واقعة سي اليزل فارس الفرسان مع مساجين السلطان

(آهات وهمهمات وأنَّات حزينة لأناسٍ مطحونين، ثم يظهر موكبٌ من التعساء المشكوكين في سلسلة يحرسهم اثنان من الجند العثمانية.)

(الأغنية الحزينة تفيض شجنًا … قرب نهايتها نرى ولو في عمق الصالة سعدون يبكي وشحاتة يتأمل المنظر في ابتسامة وفخر.)

المساجين :
خفُّوا عن أكتافنا يا سجَّانة
مركبنا تاهت في الليل
خطفونا من حضن أولادنا
ولا لينا في الغربة دليل
سرقونا من أرض بلادنا
ومافيش للحرية سبيل
والشوق يقتلنا لأهالينا
يا نسمة خدينا وودينا
من شهدك نشرب يا نيل.
شحاتة : أخيرًا ظهر حرس الشرف!
نشيد مليان حماس وفخر … بالوطن.

بس اللي محيرني يا سعدون … ملابسهم الغريبة … تفتكر تابعين لمملكة إيه؟
سعدون : مملكة الأشغال المؤبدة ف أسطول إسطنبول.
شحاتة : ودي بعيدة؟
سعدون : فركة كعب.
شحاتة : ماسمعتش باسمها قبل كده ولا قريت عنها.
سعدون : ما هي دي المصيبة … إنت بتسمع عن اللي انت عايزه … مش اللي حاصل فعلًا.
شحاتة : أنا بسمع دبَّة النملة.
سعدون : ممكن … لكن يا سي شحاتة فيه حاجات تخرق عين البني آدم، ولو عاز مايشفهاش.
شحاتة : لكن أنا شايفهم.
سعدون (بسخرية) : بقلبك برده! … على كل حال دول من مملكة مايحسش بيها إلَّا اللي جواها.
شحاتة : دي تبقى مملكة نموذجية، لازم ندخلها.
سعدون : كل شيء بأوان.
شحاتة : نظامها بديع.
سعدون : بإذن واحد أحد حيبقى هو النظام الأساسي في حكومتي. مافيش يا أمه ارحميني.
شحاتة : متساويين حتى شعرهم طول واحد، والوجوه عليها سيماء العزم والبراءة.
سعدون (فاقدًا صبره) : يا سي اليزل ماتجننش أبويا … حرام عليك … (يبكي) أنا ماعدتش قادر أستحمل … عزم إيه ونيلة إيه! دي وجوه شوَّهها الذل والعذاب … وشعرهم محلوق إهانة، إنت إيه؟ … هيَّ الكتب بتموت القلب؟!
شحاتة : ماذا جرى يا سعدون؟ … لمَ تبكي والدموع غالية؟
سعدون : جرى؟ … اللي جرى لا ينكتب ولا ينقرا … الخمَّارة عمَلتَها قصر مش مهم … الخمَّار الحمَّار عمَلته سلطان ماتفرقش … إنما دول … دول مش ممكن يبقوا إلا متاعيس مناكيد خاطفينهم عشان يبقوا عبيد في الأسطول العثماني … سخرة.
شحاتة : أتقول الحقيقة يا سعدون؟ سُخرة سُخرة؟
سعدون : أيوه سُخرة … ودي كلمة مالهاش إلا معنى واحد في كل اللغات اللي في الدنيا.
شحاتة : لا … لا يمكن أن أسمح بهذا … لا سُخرة في عصر الفرسان.
سعدون : تسمح! وانت مين عشان تسمح والَّا ما تسمح يا سي شحاتة؟
شحاتة : عُدت للشك يا سعدون … أنا سيف بن ذي يزن لم يكن في عصري سُخرة ولن يكون.
سعدون : حصل … وكان … مابيحسش بالكرباج إلا الملسوع على قفاه.
ولا بالسلسلة إلا المشموط من رقبته.
شحاتة : لكن انت متأكد إنهم مضروبين ومخطوفين؟
سعدون : أقول له إيه ده بس؟!
شحاتة : قول … لا تخف.
سعدون : أي أعمى لازم يشوف إنهم متقندلين.
شحاتة : إذن لا بد من إنقاذهم وتحريرهم.
لا بد أن أمسح عن عيونهم دموع الحزن … ليكون لابتسامة «شامة» … معنى.
سعدون : لا … اعمل معروف، كله إلَّا ده … دي حرمة السلطان شخصيًّا … ده أمور سلطانية!
شحاتة : الظلم ظلم سواء كان سلطاني أو غير سلطاني.
سعدون : المرَّة دي حيبقى فيها عسكر وخوازيق … هنا مش خمَّارة … لأ.
شحاتة : هذا هو الاختبار الحقيقي لفروسيتي، أو أكون كما قال عنِّي الخمَّار مجرَّد خيال ظل وهجَّاص … هل تريدني هجاصًا؟
سعدون : يا سيدي العفو، بس تعالى نشوف لنا حتة تانية نتفرسن فيها.
شحاتة : هل بدأ الخوف يتسلل إلى قلبك يا سعدون؟ … قلت لك ألف مرَّة لا بد أن تكون متأكدًا من الطريق الذي تمضي فيه.

(يتقدَّم شحاتة تاركًا سعدون على ركبه يندب … يتَّجه شحاتة ناحية الحارسين، يُشير سعدون لهما إشارةً توحي بجنون شحاتة تخفيفًا لوقْع كلامه.)

شحاتة : يا قائد الفرسان،
أنا فارس الأقطار سيف بن ذي يزن … لِحُسن حظك إن القدَر وضعك في طريقي.

ولذا عليك أن تُجيب سؤالي البسيط … والذي يمكن أن تجيب عليه أصغر عصفورة تطير في السماء.
الحارس : تفضَّل يا أشطر الفرسان!
شحاتة : هل تعرف معنى الحرية؟
الحارس : طبعًا يا فندم … الحرية يعني تتفضل تمشي في طريقك في حرية بعيد عن طريقنا.
سعدون : سي شحاتة … دي إجابة معقولة جدًّا … يالَّلا بينا.
شحاتة : فعلًا إجابة واضحة جدًّا … ولكن أنا لا أحب الإجابات الواضحة … لأن معناها غالبًا ما يبقى مقصود به السخرية أو الكذب.
الحارس : عفارم صح … أوضَّحها أكتر لو مافارقتناش في حرية … ح يزيد عدد مساجين السلطان واحد أو اتنين وتقل الحرية.
سعدون : مافيش أوضح من كده … يالَّلا بينا.
شحاتة : لا … إنها إجابة غامضة، وانا أكره الإجابات الغامضة لأنها تُخفي تهديدًا غير مفهوم!
الحارس : ماعنديش مانع أفهِّمها لك … (يعمِّر البندقية.)
سعدون : دول لا فرسان ولا يعرفوا «شامة»!
شحاتة : وهل أتخلى عن هؤلاء؟ فكيف إذن أجرؤ على القول بأنني حررت «شامة»؟ أيها الحارس، لمَ سجنت هؤلاء المتاعيس؟
سعدون : ماتأخذوهوش … هو طيب جدًّا … التعب وقلة النوم والأكل … تصور سيادتك تلات أيام ماكلناش ولا نمناش.
الحارس (يزيحه) : يا فارس الغبرا … القاضي وزن لكل واحد منهم على قد ذنبه … اتحاكموا واتحكموا، مافيش فيهم بجح يقدر ينكر إجرامه … فسيبك منهم وتعالى كُل لك لقمة ما دام الجوع عمل فيكم كده.

(ينتحي هو وزميله ركنًا ويفردان منديلًا به طعام … سعدون بدون تكليف يذهب معهم … بينما يتَّجه شحاتة للمساجين.)

الحارس ١ : صاحبك ده تراللي؟ … ياااه!
الحارس ۲ : فعلًا التعب هرانا … ناكل ونغفِّل حبَّة … وخلي بالك انت.

(يأكلون ويشربون وسعدون معهم.)

شحاتة : أيها المساكين! ماذا فعلت بكم الدنيا ولماذا أنتم هنا؟ … ولماذا هذه السلسلة؟

(المساجين باتفاق خفي يحاورونه في لؤمٍ وسخرية.)

سجين : قُطع السجن ولو في جنينة!
سجين : ياما في الحبس مظاليم.
سجين : لكن مين يقرا ومين يسمع؟
سجين : بص في وشِّنا … فيه أطيب من كده؟ … شوف … شوف!
شحاتة : بس بصدق وصراحة قول لي إيه جريمتك؟
سجين : الصدق والصراحة همه سبب سجني … الكل بيكدب، والصريح مالوش إلا السجن … الشرف متقيد في سلسلة … والصدق والقهر حاجة واحدة.
سجين : تصدَّق يحبسوني عشان رطل زيت مغشوش … ماكانش حيلتي إلا هو؟!
آخر : وانا تُهت عن سكة بيتنا في الضلمة … فدخلت بيت تاني اتعشيت ونمت … ضبطوني.
ثالث : كان جوزها مسافر ورجع فجأة (يضحكون).
رابع : وانا كنت مسافر بالليل … وجعان … سرقت رغيف أسكِّت بيه عصافير بطني.
الأول : لكن الرغيف كان سخن فلفه في كيس مليان دنانير بندقية.
الثاني : أنا اتهمني التجار بإني جمعت أموالهم وهربت مع إن الفلوس اللي عطوهاني كانت مزيفة!
الثالث : أما أنا يا فارس الفرسان …
فاللي سجني الحب … عمرك شفت عالم في العالَم يعتبروا الحب جريمة؟!
شحاتة : الحب ليس جريمة.

(يُشهر سيفه فيُسرع إليه سعدون – الحارسان غفَّلا من التعب.)

أنا أيضًا مثلك عاشق … الحب يناديني لأنقذ حبيبتي.
سعدون : يا سي اليزل … إنت حتصدق؟ دول إجرام! … قالوا للحرامي احلف … يالَّلا بينا … السكة دي آخرها خازوق مغري.
شحاتة : يا سعدون … لقد رأيت بنفسي إنهم مظلومين.
سجين : صدَّقت يا فارس الفرسان؟
سعدون : يا سي اليزل … القاضي حكم … حتى ولو ظلم خلاص … يبقى عدل … العدالة عميا.
شحاتة : عدالة الفرسان ليست عمياء … لا بد أن تفتح العدالة عيونها … نعم … فالعدالة العمياء ظالمة … أيقظِ الحراس ليفكُّوا السلسلة … (الأراجوز يضحك … يتوتَّر شحاتة) … أيقظهما حالًا … وإلَّا …
سجين : لأ … استنى ماينفعش.
تاني : دي حتبقى غلطة أشنع من غلطة العدالة العميا.
ثالث : العدالة النايمة أهون دلوقتي.
شحاتة : لماذا لا توقظهم؟
سجين : تعبوا من السفر ومن الضرب بالكرابيج طول السكة.
آخر : نوم الظالم عبادة … يا فارس الفرسان.
شحاتة : ولكني أريد أن ترى العدالة انتصارها.
سجين : العدالة تفرح أكتر ودول نايمين.
شحاتة : إنتو شايفين كده؟!
الكل : طبعًا.
سعدون : يا خراب بيتك يا سعدون! … (يحاول التسلل لإيقاظ الحراس، لكن المساجين يمسكون به ويكتمون صوته حتى لا يصيح.)
سجين : نستطيع أن نُشتِّت شملهم.
آخر : وأن نفتت رأسهم.
ثالث : ولكن هذا حرام … ما داموا ناموا … فلماذا يكون خلاصنا سببًا في تيتيم عيالهم؟
رابع : نسيبهم في حالهم.
الأول : عايزين حريتنا بيضا غير ملوَّثة بالدم.
شحاتة : شايف يا سعدون طيبة قلبهم … أرأيت كيف يحبون حراسهم … هيَّا … وأحضر مفاتيح الأقفال وافتح لهم باب الحرية.
سعدون : أنا مابافهمش في المفاتيح … أنا سايس وفلَّاح … والمفتاح مسئولية كل بوَّاب.
شحاتة : هذا أمر … هذا المفتاح سيفتح الباب الأول في سجن «شامة» … هيَّا.
سعدون : شامة؟ … يبقى روح انت هاته.
سجين : ماتزعقوش … اتخانقوا من غير صوت.
ما تسمع الكلام يا بغل.
شحاتة : هذا المفتاح هو الذي سيفتح باب قلعتك.
سعدون : أنا عايزها سداح مداح من غير باب ولا مفتاح.
شحاتة (يهدِّده) : كفى، اذهب وهات المفتاح.

(يزحف سعدون تحت تهديد السيف وبطريقة هزلية … يسرق المفاتيح ويُلقي بها ناحيتهم … ثم يسرع ويغطِّي رأسه بذراعيه ويتناوم.)

سعدون : والله وضِعْت يا سعدون وعمرك ضاع!

(المساجين يفكُّون السلسلة وبسرعة يذهب بعضهم فيخطفون البنادق … الحرَّاس يستيقظون … هرج ومرج … لا يجد السجَّانة سوى سعدون قريبًا منهم … فيضربونه … مسجون يُطلق طلقة في الهواء … يسكت الجميع.)

شحاتة : خلاص … تم الخلاص أيها الفرسان، أما أنتما … فهيَّا بسرعةٍ إلى ملككم الظالم وأخبِراه أنني «سيف بن ذي يزن» أُحذِّره من سرقة أولاد الناس … وتسخيرهم في الأساطيل … قولوا له إنني في الطريق إليه لأهدم قلعته فوق رأسه.

(حين يقترب منهما … يُوسِعانه ضربًا ويشنكلانه … يُخلِّصه المساجين بطلقةٍ فيهربان.)

حارس : حيليق عليك الخازوق يا تخين يا ابن الفيل … إنت وخيال الظل ده.

(يهربان.)

(سعدون ما زال متظاهرًا بالنوم بينما يتوجَّه شحاتة للمساجين.)

شحاتة : والآن … أيها الأحرار ذُقتم طعم الحرية … فافعلوا فعل الأحرار واذهبوا برسالةٍ صغيرة … إلى مَن أُحب.
سجين : إن كانت في آخر الدنيا مستعدين.
شحاتة : هي سجينة في قلعة الملك عيروط … فاذهبوا واطلبوا لقاءها … وبشِّروها بقرب حضوري … وبانتصاري — هذا الذي حرَّركم … والذي سيفتح باب سجنها.
سجين : فتح الله عليك!
سجين : إن شاء الله نفوت عليها … بس بعد ما نعدي البحر لبلاد واق الواق.
سجين : بعد عمر طويل نروح لها.
شحاتة : ترفضون ردَّ الجميل يا ناكري الجميل.
سجين : من غير ما تشتم افهم … الدنيا حتنقلب عليكم وعلينا … وأحسن حاجة يعملها أي عاقل … هو إنه يربط ديل حصانك في ديل زميلك … وتكُت.
سجين : أجدع حاجة دلوقتي إنك تعمل أرنب … وتفر.
شحاتة : أنا لا أفر، أنا فارس أيها الأغبياء، وآمركم بالذهاب إليها لتقصُّوا قصة تحريركم على يدي.
سجين : اسمع يا جدع انت … حبيبتك دي ماتهمناش … حتى ولو جوزوها لقرد.
شحاتة : سعدووون.

(بينما ينشغل المساجين بنهب متاع الحارسين.)

سعدون : أنا نايم.
شحاتة : الآن اتضحت لي واضحة جليَّة حقيقة قلوبكم السوداء … يا ناكري الجميل … ها أنتم تُخيِّبون ظنِّي … سامحيني يا «شامة» … سأُعيدهم إلى سجنهم بنفسي لأنهم يهينون عدالتي … سعدون.
سعدون : أنا مغمى عليَّه.
شحاتة : قُم واربطهم في السلسلة!
سعدون : أنا مُت … خلاص.
شحاتة : هيَّا وإلا ربطتك معهم (يدفعه).
سعدون : أرحم من الخازوق!
سجين : طب ما تحاول تربطنا انت يا فالح.
سجين : نصير المظلومين أبو سيف خشب.
سجين : محرِّر العبيد أبو مخ ورق … عاش.
سجين : يا سيد … قبل ما تربط عقدة … لازم تفكر في حلِّها.
سجين : عايزنا نروح لمراته … يا راجل عيب على ذقنك.

(يسخرون منه وهم يشاكسونه ويدورون حوله.)

شحاتة : وهبتكم الحرية.
سجين : وتريد أن نعطيها بأنفسنا للسلطان.
سجين : هل انت عبيط؟
شحاتة : لماذا تُنكرون الجميل؟ لا أفهم لمَ لستم على خُلق كالفرسان؟
سجين : لا بتفهم ولا حتفهم!
سجين : يا أخ … يا نصير الحرية؟ … كل اللي علينا دلوقتي نختفي.
سجين : الحرية دلوقتي يعني أن يكون معانا أكل أو فلوس … ادِّينا اللي معاك … يبقى أعطيتنا حريتنا بصحيح.
شحاتة : الفرسان لا يحملون نقودًا.
سجين : يعني مفلِّس وشحَّات!
سجين : نبيع الحصان.
سجين : لا يساوي فلس.
سجين : يبقى الحمار أجدع … ناخده نبيعه وناكل بيه.
سعدون : وانا ذنبي إيه؟ اللي عملها صاحب الحصان … صاحب الحمار ذنبه إيه؟
شحاتة : اتركوا الحمار والحصان وإلا …
سجين (يدفعه على سعدون فيقع) : يا أخي اتلهي واتكلم على قدك!
سجين : وابعد عن طريقنا … إنت ح تهددنا؟!
سجين : يا فارس الفرسان … لما تدافع عن شيء، على الأقل يبقى ف إيدك اللي تضرب بيه.
سجين : الحرية مش لعبة،
الحرية ثمنها غالي قوي … وإن كنت حتفهم حاجة أي حاجة

في يوم من الأيام … فاعرف

إن لما تكون الضفدعة سايقة المركب،

وأبو فصادة حارسها،

يبقى على اللي زي حالتنا … مايغلطش غلطتنا … ويقع في إيدهم، عليه يُكت ويهرب لآخر الدنيا.
سجين : أما حكاية مِرْواحنا لمراتك دي …
بعدين لما نفضى نروح نآنسها.

(يضحكون ويسخرون منه … وهو غير فاهم … مذهول.)

شحاتة : لم أعد أفهم! سعدون!
لمَ لا تسير الأمور مثل ما هو مكتوب لها أن تسير؟

ولمَ يصبح المظلوم … بلا ضمير؟!

(ضحكات الأراجوز.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤