اثنان من الرواد

ليس من الممكن أن نذكر جميع الأدباء الذين ساهموا في حركة التجديد الإنجليزي. وكل ما نستطيعه أن نذكر الأعيان. وقد يكون في الترجمة المفصلة المسهبة لواحد من هؤلاء الأعيان ما يبصر القارئ بالنزعات التجديدية، ويقفه على أسبابها، أكثر مما يكون في إيراد التراجم المختصرة، وسرد الأسماء والمؤلفات.

ولكن الاقتصار على ترجمة أو ترجمتين، مع ما فيه من الفائدة إذا عمدنا إلى الإسهاب والاستيفاء، لا بد أن يرافقه نقص في الإحاطة بجملة المجددين. وهو نقص نضطر إليه على سبيل التضحية.

فلا بد ونحن نذكر الحركة التجديدية أن نهمل «دكنز» و«سونبرن» و«أوسكار وايلد» وأمثالهم من رجال العصر الفكتوري الذين ساهموا بالقليل أو الكثير في الحركة التجديدية. والشعور بالتضحية يشتد هنا عند ذكر «دكنز»، فإن هذا الكاتب العظيم استجاب للوسط الصناعي الجديد بقصته «أيام الشدة». وحسبك أن تقرأ هذا الوصف للبلدة الصناعية «كوكتاون» كي تعرف مقامه في ميدان الإصلاح الاجتماعي، وكيف أنه استطاع أن يجعل أدبه وسيلة للخدمة الإنسانية، قال:

كانت بلدة كوكتاون قد بُنيت من الآجر الأحمر، أو من الآجر الذي كان يكون أحمر لولا طبقة الدخان والرماد التي تكسوه. ولكن كوكتاون كانت بهذه الطبقة بلدة تبدو بجدرانها الحمراء السوداء في ألوان غير طبيعية، كأنها وجه رجل متوحش قد طلاه بالأدهان والأصباغ.

وكانت حاشدة بالآلات والمداخن السامتة التي كانت تنساب منها ثعابين الأدخنة، يتحوى بعضها على بعض فلا نهاية لتحويها ولا افتكاك.

وكانت بها قناة سوداء، ونهر تجري مياهه حمراء بصبغة كريهة الرائحة، وكانت بها أكوام من المباني التي تملؤها النوافذ. ثم كان بها عجيج وارتجاف طوال النهار حيث كان كباس الآلة البخارية يهبط ويصعد كأنه رأس فيل قد أصابه الجنون. وكانت بها عدة شوارع كبيرة، كلٌّ منها شبيه بالآخر، يقطنها ناس كلهم متشابهون. يدخلون بيوتهم ويخرجون منها في وقت معًا، ويؤدون عملًا واحدًا. وكان كل يوم عندهم يشبه يوم أمس ويوم غد، وكل عام يشبه السنة الماضية والسنة القادمة …

ولم يصف أحد من الكتاب الأثر السيئ الذي أحدثته المصانع الآلية الكبيرة في المدن كما وصفه «دكنز». ومن هذه النبذة يمكن للقارئ أن يرى التفاعل بين الحياة والأدب، وكيف أن الأديب يخدم المجتمع بأدبه ويكشف عن مساوئ الصناعة. و«دكنز» من هذه الناحية يعد رائدًا في الأدب الإنجليزي الجديد، وقد ترك تراثًا لمن خلفه في القصص هو «القصة الاجتماعية» التي تُرى على أوفاها عند «ولز». بل هذه النبذة التي نقلناها عن «دكنز» لو أنها قُرئت في غير أصلها لأخطأها الناقد ونسبها إلى «ولز».

وهنا يجب أن نقف بالقارئ قليلًا كي نقول إن أسمى الأمثلة من القصص أو الدرامة الإنجليزية إنما هو وسيلة لخدمة الاجتماع، وليس غاية في نفسه. وهناك مثل «ميرديث» أو «والتر باتر» أو «أوسكار وايلد» ممن نظروا إلى الفن نظرة «فرنسية» وجعلوا الجماعة غاية الأدب كما هو رأي «بودلير» أو «أناطول فرانس». ولكن هذه النظرة بعيدة إجمالًا عن روح الأدب الإنجليزي، وإن كنا نعثر عليها من وقت لآخر، ونجد منها القليل من الأمثلة.

figure
دكنز.

وقد كان «أناطول فرانس» يقول عن الأدب إنه لا يتوخى الحقائق؛ لأن توخي الحقائق إنما هو شأن العلم، أما الأدب ففن من الفنون، والقصة يجب أن تكون كالصورة أو التمثال، ليس وراءها غاية. وقد سار هو على هذا المذهب، وهو مذهب جدير بالاحترام، وإذا صدق، فكل ما نقوله عندئذٍ أن الأدب الإنجليزي يتجه بكل صراحة نحو العلم. والواقع أننا نجد في إنجلترا عددًا كبيرًا من الأدباء الذين يصح لنا أن نسميهم أيضًا علماء.

ومن هؤلاء «صمويل بطلر» وهو الرائد الذي يقول «برنارد شو» إنه تعلم منه، فإنه مزج بين الأدب والعلم، وألَّف في القصص كما ألَّف في نظرية التطور. وهو يعد من الثائرين على العصر الفكتوري، من حيث تنديده بالحياة العائلية والعرف الاجتماعي والكنائس. أما في العلم فيمكن أن نرى فيه رأي «برجسون» الفرنسي، فإنه كافح «داروين» في نظره الآلي للحياة وأبى إلا أن يرى فيها — أي الحياة — قصدًا تقصد إليه، بل غاية سامية تسمو إليها؛ فعند «داروين» أن الأحياء تتطور لأنها تصطدم بحوادث يموت فيها العاجز ويبقى القوي المحتال، فالتطور إذن خبط عشواء أو محض مصادفة. ولكن «بطلر» لم يستطع قبول هذه النظرية وأبى إلا أن يؤمن بأن في الحياة حكمة ترشد الأحياء نحو غاية سامية قد لا نستطيع نحن أن نعيها من الآن، لكن يمكننا أن نلمحها من سيادة الإنسان على سائر الكائنات. بعبارة أخرى نقول إن «داروين» مادي في تفسيره للتطور أما «بطلر» و«برجسون» فروحيان، يؤمنان بالقصد والغاية في الحياة.

أما قصص «بطلر» فمكتسبة من اعتباراته؛ ولذلك ننقل عنه هذه النبذة التي كتبها عن والده:

لم يحبني كما أني لم أحبه. ولم أذكر وقتًا لم أكن أخشاه وأكرهه، وكم من مرة كنت ألين وأقول لنفسي إنه رجل طيب لا بأس به، ولكنني لا أكاد أفعل ذلك حتى يعود فيصدمني ويملأ نفسي مرارة نحوه. ولست أشك في أني سلكت معه مسلكًا يبعثه على الاستياء مني كما أني لست أشك في أني ارتكبت معه ذنوبًا كثيرة. كما أني لست واثقًا من أن أخطاءه كانت أكثر من أخطائي. ولكن الواقع، بصرف النظر عن هذه الأخطاء، أني بقيت سنوات طويلة لم يمر بي يوم إلا وكنت أفكر فيه مرات، وأرى فيه الرجل الذي يقف ضدي ويري الجانب السيئ بدلًا من الجانب الحسن في كل ما أقول أو أعمل.

هذا الوسط العائلي هو الذي حاربه «بطلر» بقصته «طريق اللحم» وهو الذي حاربه بعد ذلك «برنارد شو»؛ أي تلك العائلة الإنجليزية التي كانت تتسلط على الشاب والفتاة وتستبد بهما وتعوق حريتهما.

والشاب أو الفتاة سواء في بريطانيا أو الولايات المتحدة هما الآن أكثر فتيان العالم استقلالًا عن الأسرة. ومن المبالغة أن نقول إن هذا الاستقلال يعزى إلى الأدب؛ لأنه في الحقيقة يعزى إلى الوسط الصناعي الجديد الذي جعل المرأة تعمل في المصنع أو المكتب وتستقل بمعاشها عن أهلها، ولا تكاد لذلك تبالي طاعة الأبوين. وكذلك هو يعزى إلى وفرة الملاهي الجديدة مثل الأتومبيل والسينماتوغراف. وكلاهما عمل لتفكيك الأسرة الإنجليزية. ولسنا نجد الآن أبًا يشبه ذلك الذي نكب به «صمويل بطلر»، فإن مؤلفات «بطلر» تدلنا على مقدار الجمود في ذلك العرف الاجتماعي أو الأخلاق الإنجليزية مدة العصر الفكتوري، وهو عُرْفٌ كان يفشي الشقاء في الأسرة.

ولقد ذكرنا هنا «دكنز» وكيف سخط على الوسط الصناعي الجديد ووصفه أدق وصف وأبشعه. ثم ذكرنا «صمويل بطلر» وكيف كره الحياة العائلية وأنكرها. ولكن القارئ المصري لا يمكنه إلا أن يعترف بأن هذا الوسط الصناعي كان هو العلاج لجمود العائلة الإنجليزية؛ لأنه فك قيودها ونقض الاستبداد الأبوي بالحرية الجديدة التي لقيتها الفتاة الإنجليزية في الصناعة والملاهي الكثيرة التي جعلت الشاب ينشد سلواه خارج البيت.

إن للصناعة وجوهًا سيئة، ولكنَّ لها وجوهًا أخرى حسنة. ومن حسناتها هذه الحرية التي يتمتع بها الآن الشبان والفتيات في العالم المتمدن؛ لأن العائلة البطريركية القديمة، عائلة الزراعة حيث الأب يعول ويسود، قد بادت. وأخذت مكانها العائلة التي يكسب أفرادها عيشهم من المصنع، فيستقل الشاب بدخله كما تستقل الفتاة بكسبها. وهذا الاستقلال الاقتصادي قد أدَّى إلى استقلال اجتماعي أخلاقي زعزع العائلة إلى حد ما.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤