأُسْتاذُ قائِلًا: «خَبِّرْنِي بِما تَراهُ أَيُّها الأَمِيرُ: أَتَرَى الطَّيْرَ؟»

فَأَجابَهُ: «نَعَمْ أَراهُ.»

فَقالَ مُعَلِّمُ الرِّمايَةِ: «أُرِيدُ أَنْ تَتَوَخَّى الدِّقَّةَ فِيما تَقُولُ؛ فَتُخْبِرَنِي بِما تَرَى: إِيَّايَ؟ أَمْ أَصْحابَكَ؟ أَمِ الشَّجَرَةَ؟ أَمِ الطَّيْرَ؟»

فَأَجابَهُ: «أَراهُمْ جَمِيعًا.»

فَقالَ الأُسْتاذُ: «ضَعِ الْقَوْسَ يا فَتَى، وَتَنَحَّ جانِبًا، فَما أَنْتَ بِقادِرٍ عَلَى الْمُنافَسَةِ.»

فَتَنَحَّى «دُرْيُدْهانا» وَقَدْ غَمَرَهُ الْخَجَلُ لِما مُنِيَ بِهِ مِنْ إِخْفاقٍ، وَلَمْ يَدْرِ ماذا أَغْضَبَ مُعَلِّمَ الرِّمايَةِ فِي كَلامِهِ.

وَنادَى الْمُعَلِّمُ تَلامِيذَهُ: واحِدًا بَعْدَ واحِدٍ، وَأَعادَ عَلَيْهِمْ سُؤالَهُ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ جَوابُ أَحَدِهِمْ عَنْ سابِقِهِ، كُلُّهُمْ قالَ:

«نَعَمْ نَراكَ وَنَرَى أَصْحابَنا وَنَرَى الشَّجَرَةَ وَنَرَى الطَّائِرَ عَلَى قِمَّتِها.»

وَهَكَذا تَنَحَّى الْجَمِيعُ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْمُتَبارِيانِ الْبارِعانِ: «كَرْنا» وَ«أَرْجُونا». وَارْتَسَمَ الْحُزْنُ عَلَى وَجْهِ الْمُعَلِّمِ، وَغَصَّتْ عَيْناهُ بِالدُّمُوعِ، لِما رَآهُ مِنْ إِخْفاقِ طُلَّابِهِ فِي هَذا الاخْتِبارِ السَّهْلِ، فَصاحَ غاضِبًا: «وا حَسْرَتاهُ. لَقَدْ ضاعَ ما بَذَلْتُ خِلالَ الأَشْهُرِ الطِّوالِ! ما أَتْعَسَ النَّتِيجَةَ، وَما أَضْيَعَ الْجُهْدَ! تَعالَ يا «كَرْنا» فَقَدْ يُصِيبُ الْهَدَفَ سَهْمُكَ، أَوْ يُصِيبُ سَهْمُ «أَرْجُونا»، أَوْ يَدْفِنُ مُعَلِّمُكُمْ سِهامَهُ فِي الْغابَةِ، وَيُعْلِنُ عَجْزَهُ وَإِخْفاقَهُ لِلْمَلِيكِ، إِذا خابَ أَمَلُهُ فِيكُما.»

فَرَفَعَ «كَرْنا» قَوْسَهُ، وَسَدَّدَها إِلَى الْهَدَفِ، مُتَوَثِّبًا لِتَنْفِيذِ إِشارَتِهِ.

فَسَأَلَهُ الأُسْتاذُ: «ماذا تَرَى؟»

فَأَجابَهُ: «أَرَى الطَّائِرَ وَالشَّجَرَةَ يا سَيَّدِي.»

فَقالَ لَهُ أُسْتاذُهُ: «تَنَحَّ جانِبًا فَقَدْ خابَ الأَمَلُ فِيكَ.

تَعالَ يا «أَرْجُونا» وَخَبِّرْنِي أَنْتَ أَيْضًا: أَتَرَى الشَّجَرَةَ وَالطَّائِرَ وَأُسْتاذَكَ وَأَصْحابَكَ؟»

فَابْتَدَرَهُ قائِلًا:

«كَلا، لا أَرَى الطَّائِرَ وَلا الشَّجَرَةَ وَلا الْغُصْنَ، وَلا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَراكَ، بَلْ أَنا أَرَى رَأْسَ الطَّائِرِ وَحْدَهُ!»

فَقالَ «دُرُونا» بِصَوْتٍ مُتَهَدِّجٍ: «صِفْ لِيَ الطَّائِرَ.»

فَأَجابَهُ عَلَى الْفَوْرِ: «هَيْهاتَ ذَلِكَ هَيْهاتَ. إِنِّي لا أَرَى غَيْرَ رَأْسٍ.»

فَصاحَ الشَّيْخُ مُبْتَهِجًا: «أَطْلِقْ عَلَيْهِ سَهْمَكَ.»

figure

وَسُرْعانَ ما انْطَلَقَ السَّهْمُ، فَفَصَلَ رَأْسَ الطَّائِرِ عَنْ جَسَدِهِ.

وانْدَفَعَ «دُرُونا» يُنَدِّدُ بِطُلَّابِهِ الْخائِبِينَ قائِلًا:

«ما أَشَدَّ ضَلالَكُمْ وَأَوْفَرَ غَباوَتَكُمْ! أَلَمْ أُخْبِرْكُمْ أَنْ إِصابَةَ الْهَدَفِ لا تُتاحُ إِلَّا لِمَنْ يُرَكِّزُ انْتِباهَهُ فِيهِ، وَيُثَبِّتُ عَيْنَيْهِ عَلَيْهِ، فَإِذا رَأَى شَيْئًا آخَرَ غَيْرَ هَدَفِهِ، خابَتْ أَحْلامُهُ، وَطاشَتْ سِهامُهُ.

خَبِّرُونِي أَيُّها الْقِرَدَةُ الْمُقَلِّدُونَ: كَيْفَ اسْتَطاعَتْ أَعْيُنُكُمْ أَنْ تَرَى شَيْئَيْنِ، بَلْهَ ثَلاثَةً أَوْ أَرْبَعَةً فِي وَقْتٍ واحِدٍ؟ حَفِظَ اللهُ «أَرْجُونا» وَرَعاهُ. لَقَدْ رَأَى شَيْئًا واحِدًا وَلَمْ يُبْصِرْ سِواهُ، فَلَمْ يُخْطِئْهُ سَهْمُهُ وَلا عَداهُ.»

وَهُنا تَحَقَّقَ لِلطُّلَّابِ ضَلالُ إِجابَتِهِمْ، وَانْطَلَقُوا يُصَفِّقُونَ لِلشُّجاعِ ابْنِ «الشَّهِيدِ» فِي حَماسَةٍ مُلْتَهِبَةٍ.

أَمَّا الْفَتَى الْحَسُودُ «دُرْيُدْهانا» فَقَدْ سِيءَ وَجْهُهُ؛ فَانْتَحَى بِصاحِبِهِ «كَرْنا» جانِبًا، وَأَسَرَّ إِلَيْهِ مُسائِلًا:

«أَيُرْضِيكَ أَنْ يَخْفِضَ هَذا الْفَتَى مِنْ قَدْرِنا وَيَغْلُبَنا عَلَى أَمْرِنا! تُرَى كَيْفَ وُفِّقَ إِلَى إِجابَتِهِ السَّدِيدَةِ؟ إِنَّ «دُرُونا» يَخْتَصُّهُ بِعَطْفِهِ وَعِنايَتِهِ؛ فَهَلْ تُراهُ لَقَّنَهُ الإِجابَةَ قَبْلَ أَنْ يَبْدَأَ الاخْتِبارَ؟»

فَأَجابَهُ «كَرْنا»: «كَلا لا تُسِئِ الظَّنَّ بِأُسْتاذِنا أَيُّها الأَمِيرُ، وَمَعاذَ اللهُ أَنْ يَلْجَأَ إِلَى مِثْلِ هَذِهِ الْحِيلَةِ.

كُنْ عَلَى ثِقَةٍ أَنْ «أَرْجُونا» قَدْ فازَ عَلَيْنا بِجَدارَةٍ وَعَدْلٍ.

وَلَكِنْ صَبْرًا، فَلَنْ يَرْبَحَ فِي الْمُباراةِ التَّالِيَةِ.»

وَضاعَفَ «كَرْنا» — مِنْذُ ذَلِكَ الْيَوْمِ — عِنايَتَهُ وَاهْتِمامَهُ، وَراحَ يُواصِلُ التَّدْرِيبَ نَهارًا، وَمُطالَعَةَ الْكُتُبِ لَيْلًا، لِيَتَعَرَّفَ مُخْتَلِفَ الأَسْلِحَةِ.

وَكانَتْ حَرارَةُ الشَّمْسِ لا تُعَوِّقُهُ عَنْ مُواصَلَةِ التَّمْرِينِ. وَكانَ يُؤْثِرُ التَّعَبَ عَلَى الرَّاحَةِ فِي سَبِيلِ الْفَوْزِ بِطِلْبَتِهِ، وَيَسْهَرُ اللَّيْلَ وَإِخْوانُهُ نِيامٌ.

وَهَكَذا امْتَلأَتْ نَفْسُهُ الطَّاهِرَةُ بِما بَثَّهُ الأَمِيرُ الْحَسُودُ فِيها مِنْ سُمُومٍ وَأَحْقادٍ، وَأَفْعَمَ قَلْبَهُ النَّقِيَّ بِما غَرَسَهُ مِنْ بُغْضٍ وَكَراهِيَةٍ لأُسْرَةِ «الشَّهِيدِ» الْكَرِيمَةِ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤