الجزء الثاني

(استعراض موكب وفد العسكر يحيِّي الغوري وهو يحيِّي الجماهير مع ابنته.)

يا غوري يا رافع رايات الصمود
يا فاقع مرارة العدو الحقود
نسبِّح بعدلك
ونسمع كلامك ولا يوم نجادلك
ما دام فيه جراية كفاية وبارود.

•••

إحنا المماليك فخار الممالك
عبرنا ألوف الظروف والمعارك
وكل اللي قادر
وشاطر مغامر
بيسبق إلى العرش لو كان مبادر
وفزت أنت كلت البلد بالجنود.

•••

وإذا كنا من كل أرض اتخطفنا
رمانا قدرنا في مصر اتحدفنا
ملكنا ترابها
جمعنا دهبها
وريحنا نمنا على كتاف تعبها
فخمسة وخميسة في عين الحسود.

•••

آدي احنا انتصرنا انتصار الأسود
ورجَّعنا بالحرب مجد الجدود
رجعنا … واحنا
كده زي ما احنا
وطبل انتصارنا أغاني ولحنا
ملبش أعادينا خلف الحدود.

(الغوري مع ابنته بعد الموكب.)

الغوري : بنتي حبيبتي، مؤكد عجبتك الحفلة … كل ده علشانك … نمتي كويس؟ … هاتي قبلة لبابا.
تمرباي : بابا … بابا.
الغوري : إيه؟ … مالك متغيَّر حالك ليه؟ … إحنا النهارده ف عيد.
تمرباي : مش عارفة أقول لك ازاي؟ … مش عارفة إن كنت تفهم والَّا لأ!
الغوري : نعم! فيه إيه ما أقدرش أفهمه؟ … كونك بنتي لا يعطيك الحق في الشك في قدراتي … إحنا النهارده فوق قمة التاريخ، قلب العالم في قبضة ايدينا.
ابن عثمان نفسه جاي بنفسه يسترضينا … واللي ضاع من أراضينا حنعوضه بكره.
تمرباي : إنت مش عارف أي حاجة عن بُكره.
الغوري : يا بنتي أنا عارف كل حاجة … الرمَّالين فاتحين المستقبل قدامي زي الكتاب … كل اللي حصل كان غلطتي … لأني سمحت لنفسي أضحك على كلامه من باب الديمقراطية — كنت فاكره ينفع مضحك بدل جوهر الزنجي.
تمرباي : اللي سلخته حي وحشيته تبن!
الغوري : ده كلام عدوِّي … إزاي يتقال في القصر … تبقى فوضى يا بنتي … الحقايق كلها ظهرت … هزمناهم … وانتهينا.
تمرباي : إحنا فعلًا انتهينا.
الغوري : لسه بدري … خلاص حبيبك وصل. وح اعمل لكم زفة أجدع من زفة قطر الندى.
تمرباي : مش بتقول فيه أزمة وتشحيط في المون والفلوس؟!
الغوري : ده كلام بنقوله عشان المماليك يهمدوا، والخلق يتهدُّوا عننا، لكن عشانك إنتي وأميرك الخلبوص كله تحت أمرك وأمره.
تمرباي : تقصد …؟
الغوري : طبعًا ومين غيره حبيب قلبك وقلبي … لولاه كانوا البرتغاليين خدونا على خوانة … سابهم لحد ما وصلوا بحر الحجاز …
وغرَّقهم عن آخرهم.
تمرباي : حكاية لقبل النوم ممكن يحكوها للأطفال بعد خمسميت سنة.
الغوري : هو اللي حافظ على المستقبل.
تمرباي : المستقبل؟! إنت مش عارف أي حاجة … يا بابا يا سلطان الزمان كل ده مش حقيقي … ده كله عيرة ديكورات … سلطنتك وحربك وحتى قائد أسطولك … وعمتك دي مجرد إكسسوار … وده كله تمثيل في تمثيل، إنت مش قادر تفهم، المستقبل غير كده خالص … المستقبل حيعملوه ناس تانيين.
الغوري : يا خسارة، مخك اتروش.
يا بنتي المستقبل في ايدينا … والفضل لأميرك الشجاع … ضحَّى بكل رجالته ورجع لك حي بكل كرامته.
تمرباي : وعايزني هدية مكافأة على شجاعته.
الغوري : حق المنتصر.
تمرباي : لعلمك بقى أنا مش ح اتجوز أي أمير!
الغوري : أمال ناويه تتجوزي مين؟
تمرباي : حزَّر فزَّر!
الغوري : غلب حماري … مين؟
تمرباي : خمن؟
الغوري : ماخمنش قولي مين؟
تمرباي : هو.
الغوري : مين؟
تمرباي : الأدباتي … كلام الناس … الزجال اللي انت بتدور عليه.
الغوري : هاها … مش ممكن … مش حينفع … لأننا خلاص قبضنا عليه … وحنعدمه ونحاكمه؟! قلتي إيه؟
تمرباي : هاها مش ممكن … قبضتوا عليه ازاي؟ … إذا كان عمركم ماشفتوه … ولا تعرفوا شكله!
قبضتوا على كلامه؟!
الغوري : يا ساذجة، ما دام اعتقلناه يبقى عرفناه … أنا ليَّه يا بنتي بصاصين في كل شق … ويقدروا يقولوا إنتي حتفكَّري في إيه بعد بكره، ثم إن احنا كنا عارفينه من الأول.
الحمار الثرثار. بتضحكي؟! … أيوه حمار ومجرم … أنا كنت على راس الموكب بنشق المدينة … الزينة ماحصلتش … النسوان بتزغرط من الطيقان … الطبول والبرازانات عاملة هيبة وجو … موسيقى تصويرية تشرح القلب … هتافات الناس بتهز كيان العالم … أحمر وأخضر وأصفر الأعلام زي الأطفال بتنادي على السلطان … ايدين وقلوب بترفرف … وحمام بيهفهف وانا وسط كل ده بالشاش والقماش والكمبوش والقبة والطير … أول ماشافني الشعب … زعق … وهيَّص … كله هتف وهلل … من قلبه … إلا هو … المجرم السافل … رقمته وسطهم ساكت بيبتسم في سخرية وبلاهة … قلت أكيد اللي يقدر يسكت وسط الزيطة دي يبقى بيفكر في حاجة فظيعة … حاجة مايقدرش يبعد عنها بالزعيق والهتاف … قلت لابن موسى … عليَّه بيه يا بركات أول ما الموكب يعدي.
تمرباي : ومسكتوه؟
الغوري : طبعًا … بعد ما عدَّى الموكب … وكل الناس شبعت م الهتاف ليه.
تمرباي : وكلهم دوَّروا وشهم، وشتموك، واتريقوا على هدومك وحركاتك وقالوا نكت زي كل مرة!
الغوري : فعلًا.
تمرباي : وهو ساكت برده!
الغوري : فعلًا.
تمرباي : راحو رجالتك الأغبيا حسب أمرك الغبي … واعتقلوا الساكت الصامت الوحيد.
الغوري : الشجاع الوحيد!
تمرباي : إزاي بقى؟
الغوري : لما واحد يمثل دور الشجاع ويسكت في وقت زي ده لازم يكون داهية مسيَّحة، وانا لا أحب الدواهي المسيَّحة … ولا أثق بالصامتين … المتكبرين الأوغاد … أنا مابيهمنيش اللي بيزعقوا … حتى ولو كانوا بيشتموني.
تمرباي : ليه؟
الغوري : لأني عارف همه بيزعقوا ليه.
تمرباي : ومايهمكش اللي بيتريقوا ويضحكوا.
الغوري : لأني عارف هم بالضبط بيضحكوا على إيه؟ … أنا عارف اللي بيتكلم قال إيه وماقلش إيه؟ … وليه!

(يتحدَّث وكأنه يهدِّد الحاضرين.)

عارف اللي معاه … من منين؟ واللي مامعاهش ودَّاه فين؟ لكن اللي ساكت … ماباعرفش هو مخبِّي إيه؟ … وماقلش ليه؟ … وده ماهتفش ولا حتى اتريق زيهم … قصده إيه؟!

(الطالب يدخل من فترة ثم يظهر نفسه مترددًا.)

الطالب : احم … تسمح لي أقدِّم نفسي!

(الغوري يشهر خنجره.)

الغوري : إنت! … هو … الكداب المجرم.
تمرباي : مش هو يا بابا … أكيد مش هو.
الغوري : مين انت؟
الطالب : أنا راجل بسيط … إنسان.
الغوري : تبقى هو.
تمرباي : يا بابا ده من بعدين قوي.
الغوري : يعني إيه؟
تمرباي : ده راجل تاريخي.
الغوري : هو انت؟ … جيت في وقتك عشان تشاهد انتصارنا على آخر الأعداء … ياللا … روح للاستادار وقول له يجيب الولد الكداب الشاعر اللي اعتقلناه عشان نحاكمه قدامك للتاريخ … ياللا … المحكمة محكمة.
الطالب : مولاي السلطان.
الغوري : ليه مش بتروح؟
تمرباي : عايز يكلمك عن حاجات مهمة.
الطالب : عايز أوضح لك …
السلطان : إنت؟ … توضح لي … إيه؟
تمرباي : ليه الحكاية تمثيل في تمثيل.
الطالب : أنا أصلي من بعدين كتير، وعندي معلومات ممكن تنفعك.
الغوري : هايل … تبقى شاهد ضده في القضية ما دام عندك معلومات.
الطالب : دي معلومات عنك أنت … أنا كتبت رسالتي عن إنجازاتك وأعمالك العظيمة … السبيل والوكالة والبستان … والمسجد الحرام.

(الغوري كمن لُدغ.)

الغوري : كدب … المسجد ده بنيته بأموال حلال.

(تنفجر تمرباي ضاحكة وتحاول أن تشرح للطالب وتهدئ غضب والدها.)

تمرباي : مايقصدش يا بابا مايقصدش … (للطالب ضاحكة.)
الناس سمُّوه كده علشان نهب العمدان والقبلة من القصور والقبور — ليه كده بس؟!
الطالب : ما أقصدش يا مولاي … أنا قصدي إني قريت عن المساجد والمقشرة والسراديب والعرقانة … والمنشار الأوتوماتيكي اللي بتنشر بيه العربان … المفرمة.

(تمرباي تضحك.) … (والسلطان يتباهى.)

الغوري : وح ابني الهرم الأكبر كمان … عشان الأحفاد والأجيال تذكر انتصارنا على البرتغاليين.
الطالب : احم … وأحفادهم ييجوا ويدفعوا عملة صعبة على شرف خيبة جدودهم!
الغوري : بتتنأوز؟!
الطالب : وانا أقدر وخنجرك في قفايا!
تمرباي : قصده ع السياح يا بابا … ضيوف زي السفرا والقصاد.
الغوري : أمال إيه العملة الصعبة دي؟
تمرباي : دنانير بندقية … بس أمريكاني.
الغوري : عظيم … أنا ح اسمح له … احكي عن أمجادنا وانتصاراتنا وأكِّد على استقرار نظامنا ودولتنا إلى الأبد … خلاص … بنتخطى فترة النقاهة وح ننطلق.
تمرباي : يا بابا ده عارف حاجات كتير … عارف مصايب … ولازم تسمعه وتعمل اللي ح يقولك عليه.
الغوري : هو اللي ح يسمعني وحيعمل اللي قلت له عليه … هيا.
الطالب : يعني سيادتك مش عايز تسمع بعض الحقائق. وتفضل أن التمثيل يستمر … نكمل؟ والَّا أقول لك ع اللي كل الناس دي عارفاه دلوقتي عنك … ونضرب كرسي في الكلوب؟!
الغوري : تمثيل … تمثيل … التمثيل لازم يستمر وإلا حيتهد المسرح على دماغنا كلنا … هيا … تمثيل.
الطالب : طب حاسب … ماتزقش … كنت باسأل بس (يفتعل ويرى الأم بين الجمهور) سمعًا وطاعة يا مولاي … يا قوم … يا حجَّاب … يا أم متولي خشي واقعدي هنا. الله! أمال فين المحروس؟
الأم : مش لقياه … ضاع مني في الزحمة … أنا خايفة عليه قوي ليتوه.
الطالب : طب اقعدي هنا وبحلقي له قوي.
الغوري : شوفتي، ماقدرش يقول بم … راجل تاريخي … لكن قدرت أخضعه … هه.

(تخرج هي أيضًا غاضبة.)

تمرباي … استني … يخص عليكي … مش عارف زعلت ليه دي تاني … والنبي لمخاصمك … هه.

(يرى الأم ولكن يتجاهلها ويخاطب الجمهور.)

أنا عارف بتفكروا ف إيه؟ … وبتقولوا عليَّه إيه في سركم … عاملين إن انتم فاهمين كل حاجة … والحقيقة أنه لو فيه شجاع واحد وسطكم … ماكانش التمثيل استمر … ولا الغوري قعد على العرش كل المدة دي … ياكل وينهب ويقتل ويسلخ … ويبيع الوظايف مرة واتنين وتلاتة للي يدفع … ويقاسم الشحاتين — حتى الشحاتين — في أرزاقهم. ابعدوا الولية دي من هنا. (لا أحد يدخل) … أنا عارف انكم بتتمنوا موتي … مش كراهية فيَّه لكن من باب التغيير … لكن أنا بإرادتي باخرجكم تهتفوا للغوري طويل العمر … وتكتبوا فيه الشعر غصب عنكم … وتدعوا له ينتصر … على من يعاديه وتزينوا الحيطان بالشاش والقماش … وانتم عرايا … وتدبحوا البهايم قدام الموكب وانتم مش لاقيين تاكلوا … وبتدعوا لي بطولة العمر … وانتم بتتمنوا يطلع عليَّه أي كلب ويبقر بطني بسكينة تالمة … لكن طظ فيكم … بعينكم.

(يراها فيتجاهلها غضبًا.)

أنا على قلبها لطولون وحاغير التاريخ … وح ابني هرم مبني قبل كده إغاظة فيكم … وحيحفظ أولادكم في المدارس إن أنا اللي بنيته … وحتفضلوا تقروا اسمي بالمانشيت وع الصفحة الأولى للأبد كل يوم … كل يوم ولا حدش حيقدر ينزلني من على صدركم ولا المؤلف الأهبل اللي مفبرك الحكاية الهبلة دي كلها.

(ينتبه للأم فينتابه الغضب.)

الغوري : إنتي لسه هنا؟ طلعوها يا ابن القارح … ارموها برَّه … حتى لو كان التمثيل محتاجها … مش عايز أشوف خلقتها وإلَّا …!

(يدخل ابن القارح مهرولًا والحرس ويسحبونها في قسوة.)

الأم : أنا كنت راجعة بلدي … ابني تاه منِّي لو ألاقيه مش ح اقعد دقيقة واحدة هنا … يا متولي … تعالى لأمك … مالناش حد هنا.

(يتضايق الغوري ويغضب ويبدو عليه الغيظ … تدخل كليوبطره.)

كليوبطره : إمبراطوري الجميل … مالك … مبوِّز ف عيد انتصارك؟!
الغوري : إنتِ مين؟
كليوبطره : نسيتني يا غدار … يا عينك يا جبايرك مش عارفني؟ … أنا … أنا التي من سحرها افتتن الدهر …
وقال فيها ابن أباظة الشعر …
الغوري : مين؟
كليوبطره : والشوك بريحة عطرها فتح …
الغوري : معذور … لخموني بالتوافه … وغرقوني في الحماقة … نسَّوني طعم الجمال … يا ست الحسن والجمال.
كليوبطره : أنا مش ست الحسن والجمال … لكن عذرك معاك … اللبس غيَّرني.
ماحدش واخد على إنه يشوفني كده … يا عصفوري.
الغوري : أنا اسمى الغوري.

(تجلس على ركبته.)

كليوبطره : وانا كليو … بطره.

(ينتفض.)

يا سم … مالك واخدها جد كده ليه مش مهم الاسم.
الغوري : الحالة مأزمة جدًّا والوضع خطير.
كليوبطره : طول عمر الوضع خطير من أيام مينا وخوفو.
الغوري : النهارده الحالة دي ماحصلتش قبل كده.
كليوبطره : نفس اللي قاله قيصر … وهو بينام على رجلي … لكن أنطونيو قالها وهو بيبص في عينيه … كل اللي بيصنعوا التاريخ على مزاجهم قالوهالي … مهما كان اللبس اللي أنا لابساه … وعشان كده بافضَّل أكون من غير لبس خالص … عشان مايحصلش لبْس … أصل أنا حبيت كل اللي صنعوا ولو حته قد كده في التاريخ … همم! … دانت وحداني خالص … ياخراشي!
الغوري : من يوم ماقعدوني على الكرسي … ده وانا باتمنى يوم هناوه … الأكل والشرب ياما … والجواري ع القفا، لكن مافيش راحة بال، عملت كل شيء علشان أرضي كل الناس … لكن مافيش فايده!

(يقولها بطريقةٍ ما.)

فرَّقت عليهم قمحي ولحمي … وقماشي … برده … لكن مافيش فايدة!

(بنفس الطريقة.)

مش عاجبهم … عايزين رقبتي، كل يوم يقوموا ضدي.
كليوبطره : طول عمرهم ناكرين للجميل. ياكلوا من خيرنا ويشتمونا.
الغوري : قال وإيه بانهب الدكاكين والغيطان … قال وباسرق مخازن التجار … وبابيع الوظائف واقبض برطيل!
كليوبطره : كدابين، أوباش.
الغوري : ح اجيب لهم منين؟ … ألبِّي طلباتهم إزاي؟ … هو أنا بازرع والَّا باغزل … ما هو لازم ألم وأجمع عشان أقدر أوزَّع … أربعين سنة على كده ومش عاجبهم يهتفولي ويشتموني ف قفايا!
كليوبطره : منافقين … معاك معاك، وعليك معاك.
الغوري : ويطلَّعوا إشاعات، ولما أقتل اللي بيرددها … يقولوا لي مجرم وسفاح … أنا؟
كليوبطره : يا له من ببغاء عقله في أذنيه!
الغوري : اللي يكدب على السلطان ويدعي الفقر ومايدفعش اللي عليه ليه … أعمل فيه إيه؟
كليوبطره : اقتله فورًا.
الغوري : لأ، لازم يعترف على الأموال الأول ويقر، وإلَّا ضاعت … أعصره من كعابه أقلع له عينه … أكمشه بالكماشات … أنا مش غاوي … لكن الكرسي صعب والسلطة محتاجة … يقولوا عليَّه سفَّاح ومصاص دم؟!
كليوبطره : قطع لسانهم من لغلوغه!
الغوري : لأ … وعايزين زيطة وفنكشة وموكب كل يوم … كل ليلة وأوزَّع إكراميات … ولما أبيع الوظايف علشان أغطي مصاريفهم يقولوا برطيل … طب أعمل إيه؟ … دولة عايزة مصاريف!
كليوبطره : أنا فاهماك … جدًّا بس ماتعيطش … يا حبيبي.
الغوري : ويضطروني أعمل تجريدة ورا تجريدة … وحملة ورا حملة … ولا المماليك يرحموا ولا الفلاحين بيفهموا ولا العربان بيتهدوا ولا الفرنجة … بيريحوني.
كليوبطره : هو هو … نام … ارتاح ونام …
ح ادبح لك الحمام … وأجيب لك السلام … على فرش ريش نعام … نام الننه نام …
الغوري (يهب) : وازاي ح انتصر من غير ما احارب! الحرب كرب وصعب ودم للركب، لكن أعمل إيه؟! هو أنا غاوي حرب … أبدًا … دانا بحب زراعة الزهور … شوفتي الجنينة اللي أنا زارعها بايديه؟
كليوبطره : جنة.
الغوري : مش عايزين راحتي ليه؟! وبيحسدوني.
كليوبطره : أنا قلبي طول عمره معاك.
الغوري : ودلوقتي … بعدما ارتحنا من كل الحروب … يطلع لي حتة حشرة … عشان يقول عليَّه …
إنتِ قلت لي اسمك كليوبطره؟
كليوبطره : أنا بتاع المنتصرين … خصوصًا في ليالي احتفالهم بالنصر لأني بافهم اللي محتاجينه بالضبط.
الغوري : كليوبطره!
كليوبطره : عيني.
الغوري : قولي لي يا مجرم يا سفاح.
كليوبطره : قطع لساني يا غرغر.

(يدخل ابن القارح.)

ابن القارح : أنا الاستادار …
الغوري : اخرس … عايز إيه دلوقتي … جاتك داهيه ف شكلك!
ابن القارح : الأمير الشجاع الهمام أمير ما وراء الهند بعت طالب المثول بين أيديكم … يدخل؟
الغوري : خليه يتنيل يدخل … وانت تغور من وشي … ارمي نفسك في العرقانة لغاية ما تعفن … جاتك داهية انت وهو!

(الحرس يقودون الاستادار.)

الغوري : خلاص … جه الفرج في وقته … ح اريح دماغي واتنازل له عن العرش والسلطنة.
كليوبطره : اوعى!
الغوري : ح اجوزه بنتي واسيبه يصنع شوية في التاريخ … واتفرغ لك انتي … قصدي … أتفرغ … لأعمال البر … أنا أصلي زهقت … من قلة النوم نفسي ف حتة حنيَّة … دانتي لو شفتيني من عشرين سنة! أنا اتغيَّرت خالص …
لدرجة ماحدش م اللي عارفيني عادوا عارفيني.
كليوبطره : اقعد ع الكرسي أعرفك مهما اتغيَّرت.
الغوري : أنا حقيقي غير كده … وحياة عيونك … ماليش في الحكم وماكانليش في التمثيل … دانا عاطفي جدًّا … ياااه … فين أيام المراهقة … خلاص … نروح نصطاد سمك … ونقرا كتاب ألف ليلة … مع بعض ونعيش في كوخ زغنطط … لقمة صغيورة تكفينا … عش العصفورة يغطينا … ونسكر طينة … على أي شط مايوصلوش مملوك.
كليوبطره : وتكتب مذكرات سيرتك الذاتية.
الغوري : وعرفتي منين؟
كليوبطره : كلهم لازم يعملوا كده يا غرغوري.
الغوري : ده اسمي ده؟!
كليوبطره : همم!
الغوري : جديد … ولذيد على لسانك يا كليوبطتي.

(يتعانقان.)

(زيطة وهيصة وهتافات، يدخل الأمير والاستادار الجديد هو ابن القارح أيضًا في شكل آخر – يعيش يعيش … طبول بالتبادل مع الهتافات … الغوري قرفان يلعنه سرًّا لاقتحامه المكان … ويحاول طول الوقت أن يداري كليوبطره التي يشغلها الفارس الجديد … قليلًا.)

الغوري : جئت في وقتك بالضبط يا بطل …
بعد أن سبقتك أنباء انتصاراتك فأسعدتنا … ولقد علمنا أنه بالرغم من غرق كل مراكبك إلا أنك ظللت تقاتل حتى آخر جندي، وها أنت جئت في اللحظة التاريخية لتأخذ مكافأتك التي تستحق.

(تلفت كليوبطره نظره.)

لا مش دي، إن أميرتك تنتظرك.
الأمير : إن من يؤدِّي واجبه لا ينتظر جزاءً ولا شكورًا.
فلا تؤجل عمل اليوم إلى الغد،

فتصبح ملومًا محسورًا … إنني …
الغوري : أنا عارف نفسيتك كويس (يبعد كليوبطره) وقد قررت تعينك أمير أخور كبير … وأمرت بأن الطبلخاناة تمشي قدامك … حتى وانت رايح الدبليو … سي.
الأمير : هذا كثير كثير.
الغوري : على قد اللي بيموتوا بيبقى حجم الانتصار … وكل ما زادوا المقتولين زادت مكافأة اللي عاش.

(يدفع الغوري كليوبطره إلى الخارج.)

الغوري : ولك كاملية بسمور.
الأمير : أنا لم أحارب من أجل الدهور والسمور.
الغوري : انتهينا … أنا أمرت وانت تقبل … طول عمرك بتقبل حتعمل عفيف على إيه؟
الأمير : حاربت من أجل الوطن … المجد العظمة … حاربت من أجل السماء … الحق … النظام الخالد إلى الأبد.
الغوري : عارفين … وح اجوزك بنتي وح تكون وريثي؛ الجمل بما حمل.

(تدخل كليوبطره ومعها شراب.)

(تتغير اللهجة، وكأنهم رجال أعمال عصريون.)

الغوري : اووه … شكرًا.
الأمير : مرسي.
كليوبطره : أكيد جاي من البحر عطشان؟
الغوري : الحر فظيع.
كليويطره : ويسكي … فودكا … جعة … بتشربوا هنا إيه؟
الأمير : جين.
كليوبطره : وانت يا غرغوري؟
الغوري : احم … عرقسوس.
مش باشرب كحوليات.
كليوبطره : أوه! يقطعني نسيت … إسلاميك (تغازل الأمير).
الغوري : سيبنا دلوقتي … نخلص شغلنا … سيبونا.

(يبعدها.)

خلينا في موضوعنا … الهرم الأكبر … الكبير حنبنيه بإيه؟
الأمير : ها … أنا في خدمتك في الحرب وفي السلم.
الغوري : حنبنيه بالحجر الرملي أفضل.
الأمير : يخيل لي أن الجرانيت أطول عمرًا.
الغوري : طبعًا لأن أبوك هو المسيطر على محاجر الجرانيت … الحجر الرملي أنا ح ابيعه للدولة بسعر التراب.
الأمير : لكن مش حيبقى متين.
الغوري : خلاص … منظر والسلام.
الأمير : أمرك يا مولاي.
الغوري : لو كان أبوك يشغل مخُّه ويعمل حساب نصيب مكاتب الخبرة وفرق العملة … ويمشِّي أموره … شوية كانت الدولة اشترت منه الجرانيت بسعر كويس، وانا كنت وفَّرت الحجر الرملي لمشروعات الإسكان الشعبي.
الأمير : السعر اللي تأمر بيه يمشي يا مولاي.
الغوري : أنا مش بافهم قوي في الأمور المادية دي … اتصرف إنت وفوا الأوراق … وزبطوها … وخصوصًا مسائل العمولة … والبرطيل والحلوان.
الأمير : خلاص يا فندم اعتبر اننا خلصناه النهارده.
الغوري : والرسوم والدمغات … أنا مش عايز تدخلوني ف أي تفصيل.
الأمير : حنتصرف ريَّح بالك خالص … إحنا ماكناش بنتصرف أي كلام ولا بالصدفة … دي خبرة وشجاعة وتدبير.
الغوري : كاسك يا أمير.
الأمير : كاسك يا وطن.
الغوري : لكن فيه مشكلة يا أمير.
الأمير : الأيدي العاملة؟!
الغوري : التجاريد جردتنا من الجنود … والمماليك مستنفرين … حنحتاج على الأقل لمليون فلاح … عشان يموت نصهم. العربان ما ينفعوش … مالهمش في حضارة البناء … وأهل القاهرة مش متحمسين، تصوَّر فيه إشاعات بتقول هرم إيه اللي حنبنيه وفيه في عهدة السلطنة تلاتة قدام.
الأمير : مش معقول … فين؟
الغوري : ماقالوش.
الأمير : كدابين … ولازم ينقطع لسانهم.
الغوري : قبضنا عليه وحنحاكمه.
الأمير : تحاكمه؟ … يعني إيه؟
الغوري : يعني إننا مش برابرة.
الأمير : على كل حال أنا رأيي كل ما زاد عدد المعارضين سهل الأمر علينا، نسخرهم … ألافوتر.

(يدخل الطالب.)

الأمير : مين ده؟
الغوري : رجَّع سيفك … ده المهرج التاريخي.
الأمير : هه؟
الغوري : بتاع تاريخ … (يضحك) عملت إيه يا بتاع التاريخ؟
الطالب : حسب أوامرك التمثيل حيستمر … حنجيب المتهم.
والاستادار خد على عاتقه يفهمه خطورة إثبات براءته … ومن الأكرم أنه يعترف بالخيانة العظمى خبط لزق … لأن حكم الإعدام صدر … وانتهى!
الغوري : عظيم … يا تواريخي … دانت طلعت أجدع من جوهر.
الطالب : دي مش نكتة يا مولاي.
الغوري : وبنفسك لمست يا أمير قد إيه أنجزنا النهارده.
اعتقلنا آخر واحد من كان واقف ضدنا.

وبكده حنبدأ فورًا عصر الاستقرار العظيم.
الأمير : سمعت إشاعة زي كده قبل ما أوصل.
الغوري : امتى؟
الأمير : الحقيقة لازم فعلًا نقطع دابر كلام الناس اللي داير في الحواري وسادد الطرق للقلعة … زي النمل لحد باب السلسلة … ولولا كان معايا بواقي العساكر المخلصين وكام كيس دهب ماكناش وصلنا لهنا … أول ما هتفنا باسمك معلنين انتصارك، الطوب بقي أكتر من الزغاريد، فاضطريت أبدُر كام كيس دهب على الزعر والحرافيش وألهيهم بيهم … واقدر أدخل لك.
الغوري : هنا قدام القلعة؟ … عايزين إيه تاني … كل اللي حيلتي صرفته ع احتفالهم.
الأمير : تصوَّر خطفوا عمم عساكري ولعبوا بيها كورة.
وكانوا عايزين يخطفوا قلنسوتي … لكن اضطريت للعنف، شايف الدم فوق سراويلي!
الغوري : لأ بقى دي قومة … أسيب لهم السلطنة يطقشوا ف بعض وأطفش؟
الأمير : مش للدرجة دي يا مولاي … إحنا فداك وهمه كمان لآخر واحد فيهم.
الطالب : الفرحة بانتصارك يا مولاي زادت حبتين. وانت عارف الناس بتحبك قد إيه؟

(تدخل شجرة الدر.)

شجرة الدر : إنت ازاي تسمح لنفسك تقدم الجراكسة على التركمان؟ إنت نسيت مين اللي خلى لكم سعر في البلد دي؟ … هه … الواحد منكم ماكنش يسوى تلاتة درهم … صبحتم سلاطين! على مين الكلام ده يا غوري ما تنساش أصلك!
الغوري : يا مولاتي يا صاحبة الصون والعفاف …
شجرة الدر : بلا صون بلا عفاف … إنت طينتها … كلهم بيشتكو من تشحيط التبن واللحم.
الطالب : قبضنا على المعلم علي الصغير عشان اللحم، وقد تم تعصيره من أكعابه وانتزعت حلمات صدره بكماشات حامية.
شجرة الدر : بلا نيلة … لما انتو مش لاقيين تاكلوا عاملها خمس طبقات ليه ما كانوا اتنين!
الغوري : يا ست شجرة …
شجرة الدر : اللي يتسلطن يتسلطن على قده … وبلاش جُرسة!
الطالب : عندنا ضيوف يا ملكة المسلمين … ومافيش داعي … ننشر غسيلنا ف يوم مفترج.
كليوبطره : اتفضلي يا مدام.
شجرة : مرسي … فيه كحول؟
كليوبطره : تفضلي إيه؟
شجرة الدر : في صحتك يا حلوة … اسمك إيه؟ … (تندمجان معًا.)
الغوري : وماقلوش القومة دي ليه؟
الأمير : قال عايزين تصدر عفو عن الولد ده … الكلامنجي … زي ماعفيت عن … (يوشوشه.)
الغوري : مستحيل … ده تدخُّل في أمور دستورية عليا.
الطالب : هذا اعتداء على السلطة … لازم يحاكم علنًا، كلنا قدام القانون سواء … ولازم يُعدم مع أن ياما سلاطين أعدموا وبدون محاكمة.
الأمير : وأي تصرف آخر حيدل على ضعف إحنا مش في حاجة إليه … لازم من إعدامه.
الغوري : محاكمته … محاكمته.
الأمير : وتوسيطه وخوزقته بعدين.
الطالب : وتعلق راسه على حربة كما تقضي التقاليد الأصيلة.
الغوري : أهه … ممكن يطلع لنا ألف شاهد من التاريخ يأكد حقنا في إعدامه.
الطالب : بس أنا شايف ليكون مش هو اللي نقصده! كل الشواهد بتقول …
الغوري : مش عايزين شواهدك … اخرس!
الطالب : خرست … بس أنا كنت عايز أنورك … لتغلط في حق نفسك … الضنا غالي!
الأمير : قصدك إيه؟
الغوري : تعالى هنا … إنت تقصد إيه؟
الطالب : مش ممكن يطلع الولد ده قريب حد هنا؟
الغوري : بدأت تتكلم زيه … وانا لن أسمح بالتساهل معاك زي ما حصل مع اللي قبلك.
الأمير : بيقول إيه ده؟
الطالب : ولا حاجة … أنا أخرس.
الغوري : إحنا محتاجين رقبة يا بتاع التاريخ … ورقبتك مناسبة جدًّا، الناس على الأبواب محتاجة ضحية تتلهي فيها … وفي ظرف دقيقة واحدة من دلوقتي ح تقول لي قصدك إيه؟
الطالب : على إيه؟ … أنا كان قصدي فيه زبادي على شنبك يا مولاي.
الغوري : كان قصدك تقول حاجة تانية؟
الطالب : أنا؟! … مش ممكن … دانا حتى اللي ف قلبي على لساني … كلمنجي.
الغوري : يمكن تكون عايز تدخل التاريخ؟ … تعمل كلام الناس؟ بطل الشعب؟ … وعلى فكرة … كل كلامك متسجل هنا … إن كان نفسك حتلاقي لك مادة … تكفي لقطع رقبتك ونشر القفص الصدري الجميل ده.
الطالب : يا مولاي! أنا قصدي إن الشعب الحقيقي عمره ما يضيع وقته في الشوارع … لأن الشعب مشغول بأكل عيشه ولقمته الشريفة … مهتم بتعليم ولاده الصنعة، ولما بيلاقي وقت يا دوب بينام يرتاح … إنما اللي بيزعقوا في الشوارع دول غوغاء وعواطلية وصيع … وعملاء … دول أجنبية … جواسيس مأجورين.

(في حماس مفتعل وخطابي يؤدي ما سبق.)

الغوري : يعني إيه؟ … معناه إيه الكلام ده؟
الطالب : معناه يا مولاي إن الشعب الطيب العامل الشقيان اللي بيبني الحياة في صمت بيأيد السلطان في كل زمان ومكان … واللي يلاقي وقت يضيعه في الصريخ في الشوارع ما همَّه إلا عملاء.
الشعب الحقيقي دايمًا في مكانه الحقيقي … في الحقول والبساتين والورش والطواحين … والمواني والسجون.
الأمير : برافوا.
الغوري : هايل جدًّا.
الطالب : عجبتك؟! والَّا لو كان الدم ده يا أمير دم الشعب … كان ح يألمك جدًّا … دم الشعب مؤلم إنما لأنه دم عملاء … فهو مجرد ميكياج.
الأمير : مش فاهم الكلمات اللي بيرطن بيها دي!
الطالب : دي كلمات مفيدة جدًّا يا مولاي … كلمات حديثة … من عصر الصحافة المتقدمة … تقضي على الحقيقة في مهدها … فيسود الأمان والسلام.
الغوري : أنا كنت متأكد أنك داهية مسيَّحة … وانا أحب الدواهي المسيحة، ولذلك أنا ح اصدر أوامري السلطانية … أن تظل في خدمة دولتنا الخالدة إلى الأبد.
الطالب : ودي برده مش نكتة يا مولاي.
الغوري : يا بطل الهند والسند وقاهر البرتغاليين.
الأمير : بأمرك يا مولاي.
الغوري : لقد وضحت الحقيقة الآن … هيا يا زوج ابنتي ووارث عرشي … أمام القلعة … مخربون وعملاء هيَّا.
وخلَّص الشعب منهم … لتكون لك السلطنة خالصة بريئة.
الأمير : هكذا فهمت يا مولاي.
الغوري : مش ح اقولك على شغلك.
الأمير : سأعاملهم بما يستحق كل مخرب وعميل.
الغوري : إنني أعتمد عليك في هذه اللحظة التاريخية … هيا قاتل من أجل ميراثك.
الطالب : ع الجاهز يا عم … عرش وسرير ومجد للأبد.
الغوري : وسألاقيك فيما بعد، فأنا سأنشغل قليلًا … بريِّ أزهاري … وإلا ماتت من العطش (يأخذ كليوبطره في إيده).

(يخرجون.)

الأمير : سمعتم؟ وقدامكم … بيكلفني مرة ثانية أطول عمر سلطنته … خلصته من الأعداء الخارجين … وح اخلصه من اللي جوه … وف مقابل إيه؟ … بنت ما بتحبنيش … وعرش مش ضامنه … لكن لأ … وشرف اللي ماتوا وكلهم السمك. واللي شربوا مية المحيط، ما ح اسمح المرَّة دي بالضحك عليَّه … السلطنة حقي والبيت من نصيبي شرعًا.
أما أنتم فاسمعوني يا حرافيش القاهرة، سأجعل من جماجمكم سلمًا فاختبئوا … في الشقوق … إنني قادم … فاحفظوا اسمي … لأنني سأعلمكم الهتاف لي بطريقة أخرى … على نغمة أضعها بنفسي … أعزفها على أرغولي أنا … أين ابنتك يا سلطان آخر الزمان … لأريق بعض الدماء الملكية، فأنا في حاجة إلى ما يرفع روحي المعنوية قبل أن أنقضَّ على هذه المدينة اللعينة!

(يقتحم القاعة مجتاحًا المتفرجين إلى الخارج … بقعة ضوء وحيدة عبد الله بن محمد مُقيدًا ما يزال ينشد أو يغنِّي في لحن بسيط مؤثر.)

عبد الله بن محمد :
هبوب النسيم شوق لهوج العواصف
وحبي الأليم مش مخبي دا خايف
أنا عشت عمرك
مطاطي لأمرك
وامتى تزيحي القناء اللي زايف.
تعالي انجديني
ومن أول الحرف دا فهميني
يا يرميني جهلك … بما في قلب أهلك
يا أموت والكلام حي فوق الشفايف.
يا ليلي وناري
يا جمر انتصاري
ملهلهب ضلوعي
منشف دموعي
مطفي شموعي
ولو كنت أعمى … يخليني شايف.

(ضجة … الحاشية والضيوف في انتظار السلطان، صوت يُذيع بطريقة المذيعين الجوفاء ويصف ارتجاليًّا موكب السلطان الذي عاد من افتتاح الهرم الأكبر … الحماسة تزداد كلما اقترب الموكب من اقتحام المكان الغوري يوزع وروده ويقدمها لكل واحد بتعليق مناسب متفكه.)

الغوري : والآن اقترب حفلنا من نهايته الرائعة … نموذجًا حيًّا وأبديًّا للفرح والهدوء … هكذا ننهي هذه التمثيلية التي هي حقيقةٌ راسخة مثل كلِّ ما فعلناه خلال فترة ولايتنا الطويلة … حديقتنا أزهرت وأينعت وترعرعت فيها زهور لم تعرفها أرض مصر من قبل … أنا زرعتها ورعيتها بنفسي ورويتها بعرقي … وأقسم على ذلك بشرفي … تفضل يا عمر فإنك تستحقها والله، فأنت لم تفتحها عبثًا … وأنتِ يا ربة الصون والعفاف … يا شجرة الورد خدي … رائعة مثلك لتعرفي أن أحفادك صانعو المعجزات زُرَّاع كما هم قتالين قتلة … وأنت يا حجاج … لتتأكد أنه حيث يطيع الشعب تنبت الزهور … ها؟ وأنت (لعبد الله بن محمد في عداء متبادل) خذ لأؤكد للجميع أنني لا أكرهك بما فيه الكفاية.

(يداري عكننة طارئة بسبب عبد الله.)

والآن … ستعودون لبلادكم … وحتوحشونا جدًّا … ولكن تذكروا … إن اللي يشرب من ماء النيل لا بد يرجع له مرات ومرات؛ ولذلك … سنجعل من الأهرامات مزارًا وسبيلًا … وتكية، وملتقى لكل الناس من الأديان والأجناس … وكل من يريد فتح مكاتب سياحية هنا أو في بلده … نحن نرحب به دائمًا … كما رحَّبنا بكم في حفلنا المتواضع.
تمرباي : بابا … بابا … بابا …
الغوري : انتظري … لا تقاطعيني.
تمرباي : الأمير … يا بابا.
الغوري : نتكلم عند بعدين … روحي العبي معاه بعيد.
الغوري : أنا طردته فخرج غضبان وبيهددك!
الغوري : بلاش دلع صغار … ونحن يا سادة في اجتماعنا التاريخي هذا … وفي نهاية احتفالنا … وبداية حقبة جديدة …

(تُقاطعه من جديد.)

الغوري : هش … بقى … روحي صالحيه … امشي.
نحاول أن …
تمرباي : قال إنه حيطربقها فوق دماغك … هيه هيه؟
الغوري : نشهد العالم على ما نحن عليه من استقرار وعدالة … هش … خذي يا ابنتي أنت أيضًا تستحقين زهرة … ها هي التي سمَّيتها باسمك … خذي … فقد قررت الانتهاء بسرعة من هذه المحكمة العاجلة حتى نتفرغ لأسباب سعادتنا … ونبدأ عصر الشعوب العظيم.
أحضروا الولد المتهم!

دع الزهور … الآن سنوزعها فيما بعد.
تمرباي : حلف حيعمل ثورة عليك … وراح يحرِّض المماليك والناس.
الغوري : هش … تعالي يا ابني!
إنني أسلمك لقضاتك الشرعيين … نعم هم شرعيون لأنهم اشتروا مناصبهم بأموال حلال معروفة المصدر — فقط — أنبههم بأن يحكموا بما فيه صالح هذا الصرح الشامخ الذي بنيناه سويًّا … وفي زمن قياسي جدًّا؛ ليكون شاهدًا على عبقريتنا … نحن زرَّاع الزهور وبُناة المقابر العظيمة (ينفعل).

ولذلك … أرجو أن يُعاقب بما يتناسب مع فداحة فعلته … ليكون عبرة لمن يحاول انتهاك مقدساتنا … بأقوال مغرضة شريرة.
الطالب : خف اللعب يا مولاي مش كده … الناس يقولوا إيه؟
الغوري : آسف … لأنني انفعلت … أعرف أن هذا لا يجوز … وانا أعتذر عنه … وسأشغل نفسي بكتابة قصيدة جديدة … وحتى لا يقول ذوو الغرض إنني تدخلت في مجرى العدالة.

(عبد الله بن محمد يقترب من الولد.)

عبد الله : ولا حربة بقيت يغرسوا فيها راسك.
وانا لا أملك حتى ظلي … فهو بأرض المعتمد وتحت حوافر خيله … لا أملك إلا أن أنصح بكلمات جوفاء … ماتسيبلهمش غير أشلائك، إياك تفرَّط في كرامتك … ارفع قامتك!

(يدفعونه بعيدًا.)

تمرباي : حلف أنه حينتقم منك … حلف بأمه!
الغوري : هشت … أنا باكتب شعر دلوقتي … روحي لعريسك وصالحيه، قطم رقابيكو يا حلوين.
تمرباي : مش رايحة ومش حا صالحه … أنا بقى عايزاه يهدها … ولا يمكن أبقى نيشان يعلَّقه على صدره.
الغوري : بالعكس … ده حيحطك في قلبه … ياللا امشي … امشي … هيا … ولا تعطلي العدالة … هيا.
ابن القارح : التفت هنا … وماتستعبطش … هنا … ليه … إننا الآن نقيم أسس العدالة. ونذكركم يا سادة بما جرت عليه العادة من تلاوة بعض ما أقرَّه علماؤنا الأفاضل من أمثال الجاحظ، والقاضي الفاضل، الذين علَّمونا أن الله … عز وجل منَّ على الملوك وخصَّهم بكرامته، وأكرمهم بسلطانه، حين مكَّن لهم في البلاد، وخوَّل لهم أمر العباد، ولذا أوجب علينا تعظيمهم، وتوقيرهم وتعزيزهم، وتقريظهم … كما أوجب على الرعية طاعتهم … والخشوع لهم، فقال في كتابه الكريم:
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ.

وقال عز وجل:

أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ.
الغوري : صدق الله العظيم.
الطالب (مندمجًا في دور المهرج) : وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا.
الغوري : هشت.
ابن القارح : وتعلَّمنا وصايا الأقدمين السالفين، ألا ننسى أن من ليس له قديم لا جديد له … وقد قال أجدادنا المصريين المؤمنين الطيبين ما استطاعوا بفضله عمارة كل ما بنوه من عمائر ومقابر:
احنِ ظهرك لرئيسك وسوف يغمر بيتك بخيراته وتنال مكافأتك في موعدها.

ما أتعس الذي يُناصب رئيسه العداء!

إن المرء يحيا فقط طالما كان رئيسه راضيًا.
الطالب : وقيل قالوا:
لقد خلقت الرياح الأربعة ليتنفس الإنسان

مثل أخيه الانسان.

لقد خلقت المياه العظيمة ليستعملها الفقير مثل السيد.

لقد خلقت كل رجل مثل أخيه.
الغوري : اخرس يا ولد! ليس هذا وقت الفكاهة.
الطالب : ده فرعوني هيروغليفي … منقوش ع الحجر.
ابن القارح : ويقول أردشير من بابك:
إن سعادة الرعية في طاعة الملوك.

فالملوك هم الأساس والرعية هي البناء، وما لا أسس له مهدوم.
الطالب : ويعيش مأزوم من غير هدوم.
عبد الله بن محمد : لما يملك راجل واحد كل الدنيا … لازم تعمل من خلاخيل أم عيالك … من لحمك عضمك من أغلالك … تعمل سيف.
لما يكون راجل واحد مالك كل الدنيا

لازم ترفع سيفك

أو تأكل دود الأرض.
الغوري : قلت كفى هذرًا … لسنا في حالة تسمح بسماع هذا الشعر الركيك … الضيوف لا يتدخلون في المحاكمة، فإنه أمر داخلي لا نريد إفساد العدالة بالشعر وأنت … أيها الناكر للجميل.
جعلتك مضحكي الأخير فتتطاول على الملوك.
الطالب : إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا.
الغوري : وبعدين!
الطالب : وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّة.
الغوري : اسكت!
الطالب : صدق الله العظيم.
الغوري : ماتخليش غضبي يزيد عن إعجابي بيك! أفرمك … دعهم … دعهم … يتمِّمون عدالتهم في هدوء … وسنضحك كثيرًا بعد انتهاء هذه المهزلة.
ابن القارح : العدل أساس الملك.
وكل راعٍ مسئول عن رعيته.

هكذا سارت الأمور وهكذا ستظل تسير … دائمًا.

بفضل حكمة وحنكة مولانا السلطان.

والآن … أنت متهمٌ يا ولد … بأنك المجرم الذي يسمِّي نفسه كلام الناس.

ويطلق إشاعات وأكاذيب والناس بتردد

كلامه بكل قلة أدب وبدون إذن.

العدالة بتسأل لآخر مرة … عارف الكلام اللي إحنا قصدنا عليه؟
الطالب :
ضاعت ما بينا الأصول
لأصحاب بتكبر تقل
ويزيد مقامها تذل
واللي استراح بيعل
حين يفهم الفولة أول ماينول بيفل
القصر لما يطول ويشب يصبح غول
جمل الحمول بيكل
ويهل عصر الجوارح.
الغوري : كفاية يا ولد، ده مش شعره.
الطالب : يا مولاي ده من عندي … اسمع:
هذا المدى الكالح
بحر المسافة ما بين السم والمالح
هذا المدى البطَّال
تمن التعاسة في سجن الحق يا قوال
هذا المدى الممرور.
الغوري : أنا قلت مش عايز شعر … إحنا النهارده يا ابني بنقيم صرح مثالي ونموذجي للعدالة.
والشعر ممكن يشوِّه أي شيء جميل.
الطالب : عندك حق … وكمان دي أشعار حديثة وبايخة وعامية ومش موزونة قوي … وضعيفة …
ولا يمكن تاخذ أي جايزة من جوايزكم.
ابن القارح : العدالة بتسأل لآخر مرة … إنت اللي قلت الكلام ده وألَّفته؟
الطالب : ماتتعبوش نفسكم … لأنه أخرس.
الغوري : إيه؟ … أخرس!
الطالب : عرفت ده بالصدفة … أمه … أمه حكت لي حكاية كده ولا الحواديت أحكيها يا مولاي … حكاية ولا الأفلام العربي … وأظن مافيش أم تعيب ابنها. لو ما فيهش عيب … احكي يا مولاي.
الغوري : اخرس … اخرس؟
تمرباي : أيوه يا بابا … فيه في الدنيا دي ناس خُرس كتير.
الغوري : عايزة تقولي إن أنا أقعد تلاتين سنة أدور ع اللي قال عني كل الكلام الفارغ ده … وبعدين لما أعثر عليه، يطلع أخرس؟!
تمرباي : ممكن!
الغوري : معنى كده أنه قعد يتمسخر علينا كل المدة دي وهو ما بينطقش!
تمرباي : يا بابا …
الغوري : مش ممكن ح يفضل أخرس … أنا عندي اللي يخلِّيه ينطق.
تمرباي : حتعذبه؟
الغوري : لحد ما يعترف وينطق.
تمرباي : تعذب الأخرس!
الغوري : ح ينطق … لازم يكون فيه لسان حامي ورا كل الكذب ده بيقلب نصري هزيمة.
ويشوِّه أكبر نصر ف تاريخنا.
الطالب : بس ده أخرس فعلًا … علاوة على أنه …

(يكتم فمه ويزيحه.)

(يتقدَّم في نعومة.)

ابن القارح : يا ابني سكاتك مش كويس عشان العدالة، اعترف … والَّا تبقى خايف من العدالة … تبقى معترف بأنك المجرم اللي هي بتدور عليه.
معنى كده يبقى من حقنا نقتلك من غير محاكمة.

ودي إهانة وتشويه لانتصارنا.

حتعترف والَّا حتنكر؟

(متولي يهزُّ رأسه.)

ابن القارح : بتنكر؟!

(يهزُّ رأسه عكسها.)

ابن القارح : بتعترف؟!

(يهزُّ رأسه.)

ابن القارح : أنكر تاني يا مولاي.
الغوري (عائدًا لمكانه) : أثبِتوا ده عليه. هو الجاني على نفسه، وياللا بسرعة.
ابن القارح : تحت أمرك يا مولاي.
الطالب : شايف … لو حتتكلم زينا مش حيخافوا منك … سكوتك مخوفهم … لأنك بِسكوتك اللي ما لكش يد فيه، بتنكر قدرتهم على تحقيق عدالتهم … نكتة … مش كده؟ لمجرد إنك مش بتهتف للغوري.
الغوري : كفاية خلصونا.
الطالب : ماتسكتش … إنقذ نفسك زينا … كلمة منك إنت يمكن توقع السلطنة … تصور … كلمة مستحيلة.
الغوري : أنا قلت … اخرس!
الطالب : باحاول أقنعه يتكلم! … قول … قول يا أخرس … قول أي حاجة … أمك محتاجة لك، مش كفاية ضاع الأب … حتضيع إنت منها كمان … يالَّلا!
امدحه بعلو حسك … يا أخرس … اهتف يا أخرس للغوري. اللي ما يعرفش لسانه العيبة ولا ينطق الكذب … ياللا ورايا ياللا … عاش الغوري عاش.
ياللا … اهتف له وقول واتكلم
خلِّي الناس منك تتعلم
قول له الضفدع سايق المركب
والنملة ع الفيل بتسلِّم
شفت السبع بيضحك سنه
والمماليك بتفرق لوز
وحمَّار قاعد يفتل دقنه
جاب الحق عطاه بالجوز
طاوعه … وقول له ع اللي يعوز
قول له عشان بالعدل تفوز
ويجوز تعلا تقرب منه.
الغوري : كفاية … يا ولد … إحنا ماجيناش هنا وعزمنا كل الضيوف دي وكل الأكابر دول … عشان نضيع وقتنا مع مهرج غبي زيك.
ابن القارح : معلهش يا مولاي … لازم يكون مع المتهم محامي … حقه. والمهرج من حقه يطلب له البراءة.
الغوري : نعم؟ البراءة يا ابن القارح؟!
ابن القارح : هو يطلبها بس … آه … لكن احنا لنا تدبيرنا … وحنثبت العكس.
أمال احنا شغلتنا إيه؟!

داحنا اللي بنقبن الموازين.
الغوري : طب شوف شغلك بسرعة.
ابن القارح : يا مسرور.

(موسيقى عنيفة وتظهر غرفة التعذيب أو أي معادل يجعل السيدات يخفين وجوههن رعبًا … ما عدا شجرة الدر تمضغ لبانًا، يتقدم الطالب.)

الطالب : بالمناسبة أنا دوَّرت على اسم الجلاد أيام الغوري في كل المراجع مالقيتش … والظاهر أن كل واحد كان بيتولى مهمة تعذيب غيره بنفسه، لكن استكمالًا للديكور لجأت للتراث الشعبي، المنقذ الوحيد لكل مزنوق … فسميت … الكومبارس ده «مسرور» … لأنكم أكيد حتنبسطوا من اختياري الشعبي.
الغوري : كفاية! نكمل عايزين ننتهي من المحاكمة.
الطالب : يا مولاي … لا … أنا مؤمن إن اللي تطوله عدالتكم ولا يمدحهاش عشان يفلت بجلده … يبقى حاجة من اتنين … يا إما مجنون … يا أخرس … إنت مجنون يا ابني … (يهز رأسه) شفت اهه مش مجنون، بينكر، يبقى أخرس أكيد.
الغوري : كل واحد ممكن ينكر، كل واحد ممكن يبلع لسانه ويعمل أخرس، لكن التعذيب حينطَّقه.

(يخرج الغوري وابن القارح والعسكر يجرُّون الأخرس إلى غرفة التعذيب.)

الحجاج : الحقيقة أنا ماشفتش في حياتي حاكم غبي زي الغوري ده … لماذا يريده أن ينطق؟!
عمرو : إنه لا يفهم أنهم حين يتكلمون من وراء ظهرك فهذا دليل قوَّتك … وبرهان أكيد على ضعفهم.
الكارثة تبدأ حين يتجرَّءون على الكلام أمامك!
شجرة الدر : عجيبة إصراره أنه يخلِّي الأخرس ينطق.
السفاح : الحاكم يجب أن يقطع الألسنة لا أن يدفعها إلى اللغو.
الحجاج : وماذا لو أعاد ترديد الحقائق التي نشرها بين الناس؟!
الطالب : متخافش، ده خلقة ربنا مش حينطق.
الحجاج : ذات يوم كنت أخطب في أهل البصرة … وقلت لهم: أيها الناس مَن أعياه داؤه فدواؤه عندي.
ومَن استطال عليه أجله أعجلته له … ومَن أثقلت رأسه الأفكار أرحته منه. ومَن أتعبته الأيام وفَّرتها عليه … وظل الجميع صامتين كأن على رءوسهم الطير … أخرسهم كلامي وشجَّعني هذا طبعًا على مواصلة التهديد قائلًا:

إنني أُنذر ولا أنظر … أُحذر ولا أعذر … أتوعَّد ولا أعفو … ثم أقسمت أنني لو أمرت أحدهم بالخروج من بابٍ فخرج من باب يجاوره، سأضرب عنقه.

وساد الصمت لحظة وأحسست أنني ملكتهم … وفجأة وقف أحدهم ساخرًا وقال:
عبد الله بن محمد : كفاية بقى.
الحجاج : ألا تخشاني يا ولد؟!
عبد الله : يا عم روح … ما يقبض الروح إلا خالقها … لو مكتوب لي نَفَس ح اشمه … لقمة ح اكلها … وآديني قدامك وح اخرج من مطرح ما يعجبني ساعة ما يعجبني.
الطالب : وعملت إيه؟
الحجاج : وقفت خائبًا مثل صاحبك هذا … وأمرت المؤذن أن يُقيم الصلاة.

(يعود الغوري والحرس يعيدون الأخرس ممزقًا مضروبًا.)

الغوري : باسم الله … هيا لنستأنف المحاكمة … هيا.
ابن القارح : أنت يا متهم … حكم الإعدام أصبح في حكم التنفيذ … لكن مع ذلك إحنا ما زلنا منتظرين اعترافك.
الطالب : لازم تعترف … ما حدش في دولة المماليك بيموت بدون ما يعترف.
ابن القارح : اعترف يا ابني … لأن عدم اعترافك معناه تشكيك في عدالة السلطان … وأنه ظالم … ودي خيانة عظمى … اسمع … مرة أخيرة باسألك … العدالة بتسألك:
إنت بتنكر الخيانة والَّا بتعترف؟

(يهزُّ رأسه.)

بتنكر؟

(يهزُّ رأسه.)

يبقى بتعترف؟!

(يهزُّ رأسه.)

لا … بقى … عيب تهز دماغك وتترقص بالشكل ده في المحكمة!
كلاكيت آخر مرة.

بتنكر والَّا بتعترف؟

(يهزُّ رأسه.)

ربنا ياخد أجلك! ما هو بقى يا تنطق يا إما انت أخرس فعلًا!
الغوري (منتفضًا) : لا … ح يتكلم، لازم يعترف … لأن كل اللي قاله واللي بيقوله دلوقتي … واللي عايز يقوله كدب.

(يتقدَّم إليه في مواجهه.)

الغوري : خاين جدوده … إنت فاكر نفسك إيه … هه … متهيألك إننا مش عارفين إيه اللي في دماغك يا متشرد يا زبالة … كل كلمة قلتها مرصودة عليك … قول — ح تقول — إن الهرم اللي تعبنا وشقينا لحد ما بنيناه مالناش أي فضل في وجوده؟ … كل اللي عملناه أننا قصينا الشريط ودقينا مزيكة … ح تقول إن الألوف اللي ماتوا راحوا هدر ماتوا غدر لأسباب تانية … لو راجل تقول الأسباب … قول — ح تقول — إننا ما حاسبناش حد على المراكب اللي غرقت ولا المكاحل اللي ساحت … قول إن أنا مصاص دم باقتل أصحابي وبابيع أهلي وباتنكر لابني … قول — يا كداب يا نِوَري.
عايز تقول إيه تاني عني؟

مالك يا شجاع … بترتعش ليه؟ … ودلوقتي خانتك شجاعتك!

ماتبصش ليَّه كده … وإلَّا خرمت عنيك بايدي! … أنا السلطان الأشرف اللي خلا للبلد دي سعر مش ح اسمح لحد يشوِّه انتصاري … أنا … أنا نقطة ارتكاز العالم … طبل الميادين … مانشيت الصحف في أركان الأرض الأربعة … واللي كلكم … أيوه كلكم (للمتفرجين) بتهتفوا باسمي أول ما أهل عليكم … قول … قولوا … عايزين تقولوا إن أنا خربتها وقعدت على تلها؟

اخرس إنت … كلمة واحدة تانية من بُقَّك واخنقك … هه ساكت ليه دلوقتي؟ لو شجاع قولها ف وشي … أنا؟ بتقول عليَّه أراجوز؟! وإن أي واحد هنا نفسه يتف ف وشي لو قربت منه (يخنقه حتى الموت).

طب ورِّيني كده أهه … وانت؟ طب وانت؟ مين اللي عايز يتف في وشِّي أنا بكل سماحة وطُولة بال باسألكم؟ … فيه حد هنا عايز يتف ف وشِّي؟

(عبد الله بن محمد يتقدم محدثًا ضجة لذلك.)

لا … إنت مش من أهل البلد … إنت من عصر تاني، وكمان مش حر، أنا باتكلم عن الأحرار اللي مش متطفلين على حفلتنا … حد منكم نفسه يتف ف وشي؟
ها … ها … ولا واحد … وده دليل قاطع على إنكم بتحبوني كلكم، أيوه بتحبوني.

(صمت … توتر … يتقدم عبد الله بن محمد ويبصق في وجهه يمسح الغوري البصقة بهدوء يتقدم الحراس يستدير عبد الله بن محمد منصرفًا عنه – الغوري يسحب سيفه، وبصرخة كلها غل يطعنه من الخلف، حركة بطيئة ردود فعل – صمت.)

(موسيقى عنيفة وبروجي وطبلخاناه، ويقتحم الجند على رأسهم الأمير المسرحَ صاعدين إلى الخشبة وسط ذهول الجميع.)

(الأمير بعد عدة صيحات وحركات يحكم سيطرته على القاعة وعلى المسرح، تتحول المواقف المختلفة للشخصيات المختلفة استعدادًا لبدء التمثيل من جديد في ثوب جديد.)

(وعلى دقة ورقَّة اتخاذ المواقف الجديدة يتوقَّف تأثير وتعبير المشهد عن الانتقال من التمثيلية القديمة إلى الجديدة.)

(السلطان الغوري متجمد ومذهول على كرسيه … يُحدِّق في الفراغ مفقوع المرارة.)

(ابن القارح بدون افتعال يفتح ذراعيه مرحِّبًا بالوافد الجديد في بوز متميز، الضيوف يتخلصون من وقع المفاجأة تدريجيًّا … وكأن لم تكن.)

(يدخل السلطان سليم العثماني … على نفس لحن الغوري صيحات الترحيب والهتاف بلغة غير مفهومة … أو صامتة … أيهما أنفع.)

(تمرباي تندفع إلى أحضان الطالب باكية بطريقة عيالي كمن ضاعت منها لعبة.)

(الأمير ينتزعها ويدفع بها بعيدًا مهددًا، ويحضنها كمن يفترسها ويسلِّمها لشجرة الدر، يتقدم السلطان سليم إلى العرش … ويدفع بأصبعه الغوري … الذي يقع كالشوال ميتًا على الأرض.)

(يتقدم بعض العسكر يجرِّدونه من ملابسه وأدوات حكمه، وآخرون يسحبون جثة الأخرس وجثة عبد الله إلى الخارج.)

(تُسحب جثة الغوري … يتسلَّل الطالب دون أن يدري به أحد ويختفي، يجلس سليم مكان الغوري … للحظة يتجمَّد المشهد ثم يُصفِّق سليم فيسرع ابن القارح في خفةٍ إلى إعادة ترتيب الموقف … ويدندن بلحن الأغنية الأولى. كليوبطره تسقي الأمير والسلطان وتدور بين الكل بالشراب.)

(ثم تدبُّ الحياة والنشاط في كل مكان … ويرتفع الغناء وكأن ما كان … كان من زمان … وابن القارح يقود الأوركسترا.)

اقرا الفاتحة لسلطان العصر الذهبي
أيام أولاد عثمان
أيام كان فيها الشعب المصري يادوب
على شط النيل عطشان
في طاحون العيشة فريك
في السوق بيموت تماحيك
أو في السراديب بتُهم تلاكيك
وإذا كان فيه حد مريض بالشوق للعدل مالهش مكان.

(يدخل الطالب من حيث اختفى وقد غلبه الضحك بنفس طريقة دخوله الأولى، وعلى قدرته على استيعاب كلِّ ما يحدث بضحكته وهو يقدم التمثيلية الجديدة على الطريقة القديمة من على المسرح يستغربون.)

الطالب : النهارده المحروسة في عيد.
عيد تاريخي ماحصلش قبل كده في التاريخ ولا حيحصل.

النهارده في القاهرة أم الفنون والجنون،

كل الخلق واقفة على رجل واحدة،

وبترقص على الواحدة ابتهاجًا بوصول عسكر السلطان العثماني منتصرًا على المصريين اﻟ… ها … ها …

(يغلبه الضحك – عدوى الضحك تنتقل إلى الحاشية والضيوف، سليم يبرق هنا وهناك.)

الطالب : بفضل حنكة وحكمة وشجاعة السلطان الحاوي (يضحك) لكل فضل — يزداد ضحكًا … الملك الأشرف أبو النصر قنصوة سليم العثماني الأشرفي — يزداد الضحك — سليم ينفجر ضاحكًا هو الآخر … بطريقة مغايرة.

(هيستريا الضحك تأخذ الجميع وكل منهم يخلع ملابسه ويُلقي بها في الأرض … وهم يتنزعون ذقون وعمم وباروكات بعض … إظلام … مع صمت فجائي.)

(ضحكة ذات صدًى رهيب مجهولة المصدر تُسيطر على الفراغ، إضاءة والجميع منحنون أمام الجمهور.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤