برنارد شو

قلما يتاح لأديب أن ينال من الذكر بين العامة والخاصة مثل ما ناله «برنارد شو»، فإن قراء الصحف الذين لم يعتادوا قراءة كتاب في الأدب يعرفون اسمه ويحبونه، بينما هم يجهلون «كبلنج» أو «روسكين» أو «ولز». وليس هذا بين الجمهور الإنجليزي فقط بل بين سائر الجماهير القارئة في العالم المتمدن. وبعض هذا يرجع إلى أنه عاش إلى الآن (١٩٤٨) أكثر من تسعين سنة على هذا الكوكب. وهو في رحلته الطويلة عبر القرنين التاسع عشر والعشرين قد اختبر كثيرًا وأصبحت الأجيال تورثه أبناءها كأنه كنز وطني.

وذلك لأن «برنارد شو» يمزج فلسفته بالفكاهة، فالأولى للخاصة والثانية للعامة. وهو في فكاهته يسمو على التهريج، فإذا أراد أن يُضحِك لم يدهن وجهه بالدقيق ويهرج لك تهريج البُلْه والمجانين، بل هو يتأنق في إعمال الفكرة، وينظر إلى ما وراء الظواهر فيزيل عن الوقار هيبته، وينضو عن العُرف ثوبه، ويقف بك حيال الحقائق العارية. ولكن لما كان مثل هذا الموقف يؤلم؛ لأنه يحرمنا من أوهامنا المحبوبة؛ فإنه لذلك يخفِّف من هذا الألم بالفكاهة. وفكاهاته هي تشنجات الحكمة التي قد يضحك منها العامي. ولكن الرجل المثقف يقف عندها متأملًا مفكرًا، وأحيانًا متألمًا. ويمتاز «برنارد شو» بذهن قلق نشيط، يشع ضياء على كل ما يمسه كأنه جسم مفصفر يتألق. وهو ينعت نفسه بأنه «ثائر»، وهو كذلك في المعنى السامي للثورات؛ ذلك لأن لكلمة «الثورة» في الأذهان معنى الحركة التشنجية والمفاجأة المنظرية. ولكن «برنارد شو» يقول إن هذه المظاهر برهان الفشل في الثورة؛ لأن الثورات يجب أن تتسلل إلى المجتمع وتتخلله حتى يتغير في سلم وهدوء، فإذا لم تنجح في التسلل والتخلل فإنها تنفجر.

ويختلف «برنارد شو» من المنحطين اختلاف النقيض للنقيض. إذ بينما هم يؤمنون باللذة ويدعون إلى الاستمتاع، يدعو هو إلى النسك والزهد. ولا يعرف من اللذات غير اللذات الذهنية، فهو يتهالك على الصورة الفنية وينغمس في درسها، أو يتهالك على الموسيقى ويرضى بتكبد المشاق لاستماع أحد الموسيقيين أو رؤية أحد الراقصين. ولكنه يصد صدودًا مستغربًا عن اللذة الجنسية. وقد عشق الممثلة الجميلة «إلين تري» فكان يراها وهي تمثل على المسرح ثم يتجنبها فلا يلتقيان ولا يتواعدان، ولكنهما يقنعان بالمكاتبة.

وقد علَّل أحد النقاد هذا الزهد الجنسي بتعاليل مختلفة، منها زهده في طعام اللحم وشراب الخمر. ولكن أصح من هذا التعليل أن يقال إن زهده للنساء واللحم والخمر يعود إلى منبع واحد في نفسه هو هذا المزاج الطهري الذي تجد له أمثلة عدة في إنجلترا، وهو ثمرة الدعاية الطهرية التي فشت في تلك البلاد منذ أيام «كرومويل» وجحدت حتى اللذات الفنية.

وقد سبق أن قلنا إن «كبلنج» يجعل من الفن أداة للخدمة الإمبراطورية والاستعمار. و«برنارد شو» يشبهه من حيث استعمال الفن أداة، ولكنه يخدم بهذه الأداة «الإصلاح الاجتماعي». وهو قبل كل شيء يدعو إلى الاشتراكية العلمية. ولا يبالي إنفاق وقته وماله في تحقيق هذه الاشتراكية. وعواطفه شعبية، ينحاز إلى الضعيف والمظلوم والفقير. وقد تبرع بمبلغ ثلاثين ألف جنيه لبناء منازل للعمال.

ومن يتأمل مؤلفاته وحياته يجده عاش، وما زال يعيش، في ضوء «داروين» و«ماركس». وليس هذا غريبًا، فإن حياته الذهنية تقع بين ١٨٨٠ و١٩٤٨. وفي النصف الأول من هذه المدة كان التطور مثار المناقشة وموضوع المجلات والكتب. أما النصف الثاني فموضوعه الكفاح الذي لم ينته بعدُ بين الاشتراكية التعاونية وبين الانفرادية التزاحمية.

figure
برنارد شو.

وقد نشأ «برنارد شو» في أيرلندا من أبوين بروتستانتيين. وكانت أمه تجيد العزف على البيانو، وكان أبوه سكيرًا مستهترًا. ورحلت به أمه إلى إنجلترا، وكان «برنارد شو» لا يخجل وهو شاب من أن يعيش بما تتكسبه هي من الموسيقى. وقد استطاع بفضل هذه الأم أن يتوفر على القراءة والدراسة.

وكانت الاشتراكية حوالي ١٨٨٠ بدعة تجذب إليها الشبان لكثرة نظريتها وشكوكها واختلاط المذاهب بين القائمين بها، فجذبته إليها، وكان هو أحد المؤسسين للجمعية الفابية التي أخذت على نفسها تغذية الجمهور الإنجليزي بالمؤلفات الاشتراكية.

والقارئ ﻟ «برنارد شو» لا يسعه إلا أن يعترف بأنه اكتسب شيئًا كثيرًا من المفكرين والأدباء الأجانب، فهو متدين غير سني يؤمن فيما يتعلق بما وراء المحسوس ﺑ «برجسون» و«شوبنهور». وقد أخذ عن «إبسن» دراما «الموضوع» أو المسألة. كما أخذ شيئًا كثيرًا عن «نيتشه» في الأخلاق. هو يؤمن بالتطور ولكن ليس عن طريق «داروين» بل عن طريق «لامارك» أما اشتراكيته فكانت، وما تزال، اشتراكية «ماركس» العلمية.

أما الكتَّاب الإنجليز الذين تأثر بهم فكثيرون، منهم «روسكين» و«صموئيل بطلر» و«دكنز» و«داروين».

وهو في أسلوبه وغايته أقرب في الشبه إلى العلماء مثل «برتراند روسل» أو «هلفاوك أليس» منه إلى الأدباء مثل «رديارد كبلنج» أو «أرنولد بينت». فإن عبارته تمتاز بالدقة، وتخلو خلوًّا من التزويق أو الرشاقة. وأكاد أتوهم من مؤلفات «برنارد شو» أنه رائد لسلالة جديدة من الأدباء هي تلك التي تؤمن بالعلم، وتقلع عن الأدب كأنه من الوسائل العتيقة التي مضى زمانها. وهو يكره الأساليب المعبَّدة والأفكار المعبدة، ولا يبالي الفن الدرامي كثيرًا. وقلما نجد في دراماته ذلك التوتر المسرحي الذي يعلق أنفاسنا؛ لأنه إنما يعني بالمناقشة الذهنية الحريفة بل المشوطة.

والآن ما هي المهمة التي أداها «برنارد شو» لبني عصره؟
  • (١)

    أنه جعل الدرامة اجتماعية، فوصل بين المسرح والحياة، وجعل منه مدرسة للكبار يرون فيها معضلاتهم الاجتماعية.

  • (٢)

    أنه أزال من المسرح تلك المكانة التي كانت للغرام والحب، والخيال الفاسد. كما أنه قضى، أو كاد يقضي، على أساليب التهريج المسرحي من إيجاد مواقف دموية، ومصادمات عنيفة، تستثير الجمهور ولا تفيده، كتلك المواقف التي لا تزال حية في مسرحنا بفضل العاجزين السائدين في التمثيل من مؤلفين وممثلين.

  • (٣)

    أنه جعل الفكاهة وسيلة إلى درس الفلسفة.

  • (٤)

    أنه أفشى في العالم الإنجليزي روحًا إنسانيًّا يكره الاستعمار، واستغلال الأمم الصغيرة، وتشريح الحيوان الحي، وضرب التلاميذ، وقتل الحيوان للطعام.

  • (٥)

    أنه جعل التطور مادة من مواد البرنامج الاجتماعي لإصلاح البشر. ورفع القيم البشرية فوق القيم الاجتماعية في معنى الرقي والتقدم.

  • (٦)

    أنه أثبت في أذهان الطبقة القارئة المستنيرة أن التقاليد والأخلاق عادات وعُرْف، لا أكثر ولا أقل. وأنها بعيدة لهذا عن أية قداسة تحول دون تغييرها.

هذه خلاصة مقتضبة. ولكن على القارئ المصري أن يذكر أن «برنارد شو» رجل غربي، يؤمن بأوروبا، ولا يؤمن أقل الإيمان بآسيا. بل هو إلى حدٍّ ما يؤمن بالسلالات الأوروبية، وأنها زبدة البشر. وقد عطف على بعض المبادئ الفاشية لاتجاهها البيولوجي وأنها تعمل لتطور النوع البشري بتعقيم الناقصين.

وبكلمة أخرى نقول إنه أبعد الناس عن «غاندي»؛ لأن هذا يكره الآلات وما جرَّته من مظاهر الحضارة العصرية، ويدعو إلى العودة إلى سذاجة الإنتاج اليدوي، والمعيشة القروية. ولكن «برنارد شو» يؤمن بالآلات والحضارة العصرية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤