لعب العبقرية

كان أبو العلاء في أيامه الأخيرة بين أمم الغرب كثير السآمة من لقاء الناس، كثير النفور من المجامع والمحافل، كثير الإعراض عن الجدل في المذاهب والآراء والفلسفات التي سمع من أخبارها في أيام ما لم يسمعه في أعوام كان بقيد الحياة.

«ما النحو؟ … ما الشعر؟ … ما الكلام؟» كما قال في بعض أبياته١ كلها ككل شيء في هذه الدنيا:
تعب غير نافع واجتهاد
لا يؤدي إلى غناء اجتهاد

وكانت للأمر في أول عهده بالقوم جدة وغرابة، فكان يحتمل المجامع والمحافل ما بقيت الجدة والغرابة، ثم نصلت الطلاوة وزالت الغشاوة فإذا الجديد كالقديم وإذا العجم كالعرب، وإذا الدنيا هي الدنيا والناس هم الناس والحياة هي الحياة! وكل يوم دعوة، وكل يوم خروج على غير طائل، أو على ضجة ما كان أغنى عنها تينك الأذنين اللتين حجبهما الرجل عن الصوت، بعد أن حجبت الأقدار عينيه عن الضياء.

قال يومًا لصاحبه: كنت أحسب الدنيا بنية مطمورة في القدم فكلما غاص الإنسان فيها كان أدنى إلى حقائقها وأسرارها، فلما بعثت في هذا العصر الحديث حسبتها منجمًا مقبلًا كلما أمعن الإنسان في غده بعد يومه كان أدنى إلى تلك الحقائق والأسرار.

فأسرع صاحبه يسأله: فالآن ماذا تحسبها؟

قال: أحسبها متاهة مغلقة، فكلما رجعت فيها أو تقدمت فأنت في مكان واحد من المدخل أو من المخرج، وقد أغلقت فلا مدخل ولا مخرج هناك.

وكان صاحبه أو تلميذه من أبناء العصر المنشَّئين على تربيته وعاداته: كل دعوة تأتيه فإما لحضور وإما لاعتذار، وكانت عنده دعوة من مؤتمر الفلسفة والأديان، ينتظر أصحابها الإجابة من حكيم العرب وحكيم القرون الوسطى، فبماذا يجيب؟ والحكيم لا يريد الحضور ولا يريد الاعتذار؟

•••

تلك فرصة سانحة يوم عرض الحكيم للدنيا وشبهها تارة بالبنية المطمورة وتارة بالمنجم المحفور، وتارة بالمتاهة المغلقة.

فعاد التلميذ إلى المفاتحة في أمر الدعوة إلى مؤتمر الفلسفة والأديان، وعاد الحكيم إلى الرفض والإعراض وزاد متهكمًا ساخرًا: مؤتمر يشاور فيه بعضهم بعضًا فيما يدينون به من عقيدة! لَيوشك القوم غدًا أن يتشاوروا فيما يحبون من وجه جميل وفيما يأكلون من فاكهة لذة! وهل يرجع المرء فيما يحبه من جمال وفيما يشعر به من لذاذة وفيما يعتقده من طمأنينة اليقين إلى مشاورة الآخرين؟

فعلم التلميذ أن نوبة النفور أصلح هنا للخوض في مسائل المؤتمر من نوبة الإقبال والموافقة، واقترح على الشيخ أن يسأله وأن يدوَّن جوابه، وأن يستخلص من الحديث ما يلقيه على المؤتمِرين، نائبًا عن الشيخ، والشيخ معافى من مشقة الذهاب ومشقة السؤال والجواب.

قال التلميذ: أأنت من العقليين يا مولاي أم من الفطريين؟

فسأله مولاه: ما العقليون وما الفطريون هداك الله؟

فلخص التلميذ مذهب العقليين ومذهب الفطريين في كلمات موجزات، وقال إن العقليين يحسبون أن الإقناع هو سبيل الإصلاح والهداية، والفطريين يحسبون أن البداهة قبل التفكير وأن الإقناع قلَّما يغالب الأهواء، فمن أي الفريقين يا ترى يكون الشيخ الجليل؟

قال أبو العلاء: من كلا الفريقين!

أنا من العقليين حين أقول:

كذب الظن لا إمام سوى العقـ
ـل مشيرًا في صبحه والمساء

وأنا من الفطريين حين أقول:

العقل يسعى لنفسي في مصالحها
فما لطبع إلى الآفات جذاب

وأنا لست من هؤلاء ولا هؤلاء حين أقول:

وبصير الأقوام مثلي أعمى
فهلموا في حندس نتصادم!

قال التلميذ: خرجنا من البنية المطمورة ومن المنجم المحفور ودخلنا المتاهة المغلقة يا مولاي. هذا تناقض والحق لا يتناقض. فماذا أقول للمؤتمرين من رأي الشيخ في حقيقة الحق بين هذه الأمور؟

فهتف به الشيخ ضاحكًا وقد سرى عنه بعض السآمة: بل التناقض للحقائق يا بني لا للأباطيل.

•••

إن الأباطيل تتغير وتتبدَّل فيسهل التوفيق بينها بقليل من النقص هنا وقليل من الزيادة هناك، أما الحقائق فهي التي تقف في سبيلنا وقفة الصخور. لا تحيد من يمين ولا من شمال، وعلينا نحن أن نسلك بينها ونتحول من حولها، فإن أردت أن أتحول بك في دروبها قليلًا فاعلم إذن أننا نتبع العقل فيما هو للعقل من رأي وتفكير وتجربة ومشاهدة، وأننا نتبع الفطرة فيما هو للفطرة من ذوق وطمأنينة وتسليم، وأننا لا نطلب من الفطرة أن تصبح عقلًا ولا من العقل أن يصبح فطرة، وإنما نستشير كليهما حيث يشير.

•••

وبدا لأبي العلاء أن تلميذه المصغي إليه يستريح ويستقر على ما سمع، فأدركته عارضة من لعب العبقرية ولعب الطفولة الخالدة. وهل العبقرية الخالدة إلا حياة متجددة؟ وهل يلعب الطفل إلا لما يدركه من جِدَّةِ الحياة وإقبالها؟ فكما يرى الطفل من ينامون إلى جانبه وهو يقظان فتأبى عليه شيطنة الحياة العارمة إلا أن يوقظهم معه ويُعدِيهم بمساس من القلق الذي يشتمل عليه، كذلك العبقري لا يطيب له أن يأرق وحده والناس هادئون؛ فمن ثم إن شئت يقظات الأحلام والناس نيام، وشيطنة الخلود والفانون سادرون في موت الجمود، قل إن شئت إنها جدة تلطف جدها، وإنها حلاوة تخالط مرارتها، ولكنها — بعد كل ما يقال — لا تخلو من جانب اللعب فيها وجانب الرياضة، ولن يستحق الجد ما ليس فيه لعب ولا رياضة.

•••

بدا ذلك لأبي العلاء فأومأ إلى تلميذه يسأله وقد كفَّ هو عن سؤاله: أراك صدقت وآمنت. فما لك لا تسأل: ومَن الذي يستشير العقل؟ ومن الذي يستشير الفطرة؟ أفي الإنسان شيء خارج العقل وخارج الفطرة فهو الذي يكون منه السؤال ثم يكون الجواب إما من العقل المسئول أو من الفطرة المسئولة؟ وما الرأي إذا كان السائل هو الفطرة والمجيب هو العقل؟

وما الرأي إذا وقع الخلاف على السؤال وعلى الجواب؟

وفوجئ التلميذ، ولكنها مفاجأة وقعت منه موقع السرور والتأهُّب، لأنه انتظر بعدها مزيدًا من الاستفسار ومزيدًا من التفسير. فقال: إذن أنت يا مولاي من الجبريين؟! ولا أدري كيف فاتني الساعة أن أذكر ذلك وأنت القائل:

والعقل زين ولكن فوقه قدر
فما له في ابتغاء الرزق تقدير

قال أبو العلاء ولا تزال فيه تلك العارضة من لعب العبقرية: ولا تدري أيضًا كيف فاتك الساعة أنني لست من الجبريين ولا من القدريين لأنني أنا القائل:

لا تعش مجبرًا ولا قدريًّا
واجتهد في توسط بين بينا

قال التلميذ وكأنما شملته تلك العارضة التي استولت على أستاذه في تلك الساعة:

وهل هذه إلا الجبرية بعينها؟ لا تريد أن تقول إن الإنسان مجبر ولا تريد أن تقول إنه مخير. ولا تفصل في المشكلة بل تدع الفصل فيها لعالم الغيب أو عالم الشهادة. ماذا يكون الجبريون إن لم يكونوا هكذا غير مختارين فيما يفكرون وفيما يعتقدون؟

فأصغى المعري وأعجبه ما سمع من تلميذه فأومأ موافقًا: نعم هي الجبرية في أرجوحة ذاهبة آيبة. وهي خير من الجبرية في قيد مقيم.

قال التلميذ:

لقد عدم التيقن في زمان
حصلنا من حجاه على التظني

فهتف به المعري: ويحك إنك لتتعقبني بكلامي القديم تعقُّب المذنب بإقراره؛ فهلا أغناك حفظك عن مطاردتي بالسؤال والاستقصاء؟

فلاحقه التلميذ قائلًا: المدى يا مولاي في هذه المسائل فسيح، والتعب لا يضير، وخطوة واحدة إلى الأمام أو خطوة واحدة إلى الوراء لن تضيِّق النطاق، ولن تقرب اللحاق.

قال الشيخ مترقبًا: ثم ماذا؟

قال التلميذ مجاريًا: ثم علامَ الجزاء إذا كنا فيما نحسن أو نسيء مجبرين مسيَّرين؟

قال الشيخ: إذا كانت النفس تعمل الخير مكرَهة فما حقها في الجزاء؟

وإذا كانت النفس تعمل الخير مختارة لأنها تؤثره وترضاه وتجد فيه الغبطة وفي غيره الندم والحسرة فما حقها أيضًا في الجزاء؟ فأحرِ بنا ألا نشغل بالنا بمثوبة أو عقوبة.

ولتفعل النفس الجميل لأنه
خير وأحسن لا لأجل ثوابها

إن الطفل يا بني يؤجر بالدرهم ليأكل الطعام وفيه مصلحته ونماؤه، فإذا كبر الطفل بذل هو الدرهم وصبر على بذله وتحصيله ليأخذ به طعامه ويشبع به نهمته وأوامه. وكذلك تصغر النفس فتؤجَر على خيرها الذي تجهله، وتكبر النفس فتبدل هي الأجر على ما تعمل من خير، وذلك هو الجميل وذلك هو الثواب:

أدين بربٍّ واحد وتجنب
قبيح المساعي حين يظلم دائن

ثم أنشد:

وليس اعتقادي خلود النجو
م ولا مذهبي قدم العالم

ثم عاودت الشيخ تلك العارضة من لعب العبقرية الخالدة فصاح بالفتى: أسرع! أسرع يا بني مؤتمر الفلسفة والدين، أسرع إليهم فقد طال بهم الانتظار، في طلب هذا الحوار، والذي لا يستقر عليه قرار، ولا يزيد به عدد الأبرار، ولا ينقص به عدد الفجار.

ثم تمتم بين شفتيه: ما النحو؟ ما الشعر؟ ما الكلام؟

كلام في كلام في كلام.

١  من أبيات يقول فيها:
أف لما نحن فيه من عنت
فكلنا في تحيل ودلس
ما النحو ما الشعر ما الكلام وما
مرقش والمسيب بن علس؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤