النشيد الحادي والعشرون

وقائع أخيل وقتال الآلهة

مُجْمَلُهُ

انهزم الطرواد أمام أخيل حتى بلغوا ضفة نهر زنثس، وساد بينهم الرعب فاندفع بعضهم إلى المدينة وألقى الجم الغفير منهم بأنفسهم إلى النهر، وقبض أخيل على اثني عشر فتى غض الشباب ليقتلهم بدم فطرقل، ثم التقى بليقاوون بن فريام فقتله وطرحه في النهر، فحنق النهر وحث عسطروف على قتاله فظفر به أخيل وقتل كثيرين من صحبه، فسالت الدماء في النهر وارتفعت فيه الأشلاء، ثم هاج وماج وطغى على أخيل ليغرقه، واستغاث أخيل زفس فبادرت أثينا وفوسيذ لإغاثته، فنجا من طغيان زنثس، فاستصرخ ذلك النهر نهر سيمويس المحاذي له وتألبا على إغراق أخيل، فكاد يهلك لو لم تبادر هيرا إلى إنقاذ ابنها إلاه النار أخذًا بيده، فانقض هيفست واشتعل وألهب الضفتين وجفف المياه الطاغية في السهل، فالتمس النهر رحمة هيرا صاغرًا فتشفعت له، وهناك انحدر الآلهة إلى حومة الوغى والتحم القتال بينهم، فبرزت أثينا لإلاه الحرب وصرعته وبادرت الزهرة فذهبت به، فتعقبتها أثينا ولطمتها، وبرز فوسيذ إلى أفلُّون، ثم انبرت هيرا فلطمت أرطميس واجترت من على كتفيها قوسها وكنانتها، فشكت أرطميس أمرها إلى أبيها زفس فطيب خاطرها وسكن بلبالها، ثم دخل أفلون إلى إليون ورجعت الآلهة إلى الأولمب وظل أخيل مندفقًا كالسيل وفريام يراه من فوق البرج فأمر الحرس بفتح الأبواب ليتسنى لشذاذ الجيش المنهزمين أن يدخلوا، وأنهض أفلون البطل أغينور فتربص للقاء أخيل، وكاد يهلك لو لم يبادر أفلون لإغاثته فواراه ثم تمثل بهيئته وانهزم أمامه فأبعده عن الحصون حتى لجأ جميع الطرواد إلى مدينتهم.

«ولم ينج إلا حثيث الخطا»

لا تزال وقائع هذا النشيد في اليوم الثلاثين.

النشيد الحادي والعشرون١

لدى ثغر زنث الذي اندفقا
زلالًا ومن زفسٍ انبثقا٢
أخيل جيوش العدى بدَّدا
فشطرٌ تدافع مرتعدا
لإليون فوق السهول التي
بها أمس أرغوسةٌ ولَّت
وهامت بقلبٍ قد انخلعا
وهكطور من خلفها اندفعا
وفوق الطراود هيرا البخار
أثارت لتثقلهم بالفرار٣
وشطرٌ بمجرى المياه العميق
ترامى بصلصلةٍ وشهيق
يموج بفضي موجٍ يمور
له يقصف اليم حتى الثغور
صراخٌ شديدٌ ورجع صدى
وجندٌ تراموا بغير هدى
كأنهم بحثيث المفر
جراد من النار للنهر فر
يثور اللهيب على أثره
فيلجأ للماء من شرره٤
كذاك أخيل الطرواد ساق
إلى زنث فوق المجاري العماق
خليطًا بهم غصَّ ذاك المجال
كباش رجال وجرد عجال٥
وألقى بعامله فاستند
على أثلةٍ فوق تلك الجدد
وكرَّ بصارمه المنتضى
كربٍّ بدهم البئوس قضى
وخاض العباب يبت الرقابا
ويقتل كل كميٍّ أصابا٦
وما ثم إلَّا زفير كماه
ونقعٌ يخضب وجه المياه
فمن وجهه اندفعوا بالثبور
إلى النهر والتجأوا للصخور
كأنهم سمك ذعرا
لدلفين هولٍ وراه جرى
فأم الشقوق بثغرٍ أمين
لينجو من شر موتٍ مبين
ولمَّا من الفتك كلت يداه
ونال مناه بكيد العداه
من اللجة استخرج اثني عشر
غلامًا كخشف الفلاة اقشعر
وكل فتى بزهي نطاقه
هنالك أحكم شد وثاقه
لفطرقل كفارةً تدخر
إلى الفلك أرسلهم ثم كر
إذا بلقاوون قد خرجا
من النهر يحسب أن قد نجا
(هو ابن لفريام كان أسر
أخيل قديمًا بليلٍ عبر
دهاه إلى تينةٍ قد عمد
بأرض أبيه بنصلٍ أحد
وغض الغصون لقد قطعا
لأكناف مركبة صنعا
وأركبه معه السفنا
فبيع بلمنوس ممتهنا
هناك ابن إيسون منه شراه
وإيتين الإمبروسي افتداه
وأرسله بعد بذل الكرم
لأرض أرسبا فمنها انهزم
وعاش قريرًا لثاني عشر
نهار بأوطانه حيث قر
فسيق بحكم إلاه عظيم
لآخيل ينفذه للجحيم)
وما عبر النهر حتى سحق
قواه العياء وسح العرق
فألقى على الجرف شكته
قنًا ومجنًا وخوذته
وألفاه آخيل مرتعشا
فبادره صائحًا دهشا:
«لعيني ربَّاه لاح العجاب
أمن أرض لمنوس ذا القرم آب
إذن من أبدت ببهم الجنود
من اللجج الدهم سوف يعود
نعم آب واليم ما عاقه
وإن عاق بالرغم أرفاقه
إذن حد ذا النصل فليجرعن
لنعلم هل بعد ذا يرجعن
أو الأرض هدَّامة العزمات
تبيدنَّه كرثيث الرفات»
فهاجس آخيل ذا هجسا
وذيَّاك نجوته التمسا
دنا يرتمي فوق ركبته
وآخيل أوما بصعدته
فأهوى وعن ظهره انحرفت
وفي الأرض غرثانة وقفت٧
فمدَّ لقاوون كلتا يديه
يمسُّ بإحداهما ركبتيه
وتلك بها النصل عنفًا قبض
وصاح: «أخيل أصبت الغرض
فها أنذا لاثمٌ ركبتيكا
فرق لمرءٍ ذليلٍ لديكا
عليك له حقَّ حقُّ الولاء
فقد ذاق زادك قبل الجلاء٨
قبيل المسير بهذا الأسير
يباع بلمنوس عبدًا كسير
نعم بى ظفرت بروضٍ أغن
وأنأيتني عن أبي والوطن
وما نلت من ثمني المستفاد
سوى مئة من عجول البلاد
فإن تعف عني فحقُّ الفداء
مئاتٌ ثلاث وصدق الولاء
نهاري ثاني عشر نهار
به عدت بعد العوادي الكبار
وقد ساقني ليديك القدر
فكم قد قلاني مولى البشر
أجل آه أمي لعيشٍ قصير
لقد ولدتني وويلٍ كثير
(لووثوةٌ بنت ألتيس من
على ثغر سستينويس قطن
وشاخ بفيداسةٍ حيث ساد
قروم الليغ رجال الجلاد)
لفريام زوجًا غدت ولكم
له غيرها زوجةٌ مذ حكم
فَأَوْلَدَهَا عنده ولدين
وأنت ستثكلها البطلين
فليذر من كإلاه صدر
برأس المشاة ببأسك خر
وبي قد رمى بعض آل العلى
إليك لأجرع كأس البلا
ألا ما رحمت فكنت العتيقا
فلست لهكطور تدري شقيقا
وما ولدتني أمُّ فتى
حشاك لفطرقل قد فتَّتا»
كذاك لقاوون ألقى الخطاب
ذليلًا فأُسمِع مر الجواب:
«تعست فلا تذكرن الفدا
ففطرقل قبلك قد فقدا
فكم بكم قبل من بطل
أسرت وبعت ولم أقتل
ولكنني اليوم أيَّا رماه
بقبضة كفي أيُّ إلاه
يبيد ذليلًا ولا سيمَّا
بنو الملك فريام حامي الحمى
فمت صاح مت ودع الحسرات
ففطرقل أرفع شأنًا ومات
ألم تر قدِّي وهذا الجمال
وفيلا أبي الشيخ شخص الكمال
وأمي من الخالدات العظام
وما كل ذا ليقيني الحمام
ولا فرق إمَّا نهارًا يتاح
وإما مساءً وإمَّا صباح
فلا بد قرمٌ بنصلٍ يطير
يجندلني أو بسهم طرير»٩
فخر لقاوون ممتقعا
ومن جوفه لبه انخلعا
وعاف القناة ومد يديه
وآخيل في الحال مال عليه
بسيف بحديه غاص بصدره
بترقوة الجيد من تحت نحره
فخر على وجهه والتوى
ووجه الثرى من دماه ارتوى
وآخيل ألقاه من قدمه
إلى النهر مختضبًا بدمه
وصاح: «فرح مطعمًا للسمك
يمص بهامي الجراح دمك
فلا أم ثم عليك تصيح
هنا الإسكمندر فيك يسيح
فيلقيك للبحر حيث يدب
إليك من اللج حوتٌ يثب
ومن شحمك الغض يؤتى الغذا
أجل فلتبيدنَّ طرًّا كذا
تفرون دوني وسيفي يفل
كذاك بإليونكم نستقل
فليس بواقيكم النهر ذا
بقضي مجراه شر الأذى
ولا ما ذبحتم له من عجول
ولا ما طرحتم به من خيول١٠
نعم ستبيدون طرًّا هنا
فداء لذي البأس فطرقلنا
وجندٍ بسيفكم قتلوا
وآخيل إذ ذاك معتزل»
كذا قال والنهر زاد احتداما
وفكر كيف ينال المراما
وكيف بصد أخيل يزيل
عن القوم شرَّ الهلاك الوبيل
ولكن آخيل بالرمح زف
على عسطروف سليل الشرف١١
(هو ابن فليغون من نسبا
لأكسيسٍ وإلى فيربا
فأكسيس النهر قد كان هام
بها فحبته بذاك الغلام١٢
ألا وهي ذات المكان المكين
وبكر بناتٍ لدى أكسمين)
له عسطروف بواري الزماع
تربَّص محتدمًا لا يراع
برمحيه قام يروم لقاه
وزنث ببأسٍ شديدٍ حباه
وكم كاد زنث أخيل بما
به من خيار الجنود رمى
ولما تدانى بذاك البراح
كلا البطلين فآخيل صاح:
«أيا ذا الذي لم يرعه جلاد
أخيل فمن أنت من أي ناد
فويل أَبٍ لم يهبني ابنه
فلا شك ينهكه حزنه»
فقال: «وما بانتسابي تروم
فداري البعيدة دار القروم
فيونا الخصيبة منها الرجال
معي أقبلوا برماحٍ طوال
ومنذ بلغت لهذا المقر
ببهمي ذا اليوم حادي عشر
وجدي أكسيسٌ خير نهر
بماء زلالٍ على الأرض يجري
وأنبئت أني سليل فتاه
فليغون ذي البأس رب القناه
فأقبل إليَّ» فأوما أخيل
عليه بعود القناة الطويل
فزجَّ هنا عسطروف إليه
بكلتا قناتيه من راحتيه
وقد كان يحكم زج النصال
بكفٍّ يمينٍ وكفٍّ شمال
فنصلٌ بظهر المجن وقع
بعسجد هيفست حيث ارتدع
ونصلٌ ذراع أخيل قشر
فمنه يسير النجيع انفجر
وغلَّ يغوص بفرط ظماه
إلى النقع فوق الحضيض إزاه
فآخيل بالرمح فورًا قذف
فطاش إلى الجرف حيث وقف
وغاص إلى وسطه باضطراب
من العنف يرتجُّ فوق التراب
فسلَّ أخيل حسامًا صقيلا
على جنبه الصلب كان أميلا
ورام الفيوني اقتلاع القناه
ثلاثًا فخابت ثلاثًا مناه
ولما انثنى خاسرًا وبدا
عياه إلى كسرها عمدا
لولها ولكن أخيل وثب
عليه ببتاره وضرب
فخر وأجفانه انطبقت
وللأرض أحشاؤه اندفقت
ففي صدره داس يدخر
صفائحه وهو يفتخر:
«هنا مت فليس يهون على
بني النهر حرب سليل العلى
فإن كنت من نسل نهرٍ كبير
فإني من آل زفس القدير
أبي قيل المرمدون الحميد
أبوه أياك بن زفس المجيد
لزفس عنا كل ربٍّ فخور
وأبناؤه فوق ولد النهور
فذا زنث دونك هيهات أن
يقيك ويدفع عنك المحن
ومن ذا الذي دون زفس يقف
ومنه أخلوس يرتجف١٣
ونفس المحيط أبي كل بحر
ونهر وينبوع ماء وبئر»
إذا زفس من جوه رعدا
تراه بلجته ارتعدا»
وجرَّ مثقفه وهناك
ثوى عسطروف بغير حراك
على الجرف من حوله تندفق
مياه بنينانها تصطفق١٤
تقاطر مندفعات لديه
لكي تنهش الشحم من رئتيه
وقوم الفيونة مذ أبصروا
زعيمهم دمه يهدر
وزند أخيل رماه قتيلا
لديه على زنث ولوا فلولا
وخلقهم ابن أياك انطلق
يبيد القروم بتلك الفرق
كثر سيلخ ميدنٍ إينيوسا
أفيلست عسطيفلٍ ثرسيوسا
كذا إمنسوس ولولا تصدى
له النهر فلَّ الجموع وأردى
تصدى له حانقًا وخرج
بزي فتًى من عباب اللجج
وصاح بصوتٍ دوى بالجدود:
«آخيل رعتك سراة الخلود
لقد فقت بالبأس بهم الزمر
كما فقتهم بعتوٍّ وشر
إذا زفس أولاك قهر العدى
أما لك في السهل كل المدى
فدعني فسيلي هذا الدفاق
بأشلاء قتلى الطراود ضاق
فلا منقذٌ لغصيص زعابة
إلى البحر ممتزجًا بعبابة
كفاك صدقتك فتكٌ ذريع
فقد راعني منك هذا الصنيع»
فقال: «أمرت وأنت المطاع
أيا إسكمندر في تي البقاع
على أنه ليس لي من مرد
إلى أن أردهم للبد
وهكطور ألقى ببأسٍ شديد
يبيد به أو حياتي يبيد»
وهب كرب وراهم يصول
فصاح بفيبوس زنث يقول:
«أيا رب قوس اللجين الأغر
أفاتك مطلب زفس الأبر
أما بك أرسل معتمدا
إلى قوم طروادةٍ عضدا
تدافع حتى براح تغيب
ويسيل ستر الظلام القريب»١٥
وأمَا أخيل فما ارتدعا
وللنهر من ثغره اندفعا
هنا لك زنث احتدامًا طنا
وأزبد منتفخًا ورغا
وثار وعجَّ كثورٍ يخور
بتياره مستشيطًا يمور
وفاض على جثث طرحا
بمجراه آخيل مجترحًا
فمن مات ألقاه في ثغره
ومن عاش واراه في قعره
وحول ابن فيلا جحافًا جرافا
تدافع حتى على الجوب طافا١٦
به قدماه تقلقلتا
فما بهما بعد ذا ثبتا
تشبَّث بالمهجة الزَّاهقه
بدردارةٍ غضَّةٍ باسقه
فمالت وآصلها تتفكك
إلى الأرض أهوت به تتبتَّك
ويانع أغصانها انتشرا
ووجه الحضيض بها انقشرا
وظلَّت كجسرٍ عظيمٍ يحول
وصدَّت مجاري تلك السيول
فريع أخيل وفرَّ يطير
إلى السهل فيه حثيثًا يسير
ولكن تقفاه ذاك الإلاه
بتيَّاره المدلهم وراه
يروم له ذلةً وانخذال
فيكفي الطراود شرَّ الوبال
فخفَّ أخيل كطير يدفُّ
على بعد مرمى الرماح يزفُّ
كحالك نسرٍ عثا بالطيور
وقصَّر عنه هفيف الصقور
وراح يفرُّ على ذعره
يصلُّ السلاح على صدره
وفي إثره النهر حيث التوى
تعقبه طاغيًا ودوى
كأن امرأً بنضير الغياض
سقى بدفاق العيون الرياض
فطهَّر قبل انصباباته
مجاري المياه بمسحاته
فما خلت إلَّا انبجاسًا تدفَّق
تدافع فوق حصًى تترقرق
وخر خريرًا مذ انحدرا
يسيح ودافعه قصرا
كذا حيث دار أخيل يميل
بآثاره زنث سدَّ السبيل
ولا بدع فالناس لا قبلا
لهم أبدًا بموالي الملا
فكم مرةٍ بخطاه تربَّص
لزنث يرى هل إذن يتخلَّص
وهل كلُّ آل العلى اعتصبوا
عليه ليخذله الهرب
فما كان من زنث إلَّا ارتفع
إلى كتفيه بتلك الترع
فهب ومحتفزًا وثبا
بأزمته فعلا الهضبا
ولكنَّ زنث التراب جرف
فموقف آخيل فيه انخسف
هناك التوت هلعًا ركبتاه
فأنَّ وصاح يروم النجاه:
«أيا زفس هل لا إلاه قدير
يرقُّ لحالي به أستجير
فإن أنج من زنث فلينزل
عليَّ بلا النوب الهمل
فليس بآل العلى جملة
كأمي من سامني ذلةً
فكم خدعتني بقول الكذوب
وكم زعمت باشتداد الخطوب
بأني قبالة هذي الحصون
بسهم أفلون ألقى المنون
علام بعامل هكطور لا
هلكت وأخبره البطلا
لو اجتاحني وسلاحي سلب
لقيل همامٌ همامًا ضرب
على أنني اليوم في ذا المكان
أموت بذا النهر موت الهوان
كراعي خنانيص غرٍّ ولج
خليجًا فما منه قط خرج»١٧
فلما انتهى فوسذٌ أسرعا
لنجدته وأثينا معا
بهيئة إنس له اعترضا
وبالأنس راحته قبضا
فخاطبه فوسذٌ أولًا:
«ألا يا ابن فيلا دع الوجلا
إلاهان رفدك راما هنا
أثينا بحكمتها وأنا
بنا زفس أسرى إذن فاسمع
وكلَّ نصائحنا فاتبع
فزنث ستلقيه عاف أذاكا
وما كان في الغيب فيه رداكا
فلا تغمد السيف حتَّى ترى
بإليون جيش العدى انحصرا
وهكطور تصمي وللسفن
تعود بمجدٍ رفيع سني»
هما انقلبا للعلى والبطل
بجملته للكفاح اشتعل
ومن حوله السهل حيث لمح
بما فاض من زنث طرًّا سبح
غثا بسلاحٍ عليه يطوف
وأشلاء قتلى ابترتها السيوف
فكرَّ وما بعد ذا ناله
خمولٌ وزنث فما هاله
أثينا أنالته عزمًا جديد
فما راعه بعد منه الهديد
فبرَّح بالنهر ذاك الغرور
فزاد اضطرابًا وعجَّ يفور
وصاح بسمويس مستنجدا:
«أُخَيَّ هلمَّ فعجزي بدا
هلمَّ كلانا هنا نعتصب
على رجلٍ واحدٍ ونثب
وإلَّا فمعقل فريام ذل
له والطراود سيموا الفشل
هلم وفض بالعيون الكبار
وأجر السيول غزارًا غزار
وفض الصخور على الشجر
فتفتر عزمة ذا المفتري
عتا مستبدًّا كربٍّ فخور
وعاث اعتسافًا يهيل الثبور
فلا نال في حسنه وقواه
ولا بصفائحه مبتغاه
سيلبث ذاك السلاح المتين
بقعر المياه دفين الغرين١٨
وأطمر بالرَّمل ذاك الجسد
عليه يهال قضيض الزبد
هناك يقيم بشر مقامه
فلا يهتدي قومُهُ لعظامه
وأكفيهم عبء قبر يشاد
له يوم يلتزمون الحداد»
ومن ثم هاج عليه وماج
ودمدم يدوي بذاك الفجاج
رغا زبدًا ودمًا وخبث
وتياره احمرَّ تحت الجثث١٩
وماد بآخيل يضطرب
وهيرا بسدَّتها ترقب
فصاحت تولول مذ أطبقا
عليه فأوشك أن يغرقا:
«بنيَّ حبيبي الأعيرج طر
فقرنك زنث فقيه استعر٢٠
هلم انجدنَّا بنارٍ تثور
وأغري الجنوب أنا والدبور
من اليم بالنوء تصطدمان
فتلهم نارك كل مكان
تذيق الطراود دهم البئوس
وتفني صفائحهم والرءوس
فلا تبق في ثغره شجرا
وفي قلبه انقضَّ مستعرا
ولا يغرينك لا بفديد
ولا بالتماسٍ ولا بوعيد٢١
ولا تخمدنَّ أوار السعير
إلى أن أصيح بصوت جهير»
فأرَّث بالسهل نارًا ذكت
بأشلائهم أوَّلًا فتكت
كماةٌ رماهم أخيل العنيد
وما كان أكثر ذاك العديد
فما خلت إلَّا لثرى يبسا
وطغيان زنث به انحبسا
كروضٍ سقاه الحياء تهفُّ
شمال خريفٍ به فيجفُّ
فيجذل زارعه طربا:
ومن ثم هيفست ملتهبا
أدار على زنث نار الشرار
فثار بمجراه واري الأوار
فدرداره باد من أصلهِ
بصفصافه وكذا أثله
كذا السعد والسدر والخيزران
بآصلها والفروع الحسان
برمَّتها اتقدت شررا
فلم تبق عينًا ولا أثرا
وأسماكه كل حيتانها
وحيَّاتها فوق نينانها
تغوص فلولًا بضيق النفس
لهول المهب وحر القبس
وفي قلب زنث استطار يعيث
حميم الصلا فدعا يستغيث:
«هيفست بنارك مالي قبل
فأي إلاه تطلبت ذل
كفى كفَّ وليفتك ابن أياكا
بطروادةٍ فيذيع الهلاكا
فما لي وهذا الوبال الألد»
كذا صاح لكن هفستُ استبد
وأج بغدران زنث ففار
كقدرٍ تفور بنارٍ تثار
يسيح بها شحم رتٍّ سمين
على حافها يسرةً ويمين
ومن تحتها يابس الحطب
بموقده قدح اللهب
كذا زنث لمَّا به اشتعلا
سعير هفست علا وغلا
ولم يجر بل فار متقدا
فهيرا دعا يطلب المددا:
«علام بحقك دون سوايا
سليلك هبَّ يروم أذايا
أمن كل أنصار طرواد هل
تخالين أني المسيء الأضل
فإن شئت لا جئتهم بعد ذا
كفاه كفى فليكفَّ الأذى
ولن أبتغي بعد رفدهم
باك نعم علنًا أقسم
ولو كل طروادة احترقت
بنار الأخاءة وامَّحَقَت»
فهيرا استجابت وصاحت: «كفى
بُنيَّ فقف ذاك حد الجفا
فما فوق ذا جاز أن نشجنا
بني الخلد من أجل قوم الفنا»٢٢
فأخمد هيفست نيرانه
وأجرى كذا زنث غدرانه
وهيرا بغل مرارتها
إليه سعت بوساطتها
فتمَّ بكشفه زنث الوفاق
وثار بآل الخلود الشقاق
فقامت لهم ضجةٌ وعجيج
من الأرض للجو يعلي الضجيج
وزفس لفتنتهم والصخب
لقد هزه بعلاه الطرب٢٣
وما لبث الخطب أن فدحا
فهبوا يثيرون تلك الوحى
وأولهم خارق الجنن
أريس تصدَّر للفتن
أثينا أتى بشحيذ الدباب
وصاح: «اخسئي يا ذباب الكلاب٢٤
علام بنا هجت هذا اللدد
بشر عتوٍّ عدا كل حد
أأنسيت يوم ذيوميذ صال
عليَّ وأغريته للنضال
وسددت عامله فاستطار
ومزَّق جلدي فثارٌ بثار»٢٥
وإذ ذاك عامله دفعا
ففي ظهر مجوبها دفعا
مجنٌ وهيهات تفعل به
صواعق زفس على غضبه
فما كان إلَّا أن التوت
وجلمود صخرٍ تناولت
هنالك ذا الصخر منذ القديم
لتلك المعالم حدًّا أقيم
ثوى هائلًا حالكًا خشنا
رمته به بيسير العنا
فحلقومه دق فانقلبا
وسبعة أفديةٍ حجبا٢٦
فعقر بالترب ذاك الشعر
وصل السلاح عليه وصر
فصاحت إذ ابتسمت جذلا:
«جهلت وما الحق أن تجهلا
وفاتك حمقًا سمو قوايا
فأقبلت مستهدفًا لبلايا
فذق من صلى أمك اللعنات
لظى أزماتٍ على أزمات٢٧
جزاء اطراحك رفد الأخاء
وعون الطراود أس البلاء»
وعنه بألحاظها أعرضت
هنا عفرذيت له عرضت
وقادته من يده تتدفق
دماه بحسٍّ تضعضع يشهق
وهيرا على البعد تبصرها
فصاحت بفالاس توغرها:
«ألا فانظري قحة الزهرة
تفاقم والحرب مستعرة٢٨
عليك بها فلقد أدبرت
بآريس هو الملا وجرت»
فهمَّت أثينا وقد طفحا
لذا لبُّ مهجتها فرحا
براحتها صدرها لطمت
فخارت قوى عزمها وارتمت٢٩
كذا عفرذيت وآريس ظلا
طريحين فوق التُّراب وذلَّا
هما لبثا بعنا وزفير
وفالاس صاحت بداري النَّعير:
«كذا فليبد من لطرواد مال
وسام الأغارق شرَّ النكال
فلو أن جملة أنصارهم
إلى الحرب ثاروا بكبَّارهم
بعزم كما عفرذيت بدت
لنجدة آريس مذ عربدت
لكف القتال العنيف الوبيل
وإليون دكت لعهدٍ طويل»٣٠
فهيرا لذا ابتسمت واستطار
إلى سيد النور ربُّ البحار:٣١
«أوار سراة العلى مضطرم
لماذا إذن نحن لا نصطدم
أنرضى الهون وعار القفول
لقبَّة زفس بهذا الخمول
إلى الحرب فيبوس قم وتهيَّا
فإنك أحدث سِنًّا فهيَّا
تقدَّمت عهدًا وزدت اختبار
فبادر فحقك بدء البدار٣٢
فهلَّا ادكرت أأحمق كم
بإليون برَّح فينا الألم
بنا زفس أرسل دون الجميع
إلى لومدون فجئنا نطيع
لنعمل عامًا بخدمته
فنقبض معلوم أجرته
فشدت الحصون الحسان الفساح
تعزُّ امتناعًا ولا تستباح
وأنت سرحت بتلك البقر
على شم إيذا الكثيف الشجر
ولما عنا جهدنا اكتملا
وحان لنا نقبض البدلا
وأقبلت الساع بالفرج
أبى لومدون لما نرتجي٣٣
فأرسلنا خاسئين وأقسم
وهمَّ بآذننا أن تصلَّم
وهمَّ بغلك رجلًا وزندا
وبيعك في جزر البحر عبدا
تعمَّد شر خيانتنا
فعدنا بغل حزازتنا
أمن أجل هذا وليت بنيه
ولم تنتقم مثلنا من ذويه
لنُفْنِي طروادة الكافرة
وأبناءها والنسا الطاهرة»٣٤
فقال: «أفوسيذ هل خلتني
قصير الحجى فاقد الفطن
فمن أجل من أنا أبرز لك
أمن أجل إنسٍ ثواه الدَّرك
وما الإنس في الأرضِ إلا ورق
تراه نشا يانعًا وبسق
معيشته من نتاج الثرى
ولكنه صاغرًا دثرا٣٥
فدعنا إذن من ويل النضال
ودعم يجولوا بحربٍ سجال»
وعنه تقهقر محتجبا
لقاء أخي زفس مجتنبا
فلاحت هناك له أُخته
قنيص الضَّواري تبكته:٣٦
«أراك انهزمت أرامي السهام
وخوَّلت فوسيذ كلَّ المرام
لماذا برزت بقوسٍ طحور
وأبرزت بين الصدور الغرور٣٧
فهل بعد ذلك ذا تزعم
بباسك فوسيذ تقتحم»
فصدَّ ولم يلق بنت شفه
وهيرا استطارت بها الأنفه
على أرطميس انثنت بالخطاب
تعنفها بشديد السباب
وصاحت: «أيا كلبةً يا وقاح
أفي ظل وجهي هذا الصياح
ستصلين نيران غيظي وإن
برزت بقوسٍ لغيري ترن
جُعلت نعم لبوةً للنسا
تنيلين من شئت مُر الأسى٣٨
ألا ما فتكت بوحشٍ ربا
بشم الجبال وغر الظبا
وعفت البروز بحمق الشطط
لمن لا تطيقين لقياه قط
أرمت إذن خبر هول المكر
خذيها إذن عبرةً تُعتبر»
هنا قبضت مذ تدنَّت إليها
بيسرى يديها على معصميها
ومالت بيمنى على منكبيها
تجرد قوسًا تؤجُّ عليها
وباسمةً أذنها ضربت
بتلك الكنانة فاضطربت
ودارت بجملتها تنتتر
وأسهامها دونها تنتثر
وغادرت القوس وانهزمت
بذلَّتها والدموع همت
كورقاء يذعرها وجه صقر
تزفُّ لتلجأ في شق صخر
وما كان قبل له قدرا
بها قط أن ينشب المنسرا
وصاح بلاطونةٍ هرمس:
«بحربك هل خلتني آنس
فمن رام عرس أبي السحب
بسوءٍ فقد ضلَّ في مذهبي
فأمي بني الخلد وافتخري
عليَّ ببأسك والظفر»٣٩
ففورًا لجمع النبال انبرت
عن الأرض من حيث قد نثرت
وسارت على أثر ابنتها
بفارجها وكنانتها٤٠
وإذ للألمب أتت أرطميس
بقصر النحاس تبدَّت تميس
بعبرتها أقبلت تسبح
على ركبتي زفس تنطرح
ومن حولها البرقع العنبري
تألق يسطع للنظر
إلى صدره ضمَّها وابتدر
يهش لها واستقصَّ الخبر:
«من الخلد من ذا عليك افترى
كما لو أتيت ابنتي منكرا»
فقالت: «أبي تلك زوجك من
أثارت بآل السماء الفتن»
كذا بحديثهما اشتغلا
وفيبوس طروادةً دخلا
لئلَّا يدكَّ العداة الحصار
برغم القضاء بذاك النهار
وسائر آل العلى رجعوا
لأولمبهم حيثما اجتمعوا
لدى زفس ذاك بنصرته
طروبٌ وذا بحزازته
وظلَّ أخيل بحر الجلاد
يبيد كماة العدى والجياد
وحيث بدا لهم فتكا
بهم ودماءهم سفكا
كنار بغيظ بني الخلد شبَّت
ببلدة قوم عصاةٍ فهبَّت
وأعلت دخانًا رقى للرَّقيع
فسيم الجميع البلاء الفظيع٤١
وفي البرج فريام منتصبا
على البعد آخيل قد رقبا
إذا بالطراود قد ذعروا
وكلهم شردًا أدبروا
فمن ثم مكتئبًا نزلا
يحذر حراسه وجلا:
«ألا فافتحوا كلَّ أبوابكم
إلى أن تدوس بأعتابكم
فلول السرى. فأخيل هجم
مغيرًا ووا هول هاتي النقم
وإن لجأ الجند طرًّا إلى
معاقلنا فاقفلوا عجلا
لئلَّا يحلَّ بحر العراك
أخيل بها وهناك الهلاك»
ففتح في الحال كل رتاج
وقد رفعوا منه كل زلاج٤٢
وشذَّاذ طروادةٍ شرَّد
قضيضًا قلاعهم وردوا
يغشيهم نقعهم والصدَّى
يحرق مهجتهم كمدا٤٣
وفيبوس خفَّ أمامهم
يسهل ثم انهزامهم
وراهم أخيل حديد الفؤاد
يجيل حدود الحديد الحداد
وكاد يجوز بعسكره
معاقلهم بتسعُّره
فأغرى أفلون آغنرا
أخا العزمات ابن أنطنرا
وألهب بالبأس مهجته
وبالسحب حلَّ قبالته
إلى زانه قربه استندا
ليدرأ عنه ثقيل الرَّدى
لآخيل آغنرُ وقفا
ولكنَّه مع ذا ارتجفا
وفي نفسه قال: «إن أجم
لآخيل آه وأنهزم
كما جندنا هلعًا هربت
لديه فمنقي لا شك بت
وإن أعتزلهم وشأنهم
وآخيل مكتسح لهم
واضرب بذا السَّهل مجتهدا
حثيثًا لإيذة مبتعدا
وفي بعض آجامه أستتر
نهاري ومن بعد ذا أنحدر
وفي النَّهر أغسل رشيح العرق
وأرجع لإليون عند الغسق
أفز ناجيًا — لا فماذا الصَّواب
ولا لا علام أنا بارتياب
أليس يراني طلبت الخلاص
فينقضُّ إثري وأين المناص
ومن أين لي عدوه وقوى
بها الخلق طرًّا لديه سوا
إذا فلأقف دون هذي القلاع
للقياه محتفزًا للدفاع
فليس له غير نفسٍ تنال
وجسمٍ يشق بحد النبال٤٤
نعم زفس عظَّمه إنما
علمنا لقوم الفناء انتمى»٤٥
ومن ثم تحت السلاح تلملم
بقلبٍ لحرب ابن فيلا تضرَّم
كبيرٍ قد انقضَّ من أجمه
على قانص واري العزمه
فلا يلتوي لشديد النباح
ولا للصياح ولا للسلاح
وليس يذلُّ ولو نفذا
بعاتقه منصلٌ شحذا
فإمَّا البلوغ لمنيته
وإمَّا ليوم منيته
كذاك ابن أنطنر لبثا
لصد أخيل وما اكترثا
فهزَّ القناة ومدَّ المجنَّا
وصاح: «ابن فيلا هنا أقبلنا
فهل خلت ذا اليوم إليوننا
تذلُّ فتبلغ منها المنى
تعست فمن دون ذا غمرات
تمنَّى بها وكماةٌ ثقات
أباةٌ حماةٌ لأوطانهم
وأولادهم ولنسوانهم٤٦
إذن أنت أنت ستلقى رداكا
هنا اليوم مهما استطالت قواكا»
وآخيل بالرمح فورًا طعن
ففي ساقه بالصفائح رن
ومرتدعًا بالفضاء انطلق
وكيف نحاس هفست يشق
فهمَّ ابن آياك يستعر
وكاد بآغنر يظفر
ولكن فيبوس في الحال حال
فحجبه بغيومٍ ثقال
وأرسلته سالمًا يذهب
أمينًا وما مسه عطب
وجاء آخيل بحيلته
كآغنرٍ تحت هيئته
لديه على السَّهل ولي يهيم
لينئيه عن فل جيشٍ هزيم
وراوغه طيَّ بونٍ قليل
ليطمعه بارتواء الغليل٤٧
على إسكمندر راح يجد
وآخيل في إثره مبتعد
وطروادة بمناسرها
وهلَّع جند عساكرها٤٨
لهم لاح في بعده الفرج
بغير هدى سورهم ولجوا٤٩
لدى الباب لا أحدٌ أحدا
تربَّص يرقبُ مفتقدا
ليعلم من باد ممَّن سلم
وكلهم هالعٌ منهزم
فغصَّت وماجت بهم لغطا
ولم ينج إلَّا حثيث الخطى

هوامش

(١) ترى من مجمل هذا النشيد أنه كله قراع وصراع، فتخال أنك مقبل على تلاوة وصف معارك؛ كالتي سلفت فتتشاءم بالملل لكثرة الخوض بهذه المواقع، على أنك لا تكاد تتلو بعض أبيات حتى ترى أنك في روض من التصور بديع لم يحط البصر بشيء من مثله في سائر الإنشاد، ولهذا قيل: إن قوة الابتداع الفكري والاختراع الشعري لم تتوفر لشاعر توفرها لهوميروس في هذا النشيد.
يشتد هنا الكفاح ولا اشتداده في ما سلف: أبطال تتحرق، وأشلاء تتمزق، وأنهار تتدفق، ونار وماء وأرض وسماء، ومعمعة بين الثرى والسحاب تتجاول فيها البشر وتتصاول الأرباب، كأن كل ما في السماء والأرض جذوة نار اتقدت إجلالًا لبطل الرواية، كل هذه أمور على غرابتها وبعدها عن مألوف الذوق العصري تشوق المطالع وتلذ السامع لما يرى فيها من التفنن في التبويب وتطبيق المقول على المعقول بعرف أبناء تلك القرون.
(٢) زنث أو زنثس (Ξανθος) ومعناها الأشقر أو الأصفر نهر في طروادة، قال هوميروس في موضع آخر: إن الآلهة يسمونه بهذا الاسم ويدعوه البشر إسكمندر. واسمه الآن مندرسو وقرق كوزلر.
قال: إنه انبثق من زفس؛ لأن زفس ممثل السماء ومنها تنهمل الأمطار فتملأ الأنهار.
(٣) تثير هيرا البخار لأنها ممثلة الهواء.
(٤) كان من عادتهم إذا انتاب الجراد مزارعهم أن يوقدوا له نيرانًا عظيمة، فينهزم منها مندفعًا إلى الماء، وقد دفعه هوميروس هنا إلى النهر كما دفع في التوراة إلى البحر، وكما زفاه في البر بجير بن بجرة بقوله:
كأنهم والخيل تتبع فلهم
جرادٌ زفته الريح يوم ضباب
إذا ما فرغنا من ضراب كتيبة
سمونا لأخرى غيرها بضراب
(٥) أي: أبطال رجال، وجياد مركبات.
(٦) قال عنترة:
بحسامٍ كلما جردتهُ
بيميني كيفما مال قطع
(٧) غرثانة، أي: جائعة للفتك. وهي استعارة مر نظيرها (ن ٨ ون ١٥).
(٨) كان من مألوفهم حفظ كرامة النزيل، كما كانت عادة العرب، ولا تزال في البادية، فمن ذاق زادك فقد وجبت عليك رعايته وامتنع عليك الغدر به وأصبح متذممًا بك وجارًا لك. قال قائد بن سليم الأسدي:
فنعشت قومك والذين تذمموا
بك غير مختشعٍ ولا متضائلِ
ومثله قول حسان بن نشبة:
أبو أن يبيحوا جارهم لعدوهم
وقد ثار نقع الموت حتى تكوثرا
قال ابن الأعرابي: «والعرب تحلف بالملح والماء تعظيمًا لهما، ويقال بين الرجلين: ملحٌ وملحة، أي: حرمة وذمام. ويقال: مالحت فلانًا، أي: آكلته، وهي الممالحة».
(٩) في كلام أخيل من الحماسة وحقر الموت ما يدل على ما وعى صدره من الهمة الشماء والنفس الأبَّاء، يقول: إنه لا بد أن يفاجئه الموت فلا يبالي به أيان أتاه، ثم يختتم بقوله: إنه لا بد أن يجند له بطل من الأبطال بنصل يطير أو بسهم طرير إشارة إلى أنه لا يجسر أحد أن يقابله وجهًا لوجه، بل جل ما تبلغ الفرسان من قتاله أن تحذف بالنصال عليه عن بعد خوفًا من بطشه.
(١٠) كانوا في بعض الأحوال يطرحون في الأنهر جيادًا حيةً، وهي عبادةٌ ظلت شائعة في كثير من بلادهم، حتى زمن الرومان من بعد، وكما كان المصريون من قبل يلقون في النيل بأنواع الضحايا من الإنسان والحيوان إلى أن أبطلها المسلمون في خلافة عمر بن الخطاب؛ إذ أنفذ عمرو بن العاص علم بن سارية الخمس إلى المدينة، فلما قضى مهمته قال: «يا أمير المؤمنين إن عمروًا يسلم عليك، ويقول لك: إن القبط كانوا استنُّوا سنة في نيلهم كل سنة، وذلك أنهم كانوا إذا أبطأ عليهم الوفاء في النيل يأخذون جارية من أحسن الجوار، ويزينونها بأحسن زينة، ويرمونها في البحر، فيأتي الماء ويوفي النيل، وقد قرب ميقات ذلك، ولا يفعل عمرو شيئًا إلا بإذنك. فكتب عمر بن الخطاب: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، إلى نيل مصر، أما بعد فإن كنت مخلوقًا لا تملك ضرًّا ولا نفعًا، وأنت تجري من قبل نفسك وبأمرك فانقطع، ولا حاجة لنا بك، وإن كنت تجري بحول الله وقوته فاجرِ كما كنت والسلام. وأمره أن يدفع الكتاب إلى عمرو بن العاص يرميه فيه وقت الحاجة … وتوقف النيل عن الوفاء، وقد أيس الناس من الوفاء في تلك السنة فمضى عمرو إلى النيل وخاطبه ورمى فيه كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلما رماه فيه هاج البحر وزاد إلى فوق الحد ببركة عمر رضي الله عنه» (واقدي).
(١١) زف: أسرع.
(١٢) أكسيس نهر في مكدونيا كانوا يعدونه يدعى الآن وسترتزا.
(١٣) أخلويس: إلاهٌ نهر كانوا يعتقدون بقوته وجبروته.
(١٤) النينان: الحيتان والأسماك.
(١٥) براح: علم للشمس.
(١٦) جحاف جراف، أي: سيل جارف أخاذ يذهب بكل شيء. يقول: إن النهر طغا وتدافع وتدفق سيلًا جارفًا، واكتنف أخيل حتى طاف على ترسه، إن في الأصل اليوناني لهذه الأبيات من حكاية الصوت ما يدهش له السامع، ولعل في التعريب شبهًا أو أثرًا من تلك المشاكلة.
(١٧) إن في هذا الدعاء مرآة ينعكس عنها ما تكنه صدور الأبطال من الزماع، وطول الباع، وهو يشبه دعاء إياس (ن ١٧) إذ أربدَّ الجو وتكاثفت فيه الظلمات، وضاق الإغريق ذرعًا فقال مخاطبًا زفس:
من جوك امحق حندس الديجور
ثم امحهم إن شئت وسط النور
تلك أمنيه أياس، وأخيل تمنى هنا لو رماه أفلون بسهم فأهلكه أو طعنه هكطور، فجندله ذلك خيرٌ له من أن يموت غريقًا لا يقوى على صراع ولا دفاع.
(١٨) الغرين: الطين.
(١٩) قال جرير:
وما زالت القتلى تمجُّ دماءها
بدجلة حتى ماء دجلة اشكلُ
(٢٠) نريد بالأعيرج هيفست إلاه النار، وهو لقبٌ له كما مر (ن ١٨).
(٢١) الفديد: الصياح.
(٢٢) إن في قتال أخيل وزنثس على غرابته شيئًا من الحقيقة صاغها الشاعر.
(٢٣) لقد يعجب المطالع لطرب زفس وارتياحه لفتنة الآلهة، ويتشوف لمعرفة سبب ذلك الارتياح — قال افستانيوس: إن زفس وهو سيد المخلوقات ورب الطبيعة وما حوت من أرض وسماء وماء وهواء يرتاح إلى نزاع الآلهة؛ لأن توازن الاتفاق لا يحصل إلا بهذا الشقاق فالأرض في نزاع مع الماء والهواء مع الأرض والماء مع كليهما، والخلاف لا بد منه أبدًا بين الحر والبرد والرطوبة والجفاف، فيحصل من هذا التنازع تعادل في قوى الطبيعة والنتيجة خصب الأرض وارتداء السهول ولجبال بثوب الجمال والاعتدال.
(٢٤) ذباب الكلاب (Κυναμυια): لفظة تحقير كما لا يخفى، وقد تحاشى أكثر نقلة هوميروس ذكر ألفاظ كهذه، كما أسلفنا غير مرة، إما لعجز في لغاتهم، وإما لوقوعها موقعًا خشنًا في الشعر، على أني رأيت أن لا أشوه الأصل بمثل هذا الخروج عن جادة الاستخراج.
(٢٥) يشير إلى حادثته مع ذيوميذ في النشيد الخامس؛ إذ طعنه ذيوميذ بإغراء أثينا.
(٢٦) أي: إن جسمه امتد على مسافة سبعة أفدنة، وهذا التعبير على ما فيه من الغلو ليس على شيء من الغرابة بإزاء ما في خرافات كتابنا من وصف ملائكتنا بل وبشرنا أيضًا؛ كالعمالقة وعوج بن عناق الذي كان يتناول السمك من البحر ويشويه في الشمس.
(٢٧) الصَّلَى: النَّار، وأم آرس هيرا: وهو كان منحازًا إلى فئة أعدائها فكأن نكبته كانت عقابًا لهُ على مخالفتها.
(٢٨) الزهرة: هي عفرذيت.
(٢٩) أي: إن أثينا لطمت براحتها صدر الزهرة.
(٣٠) تريد أن تقول: إن آرس والزهرة ضعيفا العزم واهيا العزيمة.
(٣١) أي: إلى فيبوس فوسيذ.
(٣٢) أي: إن الفتى الحدث أولى بالشروع في القتال لنزقه وحدته، فلا يتأنى ويتروى — فيبوس لقب أفلون إلاه النور، وله مزايا شتى ذكر هوميروس شيئًا منها كقوله: «رب السهام» و«مطرب الآلهة». كانوا يمثلونه دائمًا بصورة فتى جميل الطلعة، ذي شعر طويل مرسل، وبيده قوسٌ وسهامٌ أو قيثارٌ كما ترى في الرسم.
figure
فيبوس (أفلون).
(٣٣) الساع: الساعات، وقد مر ذكرها مؤلهة (ن ٥).
(٣٤) في أساطيرهم أن زفس غضب يومًا على أفلون وفوسيذ، فطردهما من السماء وأنفذهما خدمة لوميدون أبي فريام ملك طروادة بعد أن نزع منهما سلطان الأرباب، فبنيا له حصونها وأقاما له سدودها، أي: إن زفس سخر للوميدون الشمس والبحر فأعاناه بصفاء الجو وسكون البحر على إتمام العمل، وقد مرَّ ذكر هذه الخرافة في النشيد الخامس.
(٣٥) بسق: ارتفع، مر تشبيه الناس بورق الشجر في النشيد السادس ص٤٤٧، ولكنه أشار هناك إلى التلاشي والتجدد معًا؛ إذ قال:
وكلُّ على إثر كلٍّ مشى
فجيلٌ تلاشى وجيلٌ نشا
وأما هنا فأكثر مرماه إلى الاضمحلال كقول يزيد بن الحكم:
ما عذر من هو للمنو
ن وريبها غرض رجيم
ويرى القرون أمامه
همدوا كما همد الهشيم
ويجرب الدنيا فلا
بؤس يدوم ولا نعيم
ومثله قول عدي بن زيد:
ثم أضحوا كأنهم ورقٌ جفَّ
فالوت به الصبا والدبور
وقول ربيعة بن مقروم:
وأضحت بتيماء أجسادهم
يشبهها من رآها الهشيما
ويجري مجراه قول لبيد:
وما المرء إلا كالشهاب وضوؤه
يحور رمادًا بعد إذ هو ساطع
(٣٦) أخت أفلون أرطميس، ولقبت بقنيص الضواري، أي: صيادتها؛ لأنها كانت إلاهة الصيد.
(٣٧) القوس الطحور: البعيدة المرمى. وقوله: الصدور، أي: صدور الجيش.
(٣٨) لقبت أرطميس (وهي ديانة الرومان على ما علمت) بلبوة النساء؛ لأنهم كانوا ينسبون إليها كل موت فجائي يصيب النساء، كما ينسبون إلى أفلون موت الرجال، وهي فضلًا عن ذلك ممثلة القمر ورقيبة المواليد لعلاقة القمر بالحمل والولادة.
(٣٩) قالوا: إن هرمس (عطارد) لا يقاتل لاطونة؛ لأنه كوكب، وهي إلاهة الظلام، وليس للكواكب أن تقاتل ظلام الليل؛ لأنه لولا الليل لما سطع للكواكب نور.
(٤٠) الفارج: القوس.
(٤١) كأني بهوميروس يشير بهذين البيتين إلى ما روي له أثناء إقامته في مصر عن سدوم وعمورة على ما جاء في التوراة، أو اتصلت إليه رواية هلاك عاد، قالوا: إنه لما رأى قوم عاد أنه لا غالب لهم من الناس تجبروا واحتقروهم، فبعث الله إليهم هودًا فأبوا أن يكفوا عن الظلم وكذبوا وتمادوا فأمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين حتى هلكت مواشيهم وأصابهم الضر الشديد، ثم أهلكهم بنار كنار هوميروس انبعثت في الجو من غمامة سوداء، وكان أول من نظر ما في تلك السحابة امرأة منهم يقال لها: مهد، فصفقت بيديها ونادت بأعلى صوتها ويلكم عليكم بهود، فقد أتاكم العذاب وأنشدت:
إني أرى وسط السحاب نارا
تنثر من ضرامها الشرارا
يسوقها قومٌ على خيول
تهتف بالأصوات والصهيل
وهي عذاب يال عاد فاعلموا
فوحدوا الله لكي ما تسلموا
ثم استجيروا بالنبي هود
نبي رب واحد معبود
فقد أتاكم عن قريب داهيه
فليس تبقي منكم من باقيه
فلما أراد الله إهلاكهم أمر خازن الريح العقيم أن يخرج منها مقدار ثقب الخاتم، فسخرها الله عليهم سبع ليالٍ وثمانية أيام متتابعة، فلم تدع من عاد أحدًا إلا أهلكته، وقد فصلنا هذه الرواية في دائرة المعارف (مجلد٤٢٨:١١).
(٤٢) الرتاج: الباب، والزلاج: القفل.
(٤٣) الصدى: العطش، والنقع: الغبار.
(٤٤) من خرافات الميثولوجيين أنه لما ولد أخيل، أمسكته والدته برجله وغمسته بنهر الستكس، فبات السلاح لا يعمل في شيء من جسده إلا في عقبه؛ حيث حالت يد ولدته دون الماء — تلك خرافة قال المحققون: إنها لم تكن معروفة في زمن هوميروس، وإلا لما كان به حاجة إلى ذلك السلاح، وتلك الصفاح، ولما أثر له فضل مغوار الأبطال في حومة القتال.
(٤٥) المراد بقوم الفناء البشر، أي: إنه لا يستحيل قتله وهو إنسان.
(٤٦) قال الحطيئة وأجاد:
أولئك آباء الغريب وغانة الـ
ـصريخ ومأوى المرسلين الدرادق
أحلوا حياض الموت فوق جباههم
مكان النواصي من وجوه السوابق
(٤٧) أي: طاولة ولم يكن يبعد عنه كثيرًا.
(٤٨) مناسر الجيش طلائمه.
(٤٩) لو روى هذه الرواية مؤرخٌ لقال: فرَّ أغينور من وجه أخيل فاختفى في غابة، وشغل أخيل تعقبه عن صد الجيش فاتسع المجال للطرواد، فلجأوا منهزمين إلى معاقلهم، ولكن قول الشاعر غير قول المؤرخ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤