أنطوانيت

١

في الساعة الرابعة بعد منتصف ليلة من ليالي نوفمبر كان رجلان يسيران في شارع سيركس، وقد خلا ذلك الشارع من المارة والمركبات فلم يكن يسمع فيه غير صوت الرياح الباردة.

وكان هذان الرجلان متزملين وشاحيهما وأيديهما في جيوبهما، فجعلا يسيران في ذلك الشارع حتى انتهيا إلى منزل فيه نمرة ١٩، فوقف أحدهما وقال لرفيقه: سوف ترى أيها الصديق أنك لا تجد بين الفتيات الجميلات اللواتي رأيتهن الليلة في منزل ابنة عمي المركيزة من تقارب هذه الحسناء بجمالها.

– إني أراك قد جننت يا أجينور.

– لماذا؟

– لأني أحسب العشق والجنون اسمين مترادفين، فمن كان عاشقًا كان مجنونًا، وبعد فكم لك الآن من العمر؟

– ستة وعشرون عامًا كما تعلم.

– إن بلوغك هذا السن على تماديك في الغرام يؤيد قولي؛ لأن من بلغ ما بلغناه من الثروة تتوطد لديه أسباب اللهو فلا يشغل نفسه بمثل هذا الغرام ومتاعبه، ألعلك تعدم بين صبيحات الوجوه حسناء تنظر إليك بعين العطف وفتانة تتمنى رضاك؟

– وبعد ذلك؟

– وبعد ذلك فلا أعلم ما يدفعك إلى مكابدة هذه المشاق وأنت بغنى عنها بفضل مالك الكثير.

– حسنًا، اصبر وسترى أينا المخطئ وأينا المصيب.

وكان هذا المنزل الذي وقفا أمامه له نافذة تطل على الشارع وفي هذه النافذة مصباح يضيء فيدل على أن الذي أناره إنما يشتغل على نوره إذ ليس من يسهر في هذا الشارع إلى تلك الساعة المتأخرة من الليل.

فأخذ الشاب بيد صديقه ودله على النافذة المنبعث منها النور وقال له: انظر إلى هذا الوجه المشرق ولعلك تعذرني بعد النظر إليه.

فنظر رفيقه بإمعان إلى وجه تلك الفتاة التي كانت مكبة على شغلها، وبعد أن تفرس بها مليًّا قال له: الحق إنها من أجمل النساء.

– أليس كذلك؟

– ولكن ماذا تريد أن تصنع بها؟

– إنها عندما تحبني، ولا بد لها من ذلك لأن من كان مثلي لا تكرهه النساء، فسأجعلها فتنة باريس وسلطانة النساء.

– أراك تحتم أنها تحبك.

– ذلك لأني علمت عنها ما جعلني أحتم هذا الحتم.

– لنرى ماذا علمت، ولكن قل لي قبل ذلك ماذا تشتغل تلك الفتاة لأني أرى أمامها كتبًا وأوراقًا.

– إنها تترجم الروايات عن اللغة الإنكليزية لأحد الطباعين فينقدها فرنكًا عن كل صفحة ويبيعها بعشرة للجرائد.

– إذن فهي أديبة؟

– نعم فقد كانت معلمة في مدرسة، غير أن ناظرة المدرسة مرضت فانقطع الطلبة عنها وباتت الفتاة المسكينة تشتغل هذا الشغل الشاق كي تقيت نفسها وتعالج تلك الناظرة لسابق فضلها عليها.

– يظهر أنها يتيمة؟

– لا أعلم حقيقة أمرها غير أني أرسلت خادم غرفتي منذ يومين وعهدت إليه استطلاع أمرها، فرشا بواب منزلها وعلم منه أنها في أشد متاعب الفقر، وأنها تقاسي الآن عناء شديدًا لأن ما تكسبه من الترجمة لا يكفي لنفقاتها ولمعالجة صديقتها الناظرة، وقد استحقت أجرة منزلها وهي عاجزة عن دفعها وليس في قلب صاحب المنزل أثر للرحمة، فإذا تقدمت لنجدتها وإنقاذها من شقائها قبلتني خير قبول.

– لقد كنت أحسبك من قبل أبله نزقًا، فكنت أعذرك بعض العذر. أما الآن فإنني أراك تسير في خطة لا تخلق بالأشراف، وإذا كنت تريد أن تستخدم لأغراضك الفاسدة شقاء هذه الصبية التي تشتغل في الليل والنهار للقيام بأشرف الواجبات فإني ألومك أشد اللوم ولا أوافقك على هذا السير المذموم، وإني لا أنكر عليك تزلقك إلى الحسان بشرط أن يندفعن مع تيار حبك من تلقاء أنفسهن، وأما أن تستغوي النساء وتغتنم فرصة شقاء مثل هذه الصبية الشريفة فهو ليس من الأمور التي يقدم عليها النبلاء، بل إن ذلك عار شائن تلطخ به جبهة الإنسانية وكل شريف على الأرض.

– لقد قلت ذلك القول أيها الصديق في بدء أمري، ولكني قلت في نفسي أيضًا إن هذه الفتاة بارعة في جمالها، فإذا لم أدفع عنها ذاك الشقاء دفعه سواي من المعجبين بجمالها فتكون النتيجة واحدة في الحالين، ثم إني إذا أصحبت هذه الفتاة فلا أتخلى عنها كما يفعل سواي بل أضمن لها هناءها في مستقبل أيامها، وفوق كل ذلك فإني أجد دافعًا عظيمًا يدفعني إليها وهو دافع الغرام لأني شغفت بها شغفًا لا حد له، حتى إني لا أجد صبرًا عنها ولا أجد بدًّا من الوصول إليها في كل حال.

– أتقبل مني نصيحة أيها الصديق؟

– قل وسوف نرى.

– إنك بالغ سن الرشد من عدة سنين؛ أي إنك حر التصرف في أمورك الخاصة كما تريد.

– ذاك لا ريب فيه.

– إن الفتاة مهذبة أديبة، وهي من أفضل النساء وأطهرهن قلبًا إذا صح ما رويته لي من أمورها، فإذا كان كما تقول فما يمنعك عن الزواج بها؟

فضحك أجينور ضحكًا عاليًا وقال: لا شك أنك فقدت صوابك ولو كان لك ذرة من العقل لما خطر لك ذاك الخاطر.

– قل ما تشاء، وأما أنا فإني لو كنت مكانك لتزوجتها، وفي كل حال فإني أعد عملك جريمة لا أشاركك فيه؛ لذلك أدعك وشأنك وأذهب إلى منزلي لأنام بريئًا من تلك الوصمة.

ثم تركه وانصرف وبقي أجينور وحده أمام منزل الفتاة إلى أن بزغ نور الصباح فأطفأت تلك الفتاة الفاضلة مصباحها.

٢

وحكاية تلك الفتاة أن بواب المنزل وجيرانها لم يكونوا يعرفونها إلا باسم أنطوانيت، وأنها تقيم مع امرأة كهلة تدعى مدام رينود. ولكنهم كانوا يحترمونها احترامًا شديدًا لما يرونه من حسن اجتهادها، فإنها كانت تشتغل إلى ما بعد منتصف الليل بترجمة الروايات الإنكليزية، وتشتغل في النهار بالتدريس، غير أن جميع ما كانت تكسبه من أشغالها لم يكن يكفي لنفقاتها لا سيما بعد مرض مدام رينود؛ لأن معظم إيرادها كان ينفق على الأدوية وأجرة الأطباء، حتى إن تلك العجوز كانت تتمنى لنفسها الموت إشفاقًا على الفتاة فإذا سمعتها أنطوانيت تقول مثل ذاك القول تعانقها باكية وتقول: إذا مت فعلى من تتركيني بعدك يا أماه؟

فتبكي اثنتاهما وتعود الفتاة إلى العمل والعجوز إلى التألم والقنوط.

وأصل اتصال أنطوانيت بمدام رينود أنه منذ عشرة أعوام أرسلت إليها إحدى السيدات فتاتين وهما أنطوانيت وأختها مدلين، وعهد إليها بتربيتهما مقابل راتب كان يدفع لها بسخاء في السنة الأولى، وفي العالم التالي انقطع الراتب وانقطعت زيارة تلك السيدة. فجعلت مدام رينود تنفق عليهما من مالها وقد تبنتهما إلى أن أصيبت بمرض عضال فانقطعت موارد رزقها.

وكانت الابنتان توأمين، وقد بلغت كل منهما الثامنة عشرة من عمرها فجعلتا تشتغلان بالترجمة والتدريس مكافأة لتلك المريضة التي كانت لهما بمثابة أُم.

وقد اتفق منذ عام أن مدلين إحدى الأختين لقيتها سيدة من أغنياء الروسيين في باريس فاتفقت معها على أن تصحبها إلى روسيا مرشدة لأولادها ورفيقة لها، فسافرت الفتاة وبقيت أختها أنطوانيت مع مدام رينود في باريس، فكانت تلاقي أعظم المشاق في سبيل القيام بأودها.

وفي تلك الليلة التي شاهدها أجينور وهي تشتغل في الساعة الرابعة بعد منتصف الليل كانت تكتب لأختها الرسالة التي تدل على لمعة من حكايتها وحقيقة شقائها وهي:

يا أختي العزيزة

لم أكن أريد أن أحزنك ولكن الداء أصبح لا دواء له، فلم أجد بدًّا من كشف حقيقة أمري لك، فإن مدام رينود أوشكت أن تموت وقد ذهب بصرها وعقلها كما ذهب جميع الأموال التي اقتصدتها في سبيل علاجها لأني كرهت أن أعالجها مجانًا في المستشفيات كي لا أكدرها في شيء.

ومما زاد في نفقاتي أني اضطررت أن أنقطع عن الشغل شهرًا للاعتناء بها بحيث أصبحت الآن مدينة لصاحب المنزل بأربعمائة فرنك لا أدري كيف أحصل عليها، فإن صاحب المنزل مسافر الآن، ولولا رأفة البواب بي وإمهاله إياي لكنت من الهالكين فإن البواب الصالح قال لي: إني أمهلك ما زال صاحب المنزل مسافرًا، ولكن هذا الرجل العاتي سيحضر غدًا وا أسفاه ولا أعلم كيف أدفع له، ويلاه إن العرق البارد ينصب من جبيني حين أفتكر أنه سيحجز على أثاث المنزل فما أشد شقاء العائلات الشريفة.

على أن قلبي يحدثني بأني سألقى مخرجًا من هذا الضيق.

ومما يزيد في شقائنا أننا إلى الساعة لا نعرف اسم عائلتنا، فأمنا لم نرها منذ حداثتنا، ولا أزال أبحث في جميع أنحاء باريس عن ميلون ذلك الخادم الأمين دون الوقوف له على أثر.

لا تقنطي أيتها الحبيبة لأني سأشتغل الليل والنهار كي لا يصبح لصاحب المنزل علي حق، واكتبي لي عن حالك، أما أنا فسأكتب لك أيضًا غدًا أو بعد غد لأخبرك بما يصير.

وعندما وصلت بكتابها إلى هذا الحد دخل إليها بواب المنزل وعلى وجهه ملامح الاكتئاب، فعلمت سبب حزنه وقالت له: ألعل صاحب المنزل قد عاد من رحلته؟

فقال: نعم يا سيدتي، وقد أوشك أن يطردني حين علم أنك لم تدفعي أجرة المنزل بعد، وهو سيحجز بعد ظهر اليوم على الأثاث.

فأجفلت الصبية وقالت: ويلاه ألا يمهلني إلى آخر الشهر فأقبض أجرتي من الذين أعلمهم في منازلهم، فإنه ليس لدي الآن غير مائة فرنك قبضتها من تاجر الترجمات، وأجرة المنزل أربعمائة فرنك.

أدمعت عينا البواب حنوًا وقال: إن هذا الرجل يا سيدتي لا يعرف الرحمة، ولكن لدى امرأتي مائة فرنك تقرضك إياها فإذا ذهبت بالمئتين إلى صاحب المنزل ودفعتها له واستمهليته إلى آخر الشهر فقد يجيب سؤالك، وإذا أبى فإن الأثاث لا يباع إلا بعد ثمانية أيام من إلقاء الحجز، وقد يتيسر لنا الحصول على بقية مطلوبه في هذه المدة.

فكبر ذلك على أنطوانيت غير أنها لم تجد بدًّا من الامتثال فأخذت من البواب المائة فرنك وذهبت إلى صاحب المنزل وهي تسير سير الخائفة الخجلة.

ولم تكد تسير بضع خطوات حتى رأت شابًّا يقفو أثرها، فأسرعت خطاها فاقتدى بها ولكنها سبقته ووصلت إلى المنزل دون أن يدركها، فدخلت إليه وهي تفتكر بهذا الشاب وتعجب من لحاقه بها واقتفائه أثرها على فرط ما كان يبدو منه من مظاهر الحشمة.

٣

وكان لها مع صاحب المنزل حديث طويل توسلت إليه في خلاله أن يقبل منها نصف الأجرة ويمهلها بدفع الباقي ثلاثة أيام، غير أن قلبه الصخري لم يلن لتوسلها فخرجت من عنده واليأس ملء قلبها وقد مسحت دموعها مرتين قبل أن تخرج من الباب إلى الشارع العام.

غير أنها لم تلبث أن سارت حتى رأت ذلك الشاب الذي رأته عند قدومها، وقد اعترضها في سبيلها فرفع قبعته بملء الاحترام وقال: إني أدعى يا سيدتي الفيكونت أجينور دي مورليكس، وإنما بدأت بذكر اسمي كي يُزال ما رأيته من اضطرابك لتعرضي لك في الطريق فإن النبلاء لا يقدمون على ما أقدمت عليه إلا لقصد شريف.

فسكن جأشها بعض السكون ولا سيما وقد رأت من لهجة احترامه ما دلها على صدق مدعاه في قصده، ثم نظرت إليه برهة وقالت له: ما عسى تريد مني يا سيدي وأنا لا أعرفك قبل الآن؟

– هو ما تقولين يا سيدتي ولكني إذا لم أتشرف بمعرفتك فقد عرفت أمك.

– أحقيقة أنك عرفت أمي؟

– نعم يا سيدتي بل أعرف جميع حكايتك وما تعرضت للقائك إلا لقضاء واجب مقدس.

– واجب مقدس؟

– نعم يا سيدتي فلقد قلت لك إني أدعى الفيكونت أجينور دي مورليكس وأنا بريتوني المولد غير أني نشأت في باريس مع قريبة لي تدعى المدموازل دي بزفورت.

– إني أعرفها فقد كنت أتلقى الدروس معها في مدرسة مدام رينود وقد خرجت من المدرسة سنة ١٨٥٠.

– هو ما تقولين يا سيدتي وأنا أرجو أن لا تنكري على تعرضي لك في الطريق لأني دفعت مكرهًا إلى ذلك.

– قل يا سيدي ما تريد أن تقول.

– إن قريبتي التي كانت رفيقة لك في المدرسة قد تزوجت وهي الآن وافرة الثروة وقد عهدت إلي أن أبحث لها عن مدام رينود، فإن قريبتي هذه عندما كانت في المدرسة كانت يتيمة ليس لها من ينفق عليها غير عمة فقيرة، فلما خرجت من المدرسة كانت مدينة لمدام رينود بألف فرنك.

فاضطرب فؤاد أنطوانيت وشعرت أن الله فتح لها باب الفرج بعد الضيق.

فقال أجينور: وقد بحثت كثيرًا يا سيدتي عن مدام رينود فلم أجدها، غير أنه وردني أمس كتاب من قريبتي أرشدتني فيه إلى محلها وأخبرتني أن هذه السيدة في أشد حالة من الضيق، فأسرعت اليوم إلى منزلها ولكني علمت من امرأة البواب أن هذه السيدة في حالة النزع، وعلمت اتصالك بها فكرهت أن أزورها على هذه الحالة وجعلت أنتظر خروجك من المنزل كي أدفع لك المال، فلما رأيتك خرجت رأيت على وجهك ملامح الحزن الشديد، فما تجاسرت على اعتراضك وما زلت أقتفي أثرك حتى دخلت إلى هذا المنزل، فلما خرجت منه لقيتك وجهًا لوجه.

وكان أجينور يتكلم بلهجة صادقة فخيل للفتاة أن الله أرسل لها مساعدًا من السماء فحكت له وهما يسيران إلى منزل مدام رينود ما تُكابده هذه المرأة من ضروب الشقاء وكيف أنها تشتغل آناء الليل وأطراف النهار لتخفيف شقائها، ثم رأت دمعة سقطت من عين أجينور فما شككت بسلامة قلبه وحكت له جميع حكايتها حتى أخبرته بعدها أن المال الذي ستقبضه منه سيفرج عنها كل ضيق.

ولما وصل الاثنان إلى المنزل ودعها أجينور معتذرًا وأعطاها ورقة مالية بألف فرنك، فأخذتها شاكرة وصعدت إلى مدام رينود وهي تكاد تطير سرورًا، فقالت لها: أتذكرين يا أماه مدموازيل دي بوفرت التي كنت أدرس وإياها في مدرستك؟

فقالت مدام رينود: مسكينة هذه الفتاة فإني لا أزال أذكرها إلى الآن.

فقالت أنطوانيت: ولماذا ترثين لها ألعلها كانت فقيرة؟

– كلا بل إنها كانت غنية.

وقالت في نفسها: ولعل هذه الفتاة علمت بشقاء مدام رينود فلفقت لقريبها هذه الحكاية، ولكن الاضطراب عاودها فقالت لمدام رينود: لماذا قلت يا أماه مسكينة هذه الفتاة؟

– لأنها ماتت في الليلة الثانية لزواجها في التاسعة عشرة من عمرها.

وأدركت الفتاة عند ذلك حيلة أجينور وصاحت صيحة يأس وسقطت مغميًا عليها.

٤

ولنعد الآن إلى ١١٧؛ أي إلى روكامبول، بطل هذه الرواية فنقول إنه برح مياه طولون على تلك السفينة بأصحابه وفاندا الروسية، وذهب إلى البلاد الإيطالية، وأقام متنكرًا مع رفاقه ستة أشهر، ثم ذهب إلى باريس بتلك العصابة وقد تنكر باسم الماجور أفاتار الروسي، فاتخذ منزلًا في شارع معتزل، تكتنفه حديقة فيحاء، وكانت فاندا امرأته في عيون مجاوريه.

وبعد أن ألقى عصا التيسار في باريس تحصل بدهائه المعروف وبمساعدة فاندا على أوراق تثبت أنه نفس الماجور أفاتار، ودخل عضوًا في ذلك النادي القديم، الذي كان أحد أعضائه منذ عشرة أعوام أيام كان معروفًا في باريس باسم المركيز دي شمري.

وقد عاد في ليلة من ذلك النادي إلى منزله، فقالت له فاندا: أقبلوك في النادي؟

– نعم، وقد عرفت فيه جميع أصحابي القدماء دون أن يعرفني أحد، وتعرفت بهم من جديد باسم الماجور أفاتار.

وسرت فاندا بنجاحه وقالت له: إن ميلون قد عاد من سفره وهو ينتظرك منذ ساعة بفارغ الصبر.

– سأراه ولكننا لا نستطيع أن نبحث في هذه الليلة عن الصندوق المخبوء.

وكان ميلون قد تنكر أيضًا باسم غريب، وحصل على أوراق تثبت اسمه الجديد بفضل روكامبول الذي فعل مثل هذا الفعل مع جميع رجال عصابته وغير هيئاتهم حذرًا من مطاردة الشرطة لهم. ولما دخل لمقابلة ميلون الذي كان ينتظره قبل يده باحترام ووقف أمامه وقوف التابع للمتبوع، فأمره روكامبول بالجلوس وقال له: لنتحدث الآن. أبقي معك شيء من النقود؟

فأجاب ميلون: كلا فقد أصبحت صفر اليدين، ولكني أعلم أين يوجد الصندوق؟

– أتظن أننا نهتدي إلى مكانه بسهولة؟

– نعم، فقد قلت لك إني خبأته بيدي وإني أعرف مكانه.

– وأين خبأته؟

– في قبو المنزل الذي كانت تقيم فيه والدة أنطوانيت ومدلين، فانتزعت حجرًا من جدران القبو ووضعت الصندوق ثم أرجعت الحجر إلى ما كان عليه بحيث لا يهتدي أحد سواي إلى مكانه.

– ولكن باريس قد تغيرت منذ عشرة أعوام، فقد يتفق أنهم هدموا المنزل أو أصلحوه واهتدوا إلى كنزك المخبوء.

– لا تخش يا سيدي فقد مررت بذلك المنزل وهو لا يزال على ما كان عليه من عشرة أعوام.

فتنهد روكامبول تنهد المنفرج وقال: سوف ننظر في أمره غدًا والآن أصغ إلي ألعلك مشفق على أحوال الأختين؟

– لماذا تسألني هذا السؤال؟

– لأني لا أريد أن أرجع لهاتين اليتيمتين ذلك الصندوق فقط بل أحب أن أرجع لهما ثروة أمهما بجملتها التي اختلسها أخواها.

فاغرورقت عينا ميلون بالدموع وقال: أتفعل ذلك أيضًا يا سيدي؟

– نعم، وسأجعل هاتين الابنتين من أسعد النساء.

ففرح ميلون فرحًا لا يوصف وغسل يد روكامبول بدموعه وهو يقول: ليبارك الله مساعيك يا سيدي فقد أحييت آمالي.

٥

لقد تركنا أنطوانيت مغميًّا عليها عندما علمت أن أجينور مورليكس كانت حكايته كاذبة وأن المال الذي دفعه لها لم يكن من قريبته لمدام رينود، بل كان منه لها.

فلما صحت من إغمائها كتمت أمرها أشد الكتمان وقالت في نفسها: إني سأدفع نصف تلك القيمة لصاحب المنزل وأشتغل ليلي ونهاري، ومتى تكامل عندي ماله أرجعته له وصرفته عني متلطفة، إذ قد يكون علم ضيقي اتفاقًا ودفعته عواطف الرحمة إلى ما فعل.

وكانت تتراوح بين استهجان فعله واستحسانه فتنفر منه تارة وتميل إليه طورًا، ولكنها أقرب إلى الميل لانطباع قلبها على السلامة، فقد رأت من مظاهر احتشامه ما دفعها إلى الظن خيرًا به، وكان عزاؤها أنها ستجد وتشتغل وتفيه المال ولا تعود مدينة له بغير الجميل.

ومضى على تلك الحادثة عدة أيام وهي لا تراه، ولكن خياله لم يكن يبرح عن بالها. وكانت لا تزال كاتمة أمرها إلى أن أعياها الكتمان ونحل جسمها، فكاشفت بما اتفق لها امرأة البواب وهي ترجو أن تجد بها معزية لها في مصابها.

غير أن امرأة البواب أظهرت من السرور لتلك الخادمة ما أدهش الفتاة، وذلك أنها أملت لها كل خير من هذا الاتفاق وقالت لها: إن الشاب شريف واسع الثروة ولا بد أن يكون أحبك لأدبك وجمالك، فإذا كان ذلك فهو سيتزوج بك لا محالة.

فهزت أنطوانيت رأسها إشارة إلى الاستغراب وقالت لها: أيمكن أن يتزوج هذا الغني فقيرة مثلي، ومتى كان الأغنياء يتزوجون الفقيرات؟

– متى ألف الحب بين قلبيهما لأني عندما تزوجت كنت غنية إذ كان لي خمارة لحسابي الخاص فأحببت زوجي وهو ليس له غير يديه وأسنانه يستعملها للأكل فما أنفت من فقره وتزوجته.

ثم احترقت الخمارة فاحترفت معه هذه الحرفة ودخلنا بوابين في هذا المنزل، وإن قلبي يحدثني بأن هذا الرجل سيكون زوجك.

وفيما هما على ذلك إذ دخل البواب وأعطى أنطوانيت كتابين رأت على إحداهما طوابع رسمية فعلمت أنه من أختها مدلين، ورأت على الآخر تاج الكونتية، فعلمت أنه من أجينور دي مورليكس، فاضطربت الفتاة اضطرابًا شديدًا.

وعند ذلك خرج البواب وامرأته فألقت كتاب أختها على المنضدة فبدأت بفتح الكتاب الآخر وأسرعت بنظرها إلى التوقيع وقرأت اسم الفيكونت.

وجعلت تقرأ كتابه الطويل وهو يتضمن أشرف عبارات الحب وأجمل الوعود والأماني الطاهرة، وقد ذكر لها في ختامه أن حكاية قريبته كانت من مخترعاته وإنما فعل ذلك كي يحملها على قبول المال الذي أعطاها إياه على سبيل الإعانة؛ لأنه وقف على مجمل حالتها بالتدقيق، ثم ختمه معتذرًا عن تلك الحيلة التي لم يدفعه إليها غير محض الإخلاص.

ولما فرغت أنطوانيت من تلاوة الكتاب احمرت وجنتاها وجعل قلبها يخفق خفوقًا شديدًا فإنها ما رأت أجينور دي مورليكس غير مرة واحدة ولكنها حنت إليه لما رأته من لطفه واحتشامه.

ثم إن لهجة كتابه كانت متلبسة بلباس من مظاهر صدق تجوز على من ألف خوض معارك الحياة، فهي تجوز بالطبع على تلك الفتاة العذراء، فوضعت رأسها بين يديها وقالت في نفسها: ما يمنع أن يكون هذا الشاب شريفًا وأن يكون صادقًا في أقواله؟

وعادت إلى الكتابة فقرأته مرة ثانية وكلما أمعنت في تلاوته اندفعت في مجال الهواجس والتفكير.

وفيما هي على ذلك نظرت كتاب أختها وقالت: تبًّا لي من ناكرة لحب الإخاء فقد شغلت بكتاب هذا الرجل عن كتاب أحب الناس عندي.

ثم أخذت كتاب أختها وما لبثت أن فضَّت غلافه حتى سقط منه على الطاولة ورقة مالية قيمتها ألف فرنك، فدهشت دهشًا عظيمًا وقالت: هو ذا سر جديد فإن أختي لم تر هذا المبلغ الضخم في حياتها فكيف يتفق أنها ترسله إلي.

وقد انقبض صدرها بدلًا من السرور كأنها أوجست شرًّا وأسرعت إلى قراءة كتاب أختها وخلاصته: إن تلك الأسرة الروسية التي كانت بينها أطلقت سراحها بعد أن كافأتها بعشرين ألف فرنك تعويضًا لها، وإنما عجلت بإبعادها لأن ابن ذلك الكونت الروسي الذي كانت في منزله هام بها وهامت به، ولما علم أبوه بغرامهما عزم على إرحال ابنه إلى بطرسبرج كي يتزوج فيها بقريبة له من ذوات الثروة الطائلة، وأرجعها إلى بلادها لأنه رأى أن ابنه قد تمادى في حبها وعاهدها على الزواج.

ومما قالته في كتابها أنها ستبرح موسكو بعد يوم من إرسال كتابها إلى الحدود البولونية وهناك يستقبلها وكيل الكونت الروسي فيوصلها إلى بلادها، وأنها أرسلت إليها ألف فرنك لأنها علمت بحالتها.

وكان الكتاب بجملته يدل على الحزن الشديد لشدة ولوعها بالفتى الروسي.

وحزنت أنطوانيت لحال أختها ولكنها قالت في نفسها: إن الفيكونت الروسي لا بد أن يكون أراد خداع أختي بوعوده لها بالزواج، كما يحاول الفيكونت الفرنسي أن يخدعني، ومن كان مثل هؤلاء الأغنياء فكيف يخطر له الزواج بأمثالنا، على أني أحمد الله لورود المدد إلي من أختي فقد أنقذتني من أحرج المواقف.

ثم أخذت قلمًا وكتبت إلى أجينور دي مورليكس رد كتابه وأظهرت له شدة ما بينهما من تباين المقام، وأنه من الأسرات الشريفة، في حين أنها لا تعرف لها اسمًا غير أنطوانيت وشكرته لمساعدته إياها ثم وضعت الورقة المالية التي أرسلتها إليها أختها في طي الكتاب.

وبعد أن ختمته نادت امرأة البواب وقالت لها: أيستطيع زوجك أن يرسل لي هذا الكتاب إلى شارع سيرسنس.

– لمن ألعله لذلك الشاب الجميل الذي كلمك في الطريق؟

– نعم ولكن كيف عرفت أنه جميل؟

– ذلك لأني رأيته، فقد جاء إلينا وعلمت منه أنه مجنون بهواك وأنه سيتزوج بك لا محالة.

– لقد أخطأت إذ كان يجب أن تخبريني بذلك ولكني في كل حال لا أستطيع الزواج بهذا البارون.

– لماذا؟

– لسببين أولهما أنه ليس لي مهر.

– وما حاجته بمهرك وهو من الأغنياء؟

– والثاني أنه ليس لي اسم حتى إني لا أعلم اسم أمي، ولا بد أن تكون ماتت فإننا لم نرها منذ عهد الحداثة فاذهبي وادعي لي زوجك.

ولم يسع امرأة البواب غير الامتثال، فذهبت وعادت بزوجها وكتبت على الغلاف عنوان البارون أجينور دي مورليكس وأعطته إياه فانصرف به دون أن يسألها سؤالًا واحدًا.

غير أن امرأته كانت أشد منه جرأة فإنها افتتحت الحديث مع أنطوانيت وقالت لها: أواثقة يا سيدتي من أن أمك قد ماتت؟

– إن آخر مرة رأيتها فيها أنا وأختي كان عمر الواحدة منا ثمانية أعوام، وكانت تقبلنا بحنو شديد كأنها كانت تعلم أنها تنظرنا النظرة الأخيرة، وغاية ما نعلمه أنها وضعتنا في عهد الطفولية عند مدام رينود دون أن نعرف السبب.

– ألم تعرفي اسمها؟

– كلا فإننا كنا ندعوها بأسماء الأمومة وكان الخدم ينادونها سيدتي البارونة وهذا كل ما أذكره؟

– أتذكرين المنزل الذي كنتم تقيمون فيه؟

– إنه كان منزلًا كبيرًا تكتنفه حديقة واسعة.

وجعلت امرأة البواب تفكر كأنها تذكرت أمرًا ثم قالت لها: لا بد أنه كان عندكم كثير من الخدم.

– كلا، بل كانوا ثلاثة فقط، وهم امرأتان ورجل وقد نسيت اسم المرأتين، أما الرجل فلم أنس اسمه؛ لأنه كان يحبني حبًّا شديدًا ويدعى ميلون.

ولم تكد أنطوانيت تلفظ الاسم حتى اضطربت امرأة البواب وقالت: تقولين إنه كان يدعى ميلون؟

– نعم.

– أهو ضخم الجثة يتكلم بلهجة القرويين؟

فاضطربت أنطوانيت وقالت: هذه هي أوصافه ألعلك تعرفينه؟

– كيف لا أعرفه وهو ابن عمي؟

– ميلون ابن عمك؟

– نعم يا سيدتي كما أنك أنت ابنة بارونة.

– ماذا تقولين وكيف تعرفين ذلك؟

– لأني ذهبت مرة لزيارة ابن عمي ميلون في منزلكم وكنت أنت طفلة، أما أمك فهي ألمانية وهي تدعى البارونة ميلر.

– رباه ماذا أسمع هو الحق ما تقولين فقد ذكرت الآن أن أحد الزائرين دعاها أمامي بهذا الاسم، ثم أطرقت برأسها وقالت: إنها ماتت أليس كذلك؟

– نعم وا أسفاه.

فسقطت دمعة من عين أنطوانيت وساد السكوت بينهما.

وبعد هنيهة سألتها أنطوانيت قائلة: ماذا حدث بثروة أمي؟

– لا أعلم وليس من يعلم أمرها غير ميلون.

– وماذا جرى لميلون ألعله مات أيضًا؟

– كلا، ولكنه أصيب بما هو أشر من الموت فإنه في سجن طولون منذ عشرة أعوام.

– أية جناية ارتكبها فاستحق هذا العقاب؟

– إنه سرق مجوهرات أمك يا سيدتي؟

فتراجعت أنطوانيت منذعرة وقالت: كلا إن ميلون بريء؟

– وا أسفاه يا سيدتي فإني كنت أعتقد من قبل ما تعتقدين الآن، ولكن السرقة ثابتة.

– مهما يكن من ثبوتها فإني أقسم أغلظ الأيمان أن الرجل بريء وأن هناك يدًا شريرة دفعته إلى هوة السجن، ولقد كنت من قبل لا اسم لي ولا عائلة، أما وقد عرفت عائلتي فسأذهب مع أختي إلى القضاء ونضمن لهم براءة هذا المسكين فإنه كان لنا خيرًا من أب.

وعند ذلك دخل البواب يحمل إلى أنطوانيت جواب الكتاب الذي أرسلته إلى البارون دي مورليكس، ففضته أنطوانيت بلهف وقرأت فيه عبارة استدلت منها أن هذا الفتى قد تدله بغرامها وقنط منها، وعول على أن يهجر أوطانه بغية نسيانها وأن يهيم على وجهه.

وأثر فيها الكتاب تأثيرًا شديدًا وقالت: لقد أحسنت فيما كتبت قبل الآن فقد بتنا أكفاء بعد أن عرفت أني من أسرة ولا بد لنا صديق يعيننا على إنقاذ ميلون من سجنه.

ثم أخذت ورقة وكتبت إلى أجينور ما يأتي:

سيدي البارون

كنت منذ ساعة فتاة فقيرة لا أهل لها ولا صديق فكتبت إليك ما أملته علي الواجبات، أما الآن فقد تبدلت حالي وكشف النقاب عن أسرار حياتي فإذا شئت أن تكون لي صديقًا مخلصًا فلا تسافر وتفضل بزيارة مدام رينود الليلة.

وبعد أن وقعت على الرسالة وختمتها أعطتها للبواب وقالت له: أسرع بإيصالها إلى البارون.

•••

ولنعد الآن إلى روكامبول فلقد تركناه مع ميلون وقد اتفقا على أن يبحثا عن الصندوق في الغد ثم ذهبا إلى المنزل الذي كان يقيم فيه ميلون فلم تطل إقامتهما حتى وافاهما نويل الحداد، فسر روكامبول لقدومه وقال: أقضيت ما أمرتك به وذهبت إلى شارع سيرسنس؟

– نعم يا سيدي فرأيت المنزل الذي وصفته لي باقيًا على حاله.

– ألم تتمكن من رؤيتها؟

– كلا ولكني رأيت طفلها.

فارتعش روكامبول وقال: أرزقت غلامًا؟

– نعم يا سيدي وهو من أجمل ما تراه العيون يشبه أباه شبهًا غريبًا وقد رأيته يلعب في الحديقة.

فمسح روكامبول دمعة سقطت من عينه ثم غير الحديث فقال له: هلم بنا الآن إلى المنزل الذي تقيم فيه لأني أحب أن أغير تنكري.

– إني أسكن في غرفة مرتفعة في الدور السادس ولكن صندوق ملابسك موجود فيها.

– إذن هلم بنا.

وسار الثلاثة حتى بلغوا إلى تلك الغرفة، فقال روكامبول لنويل: من يجاورك في غرفتك؟

– لا يجاورني فيها غير المجنون.

– أي مجنون تعني؟

– هو طبيب يلقبه أهل هذا المنزل بالمجنون على طول باعه بالمعلوم وشدة تضلعه في صناعته، وذلك لأنه يتكلم مع نفسه طول الليل حتى إنه لا يكاد ينام.

– ألعله فقير ليس له زبائن؟

– إنه على عكس ما تقول، فلقد أخبرتني صاحبة المنزل أنه من أشهر الأطباء وأنه ينفق جميع دخله في سبيل الخير، ولكنه يناجي نفسه طول الليل كما تقول تلك المرأة، أما أنا فإني ما سمعته يتكلم.

– لقد شغل هذا الطبيب بالي وهاج بي عاطفة الفضول ولا بد لي من كشف سره فأين غرفته؟

– هي هذه المتصل جدارها بجدار غرفتي.

فنظر روكامبول إلى الجدار فرأى به عدة ثقوب في أعلاه لتقادم عهده ولأنه كان من الخشب الرقيق، فوضع منضدة وأراد الصعود عليها فقال له نويل: لقد فاتني أن أقول لك يا سيدي إن هذا الطبيب يقيم في الغرفة نفسها منذ عهد بعيد أي منذ كان تلميذًا.

– كم عمره؟

– لم يتجاوز الأربعين ولكن ثنايا وجهه وشعوره البيضاء تدل على أنه قد تجاوز الستين.

وبينما هما يتحادثان إذ سمعا من غرفة الطبيب تنهدًا عميقًا يشبه الأنين ثم سمعوه يقول: أف لليالي الشتاء ما أشد طولها، فمتى تطلع الشمس وتطرد عني هذا الخيال؟

فدنا روكامبول من أذن نويل وقال له: اخرج أنت الآن من الغرفة ودعني فيها مع ميلون.

فامتثل نويل وأقفل روكامبول الباب وراءه ثم قال لميلون: اخلع ملابسك هذه والبس ملابس التنكر الإيطالي أما أنا فسأنظر هذا الرجل.

ثم صعد على المنضدة وجعل ينظر من ثقوب الخشب إلى داخل غرفة الطبيب فرأى فيها سريرًا من الحديد وكرسيين وطاولة عليها أكداس الكتب والأوراق ولم يكن في تلك الغرفة من الأثاث غير ما تقدم.

وقد رأى الطبيب مضجعًا على السرير وهو في الهيئة التي وصفها له نويل وكان ينظر نظرًا مضطربًا إلى الجدار ويقول: نعم إنك أنت هي يا سيدتي لا تزالين كما كنت حين دفعتني الأبالسة إلى سريرك. نعم إنك كنت لابسة ثوبًا أسود، وهو نفس الثوب الذي تلبسينه الآن، ولا يزال لك ذلك الجمال الذي كنت تفتنين به النساك، وا أسفاه إني لو كنت من الوحوش الضارية لأشفقت على جمالك وشبابك ولكني كنت أقسى قلبًا من تلك الوحوش.

ثم أنَّ أنينًا مزعجًا وعاد إلى مخاطبة الخيال فقال: لقد مر يا سيدتي عشرة أعوام على هذه الحادثة وأنا أراك كل ليلة كما أراك الآن صفراء صامتة كالأموات، ولو علمت أني أستحق العفو لالتمست منك الرحمة، ولكني أعلم أني وحش أثيم جرعتك السم بيد جانية كان الأولى بها أن تقطع فأنا لا ألتمس منك رحمة لا أستحقها بل أطلب موتًا أستحقه وأستريح فيه، أيقنعك يا سيدتي البارونة أن يهدر هذا الطبيب الذي يجله الناس دمه كما هدر دمك؟

فلما وصل بمحادثة نفسه إلى هذا الحد أسرع روكامبول إلى ميلون وقال له: أجبني بسرعة أكانت سيدتك والدة الابنتين بارونة؟

– نعم؟

– كيف ماتت؟

– شعرت يومًا أنها متوعكة فأحضروا لها الطبيب ولما عادها قال لي إنها لا تعيش.

– أتظن أنها ماتت مسمومة؟

– نعم.

– أتريد أن تنظر قاتلها؟ تعال وانظر.

فصعد ميلون مكان روكامبول وجعل يحدق نظره بهذا الطبيب فرأى أنه شديد البعد عن ذلك الطبيب القاتل فإنه كان في عنفوان الشباب منذ عشرة أعوام وهو الآن قد بلغ حد الهرم.

وبينما هو يحاول النزول لاعتقاده أن الطبيب هو غير الذي قتل البارونة رفع الطبيب نظره بعد إطراقه.

وارتعش ميلون وعرفه للحال من عينيه فنزل إلى الأرض وقال لروكامبول: إنه هو بنفسه يا سيدي ليس لدي فيه أقل ريب.

فقال روكامبول: أصغ إذن لما سأحدثك به، بينما أغير تنكري، واعلم أني عندما كنت شقيًّا سفاكًا لصًّا كنت موفقًا في تلك المهنة الشنعاء، وكنت أستطلع الأسرار وأستكشف الغوامض بلحظة في حين أن سواي من أهل المهنة كان يقضي السنين الطوال لاستجلائها.

وكأنما ذلك التوفيق الذي كان يعينني في تلك الأيام لا يزال عائد أعمالي إلى الآن فإنه خدمني اليوم باكتشاف قاتل مولاتك.

غير أنه لا يزال يشغلني أمر واحد وهو أنه كيف يدعون للبارونة مولاتك مثل هذا الطبيب الساكن في أحقر المنازل ولم يكن له شيء من الشهرة منذ عشرة أعوام؟

فقال ميلون: لقد تذكرت الآن فإنهم أرسلوني إلى طبيب بيتهم بالليل، وهو من الأطباء المشاهير فقيل لي إنه كان مسافرًا، وفي صباح اليوم التالي عدت إليه ولقيت هذا الطبيب على باب منزله فقال لي إن طبيبكم لم يعد بعد من سفره، وقد كلفني بعيادة مرضاه لأني من تلامذته فجئت به وكأني أنا القاتل لسيدتي وا أسفاه.

فقال روكامبول: ليس المقام مقام أسف الآن بل مقام انتقام وسنكسر الآن باب غرفته وندخل إليه.

ففرح ميلون فرحًا وحشيًّا وقال: سأقتله بضربة واحدة.

– إياك أن تفعل شيئًا فإن الطبيب لم يكن غير آلة بيد سواه ويجب علينا معاقبة الرأس الآمر بالقتل ثم ننظر في شأن اليد المنفذة.

وفيما هما على ذلك إذ سمعا طرق الباب الخارجي ثم سمعا أنه فتح وأن الطارق يسأل عن الطبيب ويطلب أن يذهب حالًا إلى منزل البارون مورليكس، وصعدت صاحبة المنزل إلى غرفة الطبيب وأخبرته بما كان فقال: قولي له أن ينتظرني فإني ذاهب معه.

ثم أسرع يلبس ملابسه، وعاد وجهه إلى البشاشة الفطرية بعد ذلك القنوط وخرج من غرفته فقال روكامبول لميلون: هلم بنا نتبعه فإني أحب أن أقتفي أثره إلى ذلك المنزل الذاهب إليه.

٦

ليس البارون دي مورليكس الذي ذهب الطبيب لمعالجته نفس ذلك البارون الذي يحاول إغواء أنطوانيت بل هو أبوه، وقد كان عائدًا في الليل من النادي، وفيما هو ينزل من المركبة زلت قدمه فسقط وكسرت رجله.

ولما بلغ الطبيب إلى غرفته أبعد عنه الناس وجعل يجبر رجله غير مكترث لآلامه بتلك القسوة التي عرف بها الجراحون، وكان لا ينظر في خلال العمل إلا إلى تلك الرجل التي كان يجبرها.

ولما فرغ من عمله جلس بإزاء سرير المريض يحادثه، ولم يكد يتبين وجهه وعينيه حتى اضطرب وانذعر، فنظر إلى الخادم الذي كان واقفًا في الغرفة وأمره بالخروج.

ثم نظر إلى البارون وقال له: يخال لي يا سيدي البارون أني رأيتك قبل الآن؟

– ربما كان ذلك أما أنا فإني ما رأيتك من قبل.

– كلا فإنك لو تذكرت قليلًا لعلمت أنك رأيتني ورأيتك.

فاصفر وجه البارون وقال: أظن أنك مخطئ يا حضرة الطبيب.

– لا يمكن أن أكون مخطئًا فإن شعوري لم تبيض إلا بسبب هذه المعرفة. فزاد اضطراب البارون وقال: أين تظن أني رأيتك؟

– نعم إني كلما زدت إليك نظرًا زدت اعتقادًا فقد كان أصل هذه المعرفة أنك أتيت إلي في منزلي.

– لا أذكر شيئًا.

– بل تذكر كما يدل عليك اضطرابك فقد زرتني وأنا تلميذ طب، وكنت أقيم يومها في غرفة حقيرة في شارع سيرسنس ولا أزال أقيم فيها إلى الآن.

وكنت في ذلك العهد فقيرًا أشتغل الليل والنهار كي أكون يومًا في عداد الأطباء الماهرين، فاغتنمت فرصة فقري ونفحتني بكيس مملوء بالذهب كي أعلمك طريقة القتل إذ طلبت إلي سمًّا قاتلًا لا يترك بعد الموت أقل أثر للجناية.

فانذعر البارون ولم يعد يسعه الإنكار ونظر إلى ما حواليه نظرة الخائف وقال: بربك كفى قد يسمعك الخدم.

– أرأيت الآن كيف أني أعرفك أنت الذي تنكر باسم كاذب وخدعني مغتنمًا فرصة طيش صباي وشدة فقري، غير أن الله لم يعاقبك وأنت الرأس المدبر لهذه الجناية بل عاقبتني أنا اليد المنفذة لها.

– اسكت كفى بالله.

– إنك غني سعيد تتكنى بأشرف الألقاب ولكنك قاتل سفاك.

– ما عسى تريد أيها التعس أتريد أن تفضحني وتفضح نفسك؟

وكأن الطبيب لم يسمع كلامه وقال: أما أنا فإن الفقراء يدعون لي في خلواتهم، والعلماء يستشهدون بأعمالي في مجتمعاتهم، وكل دواعي المجد تحيط بي، ولكني لو كنت في جهنم لكنت خيرًا مما أنا فيه، وحسبي عذابًا أن خيال تلك الشهيدة لا يغيب عن عيني طول ليالي فأبيت منه بليلة الملسوع، وهذا شأني منذ دفعتني إلى ارتكاب تلك الجريمة الهائلة، فإنها تظهر لي بملابس سوداء وترسل إلي من عينيها أشعة نارية تحرق جوارحي وتقول لي: كيف كان ندمك فلا عفو لك عند الله أيها السفاك، أما أنت أيها البارون فإن عقاب الله لم ينقض عليك بعد ولا تزال معدودًا في زمرة السعداء، ولكن ثق بأن الله لا يتغاضى عن المجرمين أمثالك وسيأتيك يوم تتمنى لو لم تخلق.

ثم تركه مغضبًا وانصرف دون أن يتدانى إلى وداعه أو النظر إليه، ولما خرج من قصر البارون كان مضطربًا اضطرابًا شديدًا فلم ينتبه أقل انتباه إلى رجلين كانا يترصدانه، ومر بهما دون أن يراهما فاقتفيا أثره حتى وصل إلى منزله فدخل إليه، ودخلا بعده، وكان هذان الرجلان روكامبول وميلون.

٧

فصعد روكامبول إلى غرفة نويل وطلب إليه أن يأتيه بحبل رفيع، ثم تنكر بملابس رجال البوليس وقال لميلون: إني سأخاطر من أجل الفتاتين بالعودة إلى السجن فإني لا أريد الانتقام من الطبيب وحده بل من أخوي سيدتك البارونة ميلر؛ أي من البارون مورليكس وأخيه.

ثم قال لنويل: سِر بنا الآن إلى غرفة الطبيب.

وسار نويل أمامهما وطرق الباب فقال الطبيب: من أنت؟

– أنا البواب وقد قدم اثنان يريدان أن يرياك.

– العيادة طبية؟

فقال نويل: كلا، بعد أن استشار روكامبول بالنظر.

وأبى الطبيب أن يفتح بابه وقال: ليعودا إلي في الصباح فإني لا أقابل أحدًا بعد انتصاف الليل إلا المرضى.

وعند ذلك قرع روكامبول الباب وقال له: افتح باسم الشرع.

ولم يجسر الطبيب بعد ذلك على العصيان وفتح الباب ودخل إلى غرفته روكامبول يتبعه نويل وميلون وهما متنكران أيضًا.

فدنا منه روكامبول وقال له: ألست أنت الطبيب فنسلت؟

– نعم!

وأشار روكامبول إلى ميلون أن يخرج إلى غرفة أخرى وقال لنويل بلهجة الآمر: اذهب وأتنا بمركبة. فامتثل الاثنان.

ولما أصبح روكامبول منفردًا مع الطبيب قال له: يعز علي يا سيدي الطبيب أن أقبض على عالم مثلك ولكني آلة بيد الشرع.

فخاف الطبيب وقال: كيف تقبض علي وبأية تهمة تتهمني؟

– إنهم يتهمونك يا سيدي بتسميم البارونة ميلر منذ عشرة أعوام بالاشتراك مع البارون دي مورليكس وأخيه.

فوهت رِجلَا الطبيب وسقط على كرسي خائر القوى.

وعند ذلك عاد نويل وقال إن المركبة على الباب.

ثم خرج وتولى خفارة الباب.

أما الطبيب فقد كان يتنازعه عاملان، وهما عامل كان يمثل له جريمته بأقبح مثال فيحني رأسه صاغرًا ذليلًا، وعامل يمثل له ندامته وما فعل من الخير تكفيرًا عن ذلك الذنب الذي لم يدفعه إليه غير نزق الشباب، ويرفع رأسه شامخًا واثقًا من عفو الله.

ولما ذهب نويل نظر الطبيب إلى روكامبول وقال له: إنك لست يا سيدي قاضي التحقيق كما يظهر ولست أنت الذي سيتولى التحقيق في أمري.

– هو ما تقول يا سيدي فإني أحد مفتشي البوليس.

– إذن أنا مستعد للذهاب معك غير أنهم لا يسألونني حين وصولي كما أظن، فأرجو أن تأذن لي بكتابة بضعة أسطر إلى زميل لي أسأله فيها أن ينوب عني في عيادة زبائني.

– افعل ما تشاء.

وقام الطبيب إلى منضدة فكتب رسالته ووضعها في غلاف ثم قال دون اكتراث إني أرى هذا الغلاف لا صمغ فيه ولا بد لي من ختمه بالشمع، وعند ذلك أخرج من درجه قطعة من الشمع الأسود وأدناها من الشمعة المنارة.

وكان روكامبول ينظر إليه نظر المراقب، ولم تكد تلك الشمعة السوداء تحترق ويظهر دخانها حتى هجم عليه من ورائه وضربه على يده، فسقطت الشمعة السوداء وانطفأت.

ثم أسرع إلى النافذة ففتحها كي يخرج منها ذلك الدخان وقال: لقد علمت قصدك يا حضرة الطبيب فإن هذه الشمعة سم نقيع إذا بلغ دخانها إلى الرئتين قتل للحال.

وعند ذلك قبض عليه ونادى ميلون كي يستعين به، وأسرع ميلون وتعاون الاثنان على ربط فمه بمنديل كي لا يصيح وحملاه بمساعدة نويل إلى المركبة الواقفة على الباب، وأمر روكامبول السائق أن يذهب بالمركبة إلى إدارة البوليس.

ولكنه قبل أن يصل إليها بعدة أمتار أوقف المركبة وقال للسائق: قف قليلًا هنا إلى أن أعلم أوامر المدير.

ثم مشى إلى منعطف في الطريق وهو يوهم السائق أنه ذهب إلى إدارة البوليس وأقام مختبئًا إلى أن انتهى من تدخين سيكارته وعاد وقال: إن المدير يحب أن يسمع أقوالك في منزله. وأمر السائق أن يسير إلى منزله؛ أي إلى منزل روكامبول الذي يقيم فيه مع فاندا، ولما وصل إليه أخرجوا الطبيب وصعدوا به إلى المنزل وأطلقوا سراح السائق.

٨

وكان الطبيب قد سكن روعه بعض السكون لطول المسافة، وخلا به روكامبول في غرفة، بعد أن أقفل بابها وجلس بإزائه وقال: والآن لنتحدث يا حضرة الطبيب.

– بماذا نتحدث، ألعلك أنت الذي تتولى التحقيق بأمري؟

– نعم!

– إذن من أنت؟

– أنا رجل يعمل أعمالًا عظيمة، فإن العدالة يا سيدي من أخص الأمور المقدسة، وما أنا من الشرطة ولا من القضاة كما تتوهم، بل أنا رسول العدل وقد أصبحت في قبضتي خاضعًا لسلطاني؟

فذعر الطبيب وقال: زدني إيضاحًا أيها الشقي فمن أنت؟

– أنا رجل من كبار المجرمين وقد أرسله الله لعقاب كبار الآثمين.

– إذا كنت كما تقول فقد وجب عليك احترام القوانين والشرائع المقدسة، ومن كان يريد عقاب المجرمين لا يرتكب جرائمهم ويقلد رجال الشرطة ويسرق الناس من منازلهم، دعني أخرج أيها الشقي.

وأخرج روكامبول مسدسًا من جيبه وقال: إني كنت أدعى في السجن مائة وسبعة عشر وكنت أدعى قبل أن أسجن روكامبول، وأنا الآن أدعى الماجور أفاتار، فأنا أقسم لك بهذه الأسماء الثلاثة إنني أقتلك شر قتل إذا لم تصغ إلي وتطيعني فيما أريد.

– ماذا تريد؟

– أريد أن تعترف لي.

– إني لا أعترف إلا لله.

– ولرسول العدل.

– إنك لست بإله وما أنت برسول العدل بل أنت شقي هارب من الليمان أستطيع أن أرجعك إليه إذا ذكرت اسمك.

– ولكننا نعود سوية يا سيدي الطبيب فإن السجون أعدت للقتلة المجرمين، وسواء كان القتل بالخنجر أو بالسم فإن الجريمة واحدة، ثم إن هناك أمرًا آخر وهو أني كنت في السجن فلا أخاف العودة إليه، وما أنا برسول العدل، ولكني الآلة التي أرسلها الله للقضاء على الآثمين، فإذا لم أنل منك ما أريد قتلتك في الحال.

وقال له الطبيب باحتقار: ماذا تريد مني ألعلك طامع بمال؟

– لو كنت لصًّا عاديًّا لنهبت ما لقيته في منزلك، ثم إنك لست غنيًّا فإنك تهب جميع ما تكسبه للفقراء.

– إذن ماذا تريد؟

– أريد أن أتحدث معك.

– قل فإني مصغ إليك.

– أول ما أبدأ به يا حضرة الطبيب هو أنه عندما يرتكب المرء جريمة، لا يخلق به أن يحدث نفسه بها طول ليله على مسمع من الناس.

– أتظن أني ارتكبت جريمة؟

– لا أظن بل أؤكد ولو كنت على شيء من الشك فإن عزمك على الانتحار بدخان تلك الشمعة السوداء أزال مني كل ريب، ولكني أعلم أنك سممت امرأة لم تكن تتجاوز الثلاثين من عمرها وهي غنية حسناء، وأن هذه المرأة تدعى البارونة ميلر.

– أتعرف اسمها أيضًا؟

– أعرف كل شيء، أما إذا كنت تريد أن تعرف ما أريد منك فاسمع، إنك قبل أن ترتكب تلك الجريمة بيوم واحد لم تكن تعرف البارونة ولم يدفعك إلى قتلها عامل من حقد أو طمع بإرث، بل لأنهم أعطوك أجرة هذا القتل عشرة آلاف فرنك.

وكانت هذه الأقوال صادقة صحيحة فلم يسع الطبيب إنكارها بل غطى وجهه بيديه وقال له إذن سلمني إلى القضاء بدل تعذيبي.

– لم يحن الوقت بعد فإن من يجسر على أن يفعل ما فعلته معك لا يقنع بعقاب اليد المنفذة للجريمة بل يرجو سحق الرأس المدبر لها أفهمت الآن؟ إني أريد أن أعرف شريكيك لأنهما اثنان.

فذعر الطبيب ذعرًا شديدًا وقال: إذن أنت تعرف كل شيء؟

– أصغ إلي فإن البارونة ميلر قد قتلت منذ عشرة أعوام وإن الحكومة لا تعرف شيئًا عن جريمتك، على أنك إذا كنت قد استحقيت العفو عن جريمتك لحسن توبتك وصالح أعمالك، فإن شريكيك الذين اغتنما فقرك ونزق شبابك لا يزال يتمتعان بأموال أختهما التي قتلاها.

– ماذا تقول؟ أختهما؟

– نعم أختهما قتلاها بيدك كي يسرقا أموالها وأنت لا تعلم.

– رباه ماذا أسمع ويا ويحي كيف ألقاك يا ربي بعد هذه الجريمة الشنعاء؟

– وليس هذا كل ما فعلاه فإن أختهما كان لها بنتان فجرداهما من أموالهما وهما طفلتان يتيمتان، وليس من يعلم الآن مصيرهما فاختر الآن بين أمرين وهما إما أن أسلمك للشرطة وأسلم نفسي معك أو أنك تساعدني على الانتقام من هذين الأثيمين اللذين أغرياك على قتل أختهما فتكون لي أطوع من البنان.

فتنهد الطبيب وقال: رباه إذا لم تصفح عني لقتل تلك الأم المنكودة فأفسح في أجلي كي أنفق حياتي في خدمة ابنتيها. ثم جعل يبكي.

فأخذ روكامبول يده وقال: لقد وثقت منك الآن فإن دموعك تدلني على صدق نيتك في مساعدتي.

– وا أسفاه إني سأشتغل الليل والنهار لمساعدة هاتين اليتيمتين.

– يجب أن تصنع أكثر من ذلك أيها الطبيب؛ أي يجب أن تساعدني على إرجاع تلك الثروة المسروقة.

– لقد أصبت وسأكون لك أطوع من العبيد فقل ماذا يجب أن أصنع.

– سأقول لك بعد حين والآن فما عليك إلا أن ترجع لعيادة مرضاك.

– كيف ذلك أتطلق سراحي؟

– نعم فقد وثقت من ندمك وإخلاصك في خدمتي.

– أقسم لك بتربة تلك الضحية التي يزورني خيالها كل ليلة إني سأفعل كل ما تريد، قل ماذا أفعل اليوم؟

– لا حاجة لي بك اليوم، وغدًا سأزورك في منزلك أو أكتب لك فأعين موعدًا آخر.

ثم نادى ميلون وقال: أحضر مركبة للطبيب. فامتثل ميلون وهو منذهل، وهو لا يجسر على سؤاله وبعد عشر دقائق ركب الطبيب بها ومضى فقال روكامبول لميلون: الآن يجب البحث عن الصندوق المودعة فيه أموال البنتين فاتبعني.

وسار روكامبول وميلون إلى ذلك المنزل الذي كان مخبوءًا في أحد أقبيته الصندوق، فاستأجره ميلون وقد ادعى أنه تاجر خمر قسمًا من ذلك المنزل مشترطًا أن يكون له قبو، وبعد أن تفقد الأقبية اختار واحدًا منها وهو القبو الموجود فيه الصندوق.

وفي اليوم الثاني أحضر الأدوات اللازمة للحفر وجعل يبحث مع روكامبول عن الحجر المخبوء وراءه الصندوق حتى إذا عثر عليه أخذ روكامبول يشتغل بنزع الحجر، وبعد ساعة تمكن من نزعه وأخرج ذلك الصندوق الصغير من مخبئه، فصاح ميلون صيحة فرح لأنه عرف الصندوق.

وحمل روكامبول الصندوق بيديه فوجده خفيف الوزن فقال له: كيف تقول إنه يوجد فيه مليون فرنك فإن خفَّته لا تدل على شيء من ذلك؟

– ذلك لأنه يحتوي على أوراق مالية.

فاصفر وجه روكامبول، فقال له ميلون: بأي شيء تفتكر؟

– أفتكر أني كنت أدعى روكامبول ولو وجدت وإياك منفردين من قبل وأمامنا هذا المليون لكنت قتلتك كي يكون المال لي وحدي.

فاضطرب ميلون وقال: إن هذا المال ليس لي بل إنه مال اليتيمتين.

وأدرك روكامبول معنى اضطرابه وقال له: اطمئن فإني نزعت من نفسي ذلك المبدأ القديم فهلم بنا إذن لنرى ما في الصندوق.

٩

ولندع الآن روكامبول يفحص ذلك الصندوق مع ميلون، ونعود بالقارئ إلى عاشق أنطوانيت، فإنه لما وصل إليه كتاب أنطوانيت الأخير الذي تمنعه فيه عن السفر فرح فرحًا لا يوصف، وقد وجد من أدب هذه الفتاة ما غير نيته بشأنها فما صدق أن دنا الموعد المعين حتى أسرع إلى منزلها فلقيها مع مدام رينود.

وقد رأى في ذلك المنزل آثار الفقر والشقاء، غير أنه ما لبث أن حادث هاتين المرأتين حتى علم أن في نفسيهما خير ما يغرس من الفضائل والآداب، واندفعت أنطوانيت في حديثها معه فأخبرته بما كانت تجهله من أمر ماضيها، إلى أن قيضت لها الصدفة أن تعرف أنها ابنة البارونة ميلر وأن أمها كانت غنية، ثم طلبت إليه ببساطة الأطفال أن يساعدها في سبيل إيجاد ثروة أمها إذ ليس لها من تعتمد عليه في هذا الوجود إلاه.

فتأثر أجينور من حديثها تأثيرًا عظيمًا حتى إنه نسي غرامه فلم يكاشفها بكلمة حب وانصرف إلى تطمينها، فوعدهما وعدًا صادقًا أن يكون لها خير خادم وصديق وأظهر لها ما لأبيه البارون دي مورليكس من الوجاهة والكلمة النافذة، وأنه سيستعين به على إيجاد هذه الثروة الضائعة. ثم ودعها بعد أن التمس منها أن تأذن له بالعودة مرة ثانية. وانصرف وقد عزم عزمًا أكيدًا على الزواج بها لا سيما بعد أن علم أنها من النبلاء، وأن أباه لا يعارضه بزواجه ابنة بارون.

وذهب توًّا إلى أبيه وهو في فراشه لانكسار رجله كما تقدم فأخبره بجميع حكاية تلك الفتاة وهو لا يخطر له في بال أن أباه وعمه هما سارقا ثروة والدة الفتاة، وأن تلك الفتاة التي يهواها هي أقرب قريبة له.

أما والده البارون فقد وقع هذا النبأ وقع الصاعقة عليه فتظاهر بألم رجله، وهو إنما يشكو حقيقة من ظهور تلك الفتاة وظهور ذلك الطبيب، ثم طيب خاطر ابنه ووعده خيرًا، وكتب في الحال رسالة إلى أخيه الأكبر يطلب إليه فيها أن يحضر سريعًا لأمر خطير، وأمر ابنه أن يذهب بالرسالة إلى عمه بعد أن أوصاه بكتمان أمر الفتاة وأن لا يذكر شيئًا من أمرها لأحد من أصدقائه. فامتثل أجينور وذهب بالرسالة إلى عمه.

وبعد ساعة قدم أخوه الفيكونت كارل دي مورليكس ودخل إليه فقال له البارون: أقفل باب الغرفة!

ففعل وهو يعجب لهذا التحفظ الشديد. ولما جلس بإزائه، ورأى اضطراب أخيه، علم أن الأمر جلل فقال له: ماذا دهاك؟ وما هذا الاضطراب؟

– لقد فضح أمرنا يا كارل!

– كيف ذلك وأي أمر تعني؟

– لقد حلت ساعة العقاب!

– قيل لي إنك كسرت رجلك فهل أصبت بالهذيان؟

– كلا ولكنك لا تعلم من هو هذا الطبيب الذي جبر كسر رجلي. إنه هو ذلك التلميذ الطبي الذي كان يقيم في شارع سرسنس.

– ما هذا الاتفاق الغريب ألعله عرفك؟

– نعم، وأشار علي بالندامة والاستغفار. وليس هذا كل السبب في اضطرابي، فإن ولدي أجينور يريد أن يتزوج فتاة تدعى أنطوانيت ميلر أعلمت الآن؟

فقطب كارل جبينه وقال: وبعد ذلك؟

– إنها تعرف اسمها وتعرف أن ثروة أمها قد سرقت وأن ميلون الخادم في السجن، وقد جاءني ولدي يسألني أن أساعده في إخراج ميلون من السجن، أفهمت الآن؟

– فهمت كل شيء وأخص ما فهمته أن ولدك أبله؛ لأنه قص عليك جميع هذه الأمور، فوضع نفسه في أحرج المواقف. ثم جعل يضحك ضحك الساخر.

١٠

أما روكامبول فإنه عالج الصندوق الحديدي وفتحه فوجد فيه قيمة ميلون فرنك أوراقًا مالية، ووجد كتابًا بخط البارونة ميلر، فأخذ الكتاب ودفع الصندوق باشمئزاز إلى ميلون، كأنه خشي أن يؤثر عليه منظر ذلك المال الكثير. ثم جعل يقرأ ذلك الكتاب المسهب على مسمع ميلون.

والكتاب معنون باسم أنطوانيت ومدلين ابنتي البارونة ميلر. وهو يتضمن حكاية تلك البارونة وخلاصتها أنها لم تكن أخت الفيكونت كارل والبارون دي مورليكس لأمهما وأبيهما بل لأمهما فقط، ولدتها حرامًا وكتمت أمرها عن جميع الناس حتى مات زوجها فعرف والدها بأمرها وأشارا عليها أن تتبناها وأن تقيم في باريس بصفة قريبة.

ولم يكن ذلك من قبيل الرأفة بتلك الأم بل طمعًا بأموال ابنتها، فإنها تزوجت البارون ميلر وبعد ولادة ابنتيه أنطوانيت ومدلين توفي عن ثروة تبلغ عشرة ملايين فرنك، وإنما طلبا إلى أمهما أن تتبناها شرعيًّا كي يحق لهما الإرث منها بعد وفاتها، ولذلك لم يكن أحد من الناس يعلم أن البارونة ميلر هي شقيقة البارون والفيكونت دي مورليكس.

وبعد أن تم عقد التبني وقدمت البارونة بابنتيها إلى باريس توفيت أمها. وقد اتضح فيما بعد ذلك أن ولديها قتلاها بالسم، ثم جعلا يطاردانها ويحاولان قتلها بطرق مختلفة خفية ويظهران الأنس والبشاشة فدسا لها السم مرة في برلين فنجت منه، وأحرقا المنزل بها مرة في فيينا فسلمت مع ابنتيها. ولما كانت في باريس أتاها أحد خدم أخيها الفيكونت كارل، فأخبرها بجميع مكائد أخيها وأنه عازم على قتلها وقتل ابنتيها كي يرثها. فجمعت ما استطاعت جمعه من المال وأعطته لخادمها ميلون وأوصته أن يخبئه كي يكون مهرًا لبنتيها ثم وضعت هاتين البنتين في مدرسة مدام رينود دون أن تذكر لهما اسم عائلتيهما ومكثت في باريس بعد أن اطمأنت على ابنتيها.

هذه خلاصة الكتاب الذي يظهر منه كيف أن أجينور دي مورليكس لم يعلم أن أنطوانيت ابنة البارون ميلر قريبة له لأن سر ولادة البارونة كان مكتومًا عن جميع الناس ولم يعرفه غير الفيكونت وأخيه البارون.

ولما فرغ روكامبول من تلاوة الكتاب قال لميلون: إننا قد وجدنا الصندوق وعرفنا أمورًا كثيرة من هذا الكتاب فماذا تريد أن تعمل الآن؟

– نبحث عن أنطوانيت ومدلين ونرد لهما المال.

– حسنًا غير أن المليون لا يكفي البنتين؛ لأن مالهما عشرة ملايين لا مليونًا واحدًا.

– سنطالب بالباقي.

– تطالب مَن؟

– الحكومة!

فضحك روكامبول وقال له إنك لا تزال على بلاهتك. أنسيت أنك هارب من السجن وأنك كل يوم تتنكر في زي فكيف يصح أن يكون لك علاقة بالحكومة؟

– إذن كيف نعمل؟

– سوف ترى ماذا أعمل. غير أن عملًا عظيمًا كهذا يقتضي له المال الكثير وقد رأيت ما صنعت من قبل ولا بد أن تثق بما سأصنع في المستقبل.

فقال ميلون بإعجاب: لا ريب عندي بأن عقلك أسمى من عقول البشر.

وأجاب روكامبول بسكينة: إني سأجد البنتين وأرد لهما كل ثروتهما وأنتقم لأمهما. غير أنه لا بد لي من المال لتحقيق هذه الآمال.

وكان ميلون يثق ثقة عظيمة برفيقه في السجن فدفع إليه الصندوق وقال: خذ ما تشاء.

– إني أحتاج إلى مائة ألف فرنك على الأقل.

– خذ ما تشاء.

فأخذ روكامبول مائة ألف وقال: هلم بنا إذن، فقد آن أوان العمل ولك أن تدعوني منذ الآن بروكامبول.

١١

بينما كان روكامبول منهمكًا مع ميلون بفتح الصندوق وتلاوة الكتاب كان الفيكونت كارل مورليكس جالسًا على كرسي أمام سرير أخيه وهو يباحثه في جنايتهما القديمة.

وكان كارل هذا شديد الدهاء لا ترهبه الصعاب ولا يقف بجرأته عند حد خلافًا لأخيه والد أجينور، فقد هاله ثبات أخيه وعدم ظهور شيء من علائم الاضطراب عليه فقال له: ألست بنادم على تلك الجناية؟

– إن من تجاسر على سرقة ثروة، يجب عليه أن يتجاسر أيضًا على حفظها.

– ولكننا لا نستطيع الاحتفاظ بها أمدًا طويلًا، ما زالت الفتاتان في قيد الحياة.

فهز كارل كتفيه إشارة إلى عدم الاكتراث وقال: كيف حصلنا على ثروة أختنا بعد وفاتها.

– بفضل عقد التبني الذي ظهر فيه أن البارونة ميلر أختنا، وأنه يحق لنا إرثها.

– نعم ولكنه كان للبارونة ابنتان فلم يكن يحق لنا إرثها إلا بعد إثبات وفاة ابنتيها، وقد أثبت وفاة أنطوانيت ومدلين ميلر يوم وفاة أختنا ولولا ذلك لما حق لنا أن نرث شيئًا وقد كان صك وفاتهما مذيلًا بتواقيع كثيرة لا تدع أقل مجال للريب ولا يمكن نقضها.

– وإذا ظهرت البنتان؟

– لا يفيد ظهورهما شيئًا.

– كيف ذلك؟

– لأن الحكومة لا تصدقهما إذ ليس لديهما ما يثبت نسبهما.

– ولكن ميلون يثبت هذا النسب.

– إنه مسجون.

– ومتى خرج من سجنه فإن سجنه غير مؤبد؟

– لا يجد هاتين الفتاتين أو يجدهما غير صالحتين لهذا النسب.

فأجفل البارون وقال: لقد أدركت قصدك ولكنه قصد هائل لا أوافقك عليه، فقد كفى ما فعلناه.

– إذن، فاختر بين أمرين: إما أن تبقى متمتعًا بثروتك وجاهك بالقضاء على هاتين الأختين، أو تمتعهما بها بالقضاء على نفسك وقضاء الحكومة عليك.

– رباه! كلاهما شديد ولكني أختار أهون الويلين فافعل ما تشاء.

– سأفعل إنما يجب أن تعلم بأني سأستخدم ابنك أجينور آلة وسأتعب قلبه، غير أن أمراض الحب سريعة الشفاء وسأزوجه خير فتاة ترضية له.

فقال البارون ببلاهة: لم أفهم إلى الآن كيف أنك ستستعين بولدي كي تصم تلك الفتاة التي يهواها بوصمة عار.

– كن مطمئنًّا فلا خوف على ولدك لأنه ولدي. أما طريقة استعانتي به فستعلمها بعد حين، إنما لا بد لي الآن من إخبارك أني أعرف رجلًا في باريس أحيل من ثعلب، تقلب في جميع أنواع الشرور وتمرس بجميع الأعمال، فقد كان لصًّا شريرًا ثم رأى رئيس البوليس ما كان من حذقه فجعله بوليسًا سريًّا ثم عزله لأنه لم ينقطع عن السرقة ومشاركة اللصوص، وهو الآن يعتزل في منزله يأتيه رزقه من العصابات الشهيرة لخوفها من كيده. فإذا أعطيته ثلاثين أو أربعين ألف فرنك فعل لي ما أريد.

– كل ذلك سافل مكروه.

– ولكنه واجب ولا بد منه، إذا كنت تخشى السجن والإقامة فيه بدلًا من ميلون.

فلم يجب البارون بشيء. ولما رآه أخوه مطرقًا يفكر خشي أن تتغلب عليه عاطفة الشهامة فنهض وقال: إني ذاهب إلى هذا الرجل وسأعود إليك بعد أن أراه.

– ولكن ولدي أجينور سيعود الآن فماذا أقول له؟

– طيب خاطره ما استطعت، وقل له إني ذهبت للسعي فيما يريد.

ثم ودعه وركب مركبته وانطلق بها إلى شارع سانت جرمين، فأوقفها عند باب منزل وصعد إلى الدور الثالث، فطرق الباب وسمع صوتًا يقول له: ادخل ففتح الباب ودخل، فوجد رجلًا يناهز الخمسين فحياه وناداه باسم تيميلون.

١٢

وكان أول من افتتح الحديث الفيكونت فقال لتيميلون: أعرفتني؟

فنظر إليه تيميلون نظرة عدم اكتراث، وقال له: إن ذلك يتعلق بالأحوال.

– كيف ذلك؟ إني لا أفهم ما تريد.

– ذلك لأننا نحن معاشر رجال الأعمال السرية ننظر إلى من يزورنا لقضاء مهمة من المهمات، فإذا شاء أن نعرفه عرفناه، وإذا رأينا أنه لا يريد أن نعرفه أنكرناه.

فابتسم الفيكونت وقال له: إني أريد أن تعرفني.

– إذن أنت الفيكونت كارل مورليكس ومنزلك في شارع بيبينار وأنا مستعد لخدمتك.

– سأحكي لك أمري بكلمتين فاعلم أن لي أخًا.

– إنه يدعى البارون دي مورليكس ويقيم في شارع أوكاليه.

– ولي ابن أخ.

– إنه يدعى أجينور ويقيم في شارع سيرسنس منفصلًا عن أبيه.

– يسرني أنك تعرفنا جميعًا بهذا التدقيق. اعلم الآن أن أجينور هذا يريد أن يتزوج زواجًا لا يوافقنا.

– وإنك تريد أن تمنع هذا الزواج أليس كذلك؟

– هو ما تقول.

– كل شيء ممكن متى وُجد المال.

– المال موجود.

– إذن فلنتحدث: من هي هذه الفتاة؟

– هي فتاة فقيرة تعلم الموسيقى في البيوت، طاهرة السريرة بديعة الجمال ليس لها أهل وهي تقيم مع معلمة عجوز.

وكان تيميلون يسمع ما يقول كارل ويكتب مذكرات بأقواله بلغة اصطلاحية لا يعلمها سواه فلما فرغ من استعلامه عن أنطوانيت قال له: لدي طريقتان إحداهما سهلة ميسورة وهي أن أنصب شركًا للصبية وأقودها إلى محل شائن ثم نبرهن لأجينور أنها غير خليقة به.

فأبى كارل هذه الطريقة وقال إن أجينور شاب متفلسف يحسب نفسه خلق لإصلاح خطأ الناس وأن المرء ضعيف لا يؤاخذ بخطأ، فقد يحمله إيلام عرضها على الزواج بها سترًا لشرفها.

– إذن فلنبحث في الطريقة الثانية؛ لأنها أكثر مشقة وأغلى ثمنًا، وهي أن نلقي تلك الفتاة في مشاكل تدعو إلى مداخلة البوليس وإرسالها مؤقتًا إلى سجن بنات الهوى.

– إنها خير من الطريقة الأولى ولكني لا أريد أن يكون السجن مؤقتًا.

فنظر إليه تيميلون محدقًا مستكشفًا وقال له: إذن أنت مستعد لدفع الأجرة الباهظة التي يقتضيها المشروع.

– كم تريد؟

– خمسين ألف فرنك وليس ذلك بكثير إزاء هذه المهمة الصعبة.

– ليكن لك ما تريد.

ففكر تيميلون هنيهة وقال: إن الأمر سهل وهو أننا نستطيع أخذها بالحيلة إلى منزل ترتكب فيه جريمة سرقة فيحضر البوليس ويقبض عليها مع اللصوص فيعترفون أنها شريكة لهم وأنها داخلة في عصابتهم.

– إنه فكر مصيب ولكن أين تجد أولئك اللصوص؟

– إن لدي منهم من أثق به.

– ولكني أخشى أن تتمكن الصبية من إثبات براءتها بإثبات اسمها.

– ألم تقل لي إنها لا أم لها وإنها تخرج وحدها لإعطاء الدروس.

– إنها تخرج كل يوم في أوقات معينة.

– إذن، سأجد لها أمًّا تلتمس إخراجها من السجن، وتحاول تبرئتها فتزيد بها الظنون، وتؤيد الجريمة. إنما قل لي اسمها، واسم الشارع الذي تقيم فيه.

– إنها تقيم في شارع سانت أونوريه واسمها أنطوانيت، إذ لا عائلة لها، غير أنها لفقت حديثًا لابن أخي فادعت أنها ابنة بارونة.

فأدرك تيميلون أن في الأمر سرًّا ونظر إلى كارل نظرة المشكك من صدق كلامه فطمع وقال له: إذا وجدت أمًّا فاسدة السيرة لهذه الفتاة فسجنتها وأبطلت دعواها وأفسدت جميع براهين نسبها الذي يخال لي أنك تخشى ظهوره أتدفع لي مائة ألف فرنك؟

فاصفر وجه كارل وعلم أن كل إنكار مع الرجل محال وكل مساومة لا تفيد فقال: سأدفع لك المال.

– إذن فاذهب الآن في شأنك وسأخبرك غدًا بجميع ما أجريته.

فنهض كارل ومضى حتى إذا بلغ الباب عاد وقال: أتعلم شيئًا من أخبار سجن طولون؟

– إني أعرف جميع المسجونين فيه وأعرف من فر منهم ومن بقي، فسلني عمن تريد.

– أتعرف مجرمًا سارقًا يدعى ميلون.

فأخذ تيميلون دفترًا ضخمًا فقلب في صفحاته هنيهة وهو ينظر فيها ثم قال: نعم، إن الرجل قد فر من سجن طولون منذ ستة أشهر.

فاصفر وجه كارل اصفرارًا شديدًا لم يخف على تيميلون فقال له: ألعلك تخاف منه؟

– أخافه أكثر مما أخاف أنطوانيت، ولم يعد سبيل معك إلى الإنكار بعد اتفاقنا.

– إذن، فاعلم أن ميلون هذا قد فر مع رجل هائل، لا نستطيع أن نجاريه في مضمار، وكفى وصفًا له أنه يدعى روكامبول. واعلم يا سيدي الفيكونت أن كل مال ضائع في مقاومة هذا الداهية. وإذا كان متفقًا مع ميلون فأيقن أن مساعينا خائبة، وإني أتنازل لك الآن عن المائة ألف فرنك وأشير عليك أن تدع ابن أخيك يتزوج أنطوانيت، فذلك خير لنا جميعنا وأبقى إلا إذا أخبرتني بجميع أمرك دون أن تكتم عني شيئًا وأطلقت يدي في الاتفاق.

– سأخبرك بكل شيء.

– وأنا سأخاطر مع هذا الداهية فإذا ظفرت به بلغت أقصى درجات المجد والشهرة في مهنتنا.

١٣

في اليوم التالي لزيارة أجينور لأنطوانيت، كانت أنطوانيت راجعة من أحد المنازل التي تدرس فيها الموسيقى وهي تسرع خطاها وتخترق الجماهير المزدحمة في الشوارع وتفتكر تارة بأجينور وتارة بميلون وآونة بذلك الاتفاق الذي عرفت به اسم عائلتها، فتستطرد منها إلى أجينور ولا تجسر أن تتم تصورها.

وفيما هي تسير إذ رأت رجلًا خارجًا من باب ناد كبير، فوجف قلبها واضطرب سيرها لأن ذاك الرجل كان أجينور، وقد رآها فأسرع إليها ورفع قبعته بملء الاحترام وحياها فردت له التحية، وحاولت أن تتم سيرها فاستوقفها بافتتاحه الحديث معها وقال لها: اسمحي يا سيدتي إذ قد لقيتك أن أقول لك في الحال؛ لأني منذ الصباح أعد الدقائق وأنتظر المساء بفارغ الصبر.

– الحق يا سيدي أني أذنت لك بزيارتي في هذا المساء وأنا أنتظرك ثم حاولت أن تسير.

فقال لها: يا سيدتي إن الأمر يتعلق بميلون.

وكأن الاسم قد سحرها فوقفت في مكانها وقالت: ميلون؟

– نعم يا سيدتي لقد خابرت عمي بشأنه فقبل التماسي وذهب في الحال إلى دار الحكومة فعلم أن الرجل محمود السيرة في السجن وأن اسمه وضع في لائحة الذين سينعم عليهم بالعفو.

فسرت أنطوانيت سرورًا لا يوصف وقالت: متى يكون هذا العفو الكريم؟

– لا أعلم، غير أن عمي وعدني أن يبذل جميع ما لديه من النفوذ في سبيل الإسراع بالإفراج عنه، ثم إن هناك أمرًا آخر أحب أن أقوله لك وهو أني قابلت أبي أيضًا وكلمته عنك، وعن فضائلك، وعن حبي. فأجابني أبي يا سيدتي أنه سيلتمس منك بنفسه.

فاحمر وجه الصبية وتلعثم لسانها فلم تعلم ماذا تجيب، فزادت جرأة أجينور فأخذ يدها وقال: أيتها الآنسة المحبوبة إن أبي سيلتمس منك بنفسه، لا تقضي علي قضاء مبرمًا وتجعليني شقيًّا في غرامي إلى الأبد.

فاضطربت الفتاة اضطرابًا شديدًا وحاولت الإفلات منه وهي تقول: إلى المساء يا سيدي إلى المساء.

وفيما هي تحاول المسير رأت رجلين يسيران في مركبة سيرًا حثيثًا فصاحت صيحة دهشة عظيمة وقالت: هو هو بعينه ومحال أن لا أعرفه!

فأسرع إليها أجينور وسألها: من هو؟

– هو ميلون بذاته ذو اللحية البيضاء يسير بهذه المركبة.

ولم يمهلها أجينور وكانت مركبة معدة للأجرة واقفة في الشارع فأصعدها إليها وقال: سندركه يا سيدتي قبل أن يتوارى.

ثم جلس بجانبها وقال للسائق: إني أعطيك مائة فرنك إذا أدركت تلك المركبة.

وأشار إليها فضرب السائق جواد مركبته بالسوط فانطلق ينهب الأرض نهبًا، غير أن المركبة التي كان ميلون فيها حقيقة كانت ذات جوادين، فلم تستطع إدراكها ثم اضطرت إلى الوقوف لازدحام المركبات في الطريق فلم تستطع مركبة أجينور وأنطوانيت إدراكها فتوارت عن الأنظار.

وعند ذلك عاد أجينور بالفتاة وهو يبسط لها في الطريق أجمل الأماني وأشرفها، ولما بلغ بها إلى منزلها نزلت من المركبة وهي تضطرب فودعته والتمست منه أن لا يزورها في الليل لكثرة اضطرابها ولاحتياجها إلى الراحة فوعدها بالامتثال وانصرف.

أما أنطوانيت فإنها دخلت إلى المنزل فرحة بوجود ميلون في باريس منقبضة لعدم تمكنها من إدراكه، فلما دخلت إلى غرفتها وجدت فيها رسالة ففضتها وأسرعت بنظرها إلى التوقيع فقرأت البارون دي مورليكس.

١٤

وكانت الرسالة من والد أجينور وهي كما يأتي:

يا ابنتي العزيزة

لقد أخبرني اليوم ولدي بما كان بينكما وذكر لي عن فضائلك ما جعلني قرير البال على مستقبله، فأرجوك أن تغفري لي كتابتي إليك خفية عن أجينور وأن تكتمي عنه هذا الكتاب.

إن ولدي يحبك حبًّا لا يوصف ويرجو أن يعرف طريق قلبك بإرشاد غرامه الصادق.

وكنت أود أن أزورك بدلًا من أن أكتب إليك، غير أني عثرت أمس فكسرت رجلي واضطررت إلى ملازمة الفراش، وإني لا أجد بدًّا يا ابنتي العزيزة من أن أراك وأحادثك مليًّا في شأن ولدي محادثة لا يسمعها سوانا دون أن يعرف أجينور شيئًا من هذا اللقاء. فهل ترفضين لأبيه مثل هذا الطلب؟

إني واثق من أنك لا ترفضين، ولو كنت أستطيع الانتقال من سريري لأسرعت إليك، فلا بد لي من العبث بجميع المعاملات والعادات المألوفة وألتمس منك أن تزوريني، فإذا تفضلت يا ابنتي العزيزة بإجابة ملتمسي تجدين مركبة على باب منزلك في الساعة التاسعة من هذا المساء. وأختم كتابي بتقبيل يدك الجميلة التي يبحث عنها ولدي بملء الاحترام.

البارون دي مورليكس

ولما اطلعت أنطوانيت على هذا الكتاب وهي حائرة مبهوتة لا تدري كيف تحكم عليه فلم تجد مرشدًا في هذا المقام أفضل من مدام رينود، فأخبرتها بجميع ما اتفق لها مع أجينور وتلت عليها الكتاب.

فظهرت علائم الفرح الشديد على وجه العجوز وقالت لها: إن السعادة قد فتحت لك أبوابها يا ابنتي لأن كل كلمة في الكتاب تدل على نبل كاتبها وإياك أن تتخلفي عن الموعد فإن شرف هذا البارون لا ريب فيه.

وتركتها أنطوانيت وذهبت إلى غرفتها فجعلت تتجمل على غير عادتها لأنها على فرط جمالها أحبت أن تزيد جمالًا كي تروق للأب كما راقت لابنه.

ولكنها، مع سرورها لهذه السعادة المفاجئة، كانت تشعر بانقباض في صدرها كأنها تتوجس شرًّا، ثم تحمل هذه العوارض على محمل الرهبة فتطمئن.

وما زالت تتنازعها هذه العوامل إلى أن أذنت الساعة التاسعة فودعت مدام رينود ونزلت إلى الشارع فرأت مركبة جميلة واقفة على باب المنزل، ولكنها ترددت في ركوبها فرفع السائق قبعته وفتح لها باب المركبة فقالت: أهذه مركبة البارون مورليكس؟

– نعم يا سيدتي.

فصعدت إليها وأقفل السائق بابها ثم صعد إلى مكانه وانطلقت المركبة تجري بتلك الفتاة إلى حيث يريد السائق.

وكانت أنطوانيت تعرف جميع شوارع باريس غير أنها لم تنتبه إلى مسير المركبة لأن الخيانة لم تخطر لها في بال، ولأنها كانت مضطربة منشغلة بالتفكير في مقابلة البارون.

ولكنها بعد أن سارت المركبة سيرًا طويلًا استيقظت من سبات تصورها ونظرت في زجاج النافذة فعلمت أنها تسير في شارع مقفر تكتنفه الأشجار من الجانبين وأنها باتت في ضواحي باريس، فشغل قلبها ونادت السائق فلم يجبها وحاولت فتح باب المركبة فرأت أنه محكم الإقفال من الخارج فوجف قلبها ولكنه لم يكلمها، بل إنه انتظر رجلًا صعد من الطريق إلى المركبة وجلس بجانبه وعادت المركبة إلى سيرها الحثيث.

ولما رأت أنطوانيت أنها محبوسة في تلك المركبة وأيقنت أنها منخطفة جعلت تستغيث حتى ملأ صوت صراخها الفضاء، ولكن صراخها لم يفدها لأن المركبة كانت تسير في مكان قفر لا يمر به أحد من الناس.

وما زالت حتى وقفت عند منزل يكتنفه شبه غابة فنزل الذي كان جالسًا بجانب السائق وفتح باب المركبة ثم قال لأنطوانيت بأدب: انزلي يا سيدتي ولا تخشي أمرًا وكُفي عن الصياح لأن الصياح لا يفيد.

غير أن أنطوانيت لم تكترث لإنذاره وجعلت تصيح وتستغيث راجية أن يسمعها أحد.

ولما قنط الرجل من إسكاتها جرد خنجره وأنذرها بالقتل فقالت: اقتلني أيها الشرير لأن الموت أحب إلي من حياة العار.

ثم عادت إلى الصياح فضغط على عنقها حتى أوشك أن يخنقها، فكانت تعود إلى الاستغاثة كلما أفرج عنها، حتى أعياه أمرها، فقال لها: إنك إذا استمررتِ على هذا الصياح، عرضت حياتك وحياة أجينور للأخطار.

وكأن هذه الكلمة سحرتها فسكتت فجأة وبدت على وجهها علائم الذعر الشديد وقالت: أي خطر على أجينور وإلى أين أتيتم بي وماذا تريدون مني؟

– خففي جزعك يا سيدتي فإننا لا نريد لك إلا الخير وما أتينا بك إلى هذا المكان إلا لدفع خطر عظيم عن خطيبك أجينور، وما هي إلا ساعة ويزول عنك ذلك الخطر الذي لا أعلمه فأبوح لك به فهلمي معي إلى هذا المنزل ولا يروعك هيئة المقيمين فيه وأخلاقهم فإنها ساعة وتنقضي ثم تعودين إلى مقابلة والد أجينور الذي بات يحبك كما يحب ولده.

فاطمأن خاطرها بعض الاطمئنان للهجة هذا الرجل لا سيما وقد علمت أن لا سبيل لها إلى المقاومة ومشت معه إلى ذلك البيت.

وكان هذا البيت مأوى لعصابة من اللصوص يجتمعون فيه نساء ورجالًا، فكلما حدثت في المدينة سرقة أو جناية خفي أمرها عن الحكومة باغت البوليس هذه العصابة وقبض على أفرادها فأودعهم السجن إلى أن تنجلي الحقيقة.

ولما دخلت أنطوانيت ذعرت لمرأى تلك العصابة، فقد كانت مؤلفة من عشرة لصوص من الجنسين وهم جالسون حول مائدة عليها آنية كبيرة من الخمر يشربون ويقهقهون ولا يكترثون لمن يدخل إليهم أو يخرج من بينهم.

ولما رأوا أنطوانيت داخلة وهي تقدم رجلًا وتؤخر أخرى صاحوا جميعهم صياح الفرح والاستبشار وتكلموا بلغتهم الخاصة قائلين: إن الطير وقع في القفص وقد حان زمن الكسب بعد العطلة.

ولكن أنطوانيت لم تكن تفهم شيئًا منهم فأقبلوا إليها وجعل بعضهم يمازحها وآخرون يتهكمون عليها وبعضهم يتظاهر بالغرام بها والغيرة عليها، وهي كلما حاولت الفرار أو الاستغاثة قال لها ذلك الرجل الذي صحبها: احذري أن تفوهي بكلمة إذا كنت تشفقين على أجينور.

وطال بها هذا الموقف الشديد حتى استولى عليها اليأس وجعلت تبحث بعينيها على تلك المائدة عن سكين تحفظها وتنتحر بها.

وفيما هي على هذا القنوط إذ علت صيحة من الخارج وسمعت أصوات السيوف تطرق على السلم فعلم اللصوص أن الشرطة فاجأتهم وقالوا: لا سبيل لنا إلى الدفاع فإنهم لا يهاجموننا إلا بعدد أكثر من عددنا وإذا دافعنا كبرت جريمتنا والتسليم خير لنا في كل حال.

وعند ذلك دخلت شرذمة من البوليس يتقدمها قائدها فأمر رجاله أن يوثقوا جميع الحضور.

وقبل أن يمتثلوا أسرعت أنطوانيت إلى القائد وقالت له بلهجة تبين الصدق عنها بأجلى مظاهره: إن الله أرسلك يا مولاي كي تنقذني من هؤلاء الأشقياء.

وبهت القائد لكلامها وهو يحسب أنها تريد التخلص من السجن بمثل هذه الحيل وقال لها: من أنت؟

– أنا يا سيدي أدعى أنطوانيت ابنة البارونة دي ميلر وقد …

غير أن أولئك اللصوص المتفقين على المكيدة لم يكادوا يسمعون قولها إنها ابنة بارون حتى ضحكوا جميعهم ضحكًا عاليًا فقال أحدهم: لله درك ما أسرع تقمصك بالبارونة.

وقال آخر: كفى عصابتنا شرفًا أن فيها النبلاء.

وقالت أخرى: أنا يا سيدي القائد، ابنة مركيز وقد اختطفني هؤلاء الأشقياء.

ودنت إحداهن منها وقالت لها همسًا على مسمع من رجال البوليس: بالله لا تنسي أني إحدى وصيفاتك.

وقال غيرها غير ذلك حتى علمت أنطوانيت أنه قضي عليها وأيقن قائد البوليس أنها من العصابة فقال لها: هلمي بنا يا حضرة البارونة فإن القضاء لا يخفى عليه مقام أمثالك. ثم أمر رجاله أن يخفروا العصابة ويطوقوها وساروا بهم وبينهم أنطوانيت تسير مطرقة وهي تود لو تبتلعها الأرض أو تصعقها السماء إذ لم يعد لها رجاء إلا أمام القضاء.

١٥

أما قبض الحكومة على العصابة فكان بتدبير تيميلون، فإنه أرسل أحد أعوانه فادعى حدوث سرقة في منزله، وأرسل آخر إلى إدارة البوليس فوشى بالعصابة، واختطف أنطوانيت بالاتفاق مع كارل مورليكس، فأتى بها إلى هذا المنزل، وعلَّم رجال العصابة ما يصنعون مقابل أجرة معينة فامتثلوا له فيما أراد.

فلما مثلت أنطوانيت أمام رئيس البوليس جعلت تبكي بكاء متقطعًا يفتت الأكباد فحكت حكايتها بملء البساطة، فتوجع لها المدير ولكن محضر كل واحد من أولئك المتهمين كان أمامه، وقد تعود مثل هذه الأقوال فقال لها: تقولين إن اسمك أنطوانيت دي ميلر وإنك تقيمين في شارع سانت أونوريه فكيف خرجت من منزلك؟

قالت: بكتاب أرسله إلي البارون دي مورليكس.

– إذن أنت تعرفين هذا البارون؟

فحكت له أنطوانيت كل علاقتها مع أجينور.

فقال لها: أتعتقدين أن سائق مركبة البارون قد اختطفك؟

– نعم، ثم ذكرت له ما قال لها الرجل الذي كان يصحب السائق واسمه ميلون عن أجينور وتعرضه للخطر، فسأل رئيس البوليس هذا اللص فأنكر قولها وقال: إنه يعرفها منذ عهد قريب وإنها هي التي تبعته إلى ذلك المنزل من تلقاء نفسها دون أن يختطفها. ثم قال: إنها قد يكون لها معرفة بأجينور دي مورليكس فإنه شاب جميل واسع الثروة كثير الإنفاق.

فغطت أنطوانيت وجهها بيدها وقالت: كذب هذا المنافق فإني ما رأيته في حياتي.

فقال لها المدير: أتعلمين أين يقيم أجينور دي مورليكس؟

– نعم، في شارع سيرسنس.

فنادى أحد رجاله وقال له: اذهب في الحال إلى منزل أجينور دي مورليكس فأيقظه من رقاده وقل له: إن فتاة تدعي أن اسمها أنطوانيت دي ميلر وجدها البوليس الليلة بين عصابة لصوص متهمة بسرقة، وأنها تدعي معرفته. ثم قل له إني لا أجد بدًّا من أن أضعها هذه الليلة في السجن.

فصاحت الصبية منكرة وقالت: رباه أنا أبيت في السجون؟

فجعل رجال العصابة يضحكون ضحكًا معنويًّا ويكلم بعضهم بعضًا على مسمع من البوليس فيقولون ما معناه: إن هذه الفتاة تفضلنا جميعًا ولو احترفت صناعة التمثيل بدلًا من صناعتنا لبلغت أقصى درجات الشهرة.

وبعد حين عاد البوليس الذي أرسله المدير إلى منزل أجينور فقال: إنه سافر مساء أمس إلى بريطانيا وإن بواب منزله حمل له أمتعته إلى السكة الحديدية.

فلما سمعت أنطوانيت كلامه هلع قلبها وقالت: رباه لقد ضاع كل رجاء.

فقال لها المدير: إذا لم يكن لديك غير هذا البرهان فإني مضطر إلى إرسالك إلى السجن.

فذعرت وقالت: أرسل من تشاء إلى منزلي فإن البواب وامرأته ومدام رينود يعرفونني.

وقبل أن تتم كلامها دخلت امرأة عجوز إلى غرفة المدير فدنت من ميلون وقالت له مغضبة: تبًّا لك من شقي فإنك أنت الذي أفسد أخلاق ابنتي.

فما صبر ميلون عن مجاوبتها وقال: إنها فاسدة قبل أن أعرفها حين كانت في أحضانك.

أما العجوز فلم تجبه وأقبلت إلى أنطوانيت تؤنبها بالنظر ثم قالت لمدير البوليس: أرجوك يا سيدي أن ترد لي ابنتي وأنا أقسم لك إني أردعها عن عشرة هؤلاء الأشقياء.

ثم جعلت تقبل أنطوانيت وتضغط عليها ضغطًا شديدًا يمنعها عن الكلام فقال لها المدير: كفى فإني لا أستطيع الليلة إطلاق سراح هذه الفتاة وستنظر المحكمة في أمركم غدًا.

ثم أمر رجاله بإيداعهم السجن وخرج، أما أنطوانيت فإنها أغمي عليها ولما استفاقت وجدت نفسها في السجن مع أسافل اللصوص والمجرمين.

١٦

ولنوضح الآن كيف أن أجينور برح باريس فجأة وما حمله على هذا السفر السريع، دون أن يبلغ أنطوانيت وذلك أن عمه كارل مدبر هذه المكيدة بالاتفاق مع تيميلون كان يديرها بحذق شديد بحيث رأى أنه ليس من الحكمة أن يبقى أجينور في باريس بعد اختطاف حبيبته لأنه يشكل خطرًا عظيمًا على مشروعاته الهائلة.

وكان من عادة أجينور أن يذهب في الساعة السادسة من كل مساء إلى منزله في شارع سيرسنس فيأخذ رسائله ويذهب إلى النادي فيتعشى ويسهر فيه.

ولما أوصل أنطوانيت إلى منزلها بعد يأسه من إدراكه مركبة ميلون عاد إلى منزله حسب عادته فدهش لأنه رأى على الباب مركبة عمه كارل وقال له البواب: إن عمه ينتظره في المنزل منذ ساعة.

فصعد مسرعًا إليه فاستقبله عمه ببشاشة وقال له: إنك لم تكن تتوقع أن تراني في منزلك أيها العاشق المفتون فلا تعلم السبب في وجودي.

– هو الحق ما تقول يا عماه فقد شغلت بالي.

– ليس ما يشغل البال فقد جئت لأحادثك بشأن زواجك.

– أقال لك أبي كل شيء؟

– إن أباك لا يكتم عني أمرًا وأنا مسرور جدًّا لزواجك فإنه غاية ما تتوق إليه نفسي.

– إذن فأنت راض عن زواجي بتلك الفتاة الطاهرة.

– كل الرضى فقد ذكر لي أبوك عن فضائلها ما يجب أن يكون زينة كل امرأة طاهرة ولولا رضاه لما كنت بدأت بخدمتك.

– كيف ذلك؟

– ألم يخبرك أبوك عن اهتمامي بأمر ميلون؟

– نعم ولكن تعليماتك كانت مخطئة بشأنه ولم يعد سبيل لالتماس العفو عنه وإخراجه من السجن فقد عفا عن نفسه كما يظهر وبرح السجن من تلقاء ذاته.

فاضطرب كارل وسأله كيف ذلك فأخبره أجينور بجميع ما اتفق له وكيف أنه اقتفى أثره مع أنطوانيت فلم يتمكنا من إدراكه، فشعر كارل بالخطر وأحب الإيهام على ابن أخيه وقال له: لا شك أن خطيبتك قد رأت رجلًا يشبه ميلون لأنه قد يصح أن يتمكن من الفرار من سجن طولون ولكنه لا يعقل أن الحكومة لا تعلم بأمر فراره ولو كان فراره حقيقة لكنت عرفت ذلك أمس وفي كل حال فسنبحث في هذا الأمر بعد رجوعك.

فأجفل أجينور وقال: ماذا تريد برجوعي ألعلي مسافر؟

– نعم يا بني فستسافر بعد ساعة إلى بريطانيا وهو سفر لا بد منه، فإن عمتك على فراش النزاع وهي تطلب أن تراك في الحال فتقيم عندها يومًا أو يومين ثم تعود.

فذعر أجينور لهذا السفر الفجائي وبعد جدال طويل اضطر إلى الاقتناع لا سيما وأنه سيرث ثروة عظيمة من عمته فقال له: ألا أرى أبي قبل سفري؟

– لا حاجة إلى ذلك فهو يعلم أنك مسافر الليلة وقد حان سفر القطار.

– ألا أكتب كلمة على الأقل لأنطوانيت؟

– اكتب ما تشاء وأنا سأحمل كتابك إلى ابنتنا الجديدة فيكون وسيلة معرفتي بها.

فسُر أجينور من تلطف عمه وكتب الكتاب وأعطاه إياه ثم ذهب معه إلى المحطة ولم يفارقه لحظة حتى رأى القطار قد سافر وهو فيه.

وبعد أن وثق كارل من سفر ابن أخيه عاد إلى منزله فوجد تيميلون ينتظره فيه فنظر تيميلون ساعته وقال: لقد دنت الساعة العاشرة فلا بد أن يكون قضي الأمر، ومع ذلك فهلم بنا نتحقق الأمر بأنفسنا كي تعلم أني لم آخذ مالك من غير حق.

فذهبا إلى منزل أنطوانيت ووجدا أن المركبة المعدة لاختطافها برحت المكان الواقفة فيه فعلما أنها سارت بالفتاة ثم قال له: هلم بنا الآن إلى إدارة البوليس حيث تعلم منها الحقيقة وتطمئن.

١٧

بعد أن وجد روكامبول الصندوق وقرأ أسرار البارونة قال لميلون: هلم بنا الآن للبحث عن الأختين فقد آن الآوان فقد قلت لي إنهما كانتا مقيمتين في مدرسة وإن أمهما عهدت إلى ناظرتها بتربيتهما أتذكر أين كانت تلك المدرسة؟

– نعم.

– إذن لنذهب إليها.

وسار الاثنان إلى الشارع الذي كانت فيه تلك المدرسة فرأيا أنها قد تحولت إلى منزل مأجور ونظر ميلون في ذلك الشارع فرأى كل شيء قد تغير ولكنه رأى دكانًا لبائع دخان لا يزال في موضعه على حاله ورأى صاحب الدكان واقفًا على بابه فعرفه وأخبر روكامبول بأمره فجاء روكامبول واشترى منه لفافة من التبغ وحادثه بشأن هذا الشارع وسأله عن المدرسة فعلم منه أن ناظرتها تدعى مدام رينود وأنها أفلست منذ عهد طويل فضبط أثاثها وبيع بالمزاد وهو لا يعلم أين تقيم الآن.

فقال له روكامبول: أتعرف المحضر الذي ضبط الأثاث؟

– نعم وهو يقيم في آخر عطفة من هذا الشارع.

فتركه روكامبول وذهب مع ميلون إلى منزل هذا المحضر فعلما منه أين تقيم مدام رينود.

وبعد ساعة كان روكامبول وميلون واقفين عند باب منزل أنطوانيت فنادى روكامبول البواب وقال له: أليس هنا منزل مدام رينود؟

– نعم.

– قل لي في أي دار تقيم فإني أريد أن أراها في الحال.

– لا سبيل إلى مقابلتها الآن يا سيدي فإنها لا تزال في فراشها إلا إذا …

– قلت لك إنه يجب أن أراها في الحال.

– ألعلك قادم بأخبار من المدموازيل أنطوانيت؟

– وأين هي تلك السيدة؟

– إنها خرجت من المنزل في الساعة التاسعة من المساء ولم تعد إلى الآن وقد بحثنا عنها في كل مكان فلم نجدها، حتى إننا جميعًا لم ننم ليلة أمس، وفي الصباح ذهبت امرأتي إلى منزل البارون الذي يظهر أنه كتب إلى المدموازيل أنطوانيت وأرسل لها مركبته.

– من هذا البارون؟

– هو والد أجينور دي مورليكس وهو شاب غني يحب أنطوانيت حبًّا شديدًا.

فأنَّ ميلون أنين الموجوع غير أن روكامبول ضغط يديه ضغطًا شديدًا وقال له: اسكت.

وعند ذلك دخلت امرأة كانت امرأة البواب وقالت بصوت مضطرب: لم أجدها.

فلما رآها ميلون صاح صيحة دهش: ابنة عمي!

فانذهلت امرأة البواب أشد من انذهاله وقالت: ميلون!

ثم جعل الاثنان يتعانقان.

فبهت الزوج لهذا العناق ولكنه اطمأن لكلمة القرابة التي كانا يتبادلانها.

أما روكامبول فإنه خشي أن يفتضح أمر ميلون فدخل بهم جميعًا إلى الداخل وأقفل الباب.

ثم قال لامرأة البواب: سنخبرك فيما بعد كيف عاد ابن عمك من السجن، أما الآن فإننا ما جئنا إلى هنا إلا كي نرى مدام رينود والأختين المقيمتين معها.

– لا يقيم هنا غير أنطوانيت، أما أختها مدلين فإنها سافرت إلى روسيا، وحكاية هذه المسكينة أن ابن البارون دي مورليكس فتن بها وأراد الزواج منها، وقد جاءها أمس كتاب من والده وأنا قادمة من عنده.

– ماذا قال لك والده عن هذا الكتاب!

– قال إنه كتاب زور وإن مركبته لم تخرج من اصطبله أمس وإنه يظن بأن ابنه احتال على الصبية واختطفها.

غير أني أعتقد أن أجينور يحب أنطوانيت حبًّا شريفًا وأنه لم يحتل عليها في شيء.

– أعرِفَ أحد من الجيران بهذه الحادثة؟

– كلا غير أن زوجي في نيته إخبار البوليس.

فقال روكامبول: احذروا أن تخبروا البوليس بشيء وإياكم إطلاع أحد على هذه الحادثة.

ثم التفت إلى ميلون وقال: لقد أتينا متأخرين فإن الفتاة أصبحت في قبضة أعدائنا.

فقال ميلون وهو يضطرب: على ماذا عولت؟

– لا أعلم بعد، ولكني سأعلم ما أريد بعد ساعة.

– ألا تريد أن ترى مدام رينود؟

– لم يعد لنا بها حاجة الآن.

ثم التفت إلى امرأة البواب وقال لها: إنك تعلمين دون شك أن ابن عمك ميلون يحب هاتين الأختين حبًّا شديدًا فاعلمي الآن أني صديقه وأني لا بد لي من إيجاد الصبية، ولكن لا بد لي أيضًا في هذا السبيل من إخلاصك في طاعتي.

– قل ما تشاء.

– يجب بعد ذهابنا أن تعودي إلى مدام رينود وتخبريها أن أنطوانيت لم تصب بسوء، وأن البارون دي مورليكس نفسه هو الذي قال لك هذا القول أما أنطوانيت فستعود قريبًا.

– ولكن يا سيدي كيف يمكن أن أقول لها هذا القول إذا لم أكن واثقة من عودتها.

– كوني واثقة فإني أعرف مكانها، وإذا عصيتني فيما أوصيتك به أفسدت علي جميع أمري فطمئنيها كما أخبرتك واطمئني أنت أيضًا فإذا لم تعد أنطوانيت اليوم فهي ستعود قريبًا إذ لا بد لي من إيجادها. ثم أشار إلى ميلون وقال له: هلم بنا إلى الطبيب فنسانت ولم يعد لنا ما نعمله في هذا المكان.

ثم ودَّعا البواب وامرأته بعد إعادة الوصايا عليهما وركبا مركبة وذهبا بها إلى منزل نويل وهناك تنكر روكامبول بلباس عمال المستشفيات وتنكر ميلون بزي آخر ودخلا كلاهما إلى غرفة الطبيب المجاورة لغرفة نويل كما يذكر القراء.

فلما رأى الطبيب روكامبول بزيه الجديد أنكره وسأله من أنت وماذا تريد؟

– أنا صاحبك بالأمس فاجلس على مائدة الكتابة لأخبرك بما أريد.

فعرفه الطبيب من صوته وامتثل له فأخذ القلم بيده وأملا عليه روكامبول ما يأتي:

سيدي البارون

أغتنم فرصة علائقنا السابقة فأسألك قضاء مهمة لا أظنك تبخل عليَّ قضاءَها، وهي أني في عسر مالي شديد، فأرجو أن تبعث لي مع رسولي بعشرين ألف فرنك.

فقال له الطبيب: ما هذا السؤال؟ فإنه شبيه بالنصب، بل هو النصب بذاته.

قال روكامبول: كلا ولكنها حيلة تذرعت بها للدخول إلى منزل البارون، وسوف ترى ما يكون.

فامتثل الطبيب وأتم كتابة الكتاب دون اعتراض.

١٨

كان البارون دي مورليكس ينتظر عودة أخيه الفيكونت كارل. أما كارل فإنه توقع حدوث ما حدث؛ أي إنه توقع أن مدام رينود ستسأل أخاه البارون عن أنطوانيت. فعلمه ما يجب أن يصنع، فلما جاءت إليه امرأة البواب أنكر الكتاب أتم الإنكار وكان صادقًا في إنكاره؛ لأن ذلك الكتاب لم يكتبه عن لسانه إلا تيميلون بالاتفاق مع كارل.

غير أنه قبل أن يحضر كارل لعيادة أخيه حضر إليه رجل آخر فقال لخادمه: إني قادم من قبل الطبيب للسؤال عن صحة مولاك، وإني أحب أن أراه.

فأدخله الخادم إلى غرفة البارون.

وكان هذا الرجل روكامبول وهو لا يزال متنكرًا بزي رجال المستشفيات فلما مثل أمام البارون قال له: إني يا سيدي أحد تلامذة الطبيب فنسانت وقد أرسلني إليك أستاذي للاطمئنان عن صحتك، ولأرفع إليك هذا الكتاب.

فمد البارون إلى الرسالة يدًا مرتجفة وفضها فلما قرأ ما فيها قال لروكامبول: إن الطبيب فنسانت من أصدقائي المخلصين فلا يسعني التغاضي عما يطلبه غير أني مهما كنت غنيًّا …

فقطاعه روكامبول وقال: نعم، فإنه لا يمكن أن يوجد في منزلك عشرون ألف فرنك.

– هو ما تقول. ولهذا فلا بد لي من أن أحملك على الانتظار ساعة إلى أن أحضر هذا المبلغ من عند عميلي.

– لا بأس فسأنتظرك.

ثم جلس على كرسي وجعل البارون يكتب إلى عميله، فلما أتم كتابته نادى أحد الخدم وأمره أن يذهب بالكتاب إلى عميله.

وقد حاول البارون أن يعلم إذا كان روكامبول واقفًا على شيء من أمر الطبيب، فكان روكامبول يجيبه على أسئلته ببلاهة اطمأن لها خاطر البارون.

وعند ذلك سمع صوت مركبة وقفت على الباب وكان روكامبول جالسًا أمام النافذة فأطل منها فرأى اثنين قد نزلا من المركبة ودخلا إلى ردهة المنزل وكان هذان الرجلان الفيكونت كارل وتيميلون.

وبعد هنيهة دخل كارل وجلس على جانب سرير أخيه ثم كلمه بلغة حسب أن روكامبول يجهلها فقال له: من هذا الرجل؟

فأخبره البارون بأمره بنفس اللغة قائلًا: لقد بدأ بالنصب فإذا كان قد بدأ بعشرين ألف فرنك فأنا لا أعلم كيف ينتهي؟

– لا بأس ادفع له وسترى بعد ذلك في أمره، والآن قل لهذا الرجل أن يدخل إلى الغرفة المجاورة.

فقال البارون لروكامبول: يسوءني أني سأدعوك إلى الانتظار ساعة فقد تدركك السآمة فإذا شئت فإن في الغرفة المجاورة كثيرًا من جرائد الصباح تتسلى بقراءتها إلى أن يعود الخادم.

فشكره روكامبول ودخل إلى الغرفة وأخذ جريدة كبيرة وغطى بها وجهه وهو يوهمهما أنه يقرأ ويصغي إلى حديثهما أتم الإصغاء.

وكان الحديث بين الأخوين دائرًا على أنطوانيت. فأخبره كارل كيف أنهم قبضوا عليها وهي بين جماعة اللصوص وكيف ثبت عليها اشتراكها مع العصابة بالرغم عن دفاعها وكيف أنهم اخترعوا لها تلك الأم التي جاءت إلى إدارة البوليس تطيبها فنقضت جميع أقوالها إلى آخر ما عرفه القراء.

كل ذلك وروكامبول مصغٍ إلى الحديث أتم الإصغاء بحيث لم يفته كلمة منه إلى أن قال كارل لأخيه اصبر إلى أن ينصرف هذا الأبله — مشيرًا إلى روكامبول — فأدخل عليك تيميلون لأن هذا الداهية قد وضع خطة هائلة تضمن لنا بقاء أنطوانيت في سجن لازار إلى آخر العمر فتعلم أن الرجل يخدمنا أجل خدمة ولا يختلس مالنا دون حق.

فلما سمع روكامبول اسم تيميلون عض على شفته من الغيظ لأنه كان يعرف ذاك اللص ويعلم أنه لا يقف بجرائمه عند حد.

وعند ذلك عاد الخادم الذي أرسله البارون إلى عميله ودفع ليده غلافًا يحتوي على أوراق مالية قيمتها عشرون ألف فرنك، فنادى البارون روكامبول وأعطاه المال فأخذه وخرج.

وقبل أن يبلغ الردهة العمومية رأى تيميلون جالسًا فخشي أن يعرفه إذا رآه، فأخذ منديلًا من جيبه وعطس عطسًا متتاليًا بحيث اضطر إلى إخفاء وجهه بالمنديل فمر دون أن يتمكن من النظر إليه.

ولكن تيميلون لم يخطر له التنقيب عنه؛ لأن ملابسه كانت تدل على اشتغاله بالطب، ووجود مثل ذاك الرجل عند البارون العليل لا يحمل على شيء من الشبهة.

أما روكامبول فإنه بعد أن اجتاز تيميلون جعل يبحث بنظره عن ذلك الخادم الذي أحضر الأوراق المالية، فرآه واقفًا عند باب الردهة. ولما خرج أشار إليه أن يتبعه فتبعه حتى وصلا إلى باب المنزل الخارجي فخلا به روكامبول ثم نظر إليه تلك النظرات الساحرة وقال له: أتعلم ماذا حملت لمولاك من عند عميله؟ إنك قد حملت إليه ثروة طائلة لو علمت بأمرها لما دفعتها إليه بل كنت هربت بها إلى مكان تعيش فيه سعيدًا بفضلها.

ثم أخرج من جيبه تلك الأوراق المالية وجعل يقلبها أمامه حتى بهر ناظريه ثم قال له: ولكن هذه الثروة التي كنت تستطيع أن تستولي عليها خلسة وحرامًا أدفعها لك بجملتها إذا طاوعتني فيما أريد دون أن تقع عليك تبعة أو يطالبك أحد بشيء.

ولما رأى أن الخادم المسكين قد ضغطت الأوراق على صوابه أخرج منها ورقة قيمتها ألف فرنك وقال له: خذ هذا المال الآن عربون اتفاقنا وإذا طاوعتني أعطيتك جميع ما في هذه الحقيبة.

فاندهش الخادم وقال له: قل ماذا تريد مني؟

– لا أريد الآن إلا أن أسمع حديث سيدك مع أخيه دون أن يراني أحد من سكان المنزل فإذا بلغتني مرادي كان لك مني خير عظيم.

فبرقت أسرة الخادم وقال: إذا لم تكن تريد مني غير هذا فهو سهل ميسور ثم قال له: اتبعني.

فسار روكامبول في أثره إلى غرفة متسعة ففتح بابًا فيها يتصل بغرفة صغيرة فأدخله إليها وقال له همسًا: إن هذه الغرفة ملاصقة لغرفة نوم البارون المقيم فيها الآن لا يفصل بينهما غير الحائط الخشبي الرقيق وانظر إلى النافذة المفتوحة فيها فإنها تطل على سرير البارون فإذا وقفت على كرسي وأطللت منها رأيت وسمعت كل شيء.

فصرفه روكامبول بالإشارة ووضع كرسيًّا تحت النافذة وصعد عليها فرأى الأخوين وتيميلون يتحادثون وظهورهم إلى النافذة، وكان تيميلون يشرح للأخوين الخطة الهائلة التي اختطها لسجن الصبية، فعرف روكامبول جميع ما يريد معرفته وأسرع بالخروج من هذا المنزل الجهنمي، فرأى الخادم ينتظره على الباب فأعطاه ألف فرنك أيضًا وقال له: سأراك فيما بعد.

ثم مشى عطفة في الطريق حيث كان ميلون ينتظره بمركبته، فركب بجانبه وأمر السائق أن يسير بمركبته إلى منزل أنطوانيت.

وكانت علائم الاضطراب بادية على وجهه فقال له ميلون: أعلمت أين هي أنطوانيت؟

– نعم، وليتني لم أعلم. فإنها وقعت في قبضة أعدائها وقد توفق هذان الأخوان إلى لقاء شريك قد يشابهني بالدهاء. ولكني لا بد لي من الفوز عليهم بإذن الله، فإني أقصد منزلها، غير أني أخشى أن أصل قبل فوات الأوان.

وما زالت المركبة تسير بهما حتى وصلت إلى منزل أنطوانيت. وكان روكامبول قد خلع ثوب تنكره في الطريق فاستقبلهما البواب فرحًا مسرورًا وقال لقد وجدنا أنطوانيت.

ففرح ميلون فرحًا لا يوصف خلافًا روكامبول فقد اصفر وجهه وسأل البواب: كيف وجدتموها؟

– إنها أرسلت تطلب إليها مدام رينود وقد جاءت برسالة منها امرأة عجوز قالت إنها في خدمة عمة أجينور، فلما اطلعت مدام رينود على رسالة أنطوانيت ذهبت بمركبة تلك العجوز لموافاة أنطوانيت تصحبها امرأتي.

فاضطرب روكامبول وسأله: والعجوز؟

– إنها أقامت في منزل مدام رينود ثم رجاء رجلان فصعدا إليها وأقاما عندها هنيهة ثم نزلا ونزلت معهما وقالت لي: كن مطمئنًا فسأعود قريبًا، وركبت مع الرجلين في مركبة واحدة.

– إنك لا تعلم أين ذهبت ولكني أنا أعلم فإنها ذهبت إلى دائرة البوليس ومنها إلى المحكمة وسيزجون أنطوانيت في سجن لازار.

فاضطرب ميلون حتى أوشك أن يذهب صوابه وقال: أمثل هذه الفتاة الطاهرة يزج في السجون؟

فقال له روكامبول: احذر من أن تذكر حرفًا عنها بعد الآن فإننا لا نستطيع التداخل بشأنها لدى الحكومة لأننا هاربون من السجن وإن تيميلون قد نال الفوز الأول ولكن الفوز سيكون لي في النهاية.

١٩

أما هذه المرأة العجوز فقد أرسلها تيميلون إلى منزل مدام رينود لتحل محلها لدى القضاء. فقد عرف القراء أن إدارة البوليس إذا كانت اكتفت بشهادة اللصوص على أنطوانيت فحكمت بإيقافها توقيفًا تدعو إليه الظواهر الأولية، فإن المحكمة لا تنظر في قضيتها نظرًا عارضًا، وأنها لا بد أن تخبرها على محل إقامتها وعن مدام رينود فإذا عرفت من مدام رينود حقيقة أمرها أطلقت سراحها في الحال. ولذلك فقد جعل همه إبعاد مدام رينود عن المنزل، وإقامة تلك المرأة العجوز مكانها فيه، حتى إذا جاءها البوليس وسار بها إلى المحكمة كانت لدى القضاة مدام رينود نفسها، فتبني حكمها على أقوالها.

ويذكر القراء أن أنطوانيت كتبت مرة إلى أجينور وقد وقع الكتاب بيد عمه كارل فأعطاه لتيميلون فقلد خطها تقليدًا غريبًا وكتب بلسانها إلى مدام رينود تخبرها فيه أن والد أجينور معارض بعض المعارضة في زواجه وأنها مقيمة عند عمة أجينور وترجوه الحضور إليها.

ولما وصل هذا الكتاب فرحت به فرحًا لا يوصف لأنها رأت أن الخط خط أنطوانيت وأن مظاهر تلك العجوز تدل على النبل والشهامة فأسرعت إلى موافاتها.

وقد قالت لها العجوز: إن عم أجينور يريد أن يقابلها في هذا المنزل مقابلة سرية للبحث في شئون زواج ابن أخيه وسألها أن تسمح لها بالبقاء في منزلها إلى أن يحضر الفيكونت كارل.

فقبلت مدام رينود بملء الارتياح وركبت المركبة مع امرأة البواب التي اضطرت إلى مرافقتها لأنها كانت مريضة.

ومما أجراه تيميلون إتمامًا لمكيدته أنه أرسل اثنين من عماله لاستئجار غرفة في ذلك المنزل الذي تقيم فيه أنطوانيت. فصعد أحدهما مع البواب لمشاهدة الغرف الفارغة واختيار واحدة منها وبقي رفيقه في المكان الذي يقيم فيه البواب.

وعند ذلك حضر اثنان من رجال البوليس السري وسألا هذا البواب الكاذب قائلين: أهنا تقيم مدام رينود؟

– نعم في الدور الثالث نمرة ١٩.

فصعدا إليها وبعد حين نزلا بها وهما واثقان أنها مدام رينود بعينها، كل ذلك والبواب لا يعلم شيئًا لانشغاله مع المستأجر الجديد.

أما روكامبول فإنه بعد أن علم هذه التفاصيل من البواب صعد إلى غرفة مدام رينود فرأى كتاب أنطوانيت المزور على الطاولة فقال بعد قراءته: إن خصمنا قوي ولكني أنا قوي أيضًا.

أما ميلون فكان ينتف شعوره من الغيظ، فطيب روكامبول خاطره وقال له: لقد رأيت من أعمالي ما استدللت منه على قوتي ودهائي، فإذا كنت تشكك بي ولا تطيعني كما أريد، تخلفت عنك وتركت الصبية لأعدائها.

فأجفل ميلون وقال: بل أطيعك فمر بما تشاء.

– اذهب الآن إلى السكة الحديدية وسافر بأول قطار إلى الرين، حيث يقيم هناك أجينور دي مورليكس، فابحث عنه حتى تجده، ومتى وجدته قل له إنك ميلون وإن أنطوانيت في خطر شديد وقدومه إلى باريس لا بد منه.

ثم خرج الاثنان، فذهب ميلون إلى المحطة، وذهب روكامبول في أمر آخر.

أما تلك المنكودة أنطوانيت فإنها دافعت عن نفسها دفاع القانطين أمام المحكمة، وطلبت إلى القضاة أن يسألوا عنها مدام رينود، فأمر القاضي اثنين من البوليس بإحضارها وأعيدت أنطوانيت إلى مكانها في محل التوقيف. وبعد ساعة عاد البوليس بتلك المرأة العجوز صنيعة تيميلون وهم يحسبونها مدام رينود، فاختلقت عن أنطوانيت أمورًا تفسد جميع أقوالها السابقة. فحكمت المحكمة عليها بالسجن في سانت لازار مع السارقات والمومسات، فحملت معهن بمركبة السجون الخاصة إلى ذلك السجن الرهيب وهي مغمى عليها. فلم تعي على نفسها إلا وهي في السجن بين أولئك الفتيات الآثمات اللواتي تعودن العيش في السجن، فلم يؤثر عليهن وجودهن فيه، بل كن يضحكن لبكاء أنطوانيت. وقد انقسمن إلى حزبين: حزب رثى لبلواها، وحزب ساءَه كبرياؤُها فاندفع في عدائها وزيادة بلائها، حتى أوشكت أن تجن لهذا المصاب.

•••

ولنعد الآن إلى فاندا الروسية التي بسطنا تاريخها في مقدمة هذه الرواية فإنها أصبحت عبدة لروكامبول بعد إنقاذه بونفير من الإعدام وكانت تقول له في كل يوم: متى تحتاج إلي؟

فيقول لها: لم يحن الوقت بعد.

وكان روكامبول معروفًا لدى الهيئة الباريسية باسم الماجور أفاتار وأن فاندا الروسية امرأته، فلم يكن يشكل من أمرهما على خدم المنزل غير تأخر الماجور أفاتار بعودته إلى المنزل، فكانوا يعللون تأخره بميله إلى المقامرة مثل أكثر أغنياء الروسيين.

وقد عاد إلى المنزل بعد الحوادث المتقدمة عند الظهر، فدخل توًّا إلى غرفة فاندا، فوجدها جالسة تنتظره فقالت له: ألعلك عرفت شيئًا عن الأختين؟

– نعم، عرفت كل شيء. وأنا محتاج إليك لأني سأبعث بك إلى السجن.

فبرقت أسرة فاندا من الفرح وقالت بإخلاص لا حد له: ابعث بي إلى الموت إذا شئت.

– كلا بل سأرسلك إلى سجن سانت لازار.

– لأي قصد؟

– لإنقاذ أنطوانيت ميلر منه وهي إحدى الأختين.

ثم حكى لها جميع ما قدمناه من التفاصيل من حين عثوره على الصندوق إلى النهاية وقال لها: إني أحاول أن تبقى فضيحة هذه الفتاة مكتومة لا تحول دون زواجها بأجينور.

– كيف يمكن ذلك، وهي ستحاكم أمام المجالس وينشر الحكم عليها في الجرائد؟

– إنها لم تحاكم بعد المحاكمة النهائية، وهي مقيمة مؤقتًا في السجن إلى أن يصدر الحكم النهائي، وسترد إليك تعليماتي وأنت في السجن، فخذي هذا الدبوس الذهبي وخبئيه بين شعورك، واحذري من أن يضيع لأن كل السر فيه وإذا فقد منك فلا يعود لنا رجاء بإنقاذ الصبية من السجن، ثم تهيَّئِي للدخول إلى السجن فالبسي غدًا ملابس الفتيات الماجنات واحضري إلي في القهوة الإنكليزية بعد العشاء حيث تجدينني أنتظرك فيها فأخبرك بما يجب أن تصنعيه.

وبعد أن اتفقا على ذلك تركها روكامبول وذهب إلى حيث يقيم نويل فقال له: لقد بدأ دور عملك فإني أريد أن تبحث لي عن امرأة تعرف جميع خفايا سجن سانت لازار.

– إن ذلك ميسور فإني أعرف فتاة تدعى شيفيوت من مشاهير السارقات بحيث إنها تقيم معظم أيامها في هذا السجن، وربما كانت مقيمة فيه الآن وهي كثيرة المهارة وافرة الذكاء حسنة الإخلاص.

وسار الاثنان إلى بيت تلك الفتاة وسألا صاحبة المنزل عنها فقالت لهما: إنها لم تعد منذ يومين.

فسألها نويل عن عشيقها جوزيف فقالت له: إنه في هذه القهوة القريبة.

فتركها نويل وذهب مع روكامبول فرأى جوزيف جالسًا معتزلًا في تلك القهوة فجلس بالقرب منه مع روكامبول ودعاه إليه، فلبى الدعوة مسرعًا وسلم عليه سلام الأحباب لأنهما كانا في عصابة واحدة منذ أعوام.

وبعد أن سأل كل منهما الآخر عن حاله قال له جوزيف: في أية عصابة تشتغل اليوم وهل أستطيع أن أفيدك في شيء؟

– نعم، إني أتيتك لأمر خطير قد يكون لك منه فائدة إذا اتفقنا.

– حبذا ذاك؛ لأن أشغالنا باتت في كساد ولو لم تكسب خليلتي شيفيوت أمس ألف فرنك لكنت اليوم في مصاف القانطين.

– كيف كسبت هذا المبلغ ألعلها سرقته حسب العادة؟

– كلا بل كسبته بطريقة أفضل من السرقة فإننا نشتعل اليوم لحساب أبناء العائلات الكبرى تحت أوامر تيميلون.

فأصغى روكامبول إصغاء تامًّا لذكر تيميلون، وجعل جوزيف يقص عليهما جميع ما علمناه من أمر تلك المكيدة التي كادها لأنطوانيت، وكيف أن شيفيوت سجنت معها في سجن سانت لازار بعد أن قبضت من تيميلون ألف فرنك.

ولما انتهى من حكايته قال له: والآن، أية خدمة أستطيع أن أخدمك إياها؟

وكان روكامبول نظر نظرة خفية إلى نويل، فقال نويل: إن خطتنا لم يتم وضعها بعد، أفلست تقيم كل يوم في هذه القهوة؟

– نعم.

– إذن سأمر بك غدًا وسترى.

ثم ودعه وانصرف.

فلما صارا خارج القهوة قال له روكامبول: يجب أن تراقب هذا الرجل في الليل والنهار لأني سأحتاج إليه.

وما سارا بضعة خطوات حتى وقفا على بائعة تبغ فقال له روكامبول: أهذه هي المرأة التي قلت لي عنها.

– نعم.

– إذن ادخل إليها واتفق معها أن تقبض غدًا على فاندا حين تمر بها وتدعي أنها سرقتها، وادفع لها نصف الأجرة مقدمًا ثم قل لها إن الحادثة ستجري قرب القهوة الإنكليزية، فلتحضر إليها غدًا بعد العشاء بحجة أنها تحضر لي صندوقًا من السيجار.

فامتثل نويل، وبعد ربع ساعة عاد إلى رئيسه وقال له: قضي الأمر وتم الاتفاق.

٢٠

وفي اليوم الثاني كان روكامبول مع نويل في القهوة الإنكليزية يتناولان طعام العشاء مع فاندا الروسية، ثم أقبلت بائعة التبغ حسب الاتفاق فعلمها روكامبول ما يجب أن يصنعاه وافترق عنهما بعد أن أوصى بالاحتراس على الدبوس الذهبي.

وعند منتصف الليل انطلقت فاندا في أحد الشوارع الكبيرة تمشي فيها مشية تحمل على الريبة فكان الشباب يستوقفونها على الطريق.

وفيما هي تكلم أحدهم أقبل البوليس فتظاهرت بالخوف الشديد وحاولت الفرار غير أنه قبض عليها وسألها إلى أين أنت ذاهبة، فلم تجبه بل كانت تتظاهر بالرعب وتلتمس منه أن يطلق سراحها.

ولما أوشك البوليس أن يطلقها لتأثره من مظاهر خوفها أقبلت بائعة الدخان وتظاهرت أنها تنظر إلى تلك المرأة نظرة المتفرج مع الواقفين ولكنها ما لبثت أن دنت منها وتبينت وجهها حتى علقت بأردائها وصاحت بالبوليس قائلة: إياك أن تطلق سراحها لأنها سارقة وقد سرقتني أمس فما عثرت بها إلا هذه الليلة وأنا بائعة دخان وهذه رخصتي النظامية.

فلما رآها البوليس لم يعد لديه شك بجريمة فاندا فقبض عليها وساقها إلى إدارة البوليس تصحبها بائعة الدخان، وبعد استنطاقها وسماع أقوال البائعة فتشوا جيوبها فوجدوا معها ورقًا للعب ومائتي فرنك وكانت فاندا تدافع عن نفسها دفاعًا ضعيفًا لا يثبت التهمة عليها ولا ينفيها، فأمر مدير البوليس بإرسالها مؤقتًا إلى سجن سانت لازار، فأخذت إليه وسجنت في سجن التوقيف مع أنطوانيت وبقية العصابة التي لم يصدر عليها الحكم النهائي.

وهناك أخذت الراهبات ما كان معها من المال فأخذت فاندا مشطًا ذهبيًّا من رأسها فأعطته لإحداهن والتمست منها أن تبيعه كي تستعين بثمنه وهي في السجن إلى أن يخرجوها منه، فأخذت الراهبة المشط منها ووعدتها خيرًا دون أن تنظر إلى ذلك الدبوس الذي خبأته في شعرها الكثيف.

ولقد تقدم لنا القول أن بنات السجن انقسمن إلى قسمين قسم كان مشفقًا على أنطوانيت راثيًا لبلواها لأن تلك العصابة كانت عارفة بأنها ضحية تيميلون، وكان في طليعة هذا القسم فتاة تدعى مرتون الحسناء، وقسم كان مغضبًا عليها مستاء منها لكبريائها، في طليعة هذا القسم شيفيوت خليلة ذلك الرجل الذي قابله روكامبول وطلب إلى نويل أن يراقبه، فكانت شيفيوت تعذبها بقوارص كلامها السافل، وكانت مرتون تعزيها لمصابها وتتولى خدمتها والدفاع عنها حتى أنست بها أنطوانيت وطلبت إليها أن تعينها على إرسال رسالة إلى أجينور، فوعدتها خيرًا وقالت لها: اكتبي رسالتك وأنا أتولى إرسالها فقد ألفت عيشة السجون حتى تعلمت كل خفاياها.

ولما وصلت فاندا إلى السجن أقبل عليها جميعهن ولم يطل فحصهن لها حتى جعل حزب شيفيوت يعاملها معاملة أنطوانيت لما رأوه من مظاهر عظمتها، فكن يدعونها بالبارونة والدوقة والأميرة تهكمًا عليها، فصبرت فاندا على تهكمهن صبر الكرام وأنست شيفيوت منها الضعف لسكوتها وصبرها، وجعلت تتمادى في احتقارها حتى أحرجتها وأثارت سخطها فهجمت عليها هجوم الكواسر وهشمت جسمها تهشيمًا.

ولما انجلت تلك المعركة عن فوز فاندا مال أولئك الساخطات إليها شأن الإنسان بميله إلى الغالب وتقهقرت شيفيوت بغير انتظام وهي تتوعدها بخليلها حين خروجهما من السجن.

ثم تفرق عنها الفتيات ولم يبق أمامها غير مرتون، فوقفت أمامها باحترام وقالت لها: لقد أصابك يا سيدتي من اضطهاد هذه الفاجرة ما أصاب تلك الفتاة البائسة التي دخلت معنا إلى السجن منذ ثلاثة أيام.

ثم حكت لها حكاية أنطوانيت وما لقيته من جَوْرِ شيفيوت وكيف أنها تدافع عنها وتحميها.

فوثقت فاندا من ميلها إليها وقالت لها: أأنت التي يلقبونك مرتون الحسناء؟

– نعم.

– أترين أنطوانيت كل يوم؟

– بل كل ساعة لأني توليت خدمتها وحمايتها.

– إذن اعلمي أني ما دخلت السجن إلا لإنقاذها.

فأكبت مرتون على يدي فاندا تقبلهما باكية من الفرح، فسارت بها فاندا إلى زاوية السجن وقالت لها: قلت لك إني ما دخلت هذا السجن إلا طائعة مختارة بغية إنقاذ أنطوانيت.

– إن هذا محال لأن سجن سانت لازار لا يمكن الهرب منه.

– كل شيء ممكن لأن لكل قاعدة شواذًا، ولذلك لا بد لي من أن أرى أنطوانيت.

– سأجمعك بها في الحال، قولي لي اسمك.

– لا حاجة إلى معرفة اسمي، قولي لها فقط إنني آتية من قبل ميلون.

أسرعت مرتون إلى أنطوانيت وقالت لها: بشراك يا سيدتي.

– ماذا ألعلك أرسلتي رسالتي إلى أجينور؟

– نعم ولكني ما أتيت إليك من أجل هذا.

ثم قصت عليها حكاية فاندا فسرت سرورًا لا يوصف بنجاة ميلون وأسرعت لمقابلة فاندا ودار بينهما الحديث الآتي: قالت فاندا: إنك لم ترينني في حياتك يا سيدتي ولكني ما قدمت إلى هذا السجن إلا من أجلك.

– أأنت آتية من قبل ميلون كما قيل لي؟

– نعم.

– إذن فقد صدق نظري إني رأيته في باريس منذ ثلاثة أيام.

– ولكنه ليس مقيمًا فيها الآن لقد سافر إلى بريطانيا لمقابلة أجينور دي مورليكس.

فاحمر وجه أنطوانيت وقالت: أتعرفينه أيضًا؟

ولم تجبها فاندا على هذا السؤال واستطردت في حديثها قائلة: إنهم أخبروك الحقيقة في إدارة البوليس بأنهم رموك في الفخ بينما كان أجينور مسافرًا في طريق بريطانيا.

– رباه ماذا أسمع إذن يوجد من يسعى بمنع زواجنا؟

– هذا لا ريب فيه.

– أبمثل هذه الوسائل السافلة؟ ولكني لا أبالي لأن ميلون سيعود مع أجينور ويخرجانني من السجن.

فهزت فاندا رأسها وقالت: كلا ليس هو الذي سيخرجك منه بل أنا فأصغي إلي الآن إن أمك قد سلبت ثروتها.

– علمت ذلك.

– غير أنك لست في السجن بسبب زواجك مع أجينور؛ بل لأن الذين سرقوا ثروة أمك باتوا يخشون مطالبتك بها، فهم يحاولون إبقاءك في هذا السجن الرهيب إلى الأبد؛ ولذلك يجب أن تخرجي من هذا السجن دون أن يعلم بأمرك أحد، ولا يجب أن يقفوا على أثرك متى خرجت منه.

– ولكن كيف السبيل إلى ذلك؟

– إني سأنقذك من السجن وإن كل شيء ممكن لي وللذين أخدمهم.

فنظرت إليها أنطوانيت بانذهال وقالت لها: من أنت يا سيدتي؟

– أنا صديقة رجل أخرج ميلون من السجن وأقسم أن يرد إليك ثروتك، وهو رجل لا تعرفينه أنت ولكنه أحب مساعدتك لحبه لميلون.

– إذا كان هذا الرجل قادرًا كما تقولين ألا يستطيع إخراجي من السجن بدلًا من الفرار منه؟

– نعم ولكنه يريد أن يخفي أثرك عن عيون مضطهديك فإن ساعة فضيحة القتلة السارقين لم تحن بعد.

– وأي قتلة تعنين يا سيدتي؟

– قتلة أمك فإنها ماتت مسمومة؛ ولهذا فإننا لا نسعى إلى إنقاذك فقط بل للانتقام أيضًا.

– أواه يا سيدتي إن الانتقام ليس على شرائع المسيح.

– ولكنه ينطبق على شريعة الإنسان، فإن الهيئة الاجتماعية لا تصفح عن الإخوان إذا قتلوا إخوانهم، وبعد فإني أراك ذكية الفؤاد وأرى بين عينيك دلائل الهمة والنشاط، فأصغي إلي إن المجرمين يخونون أنفسهم حين يحسبون أنهم باتوا في مأمن من الخطر.

– لا ريب فيما تقولين يا سيدتي ولكني لا أعلم إلى أين تريدين أن تصلي بحديثك هذا.

– أريد أن تعلمي أن من تجاسر على أن يلقيك بمثل هذه الهوة الهائلة فهو أهل لكل إثم فإذا أردنا إطلاق سراحك بقوة القضاء لوجب علينا إظهار أسماء أولئك القتلة الآثمين وفضيحة أمرهم، ولكن مركزهم في الهيئة الاجتماعية عظيم فلا تبلغ إليه يدي ولا يد ميلون ولا يد ذلك الرجل الذي يقودنا.

– لقد فهمت ما تريدين غير أني زججت في هذا السجن بصفة مجرمة أثيمة فإذا هربت أفلا تثبت علي الجريمة؟

– وماذا تهمك ثبوتها؟

– إنهم يقبضون علي مرة ثانية ويحكمون علي في الحال بدليل فراري، أما الآن فإن الحكم النهائي لم يصدر بعد وأنا لا أزال أرجو البراءة.

– أعدك قبل كل شيء أنك متى خرجت من السجن لا يقبض عليك أحد، ثم إنك لم تسجني باسم أنطوانيت دي ميلر فإنك ادعيت أنك ابنة البارون ميلر فلم يصدقوك، وهم يحسبون أنك ابنة ماريوت تلك العجوز التي جاءت تطلبك مدعية أنها أمك.

– هذا أكيد غير أنه بقي بين هذه المشاكل المعقدة مشكلٌ لم أستطع حله، وهو أن القاضي الذي كان يحقق في قضيتي كان يظهر عليه أنه واثق من براءتي وأرسل يدعو إليه مدام رينود فكيف اتفق أنها لم تحضر.

فابتسمت فاندا بحزن وقالت: إنها حضرت وقالت للقاضي إنك ابنة ماريوت وخليلة ذلك اللص الشقي بوليت.

فوهت رجلا أنطوانيت وقالت: إن هذا محال.

– بل هي الحقيقة. ثم قصت عليها كيف أنهم خدعوا مدام رينود فاختطفوها وأرسلوا إلى المحكمة امرأة من أتباعهم ادعت أنها مدام رينود، وأثبتت أمام القضاء ما عرفه القراء.

ولما فرغت من حديثها قالت لها: أعرفت الآن شدة دهاء هؤلاء المجرمين ولكن يد الله فوق يدهم، وإنك عندما تهربين من سجن لازار تهربين منه باسم أنطوانيت السارقة، وليس باسم أنطوانيت دي ميلر، ومن يجسر بعد ذلك على أن يحب امرأة البارون دي مورليكس تلك الفتاة السافلة عشيرة اللصوص والمجرمين.

فارتعشت أنطوانيت وقالت: ماذا عسى أن يكون أصاب مدام رينود؟

– إن أصحابنا سيريحون بالها والآن فلنهتم بأمر إنقاذها فإننا لا ننجو من هذا السجن إلا إذا نقلنا إلى المستشفى.

– ولكني لست مريضة.

– يجب أن تكوني مريضة.

– تريدين أنه يجب أن أتظاهر بالمرض؟ ولكني لا أستطيع الكذب.

– كلا، بل ستكونين مريضة في الحقيقة.

فزاد انذهال أنطوانيت وقالت لها: كيف ذلك؟

فأخرجت فاندا من شعرها هذا الدبوس الطويل الذي أعطاها إياه روكامبول، فانتزعت قمعه وأخرجت من ذلك القمع أربعة حبوب صغيرة ذات لونين، فقالت لها: إن هذه الحبوب تتضمن الداء والدواء، فإذا ابتلعت الحبة السوداء أُصبت بقيء وإسهال، ولكن ذلك لا يحمل على الخوف فإن العاقبة محمودة ولا خطر من ابتلاع هذه الحبة.

– والحبة البيضاء؟

– إنها مفتاح هذا السجن فإذا ابتلعتيها بعد أربع وعشرين ساعة فتحت لك أبواب السجن.

فنظرت أنطوانيت إليها نظر الحائر المرتاب وقالت لها: أصادقة فيما تقولين أم أنت تخدعينني؟

فابتسمت فاندا وقالت: إني كنت أتوقع مثل هذا السؤال ولكنني سأجيبك عنه خير جواب.

ثم أخذت حبة سوداء وابتلعتها.

فقالت لها أنطوانيت باضطراب: ماذا فعلت؟

– إني ابتلعت هذه الحبة كي أكون مريضة مثلك وأذهب معك إلى المستشفى كي أنقذك.

– عفوك يا سيدتي فلقد شككت بإخلاصك لأن هذه الأيام الثلاثة وما لقيت فيها من ضروب المكر فتحت لقلبي سبل الريب بكل إنسان، والآن هاتي الحبة الثانية.

ثم أخذتها وابتلعتها.

وعند ذلك قرع جرس السجن فافترقتا وذهبت كل منهما إلى محبسها.

وفي الساعة الثامنة من المساء بينما كان طبيب السجن جالسًا في غرفته إذ أسرع إليه الخدم يصيحون أسرِع فإن الهواء الأصفر قد انتشر في السجن.

فهرول الطبيب منذعرًا في أثر الخدم فساروا به إلى محبس أنطوانيت فلما فحصها ورأى أنها مصابة بالقيء والإسهال قال: ليس هذا الداء بالهواء الأصفر ولكنه مرض هندي يشبهه.

وقبل أن يتم كلامه أقبل عليه خادم يقول إن امرأة أخرى أصيبت بهذه الأعراض نفسها وهي ذاهبة إلى غرفتها.

فاضطرب الطبيب وزاد خوفه فأخذ يد أنطوانيت وأجلسها أمامه وجعل يفحصها باعتناء عظيم.

٢١

بينما كانت أنطوانيت يفحصها الطبيب وهو لا يدري كيف يشخص هذا الداء الذي رماها به روكامبول، كان كتابها الذي أرسلته إلى أجينور يسير به أوغست إلى منزل أجينور.

وأوغست هذا رجل في مقتبل الشباب كان يهوى مرتون المدافعة عن أنطوانيت بملء جوارحه، وكان كثيرًا ما يؤنب مرتون على سيرتها الفاسدة، ولكنه على طول عشرته لها واختلاطه مع أمثالها لم ينزع منازع أولئك اللصوص ولم يقف مرة في مواقف القضاء، ذلك لأن الحب قد طهر نفسه ونزهها عن الآثام، وهو ابن أخ جواني الجلاد الذي أنقذه روكامبول من السجن وأتى به باريس.

وكان أوغست قد تعود من حبيبته أن تنفق معظم أيامها في السجن، فكان يزورها كل يوم في سجنها حتى علمته التجارب جميع مكائد السجون، فلما اجتمع بها أخيرًا أعطته رسالة أنطوانيت سرًّا وقالت له: إنها للبارون أجينور دي مورليكس المقيم في شارع سيرسنس نمرة ١٧ فأعطيه إياها يدًا بيد واحذر من أن يخدعوك.

وقد تعود أن لا يخالف لها أمرًا لفرط هيامه بها، فخبأ الرسالة في جيبه وانطلق يهرول إلى ذلك الشارع وهو يعجب أشد العجب لأن هذا الشارع لا يقيم فيه عادة غير الأغنياء الذين لا علاقة لهم بفتيات السجون، ولكنه قال في نفسه: لعل في الأمر سرًّا لا يهمني معرفته وقد تعهدت بإيصال الرسالة فلا بد لي من الوفاء.

وما زال يسير حتى وصل إلى منزل أجينور، فهاله ما رآه من الفخامة ومظاهر العظمة، ونادى البواب فقال له: أهنا منزل البارون أجينور دي مورليكس؟

– نعم، ماذا تريد منه؟

– إني أحمل رسالة إليه.

– إنه مسافر فدع الرسالة هنا يأخذها عند رجوعه.

– كلا، فإن مرتون أمرتني أن أسلمها إليه يدًا بيد.

فحملق البواب بعينه وجعل ينظر إليه نظرات الشك وقال له: من هي مرتون هذه؟

– إنها خليلة لي.

فقال البواب باحتقار: إن مولاي البارون لا علاقة له مع أمثال خليلتك.

– وأنا من رأيك ولكن هذه الرسالة من امرأة سواها مقيمة معها بالسجن.

فلم يطق البواب سماع حديثه وقال له بجفاء: اعلم أنك هنا في منزل شريف وأنا أرجوك أن تنصرف وحدك برسالتك.

ولم يستأ أوغست من كلامه وقال له: إني ذاهب ولكني سأعود متى عاد سيدك، إذ لا بد لي من إيصال الرسالة.

ثم انصرف يمشي الهويناء دون أن ينتبه إلى رجل خرج بعده وجعل يقتفي أثره.

وكان هذا الرجل سائقًا يتجول أمام منزل أجينور كل يوم بعد هذه الحوادث الأخيرة، فلما جاء أوغست يسأل البواب عن أجينور كان هذا السائق واقفًا بالقرب منهما فسمع جميع ما دار بينهما من الحديث.

وبينما كان السائق يسير في أثره التقى بسائق آخر من أصحابه وسار وإياه في اقتفاء أوغست، أما أوغست فإنه ما زال يسير على مهل حتى انتهى إلى قهوة فدخل إليها وجلس على مائدة الطعام يشرب كأسًا من الخمر، فدخل السائقان بعده، وجلسا بالقرب منه بحيث إنه كان يسمع حديثهما فقال أحدهما للآخر: أتشاركني بشرب زجاجة خمر أيها البارون؟

فأجابه الآخر: كما تريد أيها الفيكونت.

ثم دعا أحدهما الآخر أجينور وهما يشربان ويتحادثان وأوغست لا تفوته كلمة من حديثهما إلى أن سمع السائق يقول لرفيقه: كيف حال زميلنا المركيز في خدمة مولاه؟

فأجابه رفيقه: إنه لم يعد مركيزًا وهو الآن فيكونت لأنه لا يثبت في منزله.

فتنبه أوغست وقال في نفسه: تبًّا لي من أبله لقد نسيت أن الخدم يتسمون بأسماء أسيادهم، فإذا كان أحدهم خادمًا عند كونت أطلقوا عليه في خلواتهم لقب كونت، وقد سمعت هذا الرجل يدعو رفيقه بارونًا، ثم ناداه باسم أجينور فلا بد أن يكون هو أجينور دي مورليكس وأنه صاحب الرسالة وإلا فأي اتصال بين فتاة في السجن وبين بارون حقيقي.

ثم جعل يسمع حديثهما بإصغاء فعلم من خلاله أن هذا السائق في خدمة البارون أجينور، وأن له خليلة مسجونة في سانت لازار، ولم يعد لديه شك أنه هو صاحب الرسالة، فنهض من مكانه ودنا منهما فقال إلى الذي كان يدعى أجينور: ألعلك من خدم البارون دي مورليكس؟

– نعم أيها الرفيق.

فأحب أوغست أن يستوثق منه فقال له: أين يسكن البارون؟

– في شارع سيرسنس نمرة ١٧.

– إني كنت أود أن أكون سائسًا في اصطبله فقد قيل لي إنه محتاج إلى سائس.

– إن هذا الأمر خاص بي، فتعال غدًا صباحًا فإذا كنت ماهرًا في مهنتك اتفقنا.

– في أية ساعة؟

– بين التاسعة والعاشرة والآن أتريد أن تشرب كأسًا من الخمر؟

فجلس بينهما وقال: حبًّا وكرامة.

وعاد السائق إلى إتمام حديثه مع رفيقه وقال له: إن لها صديقة في السجن تدعى مرتون يستطيع الناس مقابلتها في السجن، وهي لا بد لها أن ترى أنطوانيت وتساعدها على إرسال رسائلها لي.

وعند ذلك ذهب كل شك من فؤاد أوغست فقال له: أتعرف مرتون؟

– أعرفها أتم المعرفة بواسطة خليلتي أنطوانيت، ولكن قل لي لماذا سألتني هذا السؤال؟

– دعني قبل ذلك أن أسألك سؤالًا آخر قبل أن أجيبك وهو كيف كانت تدعوك أنطوانيت؟

– أجينور، وأنت تعلم بصفتك سائسًا أن المحترفين حرفتنا يدعون أنفسهم بأسماء أسيادهم.

– لست بسائس ولكني أيقنت الآن أن الرسالة لك.

ثم أخرج الرسالة من جيبه وحاول إعطاءه إياها، فمد السائق يده بلهف إليها، فتنبه أوغست وقال: كلا لا أسلمك إياها هنا فإني وعدت مرتون أن أسلم الرسالة يدًا بيد لأجينور المقيم في شارع سيرسنس نمرة ١٧.

– إذن فلنذهب إلى المنزل كي لا تخل بوعدك ونشرب كأسًا أيضًا قبل أن نذهب. وعند ذلك استأذن السائق الآخر وانصرف.

وبعد هنيهة خرج أوغست والسائق في طريق منزل أجينور حتى إذا مرَّا بمنزل عمه قال له السائق: أرجوك أن تنتظرني قليلًا عند بواب هذا المنزل إلى أن أكلم أحد خدامه في شأن خاص.

فامتثل أوغست وجلس مع البواب لينتظره، أما السائق فإنه صعد إلى المنزل حيث كان فيه الفيكونت كارل.

ولما رآه الفيكونت اندهش لمرآه إذ عرف أنه تيميلون متنكرًا بشكل سائق، فأخبره تيميلون بما حدث وقال له: لا بد لي أَنْ أحصلَ على هذه الرسالة لكي أتمكن من الدخول إلى منزل أجينور.

– إن ذلك سهل ميسور، فأرسل معك خادم غرفتي فتصل إلى المنزل دون أن يعترضك أحد فتجوز حيلتك على هذا الرجل.

ثم قرع الجرس فأسرع إليه الخادم فأمره بالذهاب مع تيميلون والخضوع له ونزل الاثنان.

ومن الغريب أن أوغست لم يكن حيث تركه تيميلون فاضطرب وسأل عنه البواب فقال له: إنه بينما كان جالسًا ينظر إلى الشارع إذ صادف نظره رجلًا من المارة فصاح صياح الدهشة والفرح قائلًا: «خالي.» ثم خرج مهرولًا إلى هذا الرجل فلم أعد أراه.

فتهدد تيميلون السماء بقبضتيه وجعل يتوعد ويقذف الشتايم واللعنات.

٢٢

أما أوغست فإنه حين خرج من غرفة البواب للقاء خاله فرح به فرحًا لا يوصف وكان خاله هذا جواني الجلاد، وقد جعله روكامبول يراقب منزل الفيكونت كارل كما كان تيميلون يراقب منزل أجينور.

ولم يكن أوغست قد رآه بعد خروجه من السجن فجعل يعانقه ويناديه باسمه، فقال له: كفى تناديني باسمي فإنك ستنبه إلي البوليس لأني هربت من السجن.

فسكت أوغست وابتعد وإياه وقال له: ماذا تصنع هنا؟

– إني أراقب الداخلين والخارجين إلى هذا المنزل وأشار بيده إلى منزل كارل.

فقال له أوغست: إني كنت فيه حين رأيتك. ثم أخبره بأمر الرسالة، وكيف اتفق قدومه إلى هذا المنزل.

وكان جواني يسمع حكايته بأتم الانتباه، فلما فرغ منها قال له: إذا لم يكن رئيسنا مخطئًا بمزاعمه، وهو لا يخطئ، فما هذا السائق إلا تيميلون.

– من هو رئيسكم ومن هو تيميلون؟

فأخبره خاله بأمر روكامبول وتيميلون ثم قال له: هلم بنا الآن لنرى الرئيس قبل أن يخرج تيميلون فيقبض علي دون شك.

وركب الاثنان مركبة وانطلقت بهما إلى المكان الموجود فيه روكامبول فأخبره جواني بجميع ما اتفق، فسُر روكامبول لهذا الاتفاق وأخذ الرسالة من أوغست بعد أن أقنعه خاله على تسليمه إياها، ففضها وقرأها، ثم كتب رسالة غيرها قلد بها خلد أنطوانيت تقليدًا غريبًا وقال لأوغست: يجب أن تسلم الرسالة إلى ذلك السائق الذي ادعى أنه أجينور دي مورليكس ولا بد أنه ينتظرك الآن في المنزل، واحذر أن يعلم شيئًا من الحقيقة.

ثم حكى له حكاية أنطوانيت دون أن يذكر له اسمها، ووصف له حب أجينور لها، وكيف أن عائلته احتالت على تلك الفتاة الشريفة فزجتها في السجن، إلى غير ذلك من حكايتها. ولكي لا يبقى في فؤاده أثر للريبة أعطاه الكتابين وقال له: سلم هذا الكتاب الحقيقي؛ أي كتاب أنطوانيت، إلى أجينور عند عودته من السفر، وأعط هذا الكتاب المقلد؛ أي الذي كتبته أنا مقلدًا فيه خط أنطوانيت لذلك السائق الذي ادعى أنه أجينور، وإنما كتبته تقليدًا لأعدائنا.

فأخذ أوغست الكتابين فخبأ كتاب أنطوانيت وذهب بالآخر إلى منزل أجينور، فرأى ذلك السائق فيه أي تيميلون فاعتذر إليه لخروجه من عند البواب وأعطاه الرسالة ثم قال له: إذا أحببت أن تجيب عليها فإني مستعد لخدمتك بإيصال الرسالة.

فشكره تيميلون وقال: أين أجدك مساء الغد؟

فذكر له اسم قهوة يجلس فيها وذهب.

وبعد خروجه فتح تيميلون نافذة الغرفة وصفر بصفارة فأقبل رجل كان واقفًا في الطريق فأشار له بيده إلى أوغست حين خروجه من الباب ثم أغلق النافذة. وبعد ساعة ذهب تيميلون إلى منزل الفيكونت كارل وأخبره باستيلائه على الرسالة ثم قال بلهجة المتهكم: ولكني أرسلت جاسوسًا يقتفي أثر حامل الرسالة.

فعجب كارل وسأله: لماذا؟

– لأنهم قد عبثوا بنا يا سيدي ونحن غافلون.

– ماذا تعني بذلك؟

– أعني أن هذه الرسالة التي قرأتها لم تكن بخط أنطوانيت.

– إنك مخطئ فقد عرفت أنه خطها بعينه لم يتغير.

– إن الخط مقلد أبرع تقليد وعندي أنه لا يحسن هذا التقليد إلا رجل واحد.

– من هو؟

– إن الرجل يدعى روكامبول وكنت أخشى من قبل أن يكون له دخل في أمرنا، أما الآن فقد أصبحت واثقًا من تداخله كوثوقي من حبوط مساعينا مع هذا الداهية، فإذا لم نتخذ طريقة ناجعة لإرجاعه إلى السجن في هذه الليلة فقد قضي علينا جميعًا، أما أنا فلا أستطيع أن أصنع شيئًا خلافًا لك فإنك تستطيع صنع كل شيء.

فذعر كارل لما رآه من اضطراب تيميلون وسأله: كيف ذلك وماذا تريد أن أصنع؟

– إن الأبواب مفتوحة لديك فإذا ذهبت إلى إدارة البوليس وقلت له: إنك تعرف مكان روكامبول الهارب من سجن طولون فإنه يرسل معك ثلة من الجند فتقبض عليه في الحال، وإذا لم تفعل ذلك فإن التبعة تقع عليك وحدك ولا أكون مسئولًا بشيء.

– ويحك وأين تريد أن أجد هذا الرجل؟

– لا أعلم الآن ولكني أرجو أن أعرف مقره في هذا المساء؛ ولذلك أرسلت جاسوسًا في أثر أوغست الذي حمل إلينا كتاب أنطوانيت المزور.

– وأنا لا أعلم أيضًا، كيف خطر لك أن تحسب ذلك من صنع روكامبول؟

– ذلك أنه عندما كان أوغست ينتظرني عند الباب رأى رجلًا في الطريق فخرج إليه مهرولًا وهو يناديه: يا خالي. ثم لما ذهبت مع خادم غرفتك إلى منزل أجينور جاءني أحد رجالي وقال لي: إنك لو كنت باقيًا في خدمة البوليس لكنت نلت جائزة حسنة. قلت: كيف ذلك؟ أجاب: إني رأيت من ساعة جواني الجزار وهو الذي كان جلادًا في سجن طولون وفر منه، فلو أرشدت الحكومة عليه لنلت الجزاء الحسن. ثم ذكر لي أنه رآه مع شاب تنطبق أوصافه على أوصاف أوغست فعلمت أنه خاله.

وقد علمت بالامتحان الكيماوي لحل الرسالة أنها كُتبت منذ ساعتين، ولما كان جواني هرب من السجن مع روكامبول والتقى بابن أخته حامل هذه الرسالة فلم يعد لدي شك أن لروكامبول يدًا في أمر أنطوانيت لا سيما وأن ميلون قد هرب معه أيضًا في يوم واحد.

فاقتنع كارل بهذا البرهان، وقال: إذن، إن روكامبول هذا رجل شديد الخطر.

– إنك إذا لم ترجعه إلى السجن ذهبت أنت إليه، وقتلت أنا بضربة خنجر، وتزوج أجينور أنطوانيت، فتدبر.

– إذن سأذهب إلى إدارة البوليس وأخبرها بأمره.

– كلا لم يحن الوقت بعد، إذ يجب أن نعرف مقر روكامبول لأن البوليس لا يستطيع أن يهتدي إليه، وسأعرف مقره بواسطة الجاسوس الذي أرسلته في أثر أوغست. والآن لا بد لي من الخروج من منزلك متنكرًا لأنه إذا كان جواني الجلاد وجد أمام منزلك فهو يخفره بأمر روكامبول دون شك ولا أحب أن يراني.

– وكيف تتنكر؟

– أتزيا بزي أحد خدامك وأركب أمام السائق في مركبتك حين ذهابك إلى النادي، فلا يعرفني بهذا التنكر غير روكامبول.

– إذن فلنذهب الآن فهذا الوقت الذي أذهب فيه إلى النادي.

ثم غير تيميلون زيه وخرج مع الفيكونت كارل. فسارت بهما المركبة إلى نادي أسبرج، وهو النادي الذي كان مشتركًا فيه روكامبول باسم الماجور أفاتار.

وقد اتفق أنه حين وصول المركبة إلى النادي وقفت عند بابه مركبة أخرى فخرج منها الماجور أفاتار وحَيَّا الفيكونت كارل ودخل قلبه.

وعند ذلك أسرع تيميلون إلى كارل وقال له وهو يضطرب منذعرًا: هذا هو بعينه.

فانذهل الفيكونت وقال: من هو؟

– إن هذا الرجل الذي سلم عليك هو روكامبول بعينه، عرفته وأرجو أن لا يكون قد عرفني.

فقهقه كارل ضاحكًا وقال: لقد بلغ منك الوهم مبلغًا عظيمًا لأن هذا الرجل روسي يعرفه جميع أعضاء النادي.

– سترى أني لست واهمًا، والآن إني ذاهب للنظر في أمرنا فانتظر مني رسالة. ثم تركه وانصرف.

أما كارل فإنه دخل إلى النادي فوجد الماجور أفاتار جالسًا بين حلقة من أصدقائه يحدثهم بالأخبار الروسية، فخلا بأحد أصحابه المخلصين وقال له: أتعرف هذا الماجور؟

– نعم، وأنا الذي قدمته إلى أعضاء النادي.

– أتعرفه حق المعرفة؟

– كيف لا أعرفه، وقد أقمت ستة أسابيع في ضيافة أبيه، في بلاد القوقاز.

فرجع كارل عنه، وقد وثق أتم الوثوق من أن تيميلون كان واهمًا فيما ادعاه.

ولكنه لم يطل بقاءه في النادي حتى وردت إليه رسالة من تيميلون يقول فيها: «عثرت بهم فاحضر في الحال.»

٢٣

وكان السبب الذي دعا تيميلون من أجله كارل، هو أن الجاسوس الذي أرسله في أثر أوغست عاد إليه وأخبره أنه تعقبه حتى رآه دخل إلى خمارة، فاجتمع فيها بخاله جواني الجلاد، فدخل إلى الخمارة وجلس إلى جانبهما وهو يتظاهر بالسكر الشديد بحيث إنهما لم يكترثا له، وجعلا يتحدثان أمامه بحرية فعلم منهما أين تقيم عصابة روكامبول بجملتها. ثم علم أن روكامبول سيكون معهم في الليلة القادمة فذهب مع ذلك الجاسوس إلى ذلك المنزل وعرف أن العصابة تقيم في غرفة منه عند رجل يدعى ريكولو، كان في بدء أمره من كبار اللصوص ثم تاب من اللصوصية إلى السكر، ولكنه منذ ستة أشهر لم يذق الشراب لانشغال باله بامرأته؛ لأنها كانت محبوسة في سجن سانت لازار وهي حبلى، فنغص سجنها عيشه. ولكنه كان يتعزى بإقامة بعض رجال روكامبول عنده.

ثم علم تيميلون أيضًا أن لصًّا من الذين كانوا يشتغلون تحت رئاسته مقيم في غرفة هذا المنزل، فاجتمع به واتفق معه على ما سيعرفه القراء.

ولما عرف جميع ذلك وأيقن من القبض على روكامبول وعصابته ذهب إلى النادي وأرسل تيميلون التذكرة المتقدمة.

فلما وصلت التذكرة إلى كارل خرج مسرعًا إلى تيميلون وعرف منه جميع ما تقدم وأظهر له ثقته من أن الماجور أفاتار غير روكامبول.

فلم يكترث تيميلون لكلامه وقال له: يخلق بنا الآن أن لا نضيع الوقت إذ يجب التأهب لإبلاغ البوليس وإهدائه إلى مكان اجتماع العصابة.

– هو ما أراه أيضًا، إنما يجب أن نتخذ ذريعة لإبلاغ البوليس لأني لست من الجواسيس.

– إني أعددت تلك الذريعة وهي أننا ندخل إلى منزلك من جهة الحديقة فنكسر إحدى الخزائن ونأخذ محفظة ونكتب عليها اسمك، فأُخبِّئها بواسطة أحد رجالي في الغرفة التي تجتمع فيها العصابة، ثم تدعي عند البوليس بأنك عرفت من بعض رجالك أن الذين سرقوا منزلك هم فلان وفلان وأنهم يقيمون في منزل كذا، ومتى عرف البوليس تلك الأسماء وأن أصحابها هم الهاربون من سجن طولون يرسل إليهم في الساعة التي تعينها ثلة من الجند تحيط بالبيت من جهاته الأربع فلا يعود سبيل للفرار.

فوافق كارل تيميلون وقال له: متى يجب أن أبلغ البوليس؟

– في صباح غد، والآن هلم بنا إلى منزلك لكسر الخزانة كي لا يبقى في السرقة شك.

وسار الاثنان إلى المنزل فكسرا الخزانة وأخذ تيميلون محفظة عليها اسم الفيكونت كارل.

ثم افترقا وعاد كارل إلى النادي وذهب تيميلون إلى جاسوسه الذي كان يقيم في إحدى غرف المنزل الذي تقيم فيه العصابة، فتربص وإياه حتى أيقنا أنه لا يوجد أحد في غرفة العصابة. فعالج تيميلون بابها بما كان لديه من المفاتيح حتى فتحه، ثم أخذ المحفظة ووضعها بين فراشي السرير، ثم خرج من الغرفة وأقفل بابها، وعاد إلى منزله وهو مطمئن البال، واثق من القبض على روكامبول في الغد، وقبض المائة ألف فرنك من كارل.

وكان السبب في عزم روكامبول على زيارة الغرفة التي تقيم فيها عصابته بضيافة ريكولو أن نويل تمكن من ضم هذا الرجل إلى العصابة، وقد علم منه أنه يوجد تحت غرفته قبو وأن هذا القبو يخرج منه بدهليز سري يتصل بمقابر مونمارتر، فأراد روكامبول أن يرى هذا الدهليز وضرب له ذلك الموعد.

•••

ولنعد الآن إلى روكامبول فإنه ذهب في صباح اليوم التالي إلى منزل الطبيب فأخبره بجميع ما فعله.

وفيما هو جالس عنده إذ جاء رسول من البارون دي مورليكس يدعوه لمعالجة رجله.

فخطر لروكامبول أن يذهب مكان الطبيب وقال له: أجبه أنك مريض وأنك سترسل له حالًا طبيبًا إنكليزيًّا من أصحابك يعالجه عنك، فامتثل الطبيب وأخبر الرسول ما عمله إياه روكامبول.

وما لبث أن ذهب الرسول حتى دخل روكامبول إلى غرفة نويل المجاورة لغرفة الطبيب، كما يذكر القراء، فتنكر ومضى إلى منزل البارون دي مورليكس فلقي عنده أخاه كارل، وكانا يتحدثان بتلك اللغة الريفية وهما يحسبان هذا الطبيب الإنكليزي يجهلها، فعلم منهما أن البوليس سيقبض عليه مع عصابته في هذه الليلة.

ثم خرج كارل من عند أخيه وجعل روكامبول يعالج رجل البارون بعنف بحيث جعله يصيح من الألم صياح الأطفال.

وبعد أن مل من عذابه ربط له رجله وانصرف في شأنه فما صدق البارون خروجه لفرط ما لقيه من العذاب.

٢٤

يوجد تجاه المنزل الذي تقيم فيه عصابة روكامبول خمارة قديمة العهد ليس لها غير باب واحد يشرف على الطريق بحيث إن المقيم فيها يشاهد كل من يمر بذلك الشارع.

وكان يوجد فوقها غرفة خاصة ممتازة لها نوافذ تطل على الطريق، فيرى الجالس فيها المارة دون أن يروه.

ففي الساعة الثامنة من مساء تلك الليلة التي تقرر القبض فيها على روكامبول وعصابته، كان الفيكونت كارل دي مورليكس وتيميلون جالسين في الغرفة الممتازة يراقبان المارة من نافذتها، وذلك المنزل الذي تقيم فيه العصابة.

ولم يطل جلوسهما حتى مر رجل ودخل إلى المنزل، فقال له كارل: من هذا؟

فأجابه تيميلون: إنه يدعى بونفير، وهو أحد الهاربين من السجن. ثم حكى له حكايته.

وبعد حين أتى جواني الجلاد فأضاف تيميلون هو ذا خال أوغست الذي حمل إلينا رسالة أنطوانيت.

ثم جاء في أثره ريكولو فقال له تيميلون: هو ذا صاحب الغرفة التي تقيم فيها العصابة بضيافته وسيذهب ضحية هذه الضيافة. والآن إن معظم رجال روكامبول قد وقعوا في الفخ.

فأجاب الفيكونت: وماذا يفيدنا وقوعها إذا لم يقع الرئيس فإني أراه قد أبطأ وأخشى أن يأتي الجنود فيكبسون المكان قبل حضوره.

وبقي تيميلون والفيكونت على أحر من الجمر، إلى أن أذنت الساعة، فبرقت أسرة تيميلون، ونظر الفيكونت إليه وقال له: ما هذا الاستبشار في وجهك؟

فأجابه تيميلون: انظر إلى هذا الرجل الهزيل المصفر الوجه الذي يدنو من المنزل.

– إنه رجل هندي كما يدل عليه لونه ولباسه.

– كلا، بل إنه رجل روسي يدعى الماجور أفاتار، بل رجل باريس يدعى روكامبول.

وما لبث أن أتم كلامه حتى دخل هذا الرجل إلى المنزل، وكان روكامبول بعينه، وقد تنكر بملابس الهنود. وبعد هنيهة يسيرة جاء الجنود وكانوا أربعين جنديًّا.

فأمرهم قائدهم بتطويق المنزل ثم جعل يطرق الباب الخارجي قائلًا: افتحوا باسم الشرع.

فطار فؤاد تيميلون فرحًا وقال: هو ذا روكامبول قد سقط ولا بد لي من قبض النقود.

•••

ولندخل الآن إلى هذا المنزل للنظر في أمور هذه العصابة فنقول: إن بونفير كان أول الداخلين إليه فلم يجد أحدًا، ثم جاء جواني فعجب لوجود بونفير وحده فسأله: أين ريكولو؟

– إنه لم يحضر بعد كما أن الرئيس لم يحضر أيضًا.

– إنه قادم في أثري فقد أمرني أن أتقدمه بضع خطوات.

ثم جاء ريكولو فقال: إني موجس شرًّا، فقد رأيت الجنود ترود قرب البيت.

فرد بونفير: لا تخف. إن الرئيس لا يخاف أحدًا وقد قلت إن لديك قبوًا ولكني لا أرى أثرًا للأقبية في هذه الغرفة.

– سوف ترى متى جاء الرئيس.

وعند ذلك فتح باب الغرفة ودخل روكامبول وأوصد الباب من الداخل، وأسرع إلى السرير الذي ينام فيه بونفير فقلب فراشه ومد يده فأخرج تلك المحفظة التي وضعها عامل تيميلون إثباتًا للسرقة التي اتهمت بها العصابة.

فبهت بونفير وقال: ماذا تصنع يا سيدي وما هذا الذي أخرجته؟

– أخرجت ما يثبت عليكما جريمة السرقة ويرجعكما إلى الليمان، ولكني وصلت بحمد الله، في حين يجب أن أصل لأن المحفظة التي ترونها بيدي سرقها تيميلون من بيت الفيكونت كارل دي مورليكس برضاه وخبأها في هذه الغرفة كي تكون التهمة ثابتة عليكم.

ثم التفت إلى ريكولو وسأله لقد قلت لي إن لديك قبوًا أليس كذلك؟

– نعم أيها الرئيس، ومدخله في هذه الخزانة.

ولكنه قبل أن يتم كلامه سمعوا قرع الباب الخارجي وأصوات رجال ينادون: افتحوا باسم الشرع.

فأخذ روكامبول مسدسين من جيبه وحملهما بيديه واستل بونفير خنجرًا وأسرع جواني إلى منضدة فجعلها متراسًا وراء الباب.

أما ريكولو فقد كان ساكن الجأش فنظر إلى روكامبول وقال له إننا سننجو من هذا القبو قبل أن يخلعوا الباب ويدركونا.

– أين هو هذا القبو؟

فأسرع ريكولو وفتح مصراعي خزانة كبيرة ثم جلس على أحد لوحاتها الداخلية فهبطت به وظهر وراءها منفذ كبير يستطيع المرء أن يمر به.

ثم هوى من المنفذ وهو يقول اقتدوا بي وعادت اللوحة إلى مكانها.

فقال بونفير لروكامبول: انج يا مولاي.

– كلا؛ لأن قائد السفينة، عند غرقها، لا يكون إلا آخر من ينجو منها.

فدخل بونفير الخزانة وجلس على اللوحة مقتديًا بريكولو فهوى ثم اقتدى جواني ولم يفضل غير الرئيس.

وعند ذلك سمع روكامبول أن الجند يصعدون السلم وقد كسروا الباب الخارجي، فذهب بملء السكينة إلى المنضدة فأعادها إلى موضعها الأول وأصلح فراش السرير الذي أخذ من تحته المحفظة.

وبينما كانت الجنود تعالج باب الغرفة، دخل إلى تلك الخزانة المتسعة فأغلقها من الداخل، وجلس على اللوحة فهوى إلى أرض ذلك القبو الخفي وكسر الجنود باب الغرفة ودخلوا حين احتجابه في وقت واحد فلم يروا شيئًا مما كان.

وقد سقط روكامبول في قبو مظلم يبلغ ارتفاعه ستة أقدام، فلما بلغ إلى الأرض صاح الجميع بصوت واحد: لقد نجونا!

أما روكامبول فإنه بعد أن ثاب إلى رشده من أثر السقوط ورأى أن الظلام يكتنفه أخرج من جيبه كبريتًا وشمعة فأنارها وظهر له قبوٌ واسع، تحيط به الخوابي والبراميل من جميع جهاته، وبدأ يفحص جدرانه فقال مخاطبًا ريكولو: أيوجد في هذا القبو منفذ للمقبرة كما أخبر نويل؟

– نعم.

– من أين؟ ألعله من هذا الباب؟ مشيرًا إلى باب القبو.

فابتسم ريكولو وقال: كلا؛ لأن هذا الباب يؤدي إلى سلم ثم إلى رواق طويل، ولا بد للبوليس أن يهتدي إلى الخزانة ثم القبو فلا يجد أمامه غير هذا الباب.

– إذن كيف نخرج؟

– نخرج من الطريق المؤدية إلى المقبرة وهي طريق وعرة ولكنها تؤثر دون شك على الوقوع في شرك الجند انظر إلى هذا البرميل الضخم المستند إلى الجدار إن طريقنا ستكون من قلبه.

ثم رفس هذا البرميل فانفتح فيه باب يستطيع المرء أن يمر به.

فاقترب روكامبول وأدنى الشمعة فظهر له سرداب طويل عميق فقال لهم ريكولو: سيروا أمامي في هذا السرداب إذ لا بد لي من التأخر بعدكم كي أقفل باب البرميل.

•••

هذا ما كان من أمر روكامبول وعصابته. وأما الجنود فإنهم بعد أن كسروا باب الغرفة جعلوا يترددون في الدخول إليها لخوفهم من روكامبول وعصابته إلى أن تحمس قائدهم فهجم ومسدسه بيده وهجم الجنود في أثره، ولكنهم لم يلبثوا أن دخلوا الغرفة حتى انذعروا ووقفوا حائرين مبهوتين لأنهم لم يروا فيها أحدًا.

ومما زاد في انذهالهم أنهم رأوا رجال العصابة قد دخلوا ولم يروا منفذًا في الغرفة فجعلوا يفعلون ما فعله روكامبول قبلهم فيفتشون الغرفة ويقلبون فرش أسرتها ويبحثون في أرضها وسقفها ويقرعون جدرانها فلا يسمعون صوتًا يدل على وجود منفذ.

وكان في هذا البيت كثير من الغرف المعدة للإيجار فخطر لهم أن العصابة مختبئة في أحدها وذهب بعضهم لتفتيشها فلم يقفوا على أثرها، ولكنهم علموا أن لهذا البيت أقبية فاهتدوا إلى مداخلها من الجيران وفتشوها ولم يفطنوا لسر البرميل ولم يخطر في بالهم هذا الخاطر.

أما الفيكونت دي مورلكيس وتيميلون فإنهما لما رأيا ازدحام الناس دخلا مع الداخلين وعلما ما كان من أمر فرار العصابة وعدم وجود آثار السرقة، فاصفر وجه تيميلون وانصب العرق البارد من جبينه ودنا من ذلك الرجل الذي عهد إليه أن يدس المحفظة بين فراش السرير وقال له: ماذا فعلت؟

فأقسم له أنه وضعها في المكان الذي أمره أن يضعها فيه.

أما الفيكونت فإنه لم يفهم شيئًا من هذه الألغاز فدنا من تيميلون وسأله: ما هذا الذي أراه وما هذه الألغاز؟

– تعال معي لأخبرك.

ثم خرجا حتى إذا أصبحا على الطريق العام قال تيميلون: إن الذي تراه هو أننا وقعنا في الفخ الذي نصبناه لروكامبول وأنا هارب من باريس وكن أنت على حذر من هذا الداهية.

٢٥

وقد استولى الرعب العظيم على تيميلون فجعل يسير مسرعًا كأنما روكامبول يطارده، فاضطر الفيكونت إلى اللحاق به حتى أدركه فوضع يده على كتفه وقال له: ماذا تفعل أجننت؟

– كلا، ولكني خائف فاتبعني.

– ومما هذا الخوف وإلى أين تريد أن أتبعك ألعلك تريد القبض عليه؟

– كلا، اركب معي هذه المركبة وهلم بنا.

وسارت بهما المركبة فسأله تيميلون: ألم تر كما رأيت أنا روكامبول وعصابتَه دخلوا إلى الغرفة ولم يخرجوا منها؟

– نعم رأيت ذلك وأنا أعجب لخروجهم.

– أما أنا فلا أعجب لفراره، بل أعجب لخطئي لأن هذا الرجل لا يؤخذ إلا مباغتة وهو نائم ولكنه متى نجا لا يدركه أحد، ثم ألم تقل لي إن ذلك الطبيب الذي كان يعالج أخاك أرسل إليه مرة أحد رجال المستشفيات وأرسل إليه اليوم حكيمًا إنكليزيًّا؟

– نعم.

– أكنتما تتحدثان أمام هذين الشخصين بشأن أنطوانيت.

– نعم ولكن حديثنا بلغة خاصة.

– لا يوجد لغة تخفى على روكامبول، وإن هذين الشخصين واحد وهو روكامبول، وقد عرف حديثكما فأنت الذي فضحت سرنا. فليهرب الآن من يستطيع الهرب.

– ولكن إلى أين نحن متوجهون؟

– إلى منزلي لأن روكامبول لا بد أن يكون فيه بعد ساعة.

فاستاء الفيكونت لما أظهره تيميلون من الخوف وقال له: كيف علمت أنهم لا يقبضون عليه؟ ألم تر أن المكان مطوق بالجند ولا منفذ له؟

– لا بد أن يكون فيه منفذ سري تحت الأرض يتصل بمقابر مونتمارتر.

– لا شك أنك فقدت صوابك.

– سوف تراني غير مخطئ في مزاعمي، وإن روكامبول نجا على ما وصفت لك.

– وإذا كان ذلك فما نعمل في منزلك؟

– إني ذاهب لأخلص أوراقي وأموالي من قبضته.

– إذن لا تزال تزعم أنه سيأتي إلى منزلك.

– بل أنا واثق. وإذا كنت لا أحب أن أموت مطعونًا بخنجر فلا بد لي من الفرار منه، وإذا كنت تضمن لي السلامة من كيده فإني أتخلى لك عن المائة ألف فرنك التي وعدتني بها.

وعند ذلك أوقف تيميلون المركبة وقال للفيكونت: انتظرني هنا ربع ساعة وسأعود إليك وأخبرك بما صنعت.

ثم ترجل من المركبة فمشى بضع خطوات في الشارع، وعطف منه على شارع مهجور فمشى فيه حتى انتهى إلى بيت مرتفع فصعد سلالمه إلى الدور الخامس منه، وأخرج مفتاحًا من جيبه وفتح الباب وولج منه إلى غرفة كان فيها امرأتان: إحداهما عجوز والثانية صبية نادرة الجمال.

فلما رأته الصبية داخلًا صاحت صيحة فرح وأسرعت إليه تعانقه قائلة: أين كنت يا أبي فإنك لم تحضر منذ يومين وقد شغلت بالي.

فقبل تيميلون جبينها وابتسم لها ابتسام الحنو فإن هذا الإنسان الجهنمي ما لبث أن رأى ابنته حتى استحالت أخلاقه وأصبح إنسانًا يشعر بحنو الوالد ثم اعتذر عن غيابه بكثرة مشاغله.

وبعد أن لاطفها وآنسها قال لها: ألا تذكرين يا ابنتي العزيزة أنني وعدتك بالسفر إلى نورمانديا والإقامة فيها مع عمتك؟

فانتعش فؤاد الفتاة وقالت: نعم، فقد طالما وعدتني هذا الوعد وكانت مشاغلك تحول دون وفائك بعد فهل كتب لنا السفر على لوح المقدور.

– نعم يا ابنتي وسنسافر في هذه الليلة عند انتصاف الليل فتأهبي له وأنا سأعود إليك في الساعة الحادية عشرة.

– ولكنك لم تقل لي شيئًا من ذلك أول أمس.

– لأني لم أكن حاضرًا للسفر فأسرعي بالتأهب لأن القطار يسافر عند منتصف الليل.

– ثم دخل إلى إحدى الغرف فأقام فيها هنيهة وعاد إلى ابنته فعانقها وخرج إلى حيث كان الفيكونت ينتظره في المركبة فركب بجانبه، وبعد أن سارت بهما أخبره: إني سأبرح باريس بعد ساعتين.

فاضطرب الفيكونت وسأله: كيف ذلك أتتخلى عني؟

– ذلك لا بد منه. على أنك إذا كنت تريد أن تموت أنطوانيت فإنها تموت غدًا مساء، ولا يكلفك موتها غير خمسين ألف فرنك، تدفعها لي مقابل هذه الجريمة الجديدة، ولا تخف فإنك لا تدفع هذه النقود إلا بعد ثبوت الوفاة.

ولبث الفيكونت هنيهة ساكتًا لا يجد جوابًا، وهو يتأمل موقفه الحرج، حتى أخرجه تيميلون من هذا الموقف بقوله: ما بالك ساكتًا؟ فإذا كان قتل هذه الفتاة يروعك فإني لا ألح عليك، وأنت شخصٌ ذكي الفؤاد قادر على مقاومة الصعاب وحدك، وأما أنا فلا أنكر عليك أن لا قِبَل لي بمقاومة روكامبول.

– كيف تتخلى عني؟

– إني سأبرح باريس عند منتصف الليل فأكون في الساعة السادسة صباحًا في الهافر وبعد ذلك بساعة أسافر.

– إلى أين؟

– إذا رضيت باقتراحي سافرت إلى إنكلترا، وإذا رفضته سافرت توًّا إلى أمريكا.

– هب أني قبلت اقتراحك فكيف تستطيع تنفيذه إذا كنت مسافرًا بعد ساعة كما أخبرتني؟

– ذلك لأن أنطوانيت لم تدخل إلى السجن وحدها بل دخلت معها امرأة من أتباعي تدعى شيفيوت.

– وما عسى أن تصنع هذه المرأة؟

– إنها تستطيع أن تضع في صحن أنطوانيت أو كأس شرابها سمًّا زعافًا يقتل في التو.

– متى تفعل ذلك؟

– غدًا.

– كيف يمكن ذلك وأنت مسافر الآن؟

– إني أعطي هذا السم قبل سفري لرجل من أتباعي وهو يسلمه غدًا إلى شيفيوت.

– وهل أنت الذي تسلمه السم؟

– كلا. بل أنت تسلم السم إلى هذا الرجل.

فجعل العرق ينصب من جبين كارل، وكانت المركبة قد وصلت إلى مكتب تيميلون فأوقفها ونزل منها وقال لكارل: إني أمهلك ربع ساعة للتفكير بأمرك وسأعود إليك فإذا وجدتك باقيًا في المركبة تنتظرني علمت أنك رضيت باقتراحي فأعطيك السم المذكور، وإذا لم أجدك علمت أنك غير محتاج إلى خدمتي. فافترقنا وكتمنا هذا السر في أعماق قلبينا.

ثم تركه تيميلون وصعد إلى مكتبه فأخذ منه جميع ما يهمه حفظه من أوراق وأتلف الباقي، وأخذ رشاش السم وعاد إلى المكان الذي ترك فيه كارل فوجد أنه باق بانتظاره، فقال له وهو يبسم ابتسامة المتهكم: أراك راضيًا باقتراحي؟

– نعم.

– لا جرم فإن من يكسب عدة ملايين لا يبالي بدفع خمسين ألف فرنك، إن أنطوانيت ستموت لا محالة.

ثم صعد إلى جانبه قائلًا: لنتحدث الآن فاعلم أني حين أعطيك السم وأرشدك إلى طريقة استعماله تدفع لي الخمسين ألف فرنك.

– ألعلك تشكك بكلامي؟

– إني أشك بكل ما لا تخطه اليد ولا بد لي كي أكون واثقًا من دفع المبلغ أن أفيدك بعهد.

– كيف ذلك؟

– ذلك أن تنزع من دفترك ورقة وتكتب فوقها ما يأتي:

عزيزي تيميلون

يجب التخلص من أنطوانيت ابنة أختي فافعل ما تشاء وإذا احتجت فاستعمل الخنجر أو السم.

ولما رأى تيميلون أنه يتردد تابع: إن الوقت قصير وركامبول في أثرنا ولا بد لي من السفر عند انتصاف الليل فكفى ترددًا وأسرع بالاختيار.

– إني إذا كتبت ما تمليه علي تصبح شريكي في الجريمة فتكون قيدت نفسك وأنت تريد تقييدي.

– إنك مخطئ في زعمك فإني مسافر إلى إنكلترا وسيأتيك رجل بعد موت أنطوانيت يحمل إليك هذه الرسالة التي أمليتها عليك، فإذا دفعت له خمسين ألف فرنك أعطاك الرسالة فتفعل بها ما تشاء، وإذا أبيت الدفع وَضَعَها في غلاف وكتب فوقه عنوان نظارة الحقانية، ثم يضعه في صندوق البريد، ومتى اطلعت عليها الحكومة قبضت عليك، أما أنا فأكون في طريقي إلى أميركا.

فأذعن كارل له وكتب الرسالة ثم وقَّع عليها ودفعها لتيميلون، فأخذها وأعطاه غلافًا مختومًا قائلًا له: تجد في هذا الغلاف السم والتعليمات اللازمة له.

– ولكنك لم ترشدني إلى طريقة إيصاله إلى السجن.

– اذهب غدًا في الساعة الثامنة من الصباح إلى شارع سانت أوبوتين نمرة ٧ واطلب أن ترى رجلًا اسمه لولو، ومتى لقيته أعطه هذا الغلاف وقل له: إنه مرسل من قبلي إلى شيفوت في سانت لازار فيوصله في الحال.

وعند ذلك وصلت المركبة إلى بيت تيميلون فودع الفيكونت ومشى في عطفة الشارع، قائلًا في نفسه: لا بد أن تكون ابنتي قد أعدت جميع معدات السفر وهي تحسب أني مسافر بها إلى نورمانديا ولكننا متى وصلنا إلى الهافر فلا بد لها من السفر معي إلى حيث أريد.

وجعل يصعد سلالم هذا البيت العالي، ولم يكن فيه أثر للنور، فشعر بانقباض خفي لم يدرك له سرًّا. ولما انتهى إلى الدور الرابع رأى في البيت الذي فوقه نورًا فاستنتج منه أن ابنته لا تزال في انتظاره.

وصعد حتى وصل إلى منزلها فطرق الباب فلم يجبه أحد وقد دهش حين رأى المفتاح في القفل.

فاضطرب فؤاد تيميلون وفتح الباب ودخل إلى أول غرفة، فرأى مصباحًا موضوعًا على منضدة عليها زجاجة فارغة وكأسان.

فنادى ابنته باسمها فلم تجبه فأعاد النداء فلم يجبه غير الصدى، فدخل وهو مضطرب إلى غرفة نومها فرأى مصباحًا آخر على المستوقد ووجد ابنته نائمة في سريرها، فناداها محاولًا إيقاظها فلم تجبه، فاقترب منها وهو يكرر النداء.

ولكنه قبل أن يصل إلى سريرها انشق سجف أمام السرير وبرز منه رجل يحمل بيديه مسدسين فقال له: إن صحت أقل صياح فإن ابنتك مائتة لا محالة.

فجمد الدم في عروق تيميلون ووقف شعر رأسه من الرعب وتراجع منذعرًا إلى الوراء.

أما هذا الرجل فكان روكامبول.

٢٦

ولم يسع قلم كاتب وصف ما لقيه تيميلون من الخوف على ابنته وعلى نفسه، وما أصابه من الاضطراب حين برز له هذا العدو الشديد، وخرج من وراء السجف خروج الشيطان الرجيم وبيديه آلات الموت ينذره فيها بالقتل الذريع، فمرت به دقيقة كانت دهرًا لا حَدَّ له وجعل يرتجف أمام روكامبول حتى تمكن منه الضعف وسقط على ركبتيه.

فقال له روكامبول: لا تخف فإن ابنتك لم تمت ولكنها نائمة وهي ستظل نائمة عدة ساعات.

فجعل تيميلون ينظر إلى ابنته نظرات الإشفاق والحنو وينظر إلى روكامبول نظرات التوسل والرجاء. فقال له روكامبول: إن من كان مثلك لا يخلو من سلاح فألق سلاحك إلى الأرض.

وكأنما تيميلون أراد أن يحنن قلب روكامبول على ابنته فأراد أن يطيعه طاعة عمياء، ولذلك لم يلبث أن أمره بإلقاء السلاح حتى فك أزرار سترته فأخرج من منطقته خنجرًا وألقاه أمامه.

فسأله روكامبول: أهذا كل ما لديك من السلاح؟

– أقسم بالله إني لا أحمل غير هذا الخنجر.

– إذن فابعد عني قليلًا.

فامتثل تيميلون، والتقط روكامبول الخنجر عن الأرض، ثم أخذ كرسيًّا فوضعه أمام السرير وبعد أن جلس عليه قال له: لنتحدث الآن فإنك أردت أن تلقيني بقبضة الشرطة فقل لماذا وأي ثأر لك علي؟

إلا أن لسان تيميلون التصق بحلقه من الرعب فلم يستطع أن يجيب فسأله روكامبول: إني أراك مضطربًا وأرى الرعب يعقد لسانك وسأقول لك عما فعلت أنا إلى أن تحل عقدة لسانك فتخبرني عما فعلت أنت، فاعلم أيها الأبله أني حين ذهبت إلى الشارع الذي تقيم فيه عصابتي كنت أعلم أنك أقمت البوليس يترقبني وأنك كنت جالسًا مع الكونت كارل دي مورليكس في خمارة تجاه البيت حين دخلت إليه أليس كذلك؟

فهز تيميلون رأسه إشارة إلى الموافقة، فتابع روكامبول: وبينما كانت الجنود تبحث عني في ذلك البيت وهي منذهلة لفراري جئت أنا إلى منزلك بملء السكينة فأغريت خادمتك على أن تضع في كأس شراب ابنتك مخدرًا، فما لبثت أن شربته حتى تخدر جسمها فنامت كما تراها، ومن كان مثل روكامبول وقد تخرج في مدرسة السير فيليام فلا يصعب عليه إغراء خادمة وإيجاد مخدر.

أما ابنتك فلو لعلعت الرعود وقصفت المدافع لما تنبهت قبل ست ساعات وهذا ما أحتاج إليه من الوقت.

فتغلبت عواطف الحنو الأبوي على فؤاد هذا الرجل العاتي، فسقطت دمعة من عينه وأجاب: رحماك إن ابنتي لم تسئ إليك بشيء وليس من المروءة أن تنتقم منها فإذا شئت الانتقام فها أنا بين يديك وكل الإساءة مني.

فابتسم روكامبول وأجاب: إنك لا تعرفني الآن ولو اتفق مثل هذا الحادث منذ عشرة أعوام لكنت كمنت لك عند باب منزلك وطعنتك عند خروجك طعنة قاضية، ولا أبالي فإنك لا تزيد في حساب الذين سفكت دماءهم غير واحد.

أما اليوم فهو غير الأمس وقد عاهدت ربي أن لا أسفك دمًا بشريًّا إلا حين تفرغ جَعْبَتِي من وسائل السلم، ولهذا استخدمت ابنتك للانتقام منك أتدري لماذا أريد هذا الانتقام؟ إني أنتقم منك لأنك تخدم الفيكونت والبارون دي مورليكس.

– أتعرف هذا؟

– بل أعرف أيضًا أنك سجنت في سانت لازار فتاة طاهرة تدعى أنطوانيت.

– إذن أنت تعرف كل شيء؟

فهز روكامبول كتفيه قائلًا: إنك نهجت في هذه الجريمة مناهج كبار اللصوص والأذكياء، ولكن الفرق لا يزال بعيدًا بيني وبينك، إذ لست من أَكْفَائِي في هذا المضمار.

فأطرق تيميلون برأسه وقال: والآن ماذا تريد مني؟

– سترى.

ثم دنا من النافذة وصفر صفيرًا خاصًّا وعاد إلى تيميلون فقال: إذا كان يهم الفيكونت والبارون دي مورليكس سجن أنطوانيت فأنا يهمني إنقاذها وقد وقعت في قبضتي لسوء حظك فلا بد لي من إزالتك عن طريقي.

وبينما كان روكامبول يكلمه كان يسمع وقع أقدام على السلم فأتم حديثه بقوله: إنك أخطأت خطأ عظيمًا بإقامة ابنتك في هذا البيت وبتعيين مثل هذه الخادمة لخدمتها فإنها باعتك بأبخس الأثمان، وإن البيت معتزل أتم العزلة فلم يحل دون ما أبغيه.

وعند ذلك طرق الباب فقال له روكامبول: افتح للداخلين.

فامتثل تيميلون صاغرًا وفتح الباب فظهر له بونفير وجواني الجلاد، فدفعاه إلى الداخل ودخلا ثم أوصدا الباب.

فقال له روكامبول ضاحكًا: أرأيت كيف استحال الأمر إلى ضده وكيف أنك وقعت في الفخ الذي نصبته.

ثم التفت إلى بونفير وسأله: هل المركبة مهيأة.

– نعم؟

– إذن أسرعوا إلى العمل.

فأجفل تيميلون وأجاب: ماذا تريد أن تصنع بي؟

– ليس لي مأرب بك بل بابنتك.

– ابنتي، رباه وما عسى أن تصنع بها.

ثم أسرع إلى السرير كي يحول بينها وبينهم.

فصوب روكامبول مسدسه عليها وسأله: قل أين تريد أن أصيبها؟ في القلب أم في الرأس؟

فتراجع تيميلون وجثا على ركبتيه وجعل يتوسل إليه: عفوًا ومرحمة فليس لهذه الفتاة ذنب.

– دعني أفعل ما أشاء وأصغ إلي.

– ابنتي ابنتي.

– قلت لك أصغ إلي فإن ابنتك ستكون رهينة عندي وأنت تعرفني، بل إنك عرفتني حين كنت تشتغل برئاستي في الجمعية السرية القديمة، أريد بذلك أنك تعلم شدة حرصي على الوفاء حينما أتعهد به فاعلم أن ابنتك ستكون رهينة عندي وأن حياتها موقوفة على حياة أنطوانيت، فإذا ماتت أنطوانيت فليس لابنتك مطمع في الحياة.

فطاش تيميلون من يأسه وقال: ما يريد هذان الرجلان؟

– سترى ما يريدان، ثم أشار لهما إشارة خفية، فدنا بونفير وجواني من السرير فكفناها بغطائه كما يكفن الميت، ثم حملها أحدهما على ظهره وخرجا بها.

فصاح تيميلون: اقتلني ولا تختطف ابنتي. وحاول أن يلحق بهما فأوقفه روكامبول وقال له: لا حاجة لي بموتك بل كل حاجتي إلى حياتك.

– ولكنهما ذهبا بابنتي.

– إنها سترد إليك حين تخرج أنطوانيت من سانت لازار وتتزوج أجينور دي مورليكس.

– وفي انتظار ذلك؟

– أقسم لك بكل مقدس عندي أني سأحرص عليها أكثر مما تحرص عليها أنت.

فجعل تيميلون يفرك يديه من اليأس ثم سمع روكامبول يأمرهما بالذهاب بالفتاة، فأجفل تيميلون وقال له: كيف ألا تذهب معهما أنت وكيف تضمن الحرص عليها من لصين؟

– إني واثق منهما كل الثقة فلا تخف.

وعند ذلك خرج بونفير وجواني بالفتاة، فكان تيميلون يسمع وقع أقدامهما على السلالم، ثم سمع صوت سير المركبة، فصاح صيحة يأس وأوشك أن يسقط على الأرض لأنه تذكر في تلك الساعة الرهيبة أنه أعطى السم للفيكونت كي يسمم به أنطوانيت وقال بلهجة الجنون: رباه، أخشى أن يفوت الأوان.

– ماذا تعني بما قلت؟

– أعني أنه إذا كانت حياة ابنتي موقوفة على حياة أنطوانيت فلا أحب أن تموت أنطوانيت.

فذعر روكامبول بدوره وأصابه من الرعب ما أصاب تيميلون.

٢٧

كان الفيكونت دي مورليكس رجلًا ثابت العزيمة قوي الإرادة رابط الجأش وقد تأثر هنيهة مما رآه من رعب تيميلون، ثم ذهب عنه هذا التأثير بعد افتراقهما فقال في نفسه: وما عساه يصنع روكامبول بعد موت أنطوانيت فإنه لا يستطيع إحياءها بعد الموت.

وقد قال لي تيميلون أن أذهب إلى لولو في الساعة الثامنة من الصباح فأعطيه السم، غير أن هذا الرجل إذا كان يوجد في منزله في هذه الساعة من الصباح فلا بد أنه يوجد فيه الآن، وقد أوشك أن ينتصف الليل، وخير لي أن أذهب إليه الآن فأنام مستريح البال بعد إعطائه هذا السم الفتاك الذي يحرق جوانبي وهو في جيبي.

وكان تيميلون قد أرشده إلى منزل لولو فذهب توًّا إليه وسأل البواب عنه فقال إنه لم يعد بعد، غير أنك إذا كنت شديد الاحتياج إليه تجده في هذه الخمارة القريبة منك يعاقر المدام مع إخوته، فشكره وذهب إلى تلك الخمارة فسأل صاحبها عن لولو فقال له: إنه في الزاوية مع رفيقين له.

فذهب إليهم الفيكونت وقال لهم: من منكم يدعى لولو؟ فانبرى له رجل شديد العضل ضخم الجثة ظاهر بين عينيه أثر الشراب وقال له: أنا هو فماذا تريد؟

– أريد أن أحدثك على انفراد.

– قل ما تشاء أمام إخواني فليس بيننا أسرار تكتم.

– كلا فإني قادم إليك من قبل تيميلون.

فأثر هذا الاسم على الجماعة وقام لولو في الحال فاعتذر من الجماعة وخرج مع كارل إلى الشارع.

وكان الشارع مقفرًا فرأى لولو مركبة واقفة أمام الخمارة فقال للفيكونت: أهذه المركبة لك؟

– نعم.

– يظهر أن تيميلون يحب الإسراع في المهمة التي ينتدبني لها.

– إنه يريد أن ترسل رسالة مستعجلة إلى شيفيوت في سجن لازار.

فغضب لولو وشتم وألقى سيكارته إلى الأرض قائلًا: إني أبحث منذ ثلاثة أيام عن تيميلون فلا أجده ولو وجدته لما انتدبني إلى هذه المهمة.

– لماذا؟

– لأني تخاصمت مع أحد مفتشي هذا السجن فأراد الانتقام مني ومنعني عن الدخول إليه.

– والآن ماذا نعمل، وكيف السبيل لنوصل هذه الرسالة المستعجلة؟

فأطرق لولو هنيهة يتمعن ثم أجاب: إذا كان تيميلون يدفع مائتي فرنك لا أعدم وسيلة لإيصالها.

– إنه يدفع دون شك.

– ولكن الدفع يجب أن يكون الآن إذا أراد أن تصل رسالته في الصباح.

– إنه عهد إلي أن أدفع لك مثل هذه النفقة والمال معي، فقل لي بأية طريقة تريد إيصالها؟

– إني أعرف فتاة إذا أعطيتها هذا المبلغ ترضى أن تزج نفسها في السجن طائعة مختارة فتوصل الرسالة إلى شيفيوت، فإذا شئت هلم معي إليها قبل أن يفوت الأوان.

وذهب الاثنان إلى المكان الذي توجد فيه تلك الفتاة فاجتمع بها لولو وأعطاها نصف المبلغ، فأخذت منه الرسالة وذهبت لفورها إلى الشارع فارتكبت جريمة سرقة في أحد المخازن فقبض البوليس عليها، وعاد الفيكونت إلى منزله وهو واثق أن السم في طريق السجن.

ودخل إلى غرفته فغير ملابسه وتأهب للذهاب إلى النادي وهو يتساءل في نفسه: سوف أعلم إذا كان الماجور أفاتار وروكامبول واحدًا فإن الماجور يذهب كل ليلة إلى النادي، فإذا كان الآن موجودًا فهو روسي دون شك لا علاقة له بروكامبول؛ لأن هذا اللص منهمك الآن بفراره من الجند.

ثم خرج إلى النادي فلما بلغ إليه لقي اثنين من أصحابه وهما خارجان منه فسلم عليهما وأراد الدخول، فاستوقفه أحدهما وسأله ما وراءك من أخبار أجينور ابن أخيك؟

– ليس لدي شيء من أخباره فإنه لم يذهب إلى عمته فيما أعلم.

– إذن إنك لا تعلم شيئًا من أخباره فإنه لم يذهب إلى عمته وقد توقف في مدينة لافال وهي في منتصف الطريق وهو فيها إلى الآن.

– وماذا يعمل فيها؟

– إنه أوصاني في كتابه أن لا أخبر أباه وعمه بشيء من أحواله، ولكني أخبرك بكل شيء فإن أجينور برح باريس مكرهًا؛ لأنه اضطر إلى مغادرة عشيقته للإقامة مع عمته وهو مصيب في استيائه كل الإصابة، ولكنه اضطر إلى السفر لأمور عائلية لم يجد بدًّا من قضائها.

وقد سافر وهو مضطرب الحواس فساءت أخلاقه حتى إذا وصل إلى شارته لقي ضابطًا مسافرًا إلى لافال فجلس بجانبه وكان أجينور يدخن والضابط يغني فاستاء الضابط من سيكارة أجينور، واستاء أجينور من غناء الضابط وبدأ بإظهار استيائه بالنظرات، ثم بالكلام المعمى إلى أن ضاق صدر أجينور فقال له: إن صوتك مزعج يثقل علي، فأجابه الضابط بكلام أشد وانتهى الأمر إلى المبارزة فأعطى كلاهما رقعة زيارته للآخر واتفقا على المبارزة في لافال.

ولما وصلا إليها تبارزا فأصيب أجينور بما اضطره إلى ملازمة الفراش ثمانية أيام، ولكنه بالرغم عما أصابه لا يزال يفتكر بعشيقته أنطوانيت وقد كتب إليها ثلاث رسائل فلم تجبه عليها حتى تولاه اليأس فعهد إلي بالذهاب إلى منزلها والسؤال عنها.

فاضطرب الفيكونت اضطرابًا شديدًا وقال له: ألعلك رأيت الفتاة؟

– كلا، فإن كتاب أجينور لم يصلني إلا في هذا المساء، ولكني سأراها في صباح الغد، ألعل في ذلك ما يسوءك؟

– كلا فإن ابن أخي قد تجاوز سن الرشد بمراحل، فهو حر أن يفعل ما يشاء.

– أتعلم أنه يريد أن يتزوجها؟

– نعم وهو زواج لا يقدم عليه غير المجانين، ولكنه أدرى بشئون نفسه، ثم ودعهما وصعد إلى النادي وذهب الاثنان في شأنيهما.

وكان كارل يقول في نفسه: غدًا سيعلم هذا الرجل أن أنطوانيت قد اختطفت، فيرجع أجينور مسرعًا ولكن رجوعه لا يفيدها لأنها ستلقى حتفها في الغد.

وظل صاعدًا حتى بلغ النادي ودخل إلى قاعة البلياردو فانذهل انذهالًا غريبًا لأنه رأى الماجور أفاتار يلعب مع أحد أعضاء النادي.

أما الماجور أفاتار؛ أي روكامبول، فقد تظاهر أنه منهمك في اللعب وأنه لم ير الفيكونت.

غير أن كارل نظر إلى الساعة فوجد أنها بلغت الأولى بعد منتصف الليل، فدنا من المركيز الذي كان يلاعب روكامبول وقال له: أين أنتما من اللعب؟

– في الدور الثالث فقد كسب مرة وكسبت مرة فمن كسب في هذه المرة كان له الفوز.

فحسب الفيكونت أن كل دور يقتضي له ساعة، فإذا كانا يلعبان الدور الثالث وهما الآن في آخره فلا بد أن يكون الماجور أفاتار هنا منذ ثلاث ساعات وفي ذلك ما يثبت أتم الثبوت أنه غير روكامبول.

وهو تعليل وجيه غير أن رفيق أفاتار لم يقل للفيكونت أن الدورين الأولين قد لعباهما أمس، فيكون الماجور قد حضر إلى النادي منذ أقل من ساعة.

أما روكامبول فإنه بقي في النادي إلى الفجر وعند خروجه لقي أوغست ينتظره على الباب فأعطاه رسالة قائلًا له: يجب أن ترسل هذه الرسالة إلى مرتون في السجن وتعطيها لفاندا، فأخذها أوغست وسار إلى السجن.

وكانت هذه الرسالة إلى فاندا الروسية وقد كتب لها فيها: لقد تم كل شيء فافعلي ما أوصيتك به.

وبعد ذلك سار روكامبول إلى منزله وهو يمشي الهويناء مشي المطرق المفكر، وفيما هو على ذلك إذ رأى تيميلون يركض إليه منذعرًا وعلائم الرعب بادية على وجهه، فلما وصل إليه دق يدًا بيد وقال بلهجة القانطين: ويلاه إن السم قد وصل إلى السجن. فاهتزت أعصاب روكامبول وأدرك حرج الموقف.

٢٨

ولنعد الآن إلى سجن سانت لازار فإنه في الساعة الثامنة من صباح ذلك اليوم الذي أرسل فيه روكامبول الرسالة إلى فاندا دخلت مجرمة جديدة إلى سجن سانت لازار، وهي التي أرسلها لولو إليه تحمل السم إلى شيفيوت كي تسمم به أنطوانيت.

وكانت شيفيوت تكره أنطوانيت كرهًا شديدًا لا سيما وأنها صنيعة تيميلون وهي لم تدخل السجن إلا للحط من قدرها والتنكيل بها، وقد زاد في كرهها لها ما رأته من فضائلها وحسن أدبها وإجماع المسجونات على احترامها وعناية الراهبات بها، فأصبحت عداوتها لها شخصية حتى باتت تتمنى لها الموت بعد انخذالها في معركتها مع فاندا.

ولما جاءتها تلك المرأة برسالة تيميلون وبالسم المعد لأنطوانيت فرحت فرحًا وحشيًّا لا يوصف ووطدت النفس على قتلها في ذلك اليوم.

وكانت أنطوانيت منفصلة عنها لأنها نقلت بعد مرضها إلى مستشفى فأقامت فيه مع فاندا التي كانت مصابة بمثل مرضها وامرأة ريكولو التي بقيت في السجن بسبب ولادتها وقد لبثت في المستشفى على انتهاء مدة سجنها إلى أن تبرأ من النفاس، فلم يكن الحراس يمنعون زوجها ريكولو من عيادتها والاعتناء بأمرها.

أما شيفيوت فإنها لما وصلت إليها رسالة تيميلون أخذت ذلك الرشاش الذي يتضمن السم الزعاف وجعلت تفكر في طريقة تجمعها بأنطوانيت في المستشفى، فأرشدها الحقد إلى حالة فأخذت إبرة طويلة ووخزت بها أعصاب أنفها من الداخل وخزات كثيرة غير مكترثة بما وجدته من الألم، فتدفق الدم من أنفها بغزارة وانطرحت على الأرض وصبغت ثيابها بذلك الدم وجعلت تصيح وتعول وتتظاهر بالإغماء حتى اجتمع حواليها الراهبات والمسجونات وحملنها إلى صيدلية المستشفى لمداواتها والنظر في أمرها.

ولم يكن حينئذ في الصيدلية غير أحد الموظفين فيها، فأسرعت الراهبة إلى مناداة الحكيم وعند ذلك دخلت مرتون إلى تلك الصيدلية تحمل إناء وقالت للصيدلي: املأ لي هذا الإناء شرابًا لأنطوانيت.

وكانت مرتون قد التمست من الرئيسة أن تتولى خدمة أنطوانيت، وساعدتها أنطوانيت على هذا الالتماس فأجابتها الرئيسة إشفاقًا على أنطوانيت.

أما مرتون فقد كانت طاهرة القلب سليمة النية، فلما دخلت إلى الصيدلية طلبت إلى الصيدلي الشراب لأنطوانيت على مسمع من شيفيوت، ثم نظرت فرأت عدوتها اللدودة مضرجة بدمائها، فأشفقت عليها وقالت لها: ماذا تريدين أن أصنع لك؟

فجعلت تستغيث بها وبالصيدلي وتطلب إليهما الإسراع بإحضار الطبيب، فحن قلبيهما وأسرع الاثنان إلى الباب يستحثان الطبيب على الإسراع.

وكانت مرتون قد تركت إناء الشراب على طاولة الصيدلي، فلما رأت شيفيوت أنهما خرجا أسرعت وأخرجت رشاش السم من جيبها وألقته بسرعة البرق في الإناء ثم عادت إلى العويل والصياح.

وبعد دقيقة حضر الدكتور وعالج شيفيوت وقرر أن أمرها بسيط وأمَر أن تبقى في الصيدلية إلى أن ينقطع الدم، وذهبت مرتون بإناء الشراب إلى أنطوانيت وهي لا تدري أن فيه السم الزعاف.

•••

وفي الوقت نفسه الذي دخلت فيه المرأة إلى السجن بالسم كان تيميلون يطوف باحثًا عن روكامبول، وقد كاد يفقد صوابه فإن هذا الرجل على فظاعة قلبه كان يحب ابنته حبًّا شديدًا وكان يعلم أن روكامبول لا يحنث بوعده وأنه لا بد له من فقدها إذا ماتت أنطوانيت.

فلما خرجوا بابنته من منزله وغادره روكامبول لم يكن همه إلا بالبحث عن لولو لأخذ السم منه قبل أن يرسله إلى السجن.

غير أنه كان مرتاحًا بعض الارتياح لأمرين: أحدهما أن الفيكونت كارل دي مورليكس لا يجد لولو إلا في الساعة الثامنة من الصباح، والثاني أنه مهما أسرع لولو فلا يستطيع إيصال السم إلى السجن قبل الظهر؛ أي إن الوقت يظل فسيحًا لديه لملاقاة هذه الجريمة وإنقاذ ابنته وأنطوانيت من الموت.

ومع ذلك فإنه ذهب توًّا حين تركه روكامبول إلى منزل لولو فقيل له إنه في الخمارة، فذهب إلى الخمارة فأخبروه أنه خرج منها مع رجل علم من أوصافه أنه الفيكونت، فأوشك أن يجن من يأسه وخرج هائمًا يبحث عن لولو في كل مكان فلا يجده ثم يعود إلى منزله فيخبروه أنه لم يعد.

وبقي هذا دأبه إلى أن أشرق الفجر، وفيما هو عائد إلى بيت لولو رآه قرب الباب وهو يترنح سكرًا، فقبض عليه وقال له: ماذا فعلت؟ وأين الرسالة؟

فأخبره باتفاقه مع تلك الفتاة وكيف أنها ارتكبت جريمة السرقة خاصة للولوج إلى السجن بالرسالة.

وقد أخبره هذا الخبر وهو مشير عليه، ويفتخر بإسراعه في تنفيذ أوامره.

أما تيميلون فلم يجبه بحرف بل تركه منذعرًا وجعل يركض في الشوارع هائمًا وهو يصيح: ويح لي أنا الشقي! سأقتل ابنتي بيدي!

وقد لقي روكامبول حين خروجه من النادي كما تقدم وهو على هذه الحالة وكان متنكرًا بزي الماجور أفاتار.

غير أن تيميلون لم يكترث لتنكره وجاءه وهو ينتف شعوره قائلًا: ماذا أعمل إن السم بات في السجن؟

فاضطرب روكامبول هنيهة ثم عادت إليه سكينته فقال: إنك أبله لا خير فيك فلا تعمل شيئًا.

– ولكن ابنتي تموت إذا ماتت أنطوانيت والسم في السجن.

– إذا كنت تحرص على حياة ابنتك، فاذهب إلى منزلك ولا تتداخل في شيء.

فأخذ تيميلون يده فقبلها وأجاب: لقد أخطأت بعدوانك لأني لست من أكفائك.

– وأنا رضيت باعتذارك فاذهب بأمان واحذر من أن تلحقني.

وتركه روكامبول وركب مركبة وانطلق بها إلى حيث يختبئ ريكولو مع العصابة، وكتب له رسالة إلى فاندا وقال له: اذهب حالًا إلى السجن واطلب مقابلة امرأتك، فإذا دخلت إليها أعط الرسالة إلى المرأة الروسية المقيمة مع امرأتك في المستشفى، واحذر أن يراك أحد، واعلم أنه إذا لم تصل الرسالة إلى فاندا قبل الظهر ماتت أنطوانيت في المساء.

فأخذ ريكولو الرسالة وأخفاها وركب مركبة سارت تنهب به الأرض إلى السجن.

أما روكامبول فإنه أقام مع بونفير ينتظر عودة ريكولو على أحر من الجمر، وقد امتقع لون وجهه لشدة اضطرابه. فسأله بونفير: ما بالك؟

– أتذكر تلك الدقيقة الهائلة التي كان رأسك فيها تحت آلة الإعدام؟

– إني أذكرها، ولم أجد في حياتي أشد منها.

– ولكنها دقيقة واحدة يسرع انقضاؤها، أما أنا فلا بد لي من البقاء إلى المساء في أشد من هذا الموقف.

ثم حمل رأسه بين يديه واستند إلى طاولة أمامه وقال: رباه! إن ما ألقاه من الانفعال في فعل الخير لم أكن أجد بعضه في صنع الشر، فشتان بين الحالين!

ثم غاص في هواجسه، فاحترمت العصابة سكوته ولم يكلمه أحد.

٢٩

أما ريكولو فإنه انطلق إلى السجن لا يلوي على شيء، وكان كلما افتكر بما أخبره به روكامبول عن الخطر المحدق بأنطوانيت يودُّ لو كان له أجنحة ليطير بها إلى فاندا.

ولما وصل إلى مستشفى السجن أذن له بالدخول، لا سيما وأن امرأته باتت قادرة على الخروج، ولا بد له من أخذها لأن مدة عقابها قد انتهت ولم يؤخرها في السجن غير الولادة.

ولما دخل ريكولو لم يكن في الغرفة غير امرأته وولدها وأنطوانيت وفاندا والراهبة، فجعل يقبل ولده ويؤانس امرأته.

ثم دنا من سرير أنطوانيت وجعل يسألها عن صحتها، ودنا بعد ذلك من سرير فاندا وأشار إليها إشارة خفية ودس رسالة روكامبول تحت مخدتها وعاد إلى امرأته وولده.

وعند ذلك دخل الطبيب فأخبره أن امرأته باتت في حالة من الصحة تستطيع معها الذهاب إلى منزلها.

فشكره ريكولو وأخذ امرأته وولده وذهب بعد أن ودع أنطوانيت، فنظرت إليه فاندا نظرة سرية علم منها أنها قرأت الرسالة، وانصرف مطمئنًّا آمنًا.

وبعد ذهابهم خلا المكان لأنطوانيت وفاندا ومرتون التي كانت تخدمهما، فقالت أنطوانيت لفاندا: ماذا ترين ألعلي أبرأ قريبًا من هذا الداء؟

– اطمئني أيتها العزيزة لأن ساعة الخلاص قد دنت.

– أتبقى هذه اللطخ السوداء على وجهي؟

– إننا ابتلعنا حبوبًا واحدة وأصبنا بداء واحد واسود وجهي كما اسود وجهك فانظري إلى وجهي أترين فيه شيئًا من أثر السواد؟

– كلا ولا بد أن تكون هذه الآثار قد زالت من وجهي، ولكني أشعر بظمأ شديد.

فلما سمعت مرتون ذلك أسرعت إلى إناء وقالت لها: إني ذاهبة إلى الصيدلية لأحضر لك شرابًا. ثم أخذت الإناء وخرجت.

وبعد هنيهة سمعتا صراخًا من الصيدلية، ثم سمعتا صوت مرتون تنادي الطبيب، وبعد ربع ساعة عادت مرتون تحمل الإناء من ذلك الشراب، فسألتها فاندا قبل أن تعطي الشراب لأنطوانيت عن سبب الصراخ في الصيدلية، فقالت لها: إني دخلت إلى الصيدلية لإملاء الإناء فرأيت شيفيوت تصيح وتستغيث، فوضعت الإناء على طاولة الصيدلي وخرجت معه لمناداة الطبيب ثم عُدت وأخذت الإناء ملآن وعدت إليكم.

ثم قدمت الإناء لأنطوانيت ولكن قبل أن تمد يدها إليه انتزعته فاندا ورمت به إلى الأرض، فعجبت أنطوانيت ومرتون من ذلك وقالتا لها: ماذا تفعلين؟

– إني أنقذتك من موت هائل بفضل رئيسنا الذي يحميك.

أما الكتاب الذي أرسله روكامبول إلى فاندا فهو كما يأتي:

إن تيميلون اليد العاملة في اضطهاد أنطوانيت أرسل سمًّا قاتلًا إلى امرأة معكم في السجن تدعى شيفيوت كي تسمم به أنطوانيت، فاحرصي عليها ولا تدعيها تأكل شيئًا ولا تشرب شيئًا، واعملي بما قلته لك قبل دخولك إلى السجن فقد آن الأوان وتمت المعدات.

وكتمت فاندا الرسالة ولكنها لم تتمالك عن الكلام أمام أنطوانيت ومرتون أن شيفيوت وضعت السم في الإناء، فهاجت مرتون هياجًا شديدًا وقالت: لا بد لي من قتل هذه الماكرة.

وهمت بالخروج إليها فأوقفتها فاندا وقالت لها: ارجعي عن قصدك لأن الله لا يرضى الانتقام.

– ولكني أنا أرضاه ولا بد لي من قتلها.

فدنت منها أنطوانيت وقالت لها: إنك حديثة العهد بعيشة الصلاح، فلا تجعلي القتل بدء أعمالك، واغفري لهذه المرأة كما غفرت لها أنا، يغفر لنا الله.

فاضطربت مرتون إذ لا يسعها مخالفة أنطوانيت وقالت لها: إنك تشبهين الملائكة يا سيدتي بصفاء نيتك وطهارة قلبك، ولكني لا أريد قتل هذه الماكرة لمجرد الانتقام بل لحذري من أن تعود إلى تسميمك لأنها لا تقف بجرائمها عند حد ولا بد لها غدًا من العود إلى ما فعلته اليوم.

فقالت لها فاندا: لا تخافي، في الغد يفوت الأوان.

فنظرت إليها مرتون كأنما تسألها بالنظر فقالت لها فاندا: ألم أقل لك حين قدومي إني دخلت السجن بغية إخراج أنطوانيت منه؟

– نعم قلت ذلك وإني متعجبة منه!

– إذن فاعلمي أن أنطوانيت لا تخشى شيئًا في الغد، ولا تبالي بمكائد شيفيوت أيضًا.

– ألعلها تخرج غدًا من السجن؟

– ربما.

فلم تقتنع مرتون بهذه الأقوال وقالت: ربما صدق ظنك ولكن جميع ذلك لا يمنعني عن قتل تلك الخائنة.

– إذا فعلت شيئًا من ذلك نفقد كل أمل بإنقاذ أنطوانيت.

– كيف ذلك؟

– ذلك أنك إذا تخاصمت مع شيفيوت ظهر أمر هذا التسمم فأبعدونا عن أنطوانيت ووضعوها في مكان منعزل للمبالغة بالحرص عليها، وإذا أبعدونا عنها فكيف نستطيع إنقاذها؟

فاقتنعت مرتون بهذا البرهان السديد وقالت: ولكن تلك الأثيمة أتظل آمنة لا تنالها يد الانتقام؟

فاتقدت عينا فاندا بنار حقد كمين وقالت: كلا بل إنها ستعاقب عقابًا هائلًا، ولا يقتصر العقاب عليها بل يشتمل الذين دفعوها إلى الجريمة.

– أحق ما تقولين؟

– أقسم لك بالذي أرسلني إلى هنا أن العقاب سيكون هائلًا شديدًا.

– إذن لا تدعيني أخرج من هذه الغرفة لأني أخشى أن ألتقي بشيفيوت ولا أملك نفسي.

– كلا بل يجب أن تريها وتحدثيها.

– لماذا؟

– ذلك لأن هذه المجرمة إذا بقيت مرتابة بتنفيذ جريمتها عادت إليها بما لديها من الدهاء والحيلة، ولكنها إذا علمت أن أنطوانيت شربت ما في الإناء وثقت من تسميمها وامتنعت عن كيدها.

– وكيف أستطيع أن أخبرها؟

– إنها طريقة بسيطة، وهي أن تعودي بالإناء إلى الصيدلية وتطلبي إلى الصيدلي أن يملأه أيضًا، وتقولي له على مسمع من شيفيوت، إذ لا بد أن تكون باقية فيها، إن أنطوانيت وجدت فائدة بهذا الشراب، فتعلم شيفيوت أنها شربته.

فامتثلت مرتون مكرهة وذهبت بالإناء.

ولما خلت فاندا بأنطوانيت قالت لها: إنك تستطيعين الآن أن تشربي آمنة أولئك الأعداء الذين لا يردعهم ضمير من قتلك.

– ولكني لم أسئ إلى أحد منهم بشيء.

– إنك أسأت إليهم بهذه الثروة التي اختلسوها منك، وإنهم لا يريدون ردها إليك.

– ليحفظوها قدر ما يشاءون ويعيدوا إلي حياتي الماضية لأني كنت أعد نفسي على فقري من أسعد النساء.

– كلا لأن الرئيس يريد أن يرد إليك النقود.

وكانت فاندا قد قصت على أنطوانيت لمحة من سيرة هذا الرئيس المدهشة، فكانت تعجب لهذا الرجل الذي يخافه البعض، ويحبه البعض حب عبادة. وقد اختلفت أسماؤه فدعي جوزيف بيبار والمركيز دي شمري ونمرة ١١٧ والماجور أفاتار، وأنقذ ميلون من السجن. فكانت أنطوانيت تعجب به أشد العجب، لا سيما وأن فاندا قد مثلته لها خير تمثيل، حتى باتت تثق به كثقة فاندا.

وبعد أن ساد السكوت هنيهة بينهما قالت لها أنطوانيت: أصحيح ما قلتيه لمرتون عن خروجي غدًا من السجن؟

– نعم، فموعد إنقاذك قد دنا.

– ولكن كيف نخترق هذه الأبواب المقفلة وتلك الأسوار العالية؟

– بإرادة الرئيس وبثقتك بي وبروكامبول وبميلون فهل لك بنا ثقة؟

– أعندك شك بذلك؟

– اعلمي أنه لا بد لخروجك أن تطيعيني طاعة لا حد لها وتقبلي بما أطلبه إليك وباسمي وباسم روكامبول وباسم ميلون.

– إني مستعدة للطاعة.

– إذا أصغي إلي.

ثم ضمتها إلى صدرها وقبلت جبينها وبسطت لها خطة إنقاذها من السجن كما سيجيء.

أما مرتون فإنها ذهبت إلى الصيدلية تحمل الإناء فارغًا، فبرقت عين شيفيوت لما رأتها، ولما سمعتها تخبر الصيدلي أن أنطوانيت استلذت الشراب ظهرت على وجهها ملامح الفرح الوحشي.

فلم تكترث لها مرتون عملًا بوصية فاندا وحملت إناء الشراب وعادت به إلى أنطوانيت فأخذته منها فاندا، وبعد هنيهة قدمته لأنطوانيت فشربت ما فيه جرعة واحدة.

ولم تمض فترة وجيزة حتى صاحت أنطوانيت صيحة مزعجة منكرة موضعة يدها على قلبها، ثم انطرحت على سريرها لا تعي.

فأسرعت مرتون إليها، ولما رأت أنها لا حراك فيها جعلت تلطم خديها وتصيح قائلة: إنها مسمومة دون شك لأني لم أغسل الإناء.

ثم أتى الطبيب وبعد أن جس نبضها وفحص قلبها، قرر أنها ميتة وأن وفاتها كانت بذلك الداء الهندي.

٣٠

ولنعد الآن إلى تيميلون، فقد تركناه ذاهبًا إلى منزله بأمر روكامبول منفطر القلب وقد برح به اليأس، ولم يطمئن فؤاده لكلام روكامبول، فذهب إلى منزله وأقام فيه إلى الظهر على أحر من الجمر، ثم خرج هائمًا على وجهه لا يعلم أين يستقر حتى بلغ إلى كنيسة. فذكر عندما رآها مصيبته بابنته، وأذكرته تلك المصيبة بخالقه، فجثا أمام بابها يصلي، وهي أول مرة في حياته الأثيمة عرف قلبه الخشوع وذكرت شفتاه اسم الله.

وبعد أن فرغ من صلاته جعل يسير حزينًا مطرقًا، فيطوف شوارع باريس طواف الهائم، حتى أقبل الليل وعضه الجوع، فدخل إلى فندق طعام، وفيما هو داخل سمع باعة الجرائد ينادون — جريدة المساء، حادثة سجن سانت لازار — فهلع فؤاده واشترى نسخة من تلك الجريدة، وقرأ في صفحتها الثانية ما يأتي:

حادثة سجن سانت لازار

حدث في سجن سانت لازار حادثة غريبة، اضطربت لها المسجونات وكادت تفضي إلى الثورة. وهي أن إحدى الفتيات التي قبض عليها البوليس مع عصابة لصوص لاتهامها بسرقة، ماتت في السجن اليوم ميتة غريبة.

وقد ادعت هذه الفتاة حين قُبض عليها أنها من بنات الأشراف وأنها وُجدت بين اللصوص بمكيدة، ثم أثبت التحقيق أنها على غير ما تقول إذ عرف القضاة أمها.

أما هذه الفتاة فقد دخلت إلى السجن منذ خمسة أيام، وفي اليوم التالي لدخولها أصيبت بمرض نادر في أوروبا ولكنه معروف في الهند واليابان، فاسود جلدها وظهرت بثور فوق لسانها، وهو مرض قتال ولكن الأطباء يثبتون أنه لا يعدي.

غير أنه من غرائب الاتفاق أن امرأة أخرى أصيبت في ذلك السجن بالداء نفسه وفي الساعة نفسها التي أصيبت بها الفتاة، فنقلت الاثنتان إلى مستشفى السجن في غرفة واحدة.

وقد كانت المسجونات يحترمن تلك الفتاة احترامًا شديدًا، لجمالها ومكارم أخلاقها وظواهر آدابها ولتشيع فتاة لها تدعى مرتون كانت تغالي أمام المسجونات في مدح صفاتها، ولكنها على إجماع المسجونات على حبها كان لها عدوة لدودة تدعى شيفيوت.

وقد أدخلوا إلى المستشفى مع تلك الفتاة امرأة ولدت فيه، فأصيب طفلها بمرض أشرف فيه على الموت، فأشفقت الفتاة عليه وركعت أمام مهده تصلي، فما أوشكت أن تفرغ من صلاتها حتى نفض الطفل عنه غبار الموت وشفي بأعجوبة من السماء. وانتشرت هذه الحادثة في السجن وأطلق المسجونات على الفتاة لقب قديسة.

وقد كان موتها فجائيًّا إثرَ شراب شربته، فاختلفت الأقوال في سبب موتها، ولكن صديقتها مرتون اتهمت شيفيوت بأنها وضعت لها السم في الشراب لاشتهارها بعدائها، فثارت الفتيات على تلك المجرمة وضربنها ضربًا مبرحًا، فنقلت إلى المستشفى وهي في حالة خطرة ولكنهم يرجون إنقاذها.

وقد علمنا عند طبع الجريدة أن الفتيات لم يرجعن عن ثورتهن إلا حين أذنت لهن إدارة السجن بتقبيل تلك الفتاة المائتة التي يلقبنها بالقديسة وهي ستدفن غدًا، وقد أذن بدفنها دون تشريح بناء على التماس المسجونات وحذرًا من عودتهن إلى الثورة.

وقد اكتتبن جميعهن وجمعن مبلغًا من المال كي يشترى لها به أرض خاصة في المدفن كي لا تدفن في المدافن العمومية. وسنذكر غدًا ما نعلمه من التفاصيل.

ولما انتهى تيميلون من قراءة الجريمة سقطت الجريدة من يده ووهت رجلاه وقال: ويح لي! لقد قتلت ابنتي بيدي وكيف السبيل إلى خلاصها ولكن لا بد لي منه.

وقبل أن يتم كلامه أحس بيد وضعت على كتفه فالتفت ثم رجع منذعرًا؛ لأن هذه اليد كانت يد روكامبول.

أما روكامبول فإنه أخذ يده وسار به إلى منعطف في الشارع، فقال له تيميلون بلهجة القانط المتوسل: رحماك أنقذ ابنتي فلا ذنب لها.

– نعم، سأنقذها إذا كنت تطيعني.

– أواه إني أكون أطوع من بنانك، فمُرْ أطعك في كل ما تريد.

– ألم تجعل لأنطوانيت والدة تدعى مارلوت إثباتًا لجريمتها؟

فأطرق برأسه مستحيًا وقال: نعم.

– إذن، يجب على هذه الأم أن تطلب جثة ابنتها وأصغ إلي الآن لأني أمهلك إلى ظهر غد، فإذا لم تذهب غدًا تلك المرأة التي تدعى مارلوت إلى سجن سانت لازار وتطلب جثة أنطوانيت مدعية أنها ابنتها وتدفنها في مقبرة مونتمارتر بأرض خاصة تختارها أنت حسب إرشادي فإنك لا ترى ابنتك.

فبرقت عينا تيميلون بأشعة الأمل، وقال: سأعمل جميع ذلك في الوقت المعين.

فأعطاه روكامبول ألف فرنك لشراء الأرض الخاصة وقال له: يجب عليك أيضًا أن تدعي أنك عم أنطوانيت فتسير مع أمها في مشهدها، وإذا بلغتم بها المقبرة تضعها في قبر خاص يرشدك إليه ريكولو. ثم تركه وانصرف.

٣١

كان كل ما نشرته تلك الجريدة التي قرأتها تيميلون عن ثورة الفتيات صحيحًا، فإن ثائرهن لم يهدأ حتى وعدهن رئيس السجن بالإذن لهن بتوديعها وعدم تشريح جثتها.

وفي صباح اليوم التالي كانت أنطوانيت مسجاة على سريرها، فجعل المسجونات يدخلن إليها واحدة إثر واحدة، فيقبلن يدها تبركًا لاعتقادهن أنها قديسة حتى فرغن من توديعها، ولم يفضل في الغرفة غير فاندا ومرتون، فكانت مرتون تبكي البكاء الشديد وكانت علائم الحزن والسكينة بادية في وجه فاندا.

ولما خلا بهما المكان قالت لها فاندا: لماذا تبكين هذا البكاء؟

فنظرت إليها مرتون نظرة إنكار وقالت: أترينها مائتة لا حراك فيها ثم تسأليني عن سبب بكائي؟

– ألم تقولي مع القائلات في هذا السجن إن الله صنع أعجوبة على يدها حين إنقاذ الطفل؟

– نعم ولا أزال أعتقد هذا الاعتقاد.

– إذن لماذا تيأسين من رحمة الله ألعله لا يستطيع أعجوبة ثانية؟

فارتعشت مرتون وقالت: ماذا تعنين بهذا القول؟

– أعني به أن الله الذي أنقذ الطفل من الموت لا يصعب عليه أن يرد الحياة إلى أنطوانيت.

– رباه! ماذا أسمع؟! ألعل ذلك من الممكنات؟

– إن الله على كل شيء قدير ولا تقنطي من رحمته.

ورفعت مرتون عينيها إلى السماء وقالت: رباه من يستطيع إنكار سلطانك إذا أنقذتها من الموت.

ثم انقطعت عن البكاء وجعلت تنظر إلى أنطوانيت وتغوص في بحار التأملات.

وبعد حين دخلت الراهبة وقالت لفاندا ومرتون: إن والدة أنطوانيت أتت تطلب جثتها.

فأجفلت مرتون بلهجة الاستنكار: أية أم هذه؟

وحاولت أن تكشف النقاب عن حقيقة تلك الأم الكاذبة لو لم تبادرها فاندا بنظرة سرية ألجمت لسانها عن الكلام، فوقفت حائرة مدهوشة لا تعلم ماذا تقول.

وبعد حين أتت تلك الأم واعترفت أن أنطوانيت ابنتها ووقعت على صك الوفاة.

ثم جاءوا بالتابوت، ولما رأته مرتون اضطربت اضطرابًا شديدًا وقالت لفاندا: أرأيت أنهم سيحملونها أين عجيبة الله؟

– قلت لك لا تيأسي واصبري لأن الله مع الصابرين.

ثم حملوا أنطوانيت إلى الكنيسة، وصُلِّيَ عليها بحضور جميع المسجونات وخرجوا بها.

وكانت مرتون راكعة بجانب فاندا، ولما رأتهم ساروا بها علا نحيبها وقالت: أي رجاء لي بعد وقد حملوها؟

– قلت لك: لا تقنطي من رحمة الله، والآن انظري إلى الذين يحملون النعش ألا ترين بينهم ريكولو؟

– نعم.

– أترينه يبكي أو يظهر عليه شيء من ملامح الكآبة؟

– كلا.

– ذلك لأنه يثق برحمة الله أكثر من ثقتك، فاقتدي به.

وبينما كانت مرتون تنظر إلى النعش ومن حوله صاحت صيحة رعب قائلة: هو ذا تيميلون!

فضغطت فاندا على يدها ضغطًا شديدًا وقالت لها: اسكتي!

فسكتت مرتون وهي لا تعلم شيئًا من هذه الألغاز وتوارى النعش عن الأنظار.

وفي الساعة السابعة من المساء كانت فاندا ومرتون مختبئتين في المستشفى، وعادت مرتون إلى البكاء واليأس فقالت لها فاندا: ما بالك لا تقتدين بي وتثقين وثوقي، ألا ترينني ساكنة آمنة، وأنا إنما أتيت إلى هذا السجن لإنقاذها منه؟

– ولكني أراك لا تزالين سجينة فيه.

– سأبقى فيه ساعتين أيضًا.

– ألعلهم قادمون لإنقاذك؟

– كلا بل سأنقذ نفسي.

ونظرت إليها بانذهال عجيب وقالت: ستنقذين نفسك وكيف ذلك؟

– سوف تعلمين كيف أنقذ نفسي وإذا أنقذتك أيضًا معي أتعدينني بالرجوع عن سيرتك السابقة والسير في مناهج الصلاح.

– إني كنت آليت على نفسي أن أعيش في خدمة أنطوانيت ما حييت، وكنت أرجو أن يغفر لي الله ذنوبي السابقة.

– وإذا ردت إليها الحياة؟

– بالله لا تعيدي علي هذه الأقوال فقد كاد يذهب صوابي.

– ليكن ما تريدين والآن هل تريدين أن تخرجي معي من السجن؟

– كيف لا أريد ولكني لا أعلم كيف تريدين الخروج من هذا السجن؟

– ستعلمين كيف أخرج، قولي لي: ألا تعرفين الطريق المؤدية إلى باب الخفر العام في هذا السجن؟

– أعرفه ولكن الخروج من هذا الباب مستحيل.

– إن كلمة المستحيل لا توجد في قاموس روكامبول.

وعند ذلك سمعتا صوت وقع أقدام فهمست فاندا في أذن مرتون وقالت: هو ذا الراهبة قادمة إلي بالدواء، فمهما سمعت ومهما رأيت احذري أن تقولي كلمة.

وبعد هنيهة دخلت تلك الراهبة ووجدت فاندا مضطجعة في سريرها فسألتها عن صحتها فأنَّتْ وتوجعت وقالت لها بصوت ضعيف: إن لساني يلتهب التهابًا شديدًا.

فقالت لها الراهبة: أريني لسانك.

ثم وضعت المصباح الذي كان بيدها على منضدة صغيرة أمام السرير ودنت منها، ولكنها ما لبثت أن اقتربت منها حتى نفخت فاندا نفخة شديدة أطفأت المصباح وهجمت على الراهبة فضغطت على عنقها بيد من حديد وألقتها فوق السرير وهي تقول: إذا فهت بكلمة خنقتك في الحال.

وكانت هذه الراهبة تشبه فاندا بقوامها ونحولها، وهي على طعنها في السن لم يكن يوجد في وجهها أثر للتجعيد والغضون لم تستطع دفاعًا لضعفها، فما زالت بها فاندا حتى تغلبت عليها وربطت فمها بمنديل كي لا تستطيع الصراخ، وأوثقت رجليها وربطتها إلى السرير ثم جردتها من ثوبها ولبسته فوق ثيابها ووضعت على رأسها القبعة التي كانت تستر معظم وجهها وأخذت المفاتيح التي كانت في جيبها.

وبعد أن فرغت من ذلك قالت لمرتون: سألبسك قريبًا مثل هذا الثوب فاكمني وراء الباب.

وفيما هما كامنتان إذ سمعتا وقع أقدام معاونة تلك الراهبة فنادتها فاندا باسمها مقلدة صوت تلك الراهبة وقالت لها: ائتني بمصباح فقد أطفأ الهواء مصباحي.

ورجعت المعاونة على أعقابها ثم عادت تحمل مصباحًا، ولكنها لم تلبث أن دخلت إلى الغرفة حتى انقضَّت عليها فاندا ومرتون وفعلتا بها ما فعلتاه بالراهبة، فجردتاها من ملابسها وقيدتاها بجانب رفيقتها ولبست مرتون ثيابها.

وعند ذلك قالت لها فاندا: هلمي بنا الآن وسيري أمامي في الطريق المؤدية إلى باب الخفر العام.

فسارت أمامها وتبعتها فاندا فجعلتا تخرجان من دهليز إلى رواق وكل من رآهما من الحراس يحسب أنهما من الراهبات، حتى انتهتا إلى فسحة متسعة تكتنفها أسوار السجن المشرفة على الشارع، فوقفت مرتون وقالت لها: انظري إلى هذا النور الضعيف المنبعث من آخر الفسحة المتسعة، فإن هناك الباب العمومي وهناك فرقة من الحراس يتناوب رجالها السهر ولا يمكن لأحد أن يخرج من بينهم.

– لا بأس فإننا لا ندنو منهم وهم لا يروننا لبعد المسافة واشتداد الظلام.

ثم عادت إلى الباب الذي خرجت منه إلى تلك الفسحة فمشت وهي تعد خطواتها ومرتون تتبعها حتى عدَّت عشرين خطوة ودنت من ذلك الجدار المرتفع وجعلت تبحث بيديها على سطحه حتى عثرت يدها على حبل رفيع متين، فمشت خطوة ثانية فلقيت حبلًا آخر.

وكان في أسفل الحبلين عقدتان ضخمتان، فحلتهما فإذا بهما قد تحولتا إلى زنبيلين من الحرير الدقيق المتين، فأمرت مرتون أن تجلس في إحداهما وجلست هي في الآخر ثم شدت الحبل ثلاث مرات متوالية وصبرت هنيهة، وشدته أيضًا أربع مرات وصعد الزنبيلان في الحال يحملان هاتين الأسيرتين إلى أرض الحرية.

٣٢

ولنعد الآن إلى أجينور دي مورلكيس، فقد تقدم لنا القول أن عمه أرسله إلى الرين عند عمته كي يبعده عن باريس، فاختصم وهو مسافر مع أحد الضباط، فتبارز معه وجرحه الضابط جرحًا خفيفًا قضى عليه بملازمة الفراش أسبوعًا.

وقد عرف القراء أن روكامبول أرسل ميلون إلى الرين كي يعود بأجينور إلى باريس، فذهب ميلون في اليوم الثاني لسفر أجينور.

وكانت القرية التي حدثت فيها تلك المبارزة قرية صغيرة، ومثل هذه المبارزة تحدث بين بارون وضابط تشتهر فيها اشتهارًا عظيمًا حتى تدور على جميع الألسن ويتحدث بها العموم.

ولما وصل ميلون إلى تلك المحطة سمع الناس يتحدثون ويذكرون اسم البارون دي مورليكس ويشرحون المبارزة، فعلم منهم أنه جريح وأنه مقيم في الفندق، فنزل حالًا من القطار وأسرع إلى ذلك الفندق.

وكان أجينور قد رآه مرة حين كان يقفو أثر مركبته مع أنطوانيت، فلما رآه انذهل فقال له ميلون: أعرفتني يا سيدي؟

– كلا، ولكني أذكر أني رأيتك أو رأيت رجلًا يشبهك فماذا تدعى؟

– إني أدعى يا سيدي ميلون.

وظهرت دلائل الفرح على وجه أجينور وقال: إنك ميلون مربي أنطوانيت؟

– أرى من ملامح عينيك أنك تحبها حبًّا أكيدًا.

– أهي التي أرسلتك إلي؟

– كلا، ولكني آت إليك من أجلها فقل بالله أتحبها حقيقة؟

– إني أحبها حبًّا بل أعبدها عبادة.

– وإذا كانت معرضة لخطر؟

– أنطوانيت معرضة لخطر، وأي خطر هذا؟

– خطر الموت يا سيدي.

وكان أجينور لا يزال ضعيفًا مما نزف من دمائه ولكنه حين سمع ميلون يذكر أن حبيبته معرضة لخطر الموت اشتد واضطرب وقال: أتكون أنطوانيت في مثل هذا الموقف وأقيم في فراشي؟ هلم بنا نعود إلى باريس فلا أطيق البقاء دقيقة هنا.

وخرج الاثنان من الفندق توًّا إلى المحطة، فأرسل ميلون إلى روكامبول هذا التلغراف بتوقيع مستعار:

إلى الماجور أفاتار

إننا مسافران إلى شارتر بالقطار نمرة ١٦، فنصل إليها في الساعة الحادية عشرة وأنا أنتظر الجواب في الشارتر كي أعلم أين يجب أن أذهب.

ديراند

ولم يفه ميلون بكلمة عن أنطوانيت في الطريق، ولكنه لما رأى أجينور يلح عليه بالكلام عنها قال له: أتعلم أن أنطوانيت من أسرة عظيمة؟

– نعم.

– وأنهم سرقوا ثروتها؟

– نعم، ولكني سأرد لها الثروة المسروقة.

– إنهم لم يكتفوا بسرقة ثروتها، بل إنهم يريدون سلب شرفها، بل سلب حياتها.

– قل لي بربك من هذا المجرم الأثيم؟

– لا أستطيع أن أبوح بحرف وسيخبرك الرئيس بكل شيء.

– أي رئيس هذا؟

– هو رجل يقدر على إجراء كل ما يريد، وهو الذي أنقذني من السجن وتولى حماية أنطوانيت ولا بد متى اجتمعت به أن تبلغا المراد من إنقاذها.

ولما وصل القطار إلى الشارتر أسرع ميلون إلى إدارة التلغراف فتلقى منها هذا التلغراف:

إلى المسيو ديراند المسافر بالقطار نمرة ١٦ «أنا في انتظارك في محطة باريس.»

أفاتار

وعاد ميلون إلى القطار وسار بهما إلى باريس، وكان أجينور مدة السفر في أشد حالة من الهياج؛ لأنه بات يحب أنطوانيت حبًّا شديدًا مبرحًا.

وقد زاد في غرامه موقف أنطوانيت الخطر وما اعترضه في سبيل حبها من العقبات، حتى بات يود أن يسفك في سبيل إنقاذها آخر نقطة من دمه.

ولما وصل القطار إلى محطة باريس أشار ميلون بيده إلى روكامبول الذي كان ينتظر في المحطة وقال لأجينور: هذا هو الرئيس.

فارتعش أجينور لأنه رأى أمامه الماجور أفاتار، وقد كان تعرف عليه في النادي فإنه من أعضائه.

أما روكامبول فإنه دنا منه وقال له بعد السلام عليه: لا يشغلك الآن أمري ولا تهتم أن تعرف من أنا وماذا أستطيع أن أصنع، فإن الوقت يضيق بي الآن عن إخبارك بحقيقة سيرتي، ولا يسعني أن أهتم إلا بأنطوانيت.

ثم ركب الثلاثة مركبة وقال روكامبول لميلون: أرشد السائق إلى منزلك فإننا ذاهبون إليه.

ولما وصلوا إلى منزل ميلون فتح روكامبول الصندوق الذي خبأته والدة أنطوانيت في القبو وأخرج منه رسائلها التي تفضح أخويها الفيكونت كارل والبارون دي مورليكس وعرضها على أجينور.

ولما أتم أجينور قراءتها تراجع إلى الوراء منذعرًا وسقطت الرسائل من يده لاضطرابه وجعل يقول: أيمكن أن يفعل أبي هذا المنكر؟

٣٣

وكان أجينور يحب أباه حبًّا بالغًا ويحترمه احترامًا شديدًا، فانقضت عليه هذه الرسائل انقضاض الصاعقة ذاتها، وكانت مكتوبة بخط البارونة ميلر، فعلم بعد قراءتها أن أنطوانيت ابنة عمته وأن أباه وعمه قد سرقا ثروتها وأن ذنبهما لم يكن قاصرًا على السرقة، فإن البارونة اعترفت في رسائلها أنها ماتت مسمومة وقد أثبت قولها كتاب بخط الدكتور فانسانت تحصل عليه روكامبول واطلع أجينور عليه.

ولما وقف أجينور على جميع هذه الجرائم ولم يعد لديه شك بآثام عمه وأبيه وقف وقد بدت عليه ملامح الأنفة، فقال لروكامبول: لا أريد الآن أن أعرف من أنت، ويكفيني أن تكون واقفًا على هذه الأسرار الهائلة فأطلعك على قصدي، فاعلم أني سأتزوج أنطوانيت وسأرد لها ثروتها.

فقال روكامبول بسكينة: أظن يا سيدي أن ميلون أخبرك عن اختطاف أنطوانيت.

– اختطاف أنطوانيت؟

– نعم إنها اختطفت ولكننا وقفنا على أثرها.

فكاد أجينور يفقد صوابه وجعل يقول: كيف اختطفت ومن الذي اختطفها؟

فقام روكامبول إلى خزانة فأخرج منها عدة أوراق وعرض على أجينور في البدء كتاب أبيه دي مورليكس إلى أنطوانيت، فقرأه أجينور وقال: إن هذا الكتاب زور وليس الخط خط أبي.

– نعم، ولكنك تذكر أن عمك ودعك في المحطة في الساعة نفسها التي اختطفت فيها أنطوانيت.

فأنَّ أجينور أنين الموجع وقال: نعم، إنه أهل لكل شيء. ثم عرض عليه روكامبول نسخة من صورة الحكم على أنطوانيت، فما قرأها أجينور حتى طاش عقله، فغطى رأسه بيديه وقال: أمثل أنطوانيت تزج في السجن؟!

– إنهم ألقوها فيه مع السارقات الآثمات دون أن يردعهم رادع من ضمائرهم الأثيمة.

ثم عرض عليه رسالة تضمنت اعتراف تيميلون بجميع المكيدة اعترافًا تامًّا مفصلًا، فكانت النكبات تتوالى على فؤاد أجينور، وكأنما تواليها قد أعاد إليه رشده وهاله ثبوت الجرائم على عمه وأبيه ثبوتًا لا ينقض، فوثب من مكانه إلى الباب وقال: إني لا أقيم دقيقة في هذا المكان.

غير أن روكامبول أسرع فقبض عليه وقال له: إلى أين أنت ذاهب؟

– إلى سجن لازار.

– وماذا تصنع بهذا السجن؟

– إن أبوابه تفتح أمامي ومديره يسمع كلامي، والكنيسة تفتح أبوابها لي وتحتفل بعقد زواجي على أنطوانيت؛ إذ لا بد لي من إرضائها ترضية تناسب ما أصابها من الإهانة، بل أريد أن يعرف العالم بأسره أن البارون دي مورليكس تزوج امرأته في سانت لازار.

فابتسم روكامبول وقال: يسرني أن تبلغ منك الشهامة هذا الحد، غير أن مثل هذه الأفعال التي تريد الإقدام عليها لا تجري إلا في الروايات، ولو تأملت هنيهة لعلمت أن ذهابك إلى سجن سانت لازار يجعل بينك وبين أنطوانيت هوة عميقة، وأن الاصطلاحات العالمية لا تؤذن لك بالزواج بأنطوانيت حين ترسل بسببها أباك إلى المشنقة.

فانجلت الحقيقة بتمامها لأجينور وأدرك كنه موقفه الحرج وتجلت له تلك المشنقة كأنما هي ماثلة أمامه، فأدار في جوانب الغرفة نظرًا هائمًا وقد تولاه اليأس، فرأى على طاولة مسدس روكامبول فأسرع إليه واختطفه، غير أن روكامبول كان أسرع في تجريده منه، فقال له: دعني أموت فلم يبق لي خير في الحياة بعد هذه المصائب.

– وأنطوانيت؟

فعاد أجينور إلى رشده حين ذكر اسمها وقال: رباه ماذا يجب أن أصنع؟

– يجب أن تصبر كي تقوى على قراءة كل شيء. ثم أطلعه على تلك الرسالة التي كتبها الفيكونت كارل إلى تيميلون، وهي التي قال له فيها: «يجب أن تموت أنطوانيت ابنة أختي في هذا المساء وإذا احتجت فاستعمل الخنجر أو السم.»

فضرب أجينور رأسه بيده ضربة شديدة وقال: أماتت أنطوانيت؟

– لا أعلم إذا كان السم قد وصل إلى السجن، إنما أرجوك أن تتبعني.

– إلى أين تريد أن أتبعك؟

– حيث ترى أنطوانيت.

– أرأيت إذن كيف يجب أن نذهب إلى سجن سانت لازار؟

– كلا إنها ليست بهذا السجن.

– إذن أين هي؟

– هلم معي تعلم.

ثم أخذه بيده ومسك ميلون بيده الأخرى وسارا لأنهما رأيا أن قواه قد تلاشت بحيث لم يعد يستطيع أن يمشي وحده.

وكان روكامبول قد أخذ مسدسيه من قبيل الاحتياط فوضعهما في جيبه وركب المركبة مع أجينور وميلون وقال للسائق: سر بنا إلى شارع مونتمارتر. وسارت بهم المركبة سيرًا حثيثًا حتى بلغت إلى منزل ريكولو، وهو المنزل الذي كبسته الجنود حين تفتيشها على روكامبول وعصابته، فنزل الجميع منها يتقدمهم روكامبول وطرق الباب، ففتح له ريكولو فدخل وتبعه أجينور وميلون.

وكان يوجد في المنزل حين دخولهم ثلاث نساء، وهن: فاندا الروسية، ومرتون وامرأة ريكولو، وكان باب الغرفة الثانية مقفلًا فجعل أجينور ينظر إلى أولئك النساء دون اكتراث ثم قال لروكامبول: أين أنطوانيت؟

– إنها قريبة من هنا.

– إنك لا تجسر أن تقول لي الحقيقة فإنها ماتت.

فلم يجبه روكامبول ولكنه ذهب إلى طاولة فأخذ عنها تلك الجريدة التي نشرت وفاة أنطوانيت في السجن وأطلعه عليها.

ولما تلا أجينور تلك المقالة لم يعد يشكك بموت أنطوانيت فخابت أمانيه واختل عقله، فجعل يتوسل إلى روكامبول ويسأله أن يعطيه مسدسه كي ينتحر.

فقال له روكامبول: مهلًا أيها الصديق فإن هذه الجريدة تدل على أن أنطوانيت ماتت وأن جثتها قد نقلت إلى مقبرة مونتمارتر التي لا يفصل بيننا وبينها غير حائط هذه الغرفة، إلا أنها لم تدفن بعد، بل إنها وضعت في قبو مؤقتًا إلى أن يتم بناء القبر الخاص، أفلا تريد أن تنظر التي تحبها نظرة الوداع؟

– نعم، نعم! أريد أن أودعها هذا الوداع، بل أودع نفسي على ذاك الضريح!

فأخذه روكامبول بيده وقال له: تعال معي.

ثم أشار إشارة خفية إلى ميلون وريكولو.

وسار روكامبول بأجينور إلى خارج المنزل فتبعه أجينور وهو واهي العزيمة منحط القوى، وميلون يمشي في أثرهما مطرق الرأس، وهو يخشى على أنطوانيت بقدر ما يثق بروكامبول.

وما زالوا سائرين حتى بلغوال إلى جدار متهدم في مقبرة مونتمارتر فولجوا منه يسترهم ظلام الليل، وكان يقودهم ريكولو في تلك الظلمات الحالكة ويسير بهم في دهاليز المقبرة بين الأموات، وكانت الدموع تنهل على وجه أجينور كما كان يتساقط المطر على سائر العصابة.

وما زالوا يسيرون حتى وصلوا إلى قبة مرتفعة تفصل المقبرة القديمة عن الجديدة، فقال أجينور لروكامبول: ألا تعطيني مسدسك حين نصل إليها؟

فقال روكامبول: لا شك أنك جننت وأن الحزن الشديد يدفعك إلى هذه الأقوال؟

– لا أنكر حزني وبأسي، وكنت أود لو ذهب صوابي غير أن عقلي لا يزال سليمًا لنكد طالعي.

– إن موت أنطوانيت خير لك ولها، وهو خير لها دون شك فإنها إذا عاشت تعيش ملطخة بذلك العار الذي وصمها به أبوك وعمك.

– إبي، نعم إن أبي الذي قتلها.

– كلا، فإن أباك ضعيف الإرادة وهو لم يرتكب تلك الجريمة إلا حين دفعه إليها عمك.

– لقد أصبت فإنه من أعظم رجال الكيد والشر، خلافًا لأبي فقد انطوى قلبه على السلام.

– ثم إنه لو عاشت أنطوانيت لوجب علي وعلى ميلون حمايتها ورد ثروتها والانتقام من أعدائها.

فصاح أجينور صيحة يأس وقال: أنا الذي سينتقم لها.

– أتنتقم لها من أبيك؟

– كلا، فإنك أنت نفسك تعترف معي أن أبي رجل ضعيف شريف، ولكني أنتقم من عمي فليس بين الشرائع الاصطلاحية ما يمنع القتال بين الرجل وابن أخيه، وسأقتل هذا العم الماكر بالسيف أو بالمسدس، إذ لا بد لي من قتله.

وفيما هم يتحدثون ويسيرون وقف ريكولو وقال: قد وصلنا.

فنظر روكامبول وأجينور وميلون فوجدوا أمامهم حفرة عميقة، وهي أشبه بهوة عميقة، فأنار ريكولو شمعة، فظهر لهم سلم ينزل بها إلى تلك الهوة فنزل أمامهم قائلًا لهم: اتبعوني.

ولما رأى ميلون تلك الحفرة جعل ينتحب ويقول: وا أسفاه إنها مائتة حقيقة.

فانتهره روكامبول وقال له: أعن البارون في النزول.

ثم نزل أمامهما في أثر ريكولو، وتبعه ميلون وهو يحمل أجينور كما يحملون الأطفال، حتى إذا بلغوا إلى أسفل الحفرة سار بهم ريكولو في منعطف انتهوا منه إلى سرداب طويل، كان على يمينه وعلى يساره كثير من التوابيت.

وكانت هذه الحفرة خاصة بالأموات الذين يوضعون فيها مؤقتًا إلى أن تبنى لهم المدافن الخاصة، وكان روكامبول عابس الوجه مقطب الحاجبين، وريكولو يبحث بشمعته عن نعش أنطوانيت حتى انتهى إلى نعش أبيض وقال: هذا هو.

فأفلت أجينور عند ذلك من ميلون وأسرع إلى ذلك النعش وفتحه وجعل ينادي: أنطوانيت، أنطوانيت، أنت امرأتي أمام الله أهناك ألقاك.

واختنق صوته وتفجرت الدموع من عينيه وعض كفيه من اليأس، ثم نظر إلى روكامبول وقال له: بالله أشفق علي واقتلني، أو دعني أموت بجانبها.

ولم يجبه روكامبول وأشار إلى ميلون بإبعاده عن النعش، فأبعده مكرهًا وهو لا يقِل اضطرابًا عن أجينور.

ثم أشار إشارة ثانية إلى ريكولو فدنا من النعش وكشف عنه الكفن، فظهرت من تحته أنطوانيت بملابس المسجونات في سجن سانت لازار.

فصاح أجينور صيحة مزعجة حين رأى وجهها ولكنه ما لبث أن تفرس فيه حتى قال: إن هيئتها لا تدل على الموت ومن يراها على هذه الحالة يحسب أنها نائمة.

وعند ذلك دنا منه روكامبول وأبعده عن النعش ونظر إليه النظرات التي تتكهرب لها الأجسام والتي بها دعي رئيسًا وقال له: وإذا صدق قولك ولم تكن أنطوانيت قد ماتت حقيقة؟

فاضطرب أجينور وقال: إنك ستذهب بصوابي.

– لا بأس وسأعيد عليك السؤال فأقول إذا كانت أنطوانيت لم تمت حقيقة وكان موتها الظاهر رقادًا بفعل شراب مخدر فماذا تصنع؟

– أتسألني ماذا أصنع، إني أتزوجها.

– وثروتها؟

– يجب أن ترد إليها.

– أتنتقم لأمها المقتولة؟

فصاح أجينور بصوت مختنق متهدج: ويلاه أأنتقم من أبي؟

– إن أنطوانيت قد تعفو عن أبيك.

– إذن سأقتل عمي.

– كلا، لست أنت الذي يتولى قتله.

– إذا لم أكن أنا قاتله فمن يقتله؟

– أنا.

– أواه أن جميع ما تقوله أحلام، فإن أنطوانيت مائتة.

ثم ركع قرب نعشها وعاد إلى البكاء.

– نعم إن الجرائد ودفاتر السجن سجلت وفاة تلك الفتاة التي تدعى أنطوانيت ابنة مرلوت، ولكن أنطوانيت دي ميلر ابنة عمك.

– تمم حديثك.

– إن أنطوانيت دي ميلر يمكنها الخروج من هذا النعش وهي تستطيع أن تفتح عينيها وتعيش وتضع يدها بيدك إذا كنت أريد.

فانصب العرق البارد من جبين ميلون، وسمعت دقات قلب ريكولو، وقال أجينور: وماذا يمنعك عن أن تريد؟

– لا أمتنع عن ذلك إلا إذا كنت تقاومني.

– كيف أقاومك وماذا تريد مني؟

– أريد بأن تقسم لي بشرفك أمام هذا النعش أنك تطيعني طاعة لا حد لها مهما طلبت إليك ومهما رأيت مني.

– أقسم لك بشرفي وبكل عزيز على الأرض ومقدس في السماء أني أكون لك أطوع من العبيد ما حييت إذا كنت ترد لي أنطوانيت.

– إذن سأردها لك ولكن ليس في هذا المكان، إذ لا يجمل أن تفيق فتجد نفسها بين الأموات.

ثم أمر ميلون أن يخرج أنطوانيت من النعش ويحملها، وأمر ريكولو أن يسير أمامهم، فتقدم ريكولو أمامهم بذلك السرداب الطويل المؤدي إلى منزل ريكولو، وتبعه ميلون يحمل أنطوانيت، وسار في أثرهما روكامبول وهو يتأبط ذراع أجينور، حتى بلغوا المنزل فوضعوا أنطوانيت على سرير امرأة ريكولو.

وأخذ روكامبول بيد أجينور وقال له: أصغ إلي الآن، لقد كان في وسعي أن أخرج أنطوانيت حية من السجن كما أخرجت فاندا ومرتون، وهما هاتان المرأتان اللتان تراهما أمامك، ولكني لم أرد ذلك إذ لا يجب أن يشك أحد بأن الفتاة التي ستغدو امرأتك كانت في السجن مع السارقات وبنات الهوى، ثم إنه لا أحب أن يستطيع هذا الخائن مطاردتها، وأريد به عمك الذي دنس اسم عائلتكم الشريف، والذي ستنكره دون شك، بل إني أريد أن لا يبقى لديه شيء من الشك بوفاتها وأنها ماتت في سجن سانت لازار.

وقال أجينور: نعم، لقد أصبت ولكنك لا تزال تطمعني بحياتها وهي لا تزال دون حراك.

– إني سأرد لها الحياة.

فساد السكون بين الحاضرين حتى كادت تسمع دقات قلوبهم، وانقطعت مرتون عن البكاء وبرقت عيناها بأشعة الأمل.

أما روكامبول فإنه نظر إلى أجينور وقال: أصغ إلي إني لست طبيبًا ولا عالمًا، ولا دجالًا ولا ساحرًا، وإن حالة أنطوانيت الآن حالة من نام بتأثير مخدر.

وقد عرفت فيما مضى من أيامي طبيبًا هنديًّا يشتغل أشغالًا خاصة بالسموم، وكان لي معه مودة وصحبة، فتعلمت منه طرق التخدير وأخذت منه مخدرًا يجعل من يشربه على ما هي عليه أنطوانيت الآن.

وقد ابتلعت أنطوانيت حبة من هذا المخدر لا يزيد حجمها على حجم رأس الدبوس فسكنت دقات قلبها في الحال ووقفت دورتها الدموية، وبردت جثتها واصفرت بشرتها، حتى لم يعد يشك من يراها بأنها من الأموات، كما تراها الآن.

فصاح ميلون: بربك يا سيدي أسرع ورد إليها حياتها، فقَدْ فُقِدَ منا الصبر.

– اصبر إلى أن أتم حديثي.

ثم عاد إلى أجينور وقال: إن هذا المخدر الذي يميت هذا الموت الظاهري بمدة عشر ثوان لا يميت الموت الحقيقي إلا إذا مضى زمن طويل على شاربه، فإذا أُسقي ضده شُفي في الحال ورُدت إليه الحياة.

ثم أخرج من جيبه زجاجة صغيرة ومبضعًا، وكان في الزجاجة سائل أبيض، وقال: إن هذا السائل هو ترياق ذلك السم، وسأغمس به رأس هذا المبضع وأوخز ذراع الصبية، فتختلج على الفور ويعود قلبها إلى الاشتغال، ثم لا يمضي عليها دقيقة حتى تفتح عينيها وتعود إلى ما كانت عليه من العافية.

فصاح ميلون: أسرع يا مولاي.

والتف الجميع حول السرير ودنا روكامبول من الفتاة فشمر عن ذراعها ثم فض ختم الزجاجة وغمس المشراط بسائلها، وبحث عن عرق تجري به الدماء أكثر من سواه، فوخز العرق بالمشراط وجعل ينتظر.

وبعد دقيقة مرت بأولئك الصابرين مرورًا لم تتحرك أنطوانيت؛ فاصفر وجه روكامبول، ودق ميلون يدًا بيد وهو يقول: إنها لم تتحرك وقد قضي عليها.

وقال أجينور بلهجة الحزن الشديد: ألعلها ماتت؟

فاضطرب روكامبول اضطرابًا شديدًا وقال: رباه ألعلي انتظرت أكثر من المدة اللازمة؟

ثم جحظت عيناه وبدت على وجهه علائم اليأس.

وظل ينتظر ثلاث دقائق، فكان ريكولو ممسكًا بأجينور وميلون جاثيًا أمام أنطوانيت يبكي بدموع غزيرة ويقول بصوت مختنق: ماتت وا أسفاه.

وكان أجينور يرثيها بأشجى العبارات وقد حاول الإفلات من ريكولو والدنو منها.

فأوقفه روكامبول وعاود تجربته الأولى ولكنه وخز في هذه المرة ذراعها الأيمن، فعاد إلى الحضور بعض الأمل وجعلوا ينتظرون، فكانوا كلهم ينظرون إلى أنطوانيت ما خلا فاندا فإنها كانت تنظر إلى روكامبول تستطلع الحقيقة من عينيه.

ومضت دقيقة أيضًا وأنطوانيت لا تزال في غيبوبة الموت.

ولما رأى روكامبول أنه أخفق في سعيه أخذ من جيبه مسدسًا فأعطاه لأجينور وقال له: إني أسألك مهلة دقيقتين أيضًا فأجرب تجربة ثالثة فإذا لم تر بعدُ آثار الحياة تبدو على خطيبتك تكون قد ماتت موتًا لا ريب فيه، وعند ذلك فإني أتوسل إليك أن تقتلني قبل أن تقتل نفسك.

فأخذ أجينور المسدس دون أن يجيب حتى إن ميلون نفسه الذي كان يعبد روكامبول عبادة لم ينتزع المسدس منه.

ودنا روكامبول من أنطوانيت فكشف عن صدرها ووخزها مرة ثالثة ثم وضع إحدى يديه على قلبها وحمل باليد الثانية ساعته وجعل ينظر عقربها؛ فإن حياته كانت موقوفة على نجاح التجربة، أما فاندا فكانت لا تزال ناظرة إليه.

ورفع روكامبول يده عن قلب أنطوانيت ووضع أذنه عليه ثم رفع رأسه فجأة وصاح صيحة المنتصر: لقد ردت إليها الحياة فإني سمعت بأذني دقات قلبها.

وحدث عند ذلك ما يصعب وصفه من تأثر الحاضرين، فأخذ روكامبول أجينور وأدناه من أنطوانيت فوضع أذنه على صدرها وقال: وأنا أسمع أيضًا دقات قلبها.

ثم أقبلت بعده فاندا ومرتون وميلون وكل من حضر، وسمعوا جميعهم ما سمعه روكامبول فكان فرحهم لا يحيط به وصف.

ثم تراجعوا عنها وفتحوا النافذة التماسًا للهواء، فقال لهم روكامبول: لقد زال عنها الآن كل خطر، ولكن المخدر قد أثر بجسمها اللطيف تأثيرًا شديدًا فلو تأخرت ساعة عن إيقاظها لقضي عليها ولم ينفع الدواء، أما الآن فإن يقظتها لا ريب فيها.

فقال له أجينور: متى تفتح عينيها؟

– بعد ربع ساعة على الأقل، والآن فلا يجب أن نبقى هنا فلنخرج جميعنا ما عدا النساء.

ثم خرج أمامهم فتبعه الجميع، فلما توغلوا في الشارع لقي روكامبول تيميلون قادمًا إلى منزل العصابة فدعاه باسمه، وسمع أجينور هذا الاسم فقال: أهذا الذي كان يساعد عمي في أغراضه السافلة؟

– نعم، ولكني سحقته.

ودنا تيميلون من روكامبول وقال له بصوت يضطرب: لقد وفيت بوعدي يا حضرة الرئيس ألا تفي أنت بوعدك؟

– نعم فاذهب غدًا في الساعة السادسة صباحًا إلى المحطة تجد فيها جواني الجلاد.

– أهو يرشدني عن ابنتي؟

– كلا بل إنها ستكون معه وهو سيعطيك تذكرة سفر إلى لندرا لأنك ستسافر إليها.

– أتنفيني من باريس؟

– كلا ولكني أنصحك أن تنفي نفسك فإن البوليس يبحث عنك، وإذا بقيت في باريس إلى مساء غد قبض عليك.

– بأي تهمة يتهموني؟

– بسرقة مائة ألف فرنك من منزل الفيكونت كارل دي مورليكس، وهي التهمة التي كنت تريد أن تصمنا بها فقد كنت أشد منك دهاء، وأنا أنصحك الآن أن تهرب؛ فإن لدى البوليس برهانًا لا يدحض على أنك أنت السارق.

– أين وجد هذا البرهان؟

– وجد في منزلك، فإن تلك المحفظة المكتوب عليها اسم كارل التي وضعتها في منزل ريكولو كي تثبت علينا التهمة أخذتُها أنا ووضعتها في منزلك وأرشدت البوليس إليها فكبس البوليس منزلك وأخذ المحفظة.

فلما سمع تيميلون هذا البرهان الصريح صاح صيحة منكرة وهرب مُتَعَوِّذًا من مكر روكامبول.

•••

وبعد ساعة عاد روكامبول وأجينور وميلون وريكولو إلى المنزل فأقاموا خارج الغرفة ينتظرون أن تصحو أنطوانيت.

فلم يطل وقوفهم حتى خرجت إليهم مرتون تقول بصوت يتهدج من الفرح: ادخلوا، ادخلوا فقد صحت من رقادها.

فدخلوا يتقدمهم أجينور وحاول أن يدنو من أنطوانيت فمنعته فاندا وأجلسته على كرسي بأمر روكامبول، وعند ذلك حركت أنطوانيت ذراعها وتمتمت شفتاها كلمات لا تفهم، فأسرع جميع الحاضرين إليها، فما مر بها دقيقة حتى جعلت تفسر كلامها وكان أول ما فاهت به قولها: أين أنا أفي الفردوس؟

فصاح ميلون يقول بملء الفرح: إني أسمع صوت أمها فهو هو بعينه.

وركع أجينور أمامها وجعل يقبل يديها ودموع السرور تسقط من عينيه عليها.

وعادت إلى قولها: أين أنا؟ أين أنا؟

ولكن عينيها كانتا مغلقتين فلم تستطع فتحهما.

وعادت إلى الكلام وقالت: نعم. نعم.

لقد ذكرت أني مائتة ولكني طاهرة لم أرتكب أثمًا فلا بد أن أكون الآن في السماء.

وجعل أجينور يناديها باسمها ويتلو عليها أعذب الألفاظ.

ففتحت عينيها فجأة ونظرت إلى أجينور أمامها فارتعدت وقالت: أهذا أنت؟

– نعم أيتها الحبيبة، فإن الفردوس هبط إلى الأرض.

فقال روكامبول: كلا بل إنَّ الفردوس هو الحب الشريف.

ثم تراجع جميعهم عن العاشقين ولم تكن أنطوانيت تسمع غير حديث حبيبها أجينور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤