العداء بين اللاهوت والعلم لا بين الدين والعلم

العلم موضوعي والدين ذاتي١

بقلم  إسماعيل مظهر

(١) تمهيد

كثُر ما علت الصيحة في هذه الأيام أن بين الدين والعلم عداءً وأن في طبيعة الدين شيئًا يعاند طبيعة العلم أو بالعكس. والحقيقة أن هذا القول له مبرراته القديمة والحديثة. وله فوق ذلك وقائع يذكرها التاريخ ووقائع تقع تحت أعيننا. غير أن مجرد القول بأن بين الدين والعلم عداءً وصراعًا، ومجرد رواية الوقائع التاريخية أو حدوث وقائع في زماننا هذا تؤيد ما يرويه التاريخ، ليست بدليلٍ قاطع على أن في طبيعة الدين شيئًا يُعانِد طبيعة العلم أو أن في طبيعة العلم شيئًا يعاند طبيعة الدين. ولو أنك نظرت نظرة أوَّلية في حالات الحضارة الحديثة لوقعت لأول وهلة على أشياء تدلُّك على صحة ما نذهب إليه. فإن العلم يجري تياره بأقصى ما جرى تيار من التقدُّم في كل العصور، وتجد بجانبه روح الدين قائمة راسخة القواعد، وأنها لم تكُن في عصر من العصور الماضية بأكثر ثباتًا في النفوس منها في عصرنا هذا. نعم إننا لا ننكر أنه مرت على المدينة عصور خَفَتَ فيها صوت الدين ليعلو صوت المادية حينًا، ولكنَّا نجد مع هذا أنه مهما خَفَتَ صوته في الخارج، فإن ثباته في النفوس لم يضعف، وركيزته في اليقين لم تَهِنْ.

ولو صَحَّ أن بين الدين والعلم عداءً وصراعًا، فكيف أن هذا الصراع الذي ظَلَّ قائمًا بينهما خمسة وعشرين قرنًا من الزمان لم ينتهِ بأن يصرع أحدهما الآخر؟ وهل خمسة وعشرون قرنًا غير كافية لأن تُنهي المعركة وتنصر فريقًا؟

الحقيقة أن الصراع ليس قائمًا بين العلم والدين. والحقيقة أن الدين والعلم كل منهما يستمد من ناحية من نواحي التكوين الفكري في الإنسان؛ لهذا ظَلَّ الدين باقيًّا وظل العلم ثابتًا لأن كلًّا منهما مظهر من مظاهر الفكر الإنساني. ولكن إذا اعتقدنا هذا، فبأي شيء نُعَلِّلُ ذلك التاريخ الطويل الذي حاول فيه رؤساء الدين أن يخفتوا صوت العلم وبأي شيء سوف نُعَلِّلُ ذلك الصراع الذي سيحاول فيه رجال العلم أن يخفتوا صوت الدين في المستقبل؟

إذا اعتقدنا أن الصراع لم يَقُمْ بين الدين على اعتبار أنه شيء مُسْتَمَدٌّ من طبيعة الإنسان وبين العلم على اعتبار أنه شيء مُسْتَمَدٌّ من القوة العاقلة التي خص بها الحيوان الناطق، واعتقدنا أن الصراع قام في الواقع بين اللاهوت المذهبي وبين العلم، استطعنا أن نعلل حوادث التاريخ بل استطعنا أن نظهر على شيء مما سوف يقع في المستقبل.

(٢) الجمود ضروريٌّ للاجتماع مفيدٌ للحضارة

الجماعات تشعر ولا تفكر. بل قيل بأن رقي الجماعات من حيث الشعور والتفكير يقاس في الحقيقة بنسبة أضعف فرد من أفرادها تفكيرًا وأهوجها شعورًا مضروبًا في عدد الجماعة. ولكنَّ الناظرين في حالات الاجتماع نسُوا أن يذكروا بجانب هذا أن الجماعات جامدة صرفة كما هي شاعرة صرفة، وأن جمودها هذا ضروري للاحتفاظ بتوازُن خطاها التي تخطوها نحو الارتقاء في كل ضروبه وعلى اختلاف ألوانه.

مَرَّ على الناظرين في حالات الاجتماع عقود من السنين وهم يقولون بما قال جوستاف لوبون. ولم يَمُرَّ بهم خاطر أن الجماعات كائنات جامدة بطيئة القبول لحالات التغيُّر والنشوء. وإني لأُثبِت هنا أن أول من عثرت له على قول في هذا الموضوع الخطير هو العلامة كارل بيرسون الإنجليزي إذ يقول:

إن ما نجد في مباحث داروين من نفوذ البصيرة وقوة الإدراك، وما عقبها من مؤلَّفات سبنسر تلك المؤلَّفات التي هي على قوتها وبالغ أثرها سوف تكون أقل ثباتًا وأسرع زوالًا من مؤلَّفات داروين، وما زودتنا به مبادئ النشوء في الحياة الفردية والاجتماعية، قد اضطرتنا إلى تعديل أفكارنا القديمة وتقويمها، وأخذت تُقَوِّي من دعائم مُثُلِنَا الأدبية وتوسع من ميدانها، ولكن ببطء تدرجي. ولا يجب أن يحزننا هذا البطء ولا أن يُيئسنا؛ لأن من أقوى المؤثرات التي تحفظ الثبات الاجتماعي وتحول دون تخلخله تلك الصفة التي نبغضها؛ صفة الجمود على القديم. لا بل نقول بأن العداء الصارخ الذي تقابِل به الجماعات الإنسانية كل الفكرات الجديدة لَمِن أخص تلك المؤثرات. وإن هذه الصفات هي بمثابة الكُور المتلظية نيرانه، والذي بدونه لا نستطيع أن نفصل بين المعدن الصحيح والفضلات الزائفة، وهي التي تحمي الجسم الاجتماعي من أن يُترك معرضًا لتغيُّرات تجريبية فجائية، قد تكون غير مفيدة آنًا أو بالغة أقصى الضرر آنًا آخر.

والظاهر أن بين بناء العالم المادي وبين تكوين الجماعات الإنسانية أوجهًا من التشابُه تمثلها عناصر لازمة لحفظ النظام في كليهما. ففي الجوهر الفرد كهارب إيجابية وأخرى سلبية، وفي الدقائق المادية قوتا جذب ودفع. وفي الاجتماع تقدُّم وجمود، وفي الحياة موت هو لزام لوجودها. وعلى هذا النمط نَجِدُ أن الصفات السلبية التي نبغضها في المجتمع هي في الواقع أشياء لازمة للمحافظة على كيانه باعتباره اجتماعًا إنسانيًّا تنعكس على صفحته صور الصفات الفردية والاجتماعية.

خذ بين يديك قطعة من المادة اللينة واضغطها فإنها تأخذ شكلًا ما، ثم اضغطها ثانية فإنها تتبدل من شكلها الأول شكلًا آخر. وهكذا فإن كل ضغطة تصورها في صورة جديدة. وتمثل بعد هذا أن المجتمع الإنساني فيه من صفات الليونة ما في هذه المادة، وأنه فقد كل صفات الجمود والمحافظة على القديم، ألست ترى أن ذلك يكون منتِجًا لفوضى عظيمة في نظام الأشياء الإنسانية، وأن تَقَبُّلَ كل جديد ليهدم ما قبله وليهدمه ما بعده؛ يكون في هذه الحالة إفسادًّا لبناء المجتمع وتحطيمًا للمعاهد التي تقوم عليها المدنية؟

عَدِّدْ من مذاهب الفلسفة العلمية ما شئت أن تُعَدِّدَ، وارجع إلى مذهب سقراط ثم الكلبيين ثم السيرينين، ثم إلى مذهب الأبيقوريين ثم إلى الرواقيين، واعدل عن هذا إلى تضارب جهات الفكر المعتقد، وتصوَّرْ بعد هذا أن المجتمع الإنساني كان فيه من الصفات ما تحتمل تقبُّل كل هذا، ثم رفضه على تتالي الأجيال وعلى تقارُب الفترات التي كانت تظهر فيها المذاهب والآراء الفلسفية واحدًا تلو الآخر، فهل كنت تجد في بناء المجتمع ما تجد فيه الآن من الثبات؟ وهل كنت تَجِدُ أن للحق ما له الآن من صفات البقاء والخلود؟

وكذلك تَجِدُ الحال في السياسة والدين واللغة وفي كل ما تقوم عليه الحضارة من الصفات الاجتماعية. وعلى هذا تَجِدُ أن التقدم والارتقاء قوة إيجابية تعضدها — وإن كانت تقاومها — قوة سلبية هي الجمود والمحافظة على القديم، كما لو كان المجتمع الإنساني دقيقة من المادة تجذب جواهرها بعضها بعضًا في حين أنها تتدافع. وهذا لزامٌ لبقائها دقيقة مادية خالدة كما أن الارتقاء والجمود صفتان لازمتان لبقاء المجتمع الإنساني مجتمعًا مستكملًا لصفات النشوء والارتقاء.

لهذا لا يجب أن ننظر إلى الجامدين نظرة من يعتقد أنهم رجعيون؛ لأن الرجعي هو الذي ينكص إلى الخطأ على الرغم من أنه يعلم أنه سائر في سبيل الحق والصواب. أما الجامدون فهم القوة السلبية التي تحفظ على الجماعات نصيبها من التوازن اللازم لثباتها، وخطوها نحو الارتقاء في خُطًا متعادلة بطيئة، ولكنها تدريجية.

(٣) ما فوق العقل والعقل

بدأ الفيلسوف هربرت سبنسر كتابه مبادئ علم النظام الاجتماعي ببحثٍ في تطور ما بعد الآليات، فقال بأن التطور على ثلاثة أوضاع؛ الأول: التطور غير العضوي، وهو يتناول بناء السماوات والسيار الأرضي. والثاني: التطور العضوي، وهو يتناول الظاهرات الطبيعية التي نشاهدها حشو الطبيعة الحية وتراكيبها من نبات وحيوان على اختلاف درجاتها ومراتبها، ثم الظاهرات الخاصة التي تُعرَف في مباحث العلوم بالظاهرات النفسية — البسيكولوجيا — وهي التي تختص بها الصور الحية التي بلغت من الترقي حَدًّا أصبح بطبيعة التطور مجالًا لتلك الظاهرات. والثالث: تطور ما بعد الآليات أو ما بعد العضويات وهو في الواقع بلوغ الحالة الاجتماعية واقتسام العمل بين أفراد الجماعة.

فإذا أردنا أن ننظر في هذا المبدأ نظرة تحليل نطبقها على موضوعنا هذا؛ اعتقدنا أن تطور ما بعد الآليات هو آخر الخطى النشوئية التي وصلت إليها جماعات الحيوان من الرقي. ولقد شاركها الإنسان في كل هذا وبلغ إلى أرقى ما يُمكن أن يبلغ حيوان من تطور ما بعد الآليات، فبماذا يمتاز على بقية الخلق؟ يمتاز بأنه يستمدُّ ممَّا بعد عقليته قوة يستعين بها على قوته العاقلة ليخضعها دائمًا لصالح الكل الاجتماعي.

إن الفرد والجماعة لا يتفقان، بل هما كائنان متضادان. ولكل منهما طبيعة تختلف عن طبيعة الآخر. يدلك على هذا أن العديد الأكبر من الأفراد التي تعيش في زمان ما، لا تعير تطور الجماعة التي تلحق بها شيئًا من الانتباه لمظاهرها ولا تحاول أن تصرفها إلى طريق الخير والسلام.

فالفرد يتطور بتطور الجماعة؛ خضوعًا لروحها، من غير أن يدرك من هذا التطور — حين وقوعه — شيئًا. والجماعة ذاتها تُساق إلى التطور من غير أن تحس بشيءٍ منه، حتى يظهر الزمان فرقًا بين حالة الجماعة في زمانين مختلفين تدركه الأجيال المستقبلة.

وخضوع الفرد لشعور الجماعة يُبعده عن عقليته المستقلة. فيجرفه تيار الشعور العام إلى حيث يُراد به، إلى الخطأ أو إلى الصواب، إلى الشر أو إلى الخير، حسب المتجه الذي يملك شعور الكل الاجتماعي. والشجار القائم بين شعور الجماعة وعقلية الأفراد كوَّن التاريخ الإنساني برمته. فما من حادث من حوادث الحروب، أو مظهر من مظاهر الثورات الاجتماعية، أو قيام المدنيات المختلفة، إلا وتجد تلك الروح متجلية فيه تسوق أمامها الإنسانية سَوْقًا إلى حيث يريد بها ما أثر فيها شعور بكارثةٍ قومية أو إحساس بعزة النفس أو خيال الدفاع عن شيء أكثر ما كان موهومًا لا واقعًا بالفعل.

ولكن بأي شيء استطاع الإنسان أن يحتفظ بخضوع عقلية الفرد لشعور الجماعة؟ هنالك في معتقداته الدينية وَجَدَ الإنسان القوة التي استقوى بها على عقليته الفردية فأخضعها لقوة إحساسه بالشريعة الأدبية. أما وظيفة تلك المعتقدات فتجهيزها الفردية بقوة نفسية تسوقه إلى الخضوع لمجموعة من آداب السلوك ومبادئ من الأخلاق تُبقي عقليته واقعة تحت الإحساس بواجباته الأدبية؛ أي إنها تُخضع العقلية الإنسانية لقوة مستمَدة ممَّا بعد العقلية. وتلك ظاهرة لازمت قيام المدنيات في كل عصر من عصور التاريخ.

يقول الأستاذ بنيامين كيد صاحب كتاب التطور الاجتماعي المعروف:

إن الروح الحربية التي تملَّكت زمام المدنية في عصور الوثنية هي التي شكَّلت تاريخ الغرب برُمَّته، فخرجت الشعوب الغربية من تلك المعامع — معامع التدمير والتخريب — بمدنية هي أغرب ما وصل إليه الإنسان في تاريخ الدنيا. وما من نتاج من ثمار هذه المدنية، وما من نظام من أنظمتها الاجتماعية أو شكل من أشكالها، إلا وتجِد للروح القديم أثرًا فيه كبيرًا. يرجع ذلك إلى اعتقاد ثابت راسخ في روع الشعوب منذ نشأتها لُحمتُه أن حيازة القوة والانتفاع بثمراتها هو المبدأ الذي يجب أن تعمد إليه الأمم إذا ما شاءت أن تحتفظ بكيانها. غير أن هذا الكائن الناطق الذي خرج من جوف الأزمان الأولى وبيده آلات الحرب والتخريب كان ذا عقيدة دينية، عقيدة تخالف في أسسها ومبعثها الذي ترتكز عليه في طبيعة الرغبات الإنسانية. نزعته إلى القوة من أية طريق أتاها وبأية من الوسائل التي تذرع إليها. وظلت نزعة الإنسان إلى القوة تحارب تلك العقيدة الموروثة حربًا عوانًا تشهرها على ذلك المعتقد نزعات الإنسان وبواعث انفعالاته طوال القرون الأولى. ولا يزال الشجار قائمًا حتى الآن. وإنك إن قلبت تاريخ الإنسان لتجلى لك مقدار ما جالد ذلك الحيوان الناطق المفكِّر في سبيل التخلص من قيود تلك الوراثة الدينية التي خرج بها من حياته الأولى مستعينًا بها على هدم ذلك المعتقد بكل ما أُوتي من قوة الفلسفة والعقل، فكم زجت تلك النزعة بالإنسان في غمرات حروب تهدم بها ما أقام السلم من صروح العمران، وكم تمزَّق بها ما رأيت شريعة الآداب من صدوع الإنسانية.

تلك روح خالدة في الجماعات قد تتغير مظاهرها، وجوهرها ثابت في الزمان، مرتكز على طبيعة الإنسان المفكِّر المعتقد المدرك لحقيقة الشريعة الأدبية، المحكوم بوازعٍ ممَّا فوق عقليته يخضع عقله لحاجات الاجتماع. تلك الصفات التي ترتكز عليها أصول المدنية.

عبثًا ما حاول بعض الفلاسفة أن يقاوموا تلك الروح بمذهب فلسفي في النفعية، يستغوي الفردي ليخرج عن شعور الجماعة وروحها. كثر في أوروبا من حاول ذلك في أواخر القرن الفارط، ونشر بعض المشتغلين بالآداب كتبًا في «دين الطبيعة» ما لبثت أن قتلتها روح الجماعات، شأنها في كل شيء يصد طريقها الشعوري الصرف. حاول هؤلاء أن يجعلوا العقل حد الدين، فوقع الإنسان في مأزق من مآزق البُعد عن الشريعة الأدبية كاد يتداعى معه أساس المدنية. ولا يزال بعض المفكِّرين يتابعون ذلك الرأي، قائلين بأن دين المستقبل سوف يكون معتقدًا بعيدًا عمَّا تبعثه في أهل هذا العصر معتقدات ما بعد العقلية البشرية. حاول هؤلاء أن يجدوا في عقل الإنسان وحده هاديًا ومرشدًا أمينًا بصفته فردًا صالحًا من مجموع إنساني، يختطُّ له خطة من السلوك والأخلاق جديرة بأن تحفظ نظام الهيئة البشرية التي يجب أن تقوم على أساس من الإحساس الأدبي أخفقوا سعيًا وضَلُّوا سبيلًا؛ لأن الطبيعة لم تَحْبُ الإنسان بشيءٍ من هذا.

رجع الناس بعد ذلك مؤمنين بأن وازع ما بعد العقلية، أول عنصر من عناصر المعتقد الديني بل نواتُه، وأنه الضابط الذي يضبط علاقة الفرد بالجماعة في كل حالة من الحالات وتحت تأثير أي ظرف من الظروف، على أنك تجد أن في النظام الاجتماعي قوتين متضادتين تتنازعان بقاءه: قوة مفرقة وقوة مؤلفة؛ فالقوة المفرقة يمثلها عقل الفرد الأناني المُحب لذاته، والقوة المؤلفة يمثلها معتقد ديني يستمد ممَّا فوق عقلية الفرد، وتنحصر وظيفته في أن يحتفظ في تطور الجماعات بإخضاع مصالح الأفراد ومطامعهم لصالح الكل الاجتماعي. وإن الدين في طبيعته ضرب من ضروب المعتقد يهيئ الإنسان بوازع ممَّا فوق عقليته، يضبط سلوكه نحو المجموع.

فإذا أيقنَّا بعد كل هذا أن الإنسان كائن معتقد كما هو مجتمع، وأن الدين من بين كل معتقداته هو الذي يهيئه بوازع ممَّا فوق عقليته؛ استطعنا أن ندرك كيف أن الخصومة الموهومة بين الدين والعلم مستحيلة، وإلا فلو كان بين الدين والعلم خصومة وعداءٌ، لتحطمت قواعد العلم قبل أن يهتز ركن واحد من أركان الدين.

الدين في النفس الإنسانية ثابت لا تتغير ماهيته وإن تغيرت مظاهره. وهو فوق ذلك صفة غريزية تلازم طبيعة الإنسان ما دام قد تكوَّن ليكون إنسانًا فيه من التكوين الطبيعي ما يجعل للدين ركيزة أثبت في نفسه من ركيزة العلم والفلسفة. وعلى هذا لا يمكن أن يكون بين الدين والعلم تجالُد وصراع؛ لأنهما — على الرُّغم من الفوارق الطبيعية الكائنة بينهما والتي لا تجعل للصراع بينهما مجالًا — يستمدان من ناحيتين متباعدتين من نواحي التكوين الإنساني.

(٤) الفرق بين العلم والفلسفة والدين

ضرورات الحالة الاجتماعية كثيرة متباينة، وهي على كثرتها وتبايُنها — بل وإن شئت فقل: تناظُرها — إنما تستمد من طبيعة الكائن المجتمع وليس من هذه الضرورات ما ينزل عن حَدِّ الضرورة ليكون أكثر ضرورة أو أقل ضرورة من غيره، وليس منها ما هو أقرب إلى الكماليات من الحاجيات؛ فإن هذه الضرورات كلها تنزل منزلة واحدة من حاجة المجتمع إليها.

وهي فوق ذلك مستمَدة من صفات غريزية في الكائن المجتمع تتشكَّل في صور مختلفة بمقتضى اجتماعه ليكون كُلًّا اجتماعيًّا، أو كائنًا اجتماعيًّا كما يقول سبنسر. ومن أول هذه الضرورات أن يكون في الإنسان صفات نفسية وأخرى عقلية. وهذه الصفات بصرف النظر عن مظاهرها الخارجية وباعتبار أنها أشياء كائنة في تضاعيف الفطرة، لا يمكن أن يكون بين ما تنتج تضارُب وتجالُد، أو عداء وصراع. قد يكون بين بعض ما تنتج من الحالات الاجتماعية جمود يناظره في أخرى نزعة إلى التقدُّم والارتقاء، وقد يكون في ناحية منها حركة في حين أن ناحية أخرى تتطلب الهوادة والسكون النسبي لتتعادل الكفة، ويحدث الثبات الاجتماعي الذي هو أول صفة من الصفات المطلوبة في جماعة إنسانية يصح أن يقال فيها إنها متحضرة وإنها تقيم عمرانًا.

فالعلم مثلًا صفة عقلية أصبحت الآن ضرورة من ضرورات المجتمع الحديث، وإن كان العقل — وهو نبعها الفياض — صفة من الصفات الأصيلة في حياة الإنسان الاجتماعية، بل وفي غيره من كثير من الحيوانات الأخرى. وكذلك الدين فهو صفة تستمد ممَّا فوق العقلية البشرية ليسد فراغًا في الاجتماع لا يسده العلم. وبين العلم والدين فجوة لا تسدها إلا الفلسفة. فهذه الدرجات الثلاث أو هذه الصفات الثلاث: صفة أن الإنسان يعلم وصفة أنه يتدين، وصفة أنه يتفلسف ليوفق بين طرفي العقل وما بعد العقل. صفات فطرية في الإنسان أصبحت بطبيعته ضرورات اجتماعية، ولا يمكن أن يكون بين شيء منها عداء وصراع، وإلا أصبح الإنسان عبارة عن مجموعة صفات متناقضة وهيكل من الفوضى المتحركة. هي في الواقع متناسقة متكاملة كالقضية المنطقية التي تتكون من طرفين ووسط، موضوع ومحمول وحد وسط. وهي فوق ذلك لا تنتج إنتاجًا صحيحًا إلا إذا صحت مقدماتها … هذا مثل الإنسان في العلم والفلسفة والدين. وكلها ضرورات لا بد منها، وإن استمدت من نواحٍ مختلفة من نواحي الفطرة الإنسانية. هي ضرورات اجتماعية من ناحية أن الإنسان مجتمع، وضرورات فطرية من ناحية أن الإنسان كون على ما فيه غير مخيَّر هواه.

على أننا لا نترك الموضوع عند هذا الحد؛ فلا بد من أن نظهر أن هذه المنتجات لا تتخالط مطلقًا، وبذلك لا تتعادى ولا تتصارع.

يقال إن العلم ذو صفات ثلاثٍ؛ يقال إنه تام، إيجابي، موضوعي. وإن الفرق بينه وبين صور الفكر الأخرى أن هذه غير تامة مبهمة ذاتية. إن العلم يؤدي للعقل نواتجه أو فكراته في اصطلاحات محدودة بالتعريف، مباشرة المعنى، بينما تجد أن هنالك عالمًا في الأدب والنواتج العقلية غير محدود بالتعاريف، رمزي في قوامه غير مباشر المعنى والتعبير. إن العلم يُسَلِّمُ بأن ليس له من دعامة إلا دعامة المعرفة، على أن تكون بينة جلية تامة الوضع. لهذا تجده مناظرًا في طبيعته لنواحي الفكر الأخرى المرتكزة على الآراء والاعتقاد والإيمان، ولا يغيب عَنَّا أن هذه المصطلحات إما أن تشير إلى الأسلوب الذي يُنتحى في البحث، وإما أن تشير إلى موضوع البحث ذاته. أما العلم فيفخر بأن له أسلوبًا ثابتًا لا يحتمل الجدل ولا يَسَعُ التورُّط في المسائل الخلافية النظرية. أما بقية فروع الفكر فإما أن تستعير أساليبها من الأسلوب العلمي، وإما أن تطبق أساليب متغايرة لم يُجمَع عليها الإجماع كله، وإما أن تأبى الخضوع لأسلوبٍ ما على وجهٍ عام.٢ فالعلم يتناول كل الأشياء أو الموضوعات التي تطرأ على أذهان السواد الأعظم من الناس أو تمس مصالحهم، وهي موضوعات قد يبلغ إلى الإحاطة بها كثير من الناس؛ ولهذا يفخر العلم دائمًا بأن مشاهداته واستنتاجاته خاضعة دائمًا للتحقيق والبحث آنًا بعد آن؛ لذلك تجد أن شطرًا عظيمًا من المشاهدات والاستنتاجات العلمية قد تُؤخذ في أكثر الأحيان على أنها حقائق تامة أُجْمِعَ على صحتها وثباتها، فيمضي الذين لا يأنسون من أنفسهم القدرة على تمحيصها وبحثها، أو الذين تقعد بهم الهمة دون فحص براهينهما، قانعين بأنها أشياء بديهية ثابتة لا مُبدِّل لها. غير أن هنالك أشياء كثيرة تقوم في عقل كل فرد من الأفراد، شخصية في طبيعتها ذاتية في مبعثها، ولهذه الأشياء في أنفسنا من الشأن والخطر ما يعدها من مطالب الحياة وحاجاتها. وإن هذه الأشياء هي المادة الحقيقية التي يتركب منها الفكر الخارج عن ميدان العلم. وهي في جوهرها ومظهرها مناظرة للعالم اليقيني. وفي هذا الشطر من الفكر لا يستطيع شخص بذاته أن يقوم بعمل ينتفع به الكثيرون على نفس الطريقة التي تُحتذى في العلم. فالأخذ بالبرهان في ذلك الشطر مستحيل، والإجماع على شيء فيه لا يضم تحت لوائه إلا عددًا قليلًا من الناس. فالأقوال والنظريات لا يمكن أن تؤخَذ في هذا الشطر على أنها حقائق ضرورية لا تحتمل الجدل كما هي الحال في العلم، بل إن كل شخص لا بد من أن يجتاز فيها السبيل الذي اجتازه الذين تقدَّموه، قبل أن يأنس في نفسه القدرة على قبول ما ألقي إليه والانتفاع بثمراته.
إن الصفة الوحيدة التي تُلازِم هذا الشطر في الفكر أنه فردي ذاتي في حين أن العلم مهما كانت صبغته ومهما كان أصله عامٌّ موضوعي؛ أي إنه غير ذاتي. يرجع إلى الموضوع لا إلى الذات التي تفكر في الموضوع وتفحص عنه. فإذا مثلت للفكر بشيء ذي طرفين متناظرين ألفيت أن العلم الرياضي في أحد طرفي الفكر وأن الدين في الطرف الآخر. وإنك لَتَجِدُ أن الاتفاق في الطرف الأول صفة ملازمة، كالاختلاف والتنابُذ في الطرف الثاني. نلحظ أن وحدة الفكر صفة ثابتة في الطرف الأول في حين أنك لن تقع لها على ظل في الطرف الثاني. إنها لم تعرف في الدين ولن تعرف، وإنك إذا أردت أن تعبر عن ذلك بالكلام الدارج استطعت أن تقول إن المعرفة والتحقيق لزام الأول وإن الإيمان والاعتقاد لزام الثاني. على أنك فيما بين الطرفين تقع على فراغ كبير يفصل بينهما. إن هذا الفراغ ينشئ في الفكر صورًا تصل بين الطرفين فتبرز حينًا في هيكل من المعرفة، وآخر في مثال من الإيمان، فيختلط فيها قليل من الأشياء المحققة بكثيرٍ من الإيمان والاعتقاد المبهم. تلك المسافة الكبيرة وهذه المفازة المترامية الأطراف — والتي تتوارد عليها صور التغيير والاختلاف — سريعة متعاقبة هي سكن الفلسفة الحقيقي ومنبتها الأصلي. الفلسفة التي تتناول الحقائق ولا تأنف من الإيمان، الفلسفة أصل المعرفة ومصدر الاعتقاد واليقين، الفلسفة حلقة الوصل الواقعة بين الطرفين: طرف العلم وطرف الدين.٣

بعد هذا التحليل الدقيق تتساءل: هل يمكن للإنسان أن يكون بلا عقل ليكون بلا علم؟ وهل يمكن أن يكون بلا وازع من فوق عقليته ليكون بلا دين؟ وهل يمكن أن يكون بلا تأمُّل في الناحيتين ليكون بلا فلسفة؟ هذا مستحيل. مستحيل على الإنسان أن يُلغي عقله، أو يلغي وازع ما فوق عقليته، أو يُلغي تأمله في حقائق الأشياء.

ثم نتساءل ثانية: هل يمكن أن يقوم بين هذه الضرورات العقلية والنفسية صراع وتجالد، بحيث يمكن أن يقوم بجانب هذا الصراع الشديد حياة اجتماعية، لا تجري فيها الدماء، ولا يُعبث فيها بأخص الصفات الإنسانية؟ أما دليلنا الملموس على أن الصراع بين الدين والعلم شيء موهوم فبقاء بناء الاجتماع الإنساني بما فيه من مختلف الصور الناتجة عن العقل والشعور، وثباته وبعده عن التناقض والانشعاب.

(٥) الصراع بين اللاهوت والعلم لا بين الدين والعلم

إذا صَحَّ لدينا أن لا نزاع بين الدين والعلم فما هو السبب؟ إذن في تلك الفجائع التي يرويها التاريخ خلال القرون الوسطى، بل وفي الأزمان القديمة. وما هو الباعث على تلك الحروب التي قامت بين العلماء والفلاسفة من ناحية، وبين من نسميهم رؤساء الدين من ناحية أخرى؟

إذا كانت حقائق التحليل النفسي والعقلي تدلُّنا على أنه لا يمكن أن يقوم صراع بين الدين والعلم؛ لأن هذا مستحيل فطرة وإجماعًا. وقفنا أمام وقائع التاريخ — وعلى الأخص تاريخ النشوء العقلي والفكري — نتلمس أسبابًا نعزو إليها البواعث التي كونت تلك العناصر التي انطوت عليها صفحات الماضي وكانت سببًا في تكوين محاكم التفتيش في القرون الوسطى، لتحرق وتقتل تحت عنوان الهرطقة والخروج على الدين كُلَّ من نزع إلى جديد في العلم وكل من كشف عن حقيقة من حقائق الطبيعة.

لم تبلغ الخصومة بين العلم واللاهوت من الشدة ما بلغت في القرون الوسطى وبين أحضان النصرانية؛ فإنك لا تعثر في تاريخ الأديان كلها على تاريخ يشابه تاريخ مذاهب اللاهوت النصراني في قيامها في وجه العلم أزمانًا طِوالًا بل قرونًا متعاقبة. والسبب في هذا أنه قامت لدى اللاهوتيين فكرة ثابتة في أن العلم لا يجب مطلقًا أن يبشر بشيء فيه أقل مخالفة لظاهر ما جاءت به الأسفار المقدسة والمتون ورسائل الحواريين. ولست تعلم لماذا يكون هذا لزامًا على العلماء والفلاسفة مع أن طبيعة الدين لا تَسَعُ هذا ولا تدعو إليه. فإن وظيفة الدين في الواقع اجتماعية إرشادية لا تعليمية. ولكن شاءت عقول اللاهوتيين أن تكون وظيفته تعليمية؛ لهذا نشأ ما يسمونه الخصومة بين الدين والعلم، وما هي في الواقع إلا خصومة بين اللاهوت والعلم. وكم من لاهوتي ظهر خلال القرون الوسطى وحاول أن يثبت أن الدين لا شأن له بالعلم وأن وظيفته تنحصر في أن يعرف الناس طريقة الخلاص في الآخرة، لا حركات الأجرام السماوية أو تكوين الأرض كيف يكون! ولكن المذاهب الشائعة في اللاهوت ومن ورائها محاكم التفتيش، لم تكن تترك لأمثال هؤلاء مجالًا. وزاد الطين بلة أن اللاهوتيين ومن ورائهم الكنيسة — وعلى رأسها البابوات المعصومون عن الخطأ — كانت قد زكت المذاهب اللاهوتية التي ذاعت في تفسير الإنجيل والتوراة بإجازتها حينًا بعد حين، فأصبحت تلك التفاسير في الواقع مقدسة كأصل المتون نفسها؛ لهذا كانت ثورة اللاهوت في القرون الوسطى حامية ونارها محرقة تَلَظَّى.

(٦) هل بين الدين والعلم عداء حقيقي أو مجازي

يخيل إلى الذين يقولون بأن بين الدين والعلم عداء، وأن بينهما صراعًا وجِلَادًا يقوم على شيء في طبيعة الدين يعاند طبيعة العلم، أو أن في طبيعة العلم شيئًا يعاند طبيعة الدين: أن الإنسان عبارة عن كائن كل ما فيه عقل صرف وتفكير محض، في حين أن ما كشف عنه علم الاجتماع الإنساني مؤيَّدًا بمباحث العلماء الأعلام في فروع علم البسيكولوجيا قد أثبت بما لا سبيل إلى إدحاضه أن الإنسان عبارة عن مجموعة مشاعر حادة قوية تُزكيها نزعة غريزية مما فوق العقل تحكم رابطته بما نسميه الجماعة، أو المجتمع البشري، يقول ديكارت: «أنا أفكر أنا إذن كائن.» والحقيقة أن الوجود والحياة أولى الحالات التي يقوم عليها أساس الجماعات. فلنفكر قليلًا في حالة الحياة ذاتها وعلى الأخص في الإنسان المفكر المجتمع لنرى إن كان حبنا للحياة ذاتها شيء يقودنا إليه العقل أو الشعور والخضوع لما بعد العقلية.

إذا وازن الإنسان بين ما ينعم به في هذه الحياة من سعادة وبين ما ينزل به من مُلِمَّاتٍ فادحات، فلا شك في أن كفة آلامه ترجح كفة سعادته على حسب ما يصور له عقله إضعافًا. فإن مطاليب الحياة والسعي الجاد وراء ما تطلب من ضرورات لا تترك للفرد مجالًا للمتعة بما يصور له عقله أنه متعة حقيقية. وإذا نظر فيما يحيط به من الحالات الطبيعية ألفى أن الطبيعة التي تحيط به والتي يعيش بين أحضانها خاضعًا لقواسرها إنما تناهزه أشد العداء ويقابلها بأشد المقاومة. فهو في الواقع في حرب مستعرة مع العناصر التي تؤلف كيانه.

فالجراثيم القاتلة والوحوش الضارية وتقلُّبات الطقس وتأثيرات المناخ والتناحر على الحياة والانتخاب الطبيعي وإبقاء الأصلح، بل وكل ما تتطلب نظامات الطبيعة من جهود يبذلها الإنسان ليعيش ويحيا حياة طبيعية، هي بذاتها متاعب لا تجعل للحياة من قيمة حقيقية إذا نظر الإنسان فيها بعين العقل وحده وجرَّد نفسه من نوازع ما فوق عقليته. ثم فكِّرْ قليلًا بعد هذا في هذه الحياة وسائِلْ نفسك: لماذا وُجِدْتُ؟ ولأي غرض خُلِقْتُ؟ وما هو القصد من هذه الحياة التي أحياها؟ وما ذلك الموت الذي أنا بالغه يومًا من الأيام؟

وانظر بعد ذلك هل ترضى عن هذه الحياة وهل يكون وجودك فيها ممكنًا إن تركت نزعات العقل تحتكم فيك وحدها، أو إن لجأت إليها لتلتمس هدايتها للخروج من هذه الظلمات؟ إن العقل يوحي إليك بأنْ تفارق هذه الحياة فلا فائدة منها، وأنت فوق ذلك عاجز عن أن تعرف سر وجودك فيها! إنها عبث في عبث وبدء ونهاية لا خلود وراءها، ولا حياة أخرى تُثابُ فيها على طيباتك أو تعاقب فيها على سيئاتك. يهمس العقل في روعك دائمًا بأن هذه الحياة التي تحياها وتلك المتاعب التي تتحملها والمشاق التي تذللها إنما تعمل فيها لغيرك لا لنفسك وتتحمل كدورتها للأجيال المستقبلة التي ليس لك من علاقة بها، ولا تعرف إن كانت تستحق منك ما تضحي به من صحة وعافية.

أليس هذا وحي العقل؟ أليست هذه الأشياء هي أول ما يوحي إليك به العقل الصرف المجرد عن المشاعر وقواسر ما فوق العقلية؟ إذن نستطيع أن نقول إن بين العقل والوجود كله صراعًا بحكم أننا كائنات لا نعرف لماذا وُجِدْنَا ولا نفقه لوجودنا غرضًّا يختفي وراء مظاهر هذه الحياة.

ثم ارجع بعد هذا إلى نظام الزوجية، وجَرِّدْ نفسك من المشاعر برهة واحدة لتحكم العقل في هذا النظام الذي لولاه لما كان للاجتماع الإنساني على ما نراه اليوم من أثر.

لماذا يقسر الرجل المرأة على أن تكون له وحده؟ ولماذا تغار المرأة على الرجل إن هو جرى وراء أخرى؟ ولأي شيء يحتمل الرجل والمرأة كلاهما تلك الواجبات؟ ولماذا يلزمان تلك الحدود التي وضعتها الشرائع والقوانين وفي فناء الإباحة ما هو أرخى لعِنانهما وأقرب لما يرضي نزعتهما العقلية؟ يسعى الرجل ويكد كل كَدٍّ ليعول امرأةً أراد، ولا يعرف لماذا، أن يختص بها وتختص به، وأن يقوم حفيظًا عليها زعيمًا بمطالبها في الحياة. يحتمل مرارة العيش ويواجه مصاعب الحياة بلذةٍ وصبر في سبيلها وفي سبيل شيء لا يعرفه.

سائل نفسك لماذا أنت تخضع لنظام الزوجية، ولماذا تجد فيه من السعادة مع مرارة السعي ما لا تجد مع راحة العقل واطمئنانه إلى حياة خلو من المسئوليات والواجبات، وأنت لا تعرف إن كنت تعيش في نظام أساسه العقل الصِّرف أم في نظام لا تعرف في الواقع لماذا تخضع له إن حكمت فيه العقل، وأردت أن تستوحيه ليهديك في ظلمات ما أنت فيه من نظام؟

ثم ارجع إلى المرأة وحدها وتصور لهفة بنت حواء إذ نبذتها الطبيعة في صحراء العقم وتركتها بلا عقِب. وانظر كيف أنها تغضب على الطبيعة وعلى الحياة وعلى الأحياء؛ لأن القدر شاء لها أن تكون عاقرًا غير ولود.

وصوِّرْ بجانب هذه الصفة المثالية متاعب المرأة في تربية أولادها والقيام عليهم، وما تعرض له حياتها من المخاطر في الحمل والوضع، وتصور كيف أنها تنسى كل آلامها وتغيب عن عقلها كل متاعبها بمجرد أن تضم طفلها إلى صدرها ضمة تفيض معها كل معاني الحياة لا كل حقائقها، فتغمرها في بحر لُجِّيٍّ من المشاعر يموت معه العقل ويحيا الوجدان.

ثم انظر في حياة المرأة في مفصلاتها؛ فإنك تجد أنها إنما تعيش للمستقبل الصِّرف الذي لا يغشاه من التطلُّع إلى الحاضر غاشية. كل ما فيها من مشاعر، وكل ما تأتيه من أعمال، وكل ما تحتمله من متاعب في هذه الحياة، إنما تتوجه به شطر المستقبل والأجيال التي سوف يتمخض عنها القدر في الأيام الآتية. هذه هي أكبر فضائل المرأة الغريزية؛ تعيش لغيرها لا لنفسها، تعيش لرجلها ولأولادها وتضحي في سبيلهم كل شيء تملكه أو لا تملكه إلا مجازًا؛ لتضع للمستقبل عمادًا يقوم عليه، وأساسًا يرتفع من فوقه بناؤه المشمخر.

جرِّد المرأة من هذه المشاعر وخلِّص نفسيتها من قواسر ما فوق العقلية التي تقوم عليها كل هذه الصفات، وحكِّم العقل فيها وحده، أو اجعلها تحكم العقل في كل ما تعمل أو تأتي من أفعال. وانظر بعد ذلك كيف يكون المجتمع إذا سادت فيه نزعات المرأة العقلية، وكيف يتهدم الحب وتموت الشفقة، وتنتفي الرحمة؟ وكيف تندك الشرائع السماوية، وتتبدد سلطة القوانين الوضعية؟ وماذا يبقى بعد كل هذا؟ هل يبقى من المجتمع الإنساني عين أو أثر.

وهنا أيضًا نستطيع أن نقول بأن بين العقل وبين نظام الزوجية وتضحية المرأة نزاعًا وصراعًا، وأن بينهما جِلادًا يجب أن تخضع فيه المشاعر لحكم العقل وحده، كما تقول بأن بين الدين والعلم قتالًا يجب أن يتغلب فيه العلم وليد العقل على الدين وليد المشاعر ونزعات ما فوق العقلية في الإنسان.

تأمل في نفسك ساعة وانظر فيما يحف بك من النُّظُم الاجتماعية والقيود الثقيلة التي تربطك بالمجتمع الذي تعيش فيه، والسلاسل والأغلال التي تُثقِل جِيدَك وتُنقِض ظهرك، من واجبات نحو الأسرة والأب والأم والزوجة والوطن والدين والتقاليد وفكرات الشروف والعروض وما إلى ذلك، واستسلم إلى العقل وحده وانزل على حكمه في تلك الأمور عامتها، وجرِّد نفسك من المشاعر إن استطعت برهة واحدة؛ فإنك لا تلبث أن تجد عقلك وقد أخذ يجر خطاك إلى التخلص من هذه القيود التي لن تجد من عقلك ما يسوغها أو ينزلها على حكم النفع المباشر. لماذا تعيش في أسرة وتحمل نفسك من الأعباء ما لا تطيق وما لا تطيق؟ ولماذا تحب أباك وتحترم واجبات الأمومة وتعطف عليها؟ ولماذا تخضع لعيشة الزوجية وفي مقدورك أن تستعيض عنها بعيش أرغد في نظر العقل وأقرب إلى مطالب الحياة الحرة المطلقة من قيود الواجبات الأدبية؟ ولماذا تحتمل تربية أولادك وتحمل من أجلهم أَمَرَّ مذاقات الحياة باصطبار وسعادة؟ ولماذا تحب وطنك وتضحي في سبيله نفسك ومالك، وتريق من أجله دمك وأرض الله واسعة الفضاء؟ ولماذا تقيد نفسك بدين تخضع له وفي متسع الإجابة ما هو أرضى لعقلك وأرضى لعِنانك وأوجب في رضائك بالحياة؟

هذه أسئلة يجيبك عليها الشعور جوابًا لا يرضاه العقل، ولا تسكن إليه موحيات الأنانية الرسيسة في طبيعتك. إنما الطبيعة قد خصت الإنسان بشيءٍ يمتلك ناصية عقله ويتحكم فيه التحكم كله. شيء آتٍ ممَّا فوق عقليته ينزل تلك المعاني من نفسه منزلة يخضع لها العقل قسرًا عنه، شيء يُقال له الفكرة الدينية، فيها من المشروعية المكتَسبة بحكم الإجماع العام ما يخضع الفرد المجتمع بحكم المشاعر وتحد من شهوات الفرد المستقل الخاضع لحكم العقل. تلك هي وظيفة الدين الكبرى في الاجتماع الإنساني.٤

•••

هذه أمثال مقتضبة ممَّا في هذه الحياة من بواعث ما فوق العقلية لو أننا مضينا نضرب فيها الأمثال إذن لملأنا صدر مجلَّد ضخم حتى نبلغ منها حدًّا يرضي نزعة البحث الصحيح. وما أتينا بهذه الأمثال إلا لنظهر أنه كما أن العلم لم يصارع بقية ما في الحياة من بواعث ما فوق العقلية الإنسانية صراعًا واجهه فيه بالذات، كذلك هو لا يصارع الدين وهو أخص ما في هذه الحياة من الإلهامات العلوية التي تحكم في ما فوق العقل، لا في العقل نفسه.

إنما يصارع العلم صور اللاهوت المذهبي؛ لأن هذه الصور إنما تريد أن تنزل بالدين إلى أفق العلم. تريد أن تجعله دينًا وتجعله علمًا وهنالك يقع الصراع بطبيعة الحال.

لم يُشرِف القرن التاسع عشر على الختام حتى ودعه العلماء بعدة مستكشفات خطيرة في الموسيقى والكيمياء والتاريخ الطبيعي. غير أن أعظم استكشاف وصل إليه العقل البشري خلال القرن التاسع عشر على معتقدي، تيقن أهل العلم بأن للعلم حدًّا يقف عنده، هنالك ترك العلم ادعاءه بحق التفرُّد بالوجود والتسلط وحده على كفايات العقل البشري؛ إذ بان لأهله أن وظيفة العلم تنحصر في وصف حقائق الأشياء. هنالك نامت عاصفة العلم وانتصرت الطبيعة على نزعات الوهم السائدة فيها، وهنالك تحددت المعارف الإنسانية بحسب كفايات العقل الإنساني فترك الدين سلطانه وحدد للعلم حيزه.

(٧) وظيفة الدين إرشادية لا تعليمية

لقد أَبَنَّا في سياق هذا البحث أن العداء لا يمكن أن يقع بين الدين والعلم بصورةٍ مباشرة، وأثبتنا فوق ذلك أن العداء لا يقع إلا بين صور اللاهوت المذهبي والعلم، لأسبابٍ هي في الواقع ذاتية أكثر منها موضوعية؛ فإن رجال اللاهوت عندما أرادوا أن يفسروا نصوص الكتب المقدسة، ويطبقوا هذه النصوص على الحقائق الكونية جنحوا في الواقع إلى فكرة أساسية كانت السبب الكلي فيما ترى من نتائج ذلك الصراع الذي قام بين معاهد الدين ورجال العلم. وكان أول ما ذهبوا إليه وأدى إلى هذه النتائج الخطيرة قولهم بأن نصوص الكتب المقدسة لا تقبل التأويل، وأنها إنما تُزوِّدنا بمعارف الدنيا كما تؤدي بنا إلى الخلاص في الآخرة. وكان لهم في ذلك مذاهب كثيرة أخصها مذاهبهم المعروفة في علم الفلك والجغرافية والخلق وما إلى ذلك.

على أن جهلهم بحقائق التاريخ كان في الواقع من أكبر الأسباب التي حدت بهم إلى الاستمساك بمثل هذه الآراء والوقوف في مثل تلك المواقف الحرجة التي كان من شأنها أن تذيع في بعض العصور مذاهب بلغت من التطرف في الإلحاد أقصى الحدود. فإنهم لم يعرفوا مثلًا أن أكثر ما جاءت به الكتب المقدسة وأكثر التفاسير التي فسرت بها تلك الكتب إنما استمدت من أساطير وخرافات ذاعت بين أمم العالم القديم، في مصر والهند وآشورية وبابل والكلدان، وأن هذه التصورات الفرضية قد نماها الزمان وانتقلت باللقاح من جيل إلى جيل ومن أمة إلى أمة حتى أسلمت بها تطورات الاجتماع إلى العصور الحديثة محيكة في صورة كتب مقدسة هي في الواقع ليست بالدين، ولكنها مظهر من مظاهره.

لهذا لا نريد أن نتابع الكلام في وظيفة الدين بإطناب؛ لأن مجال الكلام في هذا واسع كبير. وجُلُّ ما نرمي إليه من هذه العجالة يتلخص في شيء واحد هو الاعتقاد بأن وظيفة الدين إرشادية لا تعليمية؛ لأن القول بأن وظيفته تعليمية قد يجر إلى البحث في أصل الأديان ومنشأها ومقارنة بعضها ببعض. وهذا بلا شك يؤدي حتمًا إلى القضاء على المهمة الأصلية التي من أجلها وُجدت الأديان، مهمة الإرشاد والتأثير من طريق الوازع في سلوك الأفراد.

على أننا إن قدمنا اليوم إلى القراء كتاب «تاريخ تنازُع البقاء بين اللاهوت والعلم من العصور الوسطى»، فإنما نقدمه لطبقة من الطبقات المستنيرة في أنحاء الشرق العربي مرنت على مواجهة الحقائق وسكنت إليها وعرفت أن أفضل ما يتَّصف به الإنسان في هذه الحياة من خلق هو البحث وراء الحقائق لذاتها والسكون إليها مهما كان فيها من المنافاة لما نشأ عليه المرء من التقاليد.

ولا ينبغي أن تمر بي هذه الفرصة دون أن أُنَبِّهَ على أن الأديان ذاتها إنما كانت لتعرفنا الحقيقة من طريقٍ ما. فألواح الوصايا العشر التي نزلت على موسى وجرت عليها بقية الأديان وشرعتها للناس، قد نزلت على قلب الإنسان من قبل عهد موسى، ومضى المشرعون والمصلحون يتبعون مبادئها قرونًا قبل أن يعرف الإنسان ما هو التنزيل، فإنك تجد مثلًا في «كتاب الموتى» عند قدماء المصريين ألواحًا كهذه الألواح عددها عشرة تمامًا. وتجد ما يماثلها في دين زرادشت وماني وبوذا وكونفوشيوس.

وعلى هذا فإني أعتقد اعتقادًا لا يوهنه الشك بأننا إذا أردنا بعزمٍ صادق أن نؤيد الأديان، وأن يكون لنا في هذه الحياة عقائد صالحة لأن تكون دستورًا قويمًا في الحياة، فلنبحث عن الحقائق ولنطرد الأوهام لتقوم الحياة الإنسانية على أساسٍ ثابت لا يدخله الوهم ولا تعمل فيها يد التقاليد.

١  أردنا بهذه المقدمة أن نمهد للكلام في هذا الموضوع، وأن نجعلها كمدخل لمادة لم يألفها بعدُ قراءُ العربية، وقد نشرت هذه المقالة في جريدة السياسة الأسبوعية إلا جزءًا صغيرًا منها (المترجم).
٢  راجع كتاب نزعة الفكر الأوروبي في القرن التاسع عشر.
٣  راجع كتاب نزعة الفكر الأوروبي في القرن التاسع عشر.
٤  راجع كتاب ملقى السبيل الفصل السادس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤