مع المشيعين

هبطت السكينة على نفس أبي العلاء.

وقيل له: إنك في أمان، ليس لأحد عليك من سلطان، وإنك ممن قيل فيهم لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، خرجتَ من العالم الفاني فلا تمتد إليك يد ولا ينالك أحد من الناس بعدوان. فقُلْ ما بدا لك من رأي، ولا تُطِلْ همسك إن نطقت بالحق ولا ترفع رأسك إن نطقت بالمحال. أنت اليوم غيرك بالأمس: أنت اليوم من الخالدين!

وإنما قيل له ذلك لأنه صارح بعض الجرمان وهو في بلادهم بمذهبه في اختلاف الأجناس وتفاوُت الأقوام، فشجبوه وهموا أن يبطشوا به على تخوم بلادهم، لولا أنْ ردتهم عنه هذه الحصانة التي لا حصانة مثلها للمجالس النيابية ولا للهيئات الوزارية، وهي حصانة الخلود.

لهذا كان مسلكه مع جماعة المشيعين أو الشيوعيين حين نزل بأرضهم غير مسلكه المعهود من التقية والمداراة والصمت والفرار، فقال ما أراد أن يقول، ولم يعبأ منهم بزمجرة ولا صخب ولا وعيد.

وقف رفيق من رفقائهم يخطب في حفل جمعوه للترحيب بأبي العلاء، أو للشيوعي العربي القديم كما أسمَوه، فقال بعد إسهاب وترديد: هذا أيها الرفاق رجل منا قد سبقنا بكل رأي من آرائنا وكل دعوة من دعواتنا، فنحن ننكر التفاوت في قسمة الأرزاق وهو ينكره في كل صورة من صوره، وكل منحى من مناحيه، فيقول عن التفاوت بين العاملين وأصحاب الأموال:

لقد جاءنا هذا الشتاء وتحته
فقير مُعَرَّى أو أمير مدوج
وقد يُرزق المجدود أقوات أمة
ويحرم قوتًا واحدٌ وهو أحوج

ويقول عن التفاوت بين الشاب الفقير وهو أولى بالمال وبين الشيخ الموسر وهو مدبر عن الحياة:

يعيش الفتى في عُدمه عيش راغب
ويثري مسنٌّ للمعيشة سائم

ونحن ندعو إلى التآزر الاجتماعي والتكافل بين العاملين في الأمة، وهو قد نادى بذلك من قبل فقال:

الناس للناس من بدوٍ وحاضرة
بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم

ونادى بخدمة الحاكمين للرعية فقال:

إذا ما تبينَّا الأمور تكشَّفت
لنا وأمير القوم للقوم خادم

وقال:

مل المقام فكم أعاشر أمة
أمرت بغير صلاحها أمراؤها
ظلموا الرعية واستباحوا كيدها
وعدوا مصالحها، وهم أجراؤها

واستطرد إلى أبعد من هذا في التكافل بين أعضاء المجتمع الإنساني فقال:

وكل عضو لأمر ما يمارسه
لا مشي للكف، بل تمشي بك القدم

بل استطرد إلى أبعد من هذا المساواة فقال:

إن شقًّا يلوح في باطن البُرَّ
ةِ قسم بيني وبين الضعيف

ولقد بيَّنَّا نحن للناس أن الآداب والعقائد إنما هي مصالح الطبقة الحاكمة تصوغها على هواها لتدعم سلطانها والغلبة على من دونها، وهذا الحكيم العربي قد بيَّن ذلك حق بيانه حين قال:

إنما هذه المذاهب أسبا
ب لجلب الدنيا إلى الرؤساء

وحين قال في إظهار سطوة المال وقدرته على تحويل الآداب وتخويل الحقوق:

المال يسكت عن حق وينطق في
بُطل، وتجمع إكرامًا له الشِّيَعُ
وجزية القوم صدت عنهمُ، فغدت
مساجد القوم مقرونًا بها البِيَعُ

ونحن بشرنا بدين العقل، وهو مبشر به في قوله:

سأتبع من يدعو إلى الخير جاهدًا
وأخرج منها ما أمامي سوى عقلي

ومثل ذلك قوله وهو يسيرٌ من كثير:

كذب الظن لا أمام إمام سوى العقـ
ـل مقيمًا في صبحه والمساء

بل نحن قررنا تفسير التاريخ «تفسيرًا ماديًّا» كما سميناه وهو قد أشار إلى ذلك فقال:

الناس للأرض أتباع إذا بخلت
ضنوا وإن هي جادت مرة جادوا

وألمع إلى ذلك مرة أخرى في هذا البيت على سبيل الرواية:

قالوا البرية فوضى لا حساب لها
وإنما هي مثل النبت والشجر

وزاده توضيحًا وتقريرًا حيث قال:

لم تجدبوا لقبيح من فعالكم
ولم يجئكم لحسن التوبة المطر

ولا أبالغ إذا قلت إنه ذكر الاشتراكية بلفظها في اللغة العربية ببيت من أبياته العامرة يقول فيه:

لو كان لي أو لغيري قدر أنملة
من البسيطة خلت الأمر مشتركَا

وأنه قد أنحى على طبقات الفضوليين المتطفلين على المجتمع الإنساني بغير عمل ينفعونه به حيث قال:

ويعجبني دأب الذين ترهَّبوا
سوى أكلهم كد النفوس الشحائح
وأطيب منهم مطعمًا في حياته
سعاة حلال بين غادٍ ورائح

فهو يأنف من التطفُّل الاجتماعي أيًّا كان المتطفلون ولا يبيح القوت إلا لمن يكسبونه ويستحقونه، وهو قد فرَّق في قصائده ما اجتمع من مبادئ المذهب الاشتراكي في كتب الأساطين ومباحث الدعاة العلميين، وتلك مرتبة ترفعه على أبناء عصره درجات، وتجعله من أئمة الفكر في تاريخ الإصلاح بين الأقدمين والمحدثين.

ثم اقترح الخطيب على سامعيه أن يقفوا جميعًا ليشربوا نخب الشاعر الذي جمع من مبادئهم في منظوماته ومنثوراته ما لم يجتمع قط في كلام أحد من الشعراء.

فنهضوا جميعًا وشربوا أقداحهم وقوفًا، ثم جلسوا يترقبون وقفة الشيخ بينهم ليجيب على التحية والتكريم ويجيب على بحث الخطيب بجديد من مقاله أو قديم، والشيخ لا يعلم أنه مطالَب بالوقوف أو مطالَب بالتعقيب، حتى نبهه الرسول الذي يصاحبه في كل مكان إلى ما يترقبه القوم، ثم أخذ بيده إلى المنصة فنزل الصمت على الحاضرين، وانقضت هنيهة لم يسمع بعدها إلا شيخ المعرة وهو يقول بصوت رقيق ولكنه ليس بالضعيف: أنتم مشكورون على جميل ثنائكم واحتفائكم بهذا العاجز الماثل بين أيديكم. لكنه حائر في موقفه هذا لا يدري ما تبغونه بمذهب الاشتراكيين أو بمذهب التفسير المادي للتاريخ، فأما قوله:

لو كان لي أو لغيري قدر أنملة
من البسيطة كان الأمر مشتركا

فإنما يعني به التوحيد الإلهي ويريد به أن الناس أغنياءهم وفقراءهم على حد سواء لا يملكون في جانب الله أرضًا ولا يستعبدون أحدًا، وهو من قوله:

ويقول داري من يقول، وأعبُدي
مه؛ فالعبيد لربها والدار

أو هو من قوله:

ما في بني آدم من غنيٍّ
فكلهم مقترٌ عديم
يغنى الذي ما له فناء
وذلك الواحد القديم

أو هو من قوله:

فقير كل من في الأر
ض؛ إن العبد لا يملك

أو هو من قوله:

إله الأنام ورب الغما
م لنا الفقر دونك والملك لك

فما أدري من أين تسربت «الاشتراكية» إلى معناه كما تصفونها فيما سمعت من خطب وقرأت من بحوث وشروح.

ما أردت إلا الرفق بالناس، بل ما أردت إلا الرفق بجميع الأحياء؛ فكنت أوصي السيد أن يرفق بعبده. وأقول له:

إذا كسر العبد الإناء فعده
أذاة له، إن الأناء إلى كسر

وكنت أوصي العبد والفقير أن يرفقا بالبهيمة الخرساء. ويريبني منهما ما قلت إنه يريبني:

لقد رابني مغدى الفقير بجهله
على العير ضربًا. ساء ما يتقلد

وما دار في خلدي يومئذٍ إلا الزكاة يؤديها أهل السعة للمضيَّقين.

إذا وهب الله لي نعمة
أفدت المساكين مما وهبْ
جعلت لهم عشر سقي الغما
م وأعطيتهم ربع عشر الذهب

وكنت أعجب:

كيف لا يشرك المضيقين في النعـ
ـمة قوم عليهم النعماء

وأوصي بما وصى به دين الحنيفية:

وأحسب الناس لو أعطوا زكاتهم
لما رأيت بني الإعدام شاكينا

أما أن يأتي زمان ينقطع فيه الفقر ويبطل فيه الغنى وتئول فيه السيادة إلى العاملين المستضعفين على سنَّة التساوي وشرعة المزاملة فذلك ما أنبأ به بعض المنبئين في زماننا فقلت راويًا ومجيبًا:

يقال أن سوف يأتي بعدنا عُصُر
يرضى، فتضبط أسدَ الغابة الخطم١
هيهات هيهات. هذا منطق كذب
في كل صقر زمان كائن قطم٢
ما دام في الفلك المريخ أو زحل
فلا يزال عباب الشر يلتطم

يلتطم وأقولها اليوم مرات: هيهات هيهات! وما أنتم فيه مصدق لما أقول، وإن أعجبكم أن تسمعوا مني خلاف المعقول والمنقول. وأين لومي الرؤساء على اتخاذهم المذاهب أسبابًا لجلب الدنيا إليهم من قولكم إن المذاهب لا ينبغي أن تكون إلا كذاك؟ إنما أقول على سبيل الإنكار وأنتم تقولون على سبيل الإقرار، وشتان ما أردتم وما أريد.

بل ما لكم لا تدعون أنني ناديت بمذهب الفوضى حين قلت:

إن أكلتم فضلًا وأنفقتم فضـ
ـلًا فلا يدخلنَّ والٍ عليكم
لا تولوا أموركم أيدي النا
س إذا رُدت الأمور إليكم

وما ناديت بالفوضى ولكني أردت اتِّقاء الوالين بالعفة والزهادة.

قال المعري ذلك وكأنما كان متجليًا عليه في تلك الساعة قوله:

إن عذُب المين بأفواهكم
فإن صدقي بفمي أعذب

ولم يكن متجليًا عليه قوله إنه يفر بالصمت في المحال.

أما ما حدث من أثر هذا الجواب في نفوس السامعين من معاشر الشيوعيين فغني عن السرد والإفاضة، وحسبك منه صيحة الرسول في أذن الحكيم: كفى كفى أيها الأستاذ الرحيم! فإنك إن كنت على نجوة في حصانة الخلود، فما أنا بين القوم من الناجين!

١  جمع خطام وهو ما يوضع في أنف البعير ليقاد به.
٢  القطم: اشتهاء اللحم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤