النشيد الثالث والعشرون

مأتم فطرقل

مُجْمَلُهُ

شرع آخيل في التأهب لمأتم حبيبه فطرقل، فأمر بإعداد الطعام، فسأله أصحابه أن يغتسل من الدماء التي تخضب بها فأبى إلا أن يبقى على حاله إلى أن يدفنه، وبعد اللتيا والتي تناول شيئًا من الطعام في مضربه، ولكنه لم يغتسل وأرفض الجمع كل إلى مرقده، فظهر فطرقل في الرؤيا لآخيل وطلب إليه أن يعجل بدفنه، فمدَّ آخيل يده ليقبله فاستيقظ وإذا به حلمٌ، ولما بزغ الفجر أسرع الجند إلى جبل إيذة للاحتطاب فجمعوا الوقود وألقوا عليه الجثة، فقص آخيل شعره ليحرق مع القتيل، وذبح خيلًا واثني عشر فتى من الطرواد ليحرقوا فوق جاحمه، وأما هكطور فحفظته الزهرة وأفلون من الفساد، وأضرموا النار فلم تضطرم إلَّا قليلًا، فتضرَّع آخيل إلى الرياح فبادرت وأضرمت اللهيب، ولما احترقت الجثة جمعت العظام ودفنت، ثم تهيأوا للألعاب المعتادة وأعد آخيل الجوائز فتسابقوا بالعجال، ثم برزوا للكام والصراع والسباق عدوًا، والبراز بالسلاح والتخاطر بقذف الكرة والمناضلة وزج الرماح، وهكذا انتهت الحفلة.

ينتهي اليوم الثلاثون في أول هذا النشيد وفي الليلة التالية يظهر فطرقل لآخيل، واليوم الحادي والثلاثون للاحتطاب، والثاني والثلاثون لإحراق الجثة، والثالث والثلاثون للألعاب، ومجرى ذلك على شاطئ البحر.

النشيد الثالث والعشرون١

إليون بالنحيب والحداد
وفيلق الإغريق بارتداد
للثغر والسفين حيث انتشروا
كل إلى أسطوله يبتدر
لكن أبى آخيل أن ينحلَّا
خميسه بل في سراه ظلَّا٢
قامت على انتظامها الصفوف
فصاح وهو بينهم يطوق:
«مرميد يا فرسان يا رجالي
لا تفصلوا الخيل عن العجال٣
بل قربوهنَّ بذا المجال
نبكي وترثي غرة الأبطال
فطرقل فالندب بلا محال
فرضٌ على ميت صريعٍ خال
فإن روينا غلة النكال
حلت وهيأنا بلا بلبال
وضيمةً نعدها في الحال»٤
فهطلت دموعهم جميعا
وخفَّ آخيل بهم سريعا
وحول فطرقل ثلاثًا داروا
بخيلهم ودمعهم مدرار
تزيدهم ثيتيس حزنًا عيلا
فولولوا وأكثروا العويلا
حتى جرى ما سحَّ من تلك العبر
غيثًا على السلاح والسهل انهمر
أمامهم آخيل بالنحيب
يشهق قرب خله الحبيب
عليه ألقى يكبر المقاله
بينهم أكفه القتاله:
«أقريك يا فطرقلًا السلاما
وإن تهم في سقرٍ هياما
فها أنا والجيش حولي قاما
أبرُّ بالوعد هنا تماما
فساعدي هكطور ذلَّا ساما
وسوف ألقيه هنا طعاما
للكلب يفري اللحم والعظاما
والنار إذ تذكو لك اضطراما
أذبح من طروادة انتقاما
من حولها اثني عشرًا كراما»٥
وزاد وهو لاهبٌ سعيرا
على هوان المجتبى هكطورا
فكبه لوجهه معفرا
حيال نعش الميت في وجه الثرى
من ثم حلوا صاهلات الجرد
ونزعوا زاهي السلاح الصلد
وحول فلك ابن أياك التأموا
وذلك الزاد الشهي اقتسموا
فمن خرافٍ وثيارٍ غر
هالعةٍ تحقق عند النحر
ومن عنوز ثاغيات ترتجف
أمامها الجزار بالنصل يقف
ومن رتوتٍ صلدة الأنياب
تسيل شحمًا باللظى اللهاب٦
دماؤها كذا جرت سيولا
وأقبل الصيد إلى ابن فيلا
وذهبوا به وما كادوا لما
على حبيبه تلظَّى ألما
وإذ أتوا خيم أغاممنونا
صاحوا على الفيوج أجمعينا
إن يرفعوا المرجل فوق النار
ويوسعوا الجاحم بالأوار٧
لغسل ما لطَّخه من الدم
لكن أبي يغلظ برَّ القسم:٨
«بحق زفس السائد المخلد
أقسم لا قطرة مسَّت جسدي
ما لم أشد ضريح خلي الأوحد
من بعد أن أحرقه في كمدي
حيث له أقص شعري العسجدي
مهما أعش فلن تلظى كبدي٩
أسًى كهذا اللَّاعج المتقد
فأرضخ الآن على توقُّدي
إلى اقتسام الزاد في ذا المشهد
لكن إذا طرَّ الصباح من غد
على ابن أتراس المليك الأمجدِ
أن ينفذ القوم بلا تردُّد
في طلب الوقود ثم نبتدي
بمأتم حقَّ لميتٍ يغتدي
من فوره إلى الظلام الأبدي
حتى إذا جثَّة ذاك السيد
ذابت وفزنا بجميل المقصد
للحرب عدنا بزهي العدد»
لبوا وكلٌّ هب يبغي الزادا
فنال منه سهمه المعتادا
حتى إذا ظماه ولَّى والسَّغب
لخيمه في طلب النَّوم ذهب
وفي فجاج قرب جرف البحر
لدى دوي الموج فوق الثَّغرِ
آخيل والعي به قد برحا
ما بين جيش المرمدون انطرحا
أنهكه العدو ورا هكطورا
فنام في ظل الكرى قريرا
فروح فطرقل بطيف الحلم
قامت على هامته كالجسم
بقده والحلل المسدوله
وصوته والمقل الجميله١٠
قالت: «آخيل له طاب الكرى
حتى عن الحبيب غضَّ النظرا
أهملني ميتًا فهلَّا ذكرا
وداده لي وأنا حيٌّ أرى
بادر إلى دفني حتى أعبرا
أبواب آذيس ولا أحقَّرا
صدَّتني الأرواح عن أن أصدرا
ما بينهنَّ فأخوض الأنهرا
فرحت هائمًا بلجات الثرى
وجئتك الآن ودمعي انهمرا
فانهض وأعدد لي صلى تسعرا
فبعد ذا لن أبرحنَّ سقرا١١
آه فقد فات زمان غبرا
حيين فيه نعقد المؤتمرا
في عزلةٍ فيها تحاشينا السرى
منذ نشأت كان هذا القدرا
فغالني وفيه قدمًا سطرا
حتفك في أكناف سورٍ حصرا١٢
أجب إذا ملتمسي مهما جرى
فمثلما معًا قضينا العمرا
من يوم مينتيوس بي غرًّا سرى
لصرح فيلا من أفنطٍ مدبرا
من وجه رهطٍ رامني مثئرا
لمَّا قتلت (وصلي الجهل عرا
وقد لعبنا بالكعاب عسكرا)
فرعًا لأمفيدامسٍ مستكبرا١٣
ومثلما قبلًا أبوك استبشرا
بي فنشأت ناعمًا موقَّرا
في حجره كما نشات الأصغرا
دع هكذا رفاتنا أن تقبرا
معًا فلا تنحلَّ هاتيك العرى
ولتلق في حقٍّ لديك ادخرا
من لدن ثيتيس نضارًا بهرا»١٤
فقال آخيل: «علام يا منى
نفسي أتيتني بذا البحث هنا
فكلَّما رمت سيجرى علنا
فادنُ وعانقني فلا عج العنا
نوري ونروي بالعناق الشجنا»
ومدَّ كفَّه إلى العناق
لكنَّه فطرقل لم يلاق
فروحه مثل الدخان طارت
صافرةً وفي الثَّرى توارت
فقام آخيل وكفَّيه صفق
بدهشةٍ ثم لسانه انطلق:
«نعم نعم ربَّاه حتى لسقر
يسري مثالنا وأراح البشر
لكنما الحياة في ذاك المقر
ليس لها بعد الممات من أثر
فإن فطرقل مدى الليل ظهر
بروحه لي بشقاءٍ وكدر
حكته حتَّى قلت بالنفس ابتدر
مقترحًا يأمرني بما أمر»
وما انتهى حتى جهير الندب
من حوله عمَّ جميع الصحب
ولبث الدمع سخينًا يجري
حتى بدا ورد بنان الفجر
هنا أغاممنون هبَّ حالا
وأنفذ الرجال والبغالا
فبادروا فورًا إلى الذهاب
بأمر مريون للاحتطاب
ساقوا يجدُّون إلى الجبال
بقاطع الأفؤس والحبال
أمامهم تلك البغال مسرعة
متهمةٌ منجدةٌ مندفعه
ضاربةٌ في وعر تلك الهضب
وعقبات مشعبٍ فمشعب
حتى علت إيذة في الصعيد
فأعملوا مناصل الحديد
بشامخ الملول فالفروع
خرت تشق تحتها الجذوع
وقطعوه قطعًا وشدوا
أحمالهم من فورهم وارتدوا
واشتاقت البغال للسهول
فانحدرت في الوعر بالقفول
وراءها كل فتى جذعًا حمل
أمر لمريون له الكل امتثل
والثغر فيه كدَّسوا الوقودا
وانتظموا من حوله قعودا
حيث آخيل رام أن يعينا
مدفن فطرقل وفيه يدفنا
وصاح بالمرميد أن يجدُّوا
وللعجال خيلهم يشدوا
وأن يشك الكل في السلاح
كأنهم في حومة الكفاح
فسارت العجال في الميدان
بساسةٍ وسادةٍ فرسان
خلفهم المشاة كالسحاب
وصحب ذاك الميت باكئاب
ساروا به تستره النواصي
قصت له دلالة الإخلاص١٥
ومن ورائهم آخيل رفعا
هامة فطرقل بلبٍّ خلعا
وأنزلوه المنزل المعهودا
وبادروا فهيَّأوا الوقودا
وعنهم آخيل منحازًا عدا
لغرضٍ في نفسه مبتعدا
وقص فرعًا زاهيًا جميلا
للنهر إسفرخيسٍ أطيلا١٦
وصاح محدقًا بلج اليم
مضطرمًا يصلي أوار الغم:
«يا نهر إسفرخيس الكبير
وا خيبة القربان والنذور
نذرًا لك انتوي أبي شعوري
ومئة من نخبة الأبقور١٧
ومن ضحايا الغنم الذكور
خمسين عند هيكل البخور
في مرجك المقدَّس المبرور
في القرب من منبعك المأثور
بكل ذا آلى لدى مسيري
لوطني بالبشر والسرور
فما استجبت سؤل مستجير
ولم تكن من الرَّدى مجيري
ولن أدوس باب تلك الدرر
لذا على فطرقل والسعير
أطرح فرع وفرتي الموفور»
وبين كفي خله ألقاه
وجيشه طرًّا علا بكاه
وأوشكوا حتى غروب الشمس
أن يندبوا بكربةٍ وبؤس
لكنَّ آخيل لأتريذ دنا
وصاح ما بين الجموع علنا:
«أتريذ قد حق لك الخضوع
فمر إذن تكفكف الدموع
ومن هنا تنصرف الجموع
يهيئوا الزاد فلا يجوعوا
فإن مضوا فنحن نستطيع
وصيدنا الأصول والفروع١٨
نحرق ميتًا ودَّه الجميع»
ففضَّ أتريذ الجموع فمضت
إلى سفينها وعنهم أعرضت
وحوله ظلَّت سراة الموكب
تركم للميت وقود الحطب
حتَّى له شادوا على السهل هرم
قياسه عشرٌ وتسعون قدم
ورفعوا لقمة الإباله
فطرقلهم بأدمعٍ منهاله١٩
وسلخوا الثيار والخرافانا
ليحرقوها معه قربانا
وخفَّ آخيل لقطع الشحم
يسبله من فوق ذاك الجسم
وحوله ألقى بلا إبطاء
لحومها وسائر الأعضاء
من بعد ذا صب قوارير العسل
والزيت فوق نعش ذياك البطل
وزاد وهو لاهب الفؤاد
أربعةً من ضُمَّرِ الجياد
وفي كلابه التي في نعمته
قد نشأت أعمل حدَّ شفرته
من تسعةٍ من فوره اثنين ذبح
وللوقود جثتيهما طرح
وهام الاثني عشر بالسيف قطع
من بهم إليون وبئس ما صنع٢٠
وأرَّث النيران حتَّى تلتهم
وصاح والدمع سخينًا ينسجم:
«أقريك يا فطرقلًا السَّلاما
وإن تهم في سقرٍ هياما
فها أنا والجيش حولي قاما
أبرُّ بالوعد هنا تماما
وها هنا تلتهم التهاما
نيرانك اثني عشرًا كراما
لكنَّ هكطور فلا ضراما
يذكى له بل يغتدي طعاما
للكلب يفري اللحم والعظاما»٢١
لكنما الكلاب لم تدن إلى
جثة هكطور بهاتيك الفلا
فإنما الزهرة بالمرصاد
تدفع كل صادرٍ وغاد
وأفرغت قدسي عُطرِ الورد
فيه فلا يعطب خلف الجرد
وفيبسٌ من قبة السماء
جلَّله بغيمةٍ سوداء
حتى يظل ترف المجس
ولا يجفَّ بشعاع الشمس٢٢
والنار في الوقود لم تذك ولا
أوارها من حول فطرقل علا
فلوسيلة آخيل عمدا
وانحاز عن جمهوره مبتعدا
واستنجد الدبور والشمالا
لتلهبا الإبالة اشتعالا
وتلهم الأجساد ثم نذرا
غرَّ الضحايا لهما وابتدرا
يريق فوق الأرض صرف الخمر
بكأس عسجدٍ تمام البر
وصوته إيريس لما سمعت
لمنتدى الرياح حالًا أسرعت
إذا بهم في مجلس السرور
على وليمةٍ لدى الدَّبور٢٣
فنهضوا طرًّا لها إجلالا
وانتدبوها للقرى احتفالا
فوقفت في عتبات الصخر
تأبى وقالت بجميل العذر:
«ما لي إلى الجلوس من سبيل
فإنني بنيَّة الرَّحيل
لشعب إثيوبية النبيل
فهو على المحيط بالتبجيل
ب مئة ضحَّى من العجول
لنا فلا ندحة من قفولي
وللشمال من لدى آخيل
وللدبور جئت كالرَّسول
لتعصفا بالقبس المشعول
تحت شلا فطرقلٍ القتيل
حيث بنو الإغريق بالعويل
ولهما جزاء ذا الجميل
آلى بنذرٍ شائقٍ جزيل»
ثم توارت عنهما فقصفا
وبددا الغيوم حيث عصفا
وزمزما في لجة العباب
فهاج وجه اليم باضطراب
واندفعا في السهل يقصفان
فارتفعت زهزمة النيران
فالنوء كل الليل فيها قد قصف
وليله آخيل سهرانًا وقف
خمرًا بكوب عسجدٍ مزدوج
يسقي الثرى من حب تبرٍ بهج٢٤
وهو يناجي روح فطرقل ومن
حول ضرام النار بالبث يئن
فهي على أعظمه تثور
وهو لديها لاهبًا يدور
كوالدٍ يحرق أعظم ابنه
بكفه مختنقًا بحزنه
على فراش العرس قد مات الفتى
وقلب والديه حزنًا فتتا
وإذ بدت بالنور في أوج العلى
كوكبة الصبح تبشر الملا
وخلفها امتدَّ سناء الفجر
بحلة الجساد فوق البحر٢٥
أخمدت النيران والنوآن
كهفهما أمَّا يدمدمان
ببحر إثراقة مرَّا فاختلج
ملتطمًا في يمه الموج وعج٢٦
فارتاح آخيل إلى الهجوع
في عزلةٍ عن لغط الجموع
أنهكه العي فبالنوم استكن
ولم يكد يذوق لذات الوسن
حتى استفاق لعجيج الجند
من حول أتريذ الزعيم الجلد
فهب ثم قام ثم ارتجلا:
«أتريذ يا صيد السراة النبلا
خمركم السوداء صبوا عجلا
تخمد وقودًا باللهيب اشتعلا
ثم اجمعوا أعظم فطرقل الأولى
تبرز إذ في الوسط كان اعتزلا
(والناس والخيل خليطًا جعلا
في الحاف فيه لهب النار علا)
نودعها حقًّا من التبر غلا
والشحم ستران عليها أسبلا
تبقى بذاك الحق حتى أنزلا
للظلمات يوم ألقى الأجلا
ولا تشيدوا القبر قبرًا أمثلا
بل فاعتوا به اعتناءً مجملا
ومن يعش بعدي من هذا الملا
يشد ضريحًا شائقًا مكملا»٢٧
لبوه طرًّا وأراقوا الخمرا
حيث ذكت نار الوقود جمرا
فجرفت تلا من الرماد
وابتدروا بغلَّة الفؤاد
أعظمه البيضاء يجمعونا
وعبرات الحزن يذرفونا
فأودعت حقًّا من التبر غلا
والشحم سترين عليه أسبلا
ألقوه في الخيام تحت أزر
من النسيج الشائق الأغر
ورسموا في موضع اللهيب
دائرة الضريح بالنحيب
ووضعوا الأساس ثم رفعوا
تلًّا من التراب ثم رجعوا

الألعاب

فاستوقف الجمع آخيل وعمد
لرسم مجلسٍ به الكل قعد٢٨
واستحضر الجوائز السنية
آنية مناضدًا بهيه
والخيل والبغال والعجولا
والغيد شدت منطقًا جميلا
وناصع الحديد من ثم انطلق
يلقي لديهم أوَّلًا كل السَّبق٢٩

السباق

فللمجلي غادة حسناء
تفاخرت بوشيها النساء
ومعها دسيعةٌ ذات عرى
قياسها اثنان وعشرون جرى
وللمصلِّي حجرةٌ ما ذللت
في عامها السادس بغلًا حملت
وللمسلي مرجلٌ قشيب
ما تحته بعد علا اللَّهيب
أربعةً يملا بالمكيال
وشاقلان ذهبًا للتَّالي
وصلة المرتاح كوبٌ مزدوج
من ذهبٍ في النار قطُّ لم يلج٣٠
وصاح يغري طالبي الرهان:
«أتريذ يا أرغوس آل الشَّان
هذي ترون تحف الفرسان
فلو تخاطرنا لميتٍ ثاني
أحرزت حتمًا خطر الرهان
فما جيادي من نتاجٍ فاني
ولا لها كفؤٌ بذا المكان
بها حبا في غابر الزَّمان
فوسيذ فيلا فبها حباني
لذاك لا حاجةَ للبرهان
حتى بها هذا العنا أعاني
قد ند آه قابض العنان
ذاك الذي قد كان بالإحسان
يغسل بالماء بلا تواني
أعرافها وأكثر الأحيان
بالزيت يطليها بجهد العاني
فهي هنا بدمعها الهتَّان
قد أسبلت بفائض الأحزان
فوق الثرى نواصي التيجان
فأنتم يا نخبة الفتيان
فمن يثق منكم بهذا الآن
بعجلٍ محكمة المباني
وخيله يبرز إلى الميدان»
وما انتهى حتى انبرى السوَّاق
إفميل أذميت الفتى السباق
روَّاض جرد الخيل هب الأولا
ثم ذيوميذ أخو الباس تلا
بخيل طرواد التي كان اغتنم
في الحرب من أنياس بالنصل الأصم
لما أفلون وقى الطروادي
ينئيه عن مواقف الجلاد٣١
ثم ابن أتراس منيلا الأشقر
بفرسي رهانه يبتدر
فوذرغسٍ حصانه الثَّمين
وإيثيا حجر أغاممنون
تلك التي بمضمد العجال
تشتاق خوض شاسع المجال
كان ابن أنخيس إخيفول حبا
بها أغاممنون لمَّا انتدبا
للحرب تحت معقل الطرواد
قبلًا ليعفي من عنا الجهاد
وفي ربى سكيونةٍ قريرا
يظلَّ معتدًّا غنًى وفيرا٣٢
وأنطلوخ رابعًا هب إلى
جياده القب وشدَّ واعتلى٣٣
خيل عتاقٌ جمة الأعراف
من فيلسٍ كريمة الأوصاف
إزاءه والده الجليل
نسطور قام نحوه يميل
يرشده ويحسن التعليما
وإن يكن بنفسه حكيما:٣٤
«بنيَّ قد ودَّك زفس وارتضى
وفوسذ وثقفا منذ الصبا
وعلماك الجري بالجرد فلا
حاجة أن أزيدك العلم أنا
نبغت في استقبال نصبٍ يبتغى
لكنما خيلك يعروها البطا٣٥
أخشى بها ينالك اليوم البلا
وسائر الجياد أعدى في المدى
لكنك السَّابق في سبل الهدى
أقدم إذن بحزم ميقاد الحجى
ولا تقف بنيَّ عن نيل الجزا
فإنما الحطَّاب نال المرتجى
بالحذق والصنعة ليس بالقوى
كذلك الربان بالحذق سرى
بفلكه في البحر في وجه الهوى
والفارس الفارس بالحذق رمى
فمن يثق بخيله ضلَّ وما
تراه للسبيل في الجري اهتدى
وراح في البراح يجري وغدا
لا يستطيع كبحها ولو بغى
لكنما الحاذق حتى لو على
خيلٍ تراءت دون سبَّاق السرى
فالنصب نصب عينه دومًا يرى
حتَّى لديه ينثني إلى الورا
لا يغفل العنان كيفما انثنى
يديره بثبت كفٍّ وكذا
يرقب من أمامه قسرًا غدا
وها أنا أريك حدَّ المنتهى
فالنصب هاك ليس في طي الخفا
باعًا عن الحضيض فانظره نتا
جذعٌ ولم يعبث به دهرٌ خلا
من شامخ الملول أو أرز الفلا
يعضده صخران أبيضا الصفا
حيث طريق السهل ضاق والتوى
وحوله المضمار بالعدل استوى
لعله قبرٌ به قيلٌ ثوى
أو علمًا كان قديمًا مثلما
قد رامه آخيل ذا اليوم لنا
فإن تدنيت فسط وانحز إلى
يسراك في الكرسي وصِح صوتًا دوى
والفرس اليمين سق فإن جرى
أطلق عنانه بذيَّاك الفضا
وباليسار مل إلى النصب هنا
حتى تخال القطب والنصب سوى٣٦
وحاذر الصدمة بالصخر إذا
دنوت كيلا يعتري الخيل الأذى
أو يسحق النير فيشمت العدى
وأنت بين القوم يغشاك الحيا
بنيَّ كن ثبتًا فإن نلت المنى
وجزته ولم يضعضعك العيا
لا سائقٌ جاراك حتَّى لو عدا
وراك أريون الجواد المجتبى
جواد أدرست ومن نسل العلى
أو خيل لومذونٍ التي حوى
بهذه الأصقاع تنهب الثرى»
كذاك نسطور ابنه مذ أرشدا
عاد إلى مجلسه وقعدا
وهبَّ خامسًا إلى السباق
مريون في جياده العتاق
ثم اعتلوا وطرحوا الأزلاما
يجيلها آخيل استقساما
فسهم أنطيلوخ أوَّلًا ظهر
فسهم إفميل فأتريذ الأغر
وبعده مريون والأخير
أبسلهم ذيومذ الشهير
فانتظموا صفًّا وآخيل اعترض
يريهم في السهل بارز الغرض٣٧
وأنفذ المحنك النبيلا
فينكس روَّاض خيول فيلا
ليرقب الفرسان في المضمار
وينثني بصادق الأخبار
فرفعوا سياطهم وحثحثوا
جيادهم طرًّا معًا وانبعثوا
فاندفعت تضرب في السهول
نائية عن موقف الأسطول
تحت الصدور ثائر الغبار
كالغيم أو عجاجة الإعصار
أعرافها تطير في الهواء
وخلفها العجال كالأنواء
حينا ترى بالأرض رامحات
وتارةً في الجو سابحات
وراءها الفرسان فوق السدد
تحقق قلبًا لبلوغ الأمد
صاحوا فراحت بهم تغير
بعثيرٍ فوقهم يطير
وعندما انتهت وعادت تجري
منقلباتٍ نحو ثغر البحر
هناك ثارت همة الفتيان
فأطلقوا أَزِمَّة العنان
فبرزت خيل ابن فيريس ولم
تكد فإثرها ذيوميذ هجم٣٨
بجرد طرواد فزفَّت عقبه
كأنها راقيةٌ للمركبه
تنفخ في عاتق إفميل النفس
حرًّا كأنه بظهره قبس
طارت وهامها على هامته
ألقت تباريه على غارته
حتى بها أوشك أن يجتازا
ذيومذٌ أو مثله يمتازا
لكن فيبوسًا بسخطه سطا
والسوط من يديه حالًا أسقطا٣٩
فخيله ونت وتلك انطلقت
وملء عينيه الدموع اندفعت
ولم تفت فالاس تلك الحيلة
فابتدرت تدرأ شرَّ الغيله
أعادت السوط له وجددت
عزمًا به جياده تشدَّدت٤٠
ثم انبرت حانقةً وسحقت
مضمد إفميل وعنه انطلقت
فسقط المضمد والخيل جرت
جامحةً وفي البراح نفرت
ونفس إفميل على التراب
أهوى من الكرسي للدولاب
يسيل من فيه ومنخريه
نجيعه كذاك من يديه
وانفضخت جبهته حين وقع
وفاضت العبرة والصوت انقطع
ومن أمامه ذيوميذ اندفق
وسائر الخيل مبرزًا سبق
تفرغ آثينا القوى بالجرد
حتى تنيله أعالي المجد
تلا منيلا ففتى نسطورا
مطهميه سائقًا مغيرا
يصيح: «هلَّا تفرغان كلَّما
عدوا لمثل الحين ذا أعطيتما
سبق ذيوميذ نعم لن أزعما
ففرساه اليوم طارت بهما
فالاس تعلي مجده لكنمَّا
وراء أتريذ استفزَّا الهمما
فأدركاه أفلا أخجلتما
وإيثيا حجر جرت دونكما٤١
شأنكما السبق فلم أبطأتما
لأقسمنَّ وأبرَّن قسما
عن سابقات الخيل إن قصَّرتما
وغير أطراف الجزا لم تغنما
لا خلتما نسطور يعني بكما
بل بظبي أنصله أهلكتما
إيه إذن فانبعثا وعندما
تبلغ ذيَّاك المضيق المظلما
نعمل فيه حيلةً فنقحما
لمَّا أضلَّه السبيل الأقوما»٤٢
فجزعا لهول ذاك الزجر
واندفعا حينًا ببطن البر
فأنطلوخ أبصر المضيقا
حيث السيول هدَّت الطريقا
وانحدرت جوارف الأمطار
بهوَةٍ تنذر بالأخطار
بنفسه من ثم أتريذ انحدر
منفردًا يخشى لقا الخيل الأخر
فأنطلوخ من على الكرسي انحرف
وغادر المنهج يبغيه وخف
فصاح أتريذ بملء الجزع:
«أأنطلوخ لم أرك لا تعي
جيادك اكبح للطريق الأوسع
فسوف تجتاز بذاك المهيعِ٤٣
فإن تزاحمني كلانا نقع»
فلم يصخ وساط ثم اندفعا
بخيله كأنه ما سمعا
فاجتاز مرمى كرةٍ قد قذفا
بها فتى بأسٍ عليها اأتلفا
فارتدعت خيل منيلا القهقري
ولم يسق خشية خطبٍ اكبرا
خشية أن تصطدم العجال
فتسقط العجال والرجال
وهكذا في طلب الفخار
تعفر الأوجه بالغبار
وصاح أتريذ بغل الكدر:
«أأنطلوخ بين كل البشر
ما قط حاكاك شقيٌ مفتري
ندَّ عن الإغريق صدق المخبر
وهم يخالونك بالعقل حري
فلن تفوزن مهٍ بالظفر
أو تقسم الآن أمام الزمر»
وفرسيه ساط ثم صاح: «لا
يورثكما الغم حذار المللا
دونكما مذ كيان أثقلا
سنًّا وسوف يجهدان عجلا»٤٤
فجزعا لصوته وثارا
وأنطلوخ أدركا تكرارا
وظلت الصيد بتلك الحلقه
ترقب تلك الضمر المندفقه
تنهب قلب السهل والعجاج
للجو من وقع الخطى وهَّاج
وكان عنهم لليفاع انعطفا
قيل إكريت ومنه أشرفا
فأبصر الخيل وهم لم يبصروا
وسمع الصوت الذي يزدجر
فعرف الفارس عن بعد الأمد
والأشقر السابق في تلك الجدد
في وجهه الغرَّة لاحت كالقمر
فقام ثم صاح يصدق الخبر:
«يا صحب يا عصابة الأقيال
ألكم بدا الذي بدا لي
أرى جيادًا برزت حيالي
وفارسًا غير الذي في البال
فالسَّابقات أصبحت توالي
لا شكَّ ألفت قدرًا ذا بال
رأيتها والنصب بادٍ عال
جازته والآن بلا انفصال
اسرح الطرف على الأطلال
كأنني أسعى إلى المحال
لا شك عند العود والإقبال
طار العنان من يد الخيال
أو جمحت فيه ولم تبال
وقضَّت النير وبالإجفال
ولَّتْ فألقته على الرمال
قوموا اجتلوا حقائق الأحوال
فلم أكن ظني بالمغالي
وخلتني أبصر في الأوالي
قيل الإتول الشائع الأفضال
روَّاض متن الجرد ذا الأهوال
ذيومذ القرم أخا المعالي»
هنا ابن ويلوس له تصدَّى
وصاح فيه حانقًا محتدَّا:
«أإيذمين لم تكن بالمنصف
هرفت ألفيك بما لم تعرف
فتلك تلك الخيل شم المعطف
تنتهب السهل وما الأمر خفي
ما كنت بالغض الشباب الترف
بل شاب أنظارك عيب الضعف
والهذر عودت بقول المرجف
أفقت أهل الحكم في ذا الموقف
حتى تشدَّقت بهذا الصلف
فخيل إفميل نعم لم تختف
بل لم تزل في الصَّدر لم تنحرف
يدير صرعها بلا تكلف»
فقال إيذومين يصلى حنقا:
«أياس تسمو قحةً وحمقا
ومنطقًا بكل خبثٍ ذلقا
وفي سوى ذاك عجزت مطلقا
فقم وخاطرني فأيُّ صدقا
يحرز قدرا أو إناءً نمقا
حتَّى إذا أتريذ عدلا نطقا
هناك تدري خاسرًا ومنفقا
أيَّ جوادٍ في الرهان سبقا»
فهبَّ آياس على الأقدام
يثور للجواب باحتدام
وكادت الفتنة تذكو ضرما
لكنَّ آخيل تصدَّى لهما
فقال: «إيذومين آياس كفى
لا كان من مثلكما هذا الجفا
سواكما لو حلَّ هذا الموقفا
عنفتماه فاجلسا وانعطفا
أقبلت الخيل انظراها تعرفا
سابقها من الذي تخلفا»٤٥
ثم ذيوميذ هناك لاحا
منتهبًا بخيله البطاحا
تسبح في الهواء والسوط على
أكتافها والنقع للجو علا
وراءها مركبة المغار
تسطع بالنحاس والنضار
طارت فأضحى أثر الدولاب
يوشك أن يخفى على التراب
حتى إذا بينهم حل انتصب
ثم عن الكرسي للأرض وثب
ومن صدورها إلى الأرض اندفق
كذاك من أعرافها رشح العرق
والسوط للمضمد ألقى وابتدر
من فوره إستينلٌ إلى الخطر
فالبكر والدَّسيعة المكتسبه
ألقى لصحبه وحل المركبه٤٦
إذا بأنطلوخ للقوم بدا
قبل منيلا خدعةً لا مطردا
لكنه ما ند عنه وسبق
إلَّا كما الجواد بالنير التصق
(إذا لدى مركبة القيل اندفع
وذيله حول المحالات ارتفع)٤٧
قد كان مرمى كرةٍ عنه ابتعد
لكن مضى بإيثيا يجري وجد
ولو مجالهم يسيرًا طالا
لأحرز السبق وفخرًا نالا
ثم على مرمى مثقفٍ أتى
حوذيُّ إيذومين مريون الفتى
فليس ذا سلاهبٍ كرام
وليس بالمضمار ذا إلمام
وآخر الحلبة مقطوع الصله
لاح ابن أذميت يجر العجله
وخيله يسوق في مجنته
فرق آخيل لدى رؤيته
وصاح ناهضًا: «أرى الجديرا
بالسبق أضحى ها هنا الأخيرا
فلا نضع إقدامه المبرورا
ذلك نال الخطر الخطيرا٤٨
فلنجعل الثاني ذا الأميرا»٤٩
فاستصوبوا وكاد يعطي الحجرا
لو لم يعارض أنطلوخ جهرا
وصاح: «يا آخيل إني أنقم
منك إذا اعتديت فيما تحكم
تحرمني حقي وأنت تزعم
إفميل فيه الخيل وهو الأيهم
قد أصبحت عن السباق تحجم
فلو سراة الخلد عونًا منهم
رام لما كان أخيرًا يقدم
فإن به تعنى وأنت الأكرم
ففي خيامك المنال الأقوم
من ذهبٍ ومن نحاسٍ يركم
والغيد والخيل بها والنعم
أما له إن شئت فيها مغنم
من صلتي أوفى نعم وأعظم
عاجله بالبر إذن فتعلم
كل السرى أنك أنت المنعم
لكنني في مغنمي لا أرغم
ومن يعارضني به فالحكم
ما بيننا الصم بها نستعصم»
فهش آخيل له منتصبا
إذ كان إلف وده منذ الصبا
وقال: «مذ قد رمت أن أنيلا
من منزلي جائزةً إفميلا
فالآن يعطى الجوشن الثقيلا
جوشن عسطروفٍ الصقيلا٥٠
ذاك الذي طرحته قتيلا
حلقه صفر زها جميلا
وهو جزاء خلته جليلا»
ثم إلى أفطومذ أشارا
فهبَّ من ساعته وسارا
وأحضر الدرع وإفميل حبا
بها ففاض جذلًا وطربا
لكن منيلا قام واري اللهب
على ابن نسطور وبادي الغضب
من كف فيج صولجانًا قبضا
يأمر بالصمت السرى مذ نهضا٥١
وصاح: «أنطلوخ يا ذا العقلِ
لم اجترحت اليوم شرَّ الفعل
وسمت شاني الخذل شر الخذل
أحرجت خيلي وبخيلٍ خطل
جزت سراحيبي الكرام الأصل
فيا سراة القوم آل الفضل
هيُّوا افصلوا ما بيننا بالعدل
كي لا يقال بعد هذا الفصل:
«غدرًا منيلا قد غدا يستعلي
وأحرز الحجر بفضل النبل
«والبأس لا بالجري فوق السهل»
وهاكم حكمي بذا المحل٥٢
ولا إخالني رهين العذل
إذ إنني بالحق حكمي أملي
قم أنطلوخ وفق عرف الأهل
وقف هنا قرب الجياد مثلي
والسوط ذا السوط الذي من قبل
سقت به اقبض بيدٍ وخل
يدًا على الخيل أمام الكل
واخلف بهدَّام الورى الأجل
أنك لم تغدر ولم تحتل لي»
فقال: «صبرًا يا منيلا صبرا
جاوزتني سنًّا وفقت قدرا
فنزق الشباب تدري خيرا
يدفع فورًا ويضلُّ الفكرا
جهل الصبا هذا وأنت أدرى
فالطيش فيه علةٌ لا تبرا
أنت إذن بالعفو كنت الأحرى
فدونك الحجر فخذها جهرا
وإن تشأ زدت صلاتٍ أخرى
فذاك خيرٌ لي يا ابن أترا
من أن تسومني قِلًى وهجرا
وعند آل الخلد أجني وزرا»٥٣
وقادها بيده يلقيها
إليه فاعتز بها بديها
ومثلما السنبل (والطلُّ فرش
حبابه في مائد الزرع) انتعش٥٤
كذاك يا أتريذ لُبُّك انشرح
وغلة الغم على الفور اطَّرح
وقال: «أنطلوخ عفت الغضبا
والآن لي الإذعان والغيظ خبا
قد كنت دومًا ذا حجًى مهذبا
لكنما بالعقل قد عاث الصبا
لا تخدعن بعد قيلًا أنجبا
منك فلا سواك فورًا أذهبا
غِلِّي وقد شاهدت فيما ذهبا
كم نَصبًا عانيتم ونَصبا
أنت وثرسيميذ ذاك المجتبى
والشيخ نسطور وكنت السَّببا٥٥
عذرك قد قبلته مستصوبا
والحجر لي خذها حلالًا طيبا
ليشهد الإغريق في هذي الربى
أن جناني العسف والكبر أبى»
ثم إلى رفيقه نومونا
ألقى بها فاقتادها مأمونا
لذاك بالمرجل أتريذ ذهب
وخصَّ مريون بشاقلي ذهب
إذ كان تاليًا أتى على أمد
وصلة المرتاح لم ينل أحد٥٦
لذاك بالكوب آخيل راحا
يهدي إلى نسطور ثم صاحا:
«خذ أيها الشيخ فهذا الذخر لك
ذكرًا لفطرقل الذي آه هلك
ولن تراه بعد في هذي الدرك
إليك قد أهديته إذ أثقلك
عجزٌ فلن تكون ممن اشترك
لا بلكامٍ أو صراع أو سلك
في العدو والطعن بهذا المعترك»٥٧
والكوب ألقاه له فطابا
نفسًا ومن ساعته أجابا:
«بني قد نطقت بالحق نعم
قد وهت الكفُّ وخارت القدم
آه فيا ليت شبابي ما انصرم
ودام لي إقدام غابر القدم
لما الإفيون ببفراس النعم
سعوا إلى دفن عمار نقا الحكم
وولده قد أجزلوا والحشد تم
جوائز الألعاب حتى تقتسم
فلم يكن في كل هاتيك الأمم
منهم ومن فيلوس أرباب الشيم
كذا من الإيتول من معي انتظم
فإقلطوميذ بن إينفس اصطدم
معي لكامًا فانثنى واري الألم
ثم الفلوروني أنقاص هجم
نحوي صراعًا فانثنى بادي الندم
ثم إفكلوس الفتى من اتسم
بعدوه قصَّر عني واعتصم
ثم بزج الرمح فيلاس الأشم
وفولذورًا جزت مأثور العظم
لكنني بسبق العجال لم
أفز وإن كان له القدر الأهم
فولدا أكتور أدركا العلم
قبلي يغنمان خير مغتنم
والفوز للكثرة بالفضل حكم
والتوأمان انبريا فذا اقتحم
بسوطه وذا الأزمة استلم٥٨
ذلك شأني كان من قبل الهرم
والآن للفتيان إبراز الهمم
أتمم إذن مأتم إلفك الأحم
وها أنا أقبل بالبشر الأتم
ذخرك إذ أكرمت يا نعم الكرم
حرمة شيخٍ كان من أهل الحرم
فلتجزك الأرباب موفور النعم»

الملاكمة

فبعد أن أصغى إلى نسطورا
آخيل راح يخرق الجمهورا
مستحضرًا جائزة اللكام
بغلًا عتا في سادس الأعوام
ماريض بل يوشك أن لا يقربا
وقدحًا لمن عيانًا غلبا٥٩
وصاح: «أي اثنين فاقا الجندا
وفي أساليب اللكام اشتدَّا
فليبرزا فذا الجزا أُعِدَّا
فمن بنصر فيبس أُمدَّا
وشهد الجمع له فيهدى
إليه ذا البغل القويُّ جدَّا
والكأس للمغلوب حقا يسدى»
فقام قرم باسلٌ كبير
إفيوس فانوف الفتى الخبير
ألقى على البغل يدًا وقالا:
«يا من يروم القدح ابرز حالا
فلا سواي البغل منكم نالا
فتًى ومثلي خاض ذا المجالا٦٠
حسبي أن لا أحسن القتالا
من ذا الذي كلَّ مجالٍ جالا
قلت وإني صادقٌ مقالا
من قام لي قطعته أوصالا
وليعدد الصَّحب له الرجالا
تحمله مثقلًا نكالا»
فصمتوا طرًّا سوى فريال
عدُّ بني الخلد أبي الأهوال
فرع مكست بن طلاووس ومن
قد كان من أعظم لُكَّام الزمن
قد كان في مأتم أوذيب ظهر
في ثيبةٍ وآل قدمسٍ قهر
ونحوه ذيومذ مستنهضا
بادر يبغي فوزه محرضا
شدَّ له النطاق حول الخصر
والجُمع غشَّى جلد ثورٍ برِّي٦١
فنزلا الساحة يرفعان
كفيهما معًا ويلكمان
حتى هناك الجمع بالجمع اشتبك
ورشح الأعضاء واصطك الحنك
فانقضَّ إفيوس وفريال لطم
بوجهه لطمةَ صنديدٍ غشم
فلم يطق لهولها احتمالا
وارتجفت أعضاؤه ومالا
كالحوت والنوء بشمألٍ عصف
في الجرف بين زبد البحر ارتجف
لكنَّ إفيوس انحنى عليه
يرفعه ما بين ساعديه
وصحبه خفُّوا به والتوت
ساقاه والهامة أيضًا أهوت
يسيل وهو لا يعي شعورا
نجيعه من فمه غزيرا
كذا به ساروا بملءِ اليأس
ولم يفتهم أخذ تلك الكاس٦٢

الصراع

ثم انبرى آخيل للخطاب
منتدبًا لثالث الألعاب
يري القروم تحف الصراع
محثحثًا لهوله الرَّوَّاع
للصارع الفائز مرجل أغر
قيمته اثنا عشر من البقر
وللصريع غادةٌ مروَّعه
قيمتها لا تتعدَّى الأربعه
وصاح: «يا أبطال من منكم رغب
بخوض ذا الميدان حالًا ينتصب»
فقام أولًا أياس الأكبر
ثم أذيس السائس المدبر
تمنطقا وبرزا بلا عدد
والتقيا واشتبكا يدًا بيد
تلاصقا تلاصق الجسرين
في السقف بالبناء قائمين
قد رسخا بحكمة البناء
لصد فعل الغيث والأنواء
حتى عرى الأضلع كادت تنكسر
والرشح سَّالٌ كغيثٍ منهم
وكلف الدماء حمرًا تجري
على الصفاح وفقار الظهر٦٣
والكل وارٍ بأوار الأمل
للفوز بالنصر وذاك المرجل
فلا أذيسٌ بأياسٍ ظفرا
ولا أياس نال منه وطرا
فضجر الحضَّار أجمعونا
فعند ذا صاح ابن تيلامونا:
«أذيس طال الأمر فارفعني هنا
وإن تشأ رفعتك الآن أنا
وزفس موكولٌ له باقي العنا»
ثم على الفور أياسٌ رفعه
ولم يكن ذاك لينسى خدعه
عنفًا على السَّاق أياسًا ضربا
فالتوت الركبة ثم انقلبا٦٤
وفوق صدره أذيسٌ وقعا
والجمع يستعجب مما صنعا
ثم أذيس رام أن يحتمله
لكنَّه لم يقو أن يقلقله
حتى لوى الركبة والقرمان
كلاهما خرَّا يعفَّران
ثالثةً همَّا بأن يصطدما
لكنما الأمر آخيل حسما:
«كفى صراعًا وكفى أذيه
كلاكما قد أبرز الحميَّه
فلكما الجزاء بالسويه
كفَّا إذن لتبرز البقيه»
فسمعا وأمره أطاعا
وانفصلا وغادرا الصراعا
ونفضا الغبار ثم لبسا
كلٌ رداه ومضى فجلسا٦٥

الحضر

وخطر الحضر آخيل أبرزا
حقًّا من اللجين كان أحرزا٦٦
منمنم مكيله ستًّا وزن
ما مثله حق بذياك الزمن
زخرفه أبناء صيدا وخرج
قوم فنيقيا به على اللجج
حتَّى إذا لمنوس جاءوا وقفوا
حيث به القيل ثواس أتحفوا
وإفنس بن إيسنٍ بين العدى
به ابن فريام لقاوون افتدى
لذاك فطرقل عفا عن دمه
والآن قد أبرز في مأتمه
أعدَّه خليله للسابق
وخير ثورٍ قارحٍ للَّاحق
وللأخير نصف شاقلٍ ذهب
من ثم يبن القوم ناهضًا خطب
وصاح: «يا سراة من منكم رغب
بخوض ذا الميدان حالًا ينتصب»
فانتصب ابن ويلسٍ أياس
ثم أذيس اللبق النبراس
فأنطلوخ سابق الأتراب
وانتظموا صفًّا على اقتراب
ولهم آخيل أعلن الغرض
فانبعثوا انبعاث عداءٍ ركض
إذا بآياس سريعًا سبقا
لكن وراءه أذيس طبَّقا
يدنوا كما النسَّاجة البديعه
لصدرها قد دنت الوشيعه٦٧
(إذا بها بنولها أمرَّتِ
سلكًا به تحوك ثم اجترَّت)
خطاه في خطى ابن ويلسٍ تقع
من قبلما العثير عنهن ارتفع
يجري على أعقابه ونفسه
برأس آياس يثور قبسه
والقوم طرًّا يرتجون الغلبه
له وضجوا وهو عادٍ عقبه
حتى إذا على الختام أشرفا
أذيس فالاس دعا وهتفا:
«عونك يا ربة قوي قدمي»
وذلك الدعاء في الحال نمي
فشدَّدت بالعزم معصميه
وخففت بجريه رجليه
وحين همَّا أن يصيبا الخطرا
أياس فالاس رمت فعثرا
أكبَّ في خثي ثيارٍ ذبحا
آخيل في مأتم فطرقل ضحى
به امتلا فوه وأنفه وخف
أذيس أوَّلًا إلى أولى التحف
وأسرع ابن ويلسٍ يليه
والخثي حشو أنفه وفيه
لقرن ذاك الثور حالًا مالا
وصاح وهو يتفل الدمالا٦٨
«وا خيبة الهمة والإقدام
فربةٌ تلك لوت أقدامي
وعن أذيس أبدًا تحامي
كالأم منذ غابر الأيام»
فارتفعت قهقهة الجمهور
وأنطلوخ صاح بالحضور
قال لهم مبتسمًا مسرورا
وإن غدا مغنمه الأخيرا:
«هلَّا أيا صحب خبرتم خبري
آل العلى تجلُّ قدر العمر
أياس فاتني نعم بنزر
لكن أذيس إلفُ ذاك العصر
شيخٌ ولكن ذو جنانٍ نضر
ما معه قطُّ بهذا الدَّهر
خلا آخيل من مجارٍ يجري»٦٩
أجاب آخيل لذا الإطراء:
«ما كنت مدَّاحي بلا جزاء٧٠
لذاك قد زدتك من حبائي
نضار نصف شاقلٍ وضَّاءِ»
وعاجلًا نفحه بالذَّهب
فراح معتزًّا بملء الطرب٧١

الطعان

ثم أتى بعاملٍ طويل
وخوذةٍ ومجوب ثقيل
سلاح سرفدونٍ الذي استلب
فطرقل لمَّا ذلك القرم غلب
بين الجموع طرح الجميعا
وصاح يستنهضهم سريعا:
«أبسل من في القوم قرمًا صد
فليبرزا بكل ماضي الحد
إلى الطعان بين كل الجند
ومن هنا سالت دماء الند
بطعنه فوق الحديد الصلد
نعطيه سيف عسطروف الجلد
ذاك الذي اكتسبته بجدي
قتيره الفضيُّ زاهي الوقد
لكن سلاح سرفدون نهدي
إلى كليهما شعار مجد
ولهما مني جميل الوعد
في الخيم أدبة بضافي الرغد»
فقام آياس التلاموني
ثم ذيوميذ الفتى السري
تسلحا في طرف الكتائب
وبرزا بروز ليثٍ واثب
يحتدمان للقا أوارا
بأعين قادحةٍ شرارا
تدانيا ووقع ذاك المنظر
لهوله ارتاع جميع العسكر
كرَّا ثلاثًا وثلاثًا أعلنا
ظبي القنا ثم أياسٌ طعنا
فخرق المجوب لكن ما ولج
في الجسم بل في اللَّأمة الرمح اختلج
ثم ذيوميذ أجال العاملا
به أياس طالبًا مقابلا
يرقب فرصة لشتى الجيد
من تحت ترس ذلك الصنديد
فأشفق القوم على أياس
وأمروا بالكف خوف الباس
وقسمةِ الجزاء بالسواء
لكن آخيل بلا إبطاء
ألقى إلى ذيومذ الحساما
والغمد والنجاد ثم قاما٧٢

الكرة

يلقي على مرأى جميع الصيد
هائل أكرةٍ من الحديد٧٣
كان بها يقذف إيتيُّون
من قبل أن تدركه المنون
به أخو البأس آخيل مذ فتك
بفلكه استقل كل ما ملك
فصاح: «من بذا الجزاء طمعا
منك ألا ما الآن فورًا أسرعا
فهو لمن أبعد مرمى رفعا
مهما نما مزرعه واتسعا
ما بعد ذا خمسة أعوام سعى
لبلدٍ يبغي الحديد المودعا
لحارث الأرض وللذي رعى
بل فيه ما يكفيه هذا المطمعا»٧٤
فهبَّ فوليفيتٌ الجبار
ثم لينط الباسل القهَّار
ثم أياس الأكبر المغوار
والقرم إفيوس وصفًا داروا
أوَّلهم إفيوس ألقى بالكره
فاندفعت دائرةً منتثره
فقهقه الجمع وبعده قذف
بها لينط ثمَّ آياس وقف
وإذ بعزم زنده مشتدَّا
رمى بها مرماهما تعدَّى
لكنَّ فوليفيت لمَّا ألقى
بها على الجميع حاز السبقا
فانبعثت بمشهد الحضور
مبعدةً عن مجلس الجمهور
كبعد مرمى محجن البقار
يغلُّ فوق راتع الثيار
والجمع ضجَّ وبتلك الصلة
لفلكه أصحابُهُ بادرت

النضال٧٥

ثم آخيل صاح بالنُبَّال
يطمعهم بالأفؤس الغوالي
عشرين من صلد الحديد قد أعد
عشرًا بحدَّين كذا عشرًا بحد
ثم على مسافةٍ في السهل
ساريةً أركز فوق الرَّمل
بمسدٍ دقَّ عليها علَّقا
حمامةً برجلها قد أوثقا٧٦
حتى تكون الغرض المقصودا
ثم دعا يستنهض الجنودا:
«الأفؤس الأولى لمن أنيلا
بأن يصيب الطائر الذليلا
وذي لمن يخطئه قليلا
ثم يصيب المسد المفتولا»
فهبَّ طفقير الأمير ونهض
مريون تبع إيذمين واعترض
فاستقسما بخوذةٍ من صفر
فلاح طفقير ببدء الأمر
بالعزم والزَّماع سهمًا أرسلا
لكن عن النُّذور عفوًا غفلا
لفيبسٍ لم ينوِ عندما عزم
من غرر القربان أكبار الغنم
فلم يصب بسهمه الحمامه
إذ إن فيبسًا بغى إرغامه
لكن إزاء الرجل في الحبل وقع
مريشه والحبل في الحال انقطع٧٧
ومال والطائر مذ نال الفرج
حلَّق في الجو وكل الجمع ضج
فانتاش منه القوس مريون وفي
يديه سهمه بلا توقُّف
ومئة الخراف أبكارًا نذر
ضحيةً لذي السهام تُدَّخر٧٨
ورشق النبل بلا اضطراب
مسددًا والطير في السحاب
فمن جناح الطائر السهم برز
ثم لدى مريون في الترب ارتكز
والطير فوق الدقل الموتود
أهوى هديل الجنح لاوي الجيد٧٩
فخمدت أنفاسه وهبطا
وللثرى عنهم بعيدًا سقطا
وأعين الجميع بانصباب
عليه راقبته باستعجاب
لذاك مريون الفئوس الأولا
نال وباقيها لطفقير خلا٨٠

المراشقة

ثم آخيل عاملًا مثقفا
ألقى وألقى مرجلًا مزخرفا
مزيَّنًا بصور الأزهار
لم يعل قط بعد فوق النار
جائزةً للرَّامح المجيد
بالرشق بالصعاد من بعيد٨١
فقام ذو الطول أغاممنون
كذا انبرى منتصبًا مريون
فصاح آخيل: «وهل منَّا أحد
يجهل يا أتريذ كم فقت العمد
وكم بزج وقى كنت الأشد
إذن لك الجزاء بالحق معد
خذه إلى فلكك من غير مرد
وإن تشأ ما شئت في هذا الصدد
فلنحب مريون بذا الرمح وقد»
بذاك أتريذ له أبدى الرضا
والرمح مريون حباه فمضى
ثم استقلَّ الخطر النفيسا
يلقي به للفيج تثبيوسا٨٢

هوامش

(١) يرى الجم الغفير من شراح هوميروس وقرَّائه أن هذا النشيد والذي يليه لم يكونا في الأصل من الإلياذة، وإنما أضيفا إليها بعد حين، وحجتهم في ذلك أن وقائع الإلياذة انتهت بمقتل هكطور، وليس في هذين النشيدين شيءٌ من مواقع الطعان، ومواقف الجيشين حول إليون وهي محصورة؛ ولهذا خطأ بعضهم هوميروس على إضافة هذين النشيدين، وقال آخرون: بل هما من نظم شاعر آخر ألصقهما بالإلياذة. وكلا القولين فيما أرى خطأ فاحش؛ أما القول بكونهما لشاعر متأخر فغير معقول، وأي قريحة تنتج من مثل هذه اللآلئ ولا تحرص على إحراز فخر ابتداعها فتنسبها إلى غيرها، وإن قيل: إنه ربما ذهب اسم الناظم ضياعًا بتقادم العهد فهوميروس أقدم عهدًا على ما يعلمون، وفضلًا عن ذلك فسلسة الإلياذة حلقات آخذ بعضها برقاب بعض، فحينما بدا تراخٍ ولو طفيف في تلاحمها ظهر ذلك ظهور الشمس كما أبنا الأمر في مواضعه. وأسلوب نظم هذين النشيدين ولغتهما والتصرف بمعانيهما وارتباط حوادثهما بما سلف، كل ذلك يؤيد القول بأنه لا يمكن أن يكون ناظمهما إلا ناظم ما تقدمهما من الإنشاد كما أسلفنا في المقدمة.
أما تخطئة هوميروس على إلحاقهما بالإلياذة فخطأ أعظم؛ لأنه لم يفت القارئ اللبيب أن موضوع المنظومة غضب آخيل، وليس مقتل هكطور، وذلك يبين من أول بيت في أول نشيد، فلو اقتطع الشاعر منظومته عند مقتل هكطور لكان في وقوفه نقصٌ يلام عليه؛ إذ لم يبد بعد من أوجه الغضب إلا أوجه العنف والانتقام، فلو وقف بنا الشاعر هنا لمثل لنا آخيل — وعليه بنيت كل المنظومة — وحشًا ضاريًا لا بطلًا أنوفًا أبيًّا تزينه على خشونة الأبطال مزايا أكرم الرجال — كان آخر عهدنا به يشق عقبي هكطور، فيشده إلى مركبته فيجرره على الثرى جر الهوان بعد أن شفى غلته بقتله، وهي فعلة لامه عليها نفس الشاعر، ولم تر بعد شيئًا من حلمه وسكينته وعفوه ورفقه بوالد هكطور الشيخ اليفن، ودفعه إليه جثة ابنه لتدفن دفن الرفعة والإجلال، أفيكون النشيدان دخيلين لا أصليين، وفيهما هذه الحلية الرفيعة والحلة البديعة.
ثم لا يفوتن أولي الأدب أن هوميروس لم يكن راوية قصاصًا يحوم بالمطالع حول ضالته، وهي دفينة في ثنايا مخيلته ويظل يراوغه إلى آخر الرواية، حتى إذا استنزف صبره أبرزها له في الختام على أحد صورها، وغادره وشأنه يطلق لفكرته عنان التصور بقياس ما سيكون على ما كان، بل هو شاعر مؤرخ يفرغ التاريخ بقالب شعري، ويدون روايات كان معظمها معروفًا في عصره فوشاها ورصعها وما ابتدعها، وإنما ابتدع فيها أبكار المعاني، وشاعرٌ مهذب حكيم يأتيك بالحكمة من حيث لا تدري ويمثلها لك تمثيلًا فلا تُمحى من ذاكرتك، فينطق لك الحي والجماد وما هو منطق غير الخلق العظيم، وشاعرٌ عالم يحيطك علمًا بما بلغه عصره من معرفة، وما ادخره من علم ضاع لولاه، وشاعر مطرب مجيد اجتمعت فيه علاوة على ما تقدم كل مزايا الشعراء، فلم يكن من شأنه أن يبتر منظومته في آخر النشيد السابق ويلقي علينا عبء التكهن بما سيكون من مأتم فطرقل ومناحة هكطور، وما يتبع ذلك من فوائد لم يستبقها لهذا الموضع إلا لعلمه أن مدخر لها موضعها.
ولا بدَّ من التنبيه إلى فائدة أخرى لا تحصل إلا بتلاوة النشيدين الأخيرين، فلطالما رأينا الشاعر أثناء تدوين مواقعه يضع نفسه موضع سامعه، فإذا أنس منه مللًا من إطالة شرح فُكهة بقصة تعترض في الحديث أو نكتة تلهيه هنيهة أو حكمة تصرف عنه العناء، فينتقل مع جليسه من باب إلى آخر، وهذا دأبه أبدًا حتى لا تأخذ السامع السآمة فيظل متشوقًا إلى ما يلي، متشوقًا إلى استتباع البحث، فإذا كان هذا شأنه في كل نشيد من إنشاده فما الظن بمجمل منظومته، لقد كان هوميروس أعظم من أن يجهل أن من أتى على تلاوة آلاف من الأبيات، ورأى ما رأى فيها من طراد، وجلاد، وأسنة حداد، وأزمات شداد، لا بد أن يتوق إلى الابتعاد عن مواقف الحرب، ويغادر الطعن، والضرب ليأنس بمشهد جديد يخفف به عن نفسه، ويسكن تأثر حسه، وإن لم يكن من محسنات هذين النشيدين إلا هذا لكفى.
(٢) الخميس: الجيش، والسرى: رؤساء الكتائب. رأينا في النشيد السابق أن آخيل قتل هكطور، وهم بالهجوم على إليون، ثم فكر بفطرقل فارتد بالجيش ليقيم له مأتمًا ويدفنه، فانحل عقد الإغريق، ورجع كلٌّ إلى سفينته، وأما هو فحفظ نظام جنده إجلالًا لرفيقه، وهذا ما يدعونه اليوم بتأدية واجب الشرف العسكري (Honneurs Militaires).
(٣) نظمنا هذا النشيد من بحر الرجز، واتبعنا فيه أسلوبًا جديدًا فجعلنا قوافيه في الخبر كسائر الأراجيز المزدوجة، أي: مصرَّعة شطرين شطرين، وأما في الإنشاء فأراجيزه مقفاة؛ إذ تتوالى القوافي إلى أن يتم الخطاب كما ترى في تعريب كلام آخيل هنا.
(٤) الوضيمة: طعام المأتم، وهي في اليونانية (Ταρον) ومعناها المدفن، ويراد بها طعام المأتم على الإطلاق سواء كان قبل الدفن، كما ترى هنا أو بعده، كما سيأتي في النشيد الأخير بمأتم هكطور، إن إقامة الولائم في المآتم عادة قديمة جدًّا أخذها الرومان عن اليونان، ووصفها شاعرهم فرجيليوس، ولا تزال متبعة في كثير من بلاد الشرق وأفريقية، وكان لها شأن في جاهلية العرب. راجع مآدب العرب (ن: ٢٢).
(٥) مما قال المهلهل بعد قتل أخيه كليب:
ولأوردن الخيل بطن أراكةٍ
ولأقضين بفعل ذاك ديوني
ولأقتلن حجا حجًا من بكركم
ولأبكين بها جفون عيوني
حتى تظلَّ الحاملات مخافة
من وقعنا يقذفن كل جنين
وما أبلغ ما قاله الإمام علي عند دفن امرأته فاطمة:

«السلام عليك يا رسول الله، عني وعن ابنتك النازلة في جوارك والسريعة اللحاق بك، قلَّ يا رسول الله عن صفيتك صبري ورقَّ عنها تجلدي إلَّا أن لي في التأسي بعظيم فرقتك وفادح مصيبتك موضع تعز، فلقد وسدتك في ملحودة قبرك وفاضت بين نحري وصدري نفسك، إنا لله وإنَّا إليه راجعون، فلقد استرجعت الوديعة وأخذت الرهينة، أما حزني فسرمد، وأما ليلي فمسهد إلى أن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم، وستنبئك ابنتك بتضافر أمتك على هضمها فأحقها السؤال واستخبرها الحال، هذا ولم يطل العهد، ولم يخلُ منك الذكر، والسلام عليكما سلام مودع لا قالٍ ولا سئم، فإن أنصرف فلا عن ملالة، وإن أقم فلا عن سوء ظن بما وعد الله الصابرين».

(٦) الرتوت: الخنازير.
(٧) الجاحم: الوقود.
(٨) كان القدماء يتفننون بمظاهر الحزن والحداد على الميت، فقد جاء في التوراة أمثال ذلك كلبس المسوح، والإمساك عن الأكل، والتمرغ في التراب، والامتناع عن الغسل، وفي أخبار عرب الجاهلية شيءٌ كثير من هذا القبيل، قالوا: إن المهلهل إذ بلغه خبر قتل أخيه كليب جز شعره، وقصر ثوبه، وهجر النساء، وترك الغزال، وحرم القمار والشراب إلى أن يأخذ بثأر أخيه، وكان العرب يحرمون الخمر على أنفسهم إلى أن يدركوا ثأرهم، وفي مثل ذلك يقول امرؤ القيس وقد ظفر ببني أسد ثائرًا بأبيه:
لا تسقيني الخمر إن لم يروا
قتلي فئامًا بأبي الفاضلِ
حتى أبير الحي من مالكٍ
قتلًا ومن بشرف من كاهلِ
ومن بني غنم بن ذودان إذ
نقذف أعلاهم على السافلِ
نعلوهم بالبيض مسنونةً
حتى يروا كالخشب الشائلِ
حلت لي الخمر وكنت امرأً
عن شربها في شغل شاغلِ
(٩) أي: لن تتلظى بحذف التاء، وهو كثير في كلام العرب سواءٌ كانت التاء الأولى للتأنيث كما قال الفرزدق:
ألا قطع الرحمن ظهر مطية
أتتنا تمطى من دمشق بخالد
أي تتمطى، أو للخطاب كما جاء في سورة النساء: «واتقوا الله الذي تساءلون به» أي: تتساءلون.
(١٠) إن في ظهور روح فطرقل لآخيل لمشهدًا جديدًا من أجمل مشاهد الإلياذة، والاعتقاد بظهور أرواح الأموات للأحياء نشأ مع نشوء الإنسان، ولا يزال في أكثر الملل والنحل، وقد أراد الشاعر هنا أن يبلغ بالسامع إلى منتهى درجات التواد والتواثق بين الخليلين، فلم يقف عند ذكر ما تقدم من تفاني فطرقل حيًّا بخدمة آخيل، ووفاء آخيل وتفجعه على فطرقل وتمنيه لو فداه بنفسه، واقتحامه غمرات الموت انتقامًا له واشتغاله مع كل الجيش بمأتمه، بل أراد أن يظهر أن ذلك الود الصميم لبث مستقرًّا في روح فطرقل بعد انفصالهما عن جسمه على حد قول بعضهم:
ولو وقفت ليلى بقبري وقد عفت
معالمه واستفتحت بسلام
لحنت إليها بالتحية رمتي
ورنت بترجيع السلام عظامي
(١١) يتضح من هذه الأبيات أنهم كانوا يعتقدون أن لورع الأحياء دخلًا بسعادة الأموات، وهو ما لا يزال يعتقده فريق عظيم منا، إلا أنهم يزعمون أن إقامة المأتم تعجل بتخفيف وطأة العذاب عن الميت، وقد تقدم أنه لا بد لكل نفس من أن تنحدر بعد الموت إلى الظلمات، ومن ثم فإما أن تبقى هناك وإما أن تعبر نهر الستكس إلى مقام الصلاح، وتظل الروح هائمة إلى أن يحرق الجسد أو يدفن، وإذا بلي الجسد في العراء فإن الروح تبقى مئة عام هائمة على وجهها.
ومن هذا القبيل ما كان يعتقد العرب من أنه إذا قتل الرجل ولم يؤخذ بثأره خرج من رأسه طائر يسمى الصدى، ويسميه بعضهم الهامة، فلا يزال يصيح على قبره اسقوني حتى يؤخذ بثأره، ومنهم من كان يزعم أن ذلك الطائر هو نفس الإنسان تنشط من جسمه إذا مات أو قتل، قال المجنون:
فلو تلتقي في الموت روحي وروحها
ومن دون رمسينا من الأرض منكبُ
لظل صدى رمسي وإن كنت رمةً
لصوت صدى ليلى يهش ويطربُ
وقال آخر:
فيا رب إن أهلك ولم ترو هامتي
بليلى أمت لا قبر أعطش من قبري
ومن مزاعم العرب أيضًا أن الميت يبعث بجسده من قبره، فكان عندهم من لوازم رعايته أن يعقلوا ناقته عند قبره ويتركوها حتى تموت يزعمون أنه يركبها إذا بعث من القبر، وفي مثل ذلك قال المجنون يرثي أباه وقد مات قبل اختلاط المجنون وتشوشه:
عقلت على قبر الملوح ناقتي
بذي السرح لما أن جفته أقاربه
ويسمون الناقة المعقولة هكذا البلية.
(١٢) كانوا يعتقدون أيضًا أن روح الميت لا تظهر للأحياء وتخاطبهم إلا أثناء هيامها في لجج الأرض، أي: قبل أن تنخرط بين الأرواح في سقر، وإذا خاطبتهم فقد تنجلي لها الغوامض فتنطق بما هو مكنون في الغيب، كإنباء فطرقل آخيل هنا بأنه قد سطر في القدر أن يقتل في أكناف سور إليون.
(١٣) أي: صففنا الكعاب عسكرًا نلعب بها، ولعب الكعاب إن لم يكن أقدم لعب الصبيان فهو بلا ريب من أقدمها.
(١٤) يرمي فطرقل بل روحه في هذا الكلام المؤثر إلى غايتين: أن يسارع آخيل إلى إقامة مأتمه، وأن يدفن رماد الخليلين في حق واحد حتى يظلا مجتمعين حيين وميتين. وهذا الأمر الأخير كان ولا يزال مطمع جميع المتحابين في كل ملة ودين. قال مجنون ليلى:
ألا ليتنا نحيا جميعًا وإن نمت
نصير إذا متنا ضجيعين في قبر
ومثله قوله:
ولو شهدتني حين تأتي منيتي
جلا سكرات الموت عني كلامها
فيا ليتنا نحيا جميعًا وإن نمت
تجاور في الهلكى عظامي عظامها
راجع (ن ١٦).
(١٥) أسبل الجند على جثة فطرقل نواصي الشعور كما نسبل على النعش في أيامنا أكاليل الزهور، ولقد علمت مما مر أن عادة إطلاق الشعر كانت شائعة عندهم، كما كانت شائعة بين أكثر أمم المشرق كالعبرانيين، ومن وليهم من العمونيين والموابيين والأدوميين والعرب، وكما هي شائعة لعهدنا عند الصينيين وبعض قبائل البادية، وفي الأثر أن الإسكندر قص شعره حزنًا على صديقه هفستيون، كما فعل آخيل حزنًا على فطرقل، ومن الروايات المشهورة في كتب العرب أن المهلهل قص ناصيته حين بلغه خبر قتل كليب أخيه كما تقدم. وكانت النساء أيضًا يحلقن شعورهن حزنًا على الميت، ومعنى قولهم دعاءً على الرجل: «أمك حالق»، أنهم يدعون عليه بالموت، إلا أن قص الشعر لم يكن دائمًا إشعارًا بالحزن بل ربما كان لحادث آخر من نحو دهشة وفرح ووفاء بنذر وما أشبه، ويقص العرب أيضًا ناصية الأسير، وفي مثل ذلك قول الخنساء:
جززنا نواصي فرسانها
وكانوا يظنون أن لا تجزَّا
ومن ظن ممن يلاقي الحروب
بأن لا يصاب فقد ظن عجزا
ومثله قول زهير في هرم بن سنان:
حدب على المولى الضريك إذا
نابت عليه نوائب الدهر
عظمت دسيعته وفضله
جز النواصي في بني بدرِ
ويقال عكس ذلك في الملل التي لم تكن تطلق شعر الرأس، فإنها إنما كانت تطلقه لأمر جلل، وهذا من قبيل الإمساك عن التزين مدة من الزمن في هذه الأيام لحلول مصاب، أما الطرواد فيظهر أنهم كانوا يقصون شعر الرأس ولكن بعضهم كان يتزين به أخذًا عن الإغريق، ولقد رأينا هكطور في النشيد الثالث يعير أخاه فاريس على إطالة شعر رأسه حلية.
(١٦) أسفرخيوس نهر في تساليا (اسمه الآن هلاذا) كانوا يعبدونه عبادة المصريين للنيل، وقد كان فيلا نذر له شعر آخيل كما نذر ممنون المصري شعره للنيل.
(١٧) الأبقور: البقر.
(١٨) أي: إنه أراد صرف الجموع ليتفرغ زعماء الجيش لإقامة مأتم فطرقل.
(١٩) الإبالة: حطب الوقود.
(٢٠) ذكر هوميروس قطع رءوس الاثني عشر فتى من أسرى الطرواد تدوينًا لجريهم على خطة ذبح الأسرى، ولكنه لم يفته أن أعلن استهجانه تلك العادة القبيحة، ولهذا استدرك بقوله: «وبئس ما صنع». كان العرب في جاهليتهم يقتلون الأسرى إلَّا من كان بينه وبين آسره موآكلة وممالحة فإنه يؤمَّن، وربما أخذوا عقال الأسير، أي: فكاكه وأطلقوه بعد جز ناصيته، وكانت في مكة سوق لبيع السبايا والأسرى، أما السبايا فكنَّ يستبقين إماء وزوجات، وأما الأسرى فكانوا إلا فيما ندر يباعون لذوي الثأرات عليهم أو على عشائرهم، فيقتلون بمن قتلوا، أو يفتديهم ذووهم وأصحابهم بمال يدفعونه إلى آسريهم، وكان افتكاك الأسرى من أعظم مفاخرهم، قال الحارث بن حلزة اليشكري:
وفككنا غل امرأ القيس عنه
بعد ما طال حبسه والعناء
ولما جاء الإسلام بطل الأسر والسبي من الإسلام، وفي الحديث: «لا سبأ على عربي ولا سبأ في الإسلام ولا رق على عربي في الإسلام». ولكن الأسر والسبي ظلا مباحين للمسلم من غير المسلمين.
(٢١) كرر آخيل هنا نفس الخطاب الذي خاطب به فطرقل، ولكنه زاد عليه تشفيه من هكطور توطئة للأبيات التالية.
(٢٢) المراد من هذه الأبيات الخمسة أن جثة هكطور بقيت سليمة، فلو كان هوميروس مؤرخًا لقال: إن الهواء كان جافًا باردًا فلم يعترها الفساد، وكانت محاطة بالجند فلم تدنُ إليها الكلاب، ولكنه الشاعر المتصرف بالمعاني المتلاعب بالأفكار الموشي شعره برموز عصره، فأدخل فيبس والزهرة وجعلهما العانيين بحفظ الجثة، أما الأول فلأنه ممثل الشمس، وهي التي تتصاعد بحرارتها الغيوم فأظلته بسحابة حفظته من الحر، وأما الثانية فلأنها ربة الجمال، فكأنها هي التي أولته تلك المحاسن وهكطور مشهور بحسن طلعته وطلق محياه.
(٢٣) الدبور: الريح الغربية، والرياح كانت كسائر ممثلات الشاعر أشخاصًا ناطقة بل آلهة فائقة، وهي كالشمس ذكور لا أناث، ولهذا استعملنا لها هنا وفيما يأتي ضمي العاقل فقلنا: «إذا بهم» ولم نقل: بها أو بهنَّ.
ويؤخذ من هذا الموضع وأمثاله من الإلياذة أن الآلهة كانوا يكثرون من المآدب والمآكل، وهو دليل على أنها كانت في تلك الأعصر الخوالي من أعظم أسباب المسرات والملاهي.
(٢٤) الحب: الخابية، وهي الزير بعرف أهل مصر.
figure
حرق جثة فطرقل.
(٢٥) الجساد: الزعفران من غريب ما استلفت نظري مرارًا في شعر هوميروس تنبهه إلى الكلي والجزئي، مما يعلق بمعاني شعره، فإذا كرر قولًا أو معنى فلا بد أن يلصق به ما يلائمه ولو بإشارة خفية، فقد ألبس الفجر ثوب الجساد في النشيد الثامن فقال:
كسا الفجر وجه الأرض ثوبًا مزعفرا
وزفس أبو الأرباب في أرفع الذرى
فكان المكسو وجه الأرض؛ لأنه كان يصف الأرباب وهم في معتصمهم العالي ينظرون إلى البر والبحر، وقال في النشيد التاسع عشر:
ما اشتمل الفجر بثوب الجساد
من يمه يبرز فوق البلاد
حتى انبرت فوق الخلايا
… … … …
فأبرز الفجر صاعدًا من اليم بتلك الحلة؛ لأنه كان يصف ثيتيس بنت البحر، وهي صاعدة من اليم فجر يومها، وهو هنا يقول:
بحلة الجساد فوق البحر
لأن الموقف في ساحل بحر وبين السفن.
(٢٦) لو جردنا هذا الكلام من حلته الشعرية لقلنا: إن الرياح كانت ساكنة، فلم تلتهب النيران، ثم ما لبثت الرياح أن عصفت فأضرمت الوقود وعلا اللهيب، حتى التهمت النار جثة فطرقل، ولكن الشاعر حام حول هذا المعنى على جاري خطته، وإليك حل رموزه حسبما شرحها افستاثيوس قال: إن إيريس ممثلة قوس قزح تدل على الأمطار والرياح، ولهذا كانت هي الداعية للرياح فلُبّي نداؤها وقضيت حاجتها: «ونهضوا طرًّا لها إجلالًا» أي: إنه إذا ظهر قوس قزح تتحرك الرياح.
فوقفت في عتبات الصخر
تأبى وقالت بجميل العذرِ
ما لي إلى الجلوس من سبيل
فإنني بنية الرحيلِ
أي: إن قوس قزح لا يقيم طويلًا ولكنه سريع الظهور سريع الزوال، وولجت المحيط أو الأوقيانوس. أي: إن مادة قوس قزح من الماء فلم يكن يصلح لها أن تمثل والجة في اليبس. وقوله:
إذا بهم (أي الرياح) في مجلس السرور
على وليمة لدى الدبور
إشارة إلى أن طبيعة الرياح واحدة أو أن الغالب في تلك البلاد هبوب الريح الغربية، وأما وقوف إيريس في عتبات الصخر وامتناعها عن ولوج كهفهم، فإشارة لطيفة إلى أن قوس قزح يظل سابحًا على سطح الأرض فلا يتخلل الأعماق.
(٢٧) أراد آخيل بقوله هذا أن ينفذ وصية فطرقل فيودع رماده في حق من الذهب ويدفنه، ثم لا يشاد الضريح على ما يجب إلا إذا مات آخيل وضم رفات أعظمه إلى رماد أعظم فطرقل، فيقام لهما ضريح واحد، وهكذا فإنهم على ما ترى كانوا يجمعون بين حرق الجثث ودفن رفاتها، وقد تقدم لنا بحث في منشأ تلك العادة (ن ٧).
ومن بدائع فلسفة أبي العلاء المعري قوله مستحسنًا حرق الجثث:
فأعجب لتحريق أهل الهند ميتهم
وذاك أروح من طول التباريح
إن حرقوه فما يخشون من ضبع
تسري إليه ولا خفي وتطريح
والنار أطيب من كافور ميتنا
غبًّا وأذهب للنكراء والريح
(٢٨) أمامنا الآن بحثٌ جديد ووصف شائق للألعاب التي كانت تقام في المآتم، وقد أشار إليها في ما مر وهو الآن يفصلها ويبوبها، فشرع في السباق وأسهب فيه، ولا بدع فقد كان له المقام الأول في جاهلية معظم الأقوام.
(٢٩) السبق: جائزة السباق، ترى أن آخيل هو الذي يرأس هذه الحفلة مع أن الزعامة لأغاممنون، ولكن الشاعر خص آخيل بتولي هذه المهمة؛ لأن المأتم يكاد يكون مأتمه، وله خلا ذلك فخر النصر في ذلك اليوم، وقتل البطل المغوار هكطور الذي كانت ترتعد لهيبته فرائص الإغريق.
(٣٠) المجلي: هو السابق الأول من الخيل، والثاني المصلي، والثالث المسلي، والرابع المرتاح، وفي قول التالي وهكذا إلى العاشر، فإن لكل منها اسمًا خاصًّا به، وأما في الأصل اليوناني فقد عبر عن المجلي بالأول، ثم بالثاني والثالث والرابع، ولم أر هذا التخصيص بأسماء خيل السباق في لغة غير لغتنا، وقد جمعها الشيخ ناصيف اليازجي بقوله:
أول سابق هو المجلي
ثم المصلي بعدهُ المسلي
تالٍ ومرتاح عليه يقبلُ
والعاطف الخطيُّ والمؤملُ
كذلك اللطيم والسكيت
فاحفظ فما أعطيت قد أعطيتُ
(٣١) مر بيان ذلك في النشيد الخامس.
(٣٢) هنا إشارة إلى عادة كانت متبعة عند اليونان، ولها أمثلة بعدهم في تاريخ الرومان، ذلك أنه كان يقضي على كل رجل صحيح البدن أن يزحف في من زحف للحرب، وإذا بدا له أن يتخلف فعليه أن يقدم بدلًا عنه فرسًا أو فارسًا أو أكثر، وهو ما نعرف الآن بالبدل العسكري، ويؤخذ في بعض البلاد نقودًا، وكان البدل مألوفًا في جاهلية العرب، فإن أبا لهب بن عبد المطلب لم يحضر غزوة أُحد بل أرسل من ينوب عنه فيها.
(٣٣) الجياد القب: الضامرة الرقيقة الخصر، وفي الأصل السريعة.
(٣٤) علم القراء مما مر ما لنسطور الحكيم في نفس الشاعر من التجلة والإعظام، فهو دائمًا دائب على أن يجعل له في كل مقام مقالًا، وفي كل ميدان مجالًا؛ إظهارًا لفوائد فضله واستدرارًا لفرائد عقله ونبله، فلم يعدم وسيلة ينظمه بها بين فتية الفرسان في ميدان الرهان، فانطقه بهذا الخطاب الذي لم يكن يصح لغيره، فأوضح حالة الشيخ الذي إذا ضعفت ذراعه قويت حجته، وبهرت حكمته فيسد قوله المسند إلى مدخر دربته على توالي الأيام، مسد بأس ساعده الواهن بتقادم العهد وتتابع الأعوام، ومثل حالة الأب الحريص على تثقيف ولده المشفق عليه من الفشل أكثر من إشفاقه على نفسه من دنو الأجل، فلا تلوح له لائحة خير أو شر إلا ونبه إليها فمال به عنها، أو أقبل به عليها، حتى تكاد تخال أن البارز إلى ميدان السباق هو الأب دون الابن، وأنه هو الممتطي صهوة المركبة يميل بها يمينًا ويسرى، ويجاول ويصاول ويسارع ويصارع ويهب ولا هبوب ابنه انطلوخ، ورسم صورة الحكيم الذي يفرغ قصارى جهده بإفاضة روح حكمته على ولده من بعده، فيعلمهم أن الرأي قبل شجاعة الشجعان والفوز للعقل والجنان دون اليد والبنان، خطةٌ يختطها لهم بحياته يود أن يسيروا عليها بعد مماته، وهو غرس سيرينا الشاعر ثمره عما قليل، فإن جوادي انطلوخ، وإن لم يكونا من خيار الجياد فقد برزا بالطراد وفازا بالسبق فكأنما السابق حكمة نسطور دون همة أنطلوخ وفرسيه.
تلك هي الحيلة التي تذرع بها الشاعر لخرط نسطور بين هاته الفتية وما أجملها حيلة.
(٣٥) النصب: العلم المنصوب في منتهى الميدان.
(٣٦) المراد بالقطب: دولاب المركبة.
(٣٧) قوله: انتظموا صفًا فيه نظر، ذهب الأقدمون من رواة هوميروس إلى أن المتسابقين وقفوا صفًّا يتقدم فيه أحدهم على الآخر، وإلا لما كانت بهم حاجة إلى الاستقسام لو كانت مواقف الجميع متساوية، وقالت مدام داسيه بل وقفوا صفًّا متساويًا جنبًا لجنب، والفائدة من الوقوف أولًا أن للمتقدم مزية في قصر المسافة؛ إذ أن المضمار كان على شبه دائرة، وكلما بعد الراكب عن قطبها كان شوطه في الجري أبعد.
(٣٨) ابن فيريس أفميل.
(٣٩) لا يبرح من الذهن أن أفلون لا يزال ساخطًا على ذيوميذ لوقوفه في وجهه في النشيد الخامس.
(٤٠) أي: إنه أوقف الجياد وتناول السوط من على الأرض. وإنما وسط الشاعر فالاس إلاهة الحكمة ليصبح سبق ذيوميذ لأفميل في ما يلي.
(٤١) يقول عرب باديتنا: «راعي الفرس سابق، وراعي الحصان مسبوق». يريدون بذلك أن الحصان وإن كان أحيانًا أعدى من الحجر فإنه يجد في جريه حتى يبلغها، فإذا أدركها بقي وراءها، ولم يتعدها، ولهذا يؤثرون في الغزو والسباق إناث الخيل على ذكورها.
ويستدل من كلام أنطيلوخ هنا أن الأمر كان بعكس ذلك عند اليونان؛ إذ أنه يعيب على جواديه سبق حجر منيلاوس وهي أنثى.
(٤٢) لقد أنكر بعض الشراح على هوميروس إنطاق أنطيلوخ جياده بهذا الخطاب، وما هذا الإنكار إلا لجهل هؤلاء المنكرين مزايا الذوق الشعري، والذي يخاطب الأطلال والآثار هو أولى بمخاطبة الجياد في حلبة المضمار، وإليك مثالًا من الحريري يخاطب به أبو زيد السروجي مطيته بنفس خطاب أنطيلوخ ونفسه فيحث حثه ويقسم قسمه قال:
سروج يا ناق فسيري وخدي
وأدلجي وأوبي واسئدي
حتى تطا خفاك مرعاها الندي
فتنعمي حينئذٍ وتسعدي
وتأمني أن تتهمي وتنجدي
إيه فدتك النوق جدي واجهدي
وافري أديم فدفدٍ ففدفدِ
واقتنعي بالنشح عند المورد
ولا تحطي دون ذاك المقصد
فقد حلفت حلفة المجتهد
بحرمة البيت الرفيع العمدِ
إنك إن أحللتني في بلدي
حللت مني بمحل الولدِ
(٤٣) المهيع: الطريق المتسع.
(٤٤) المذكي: الفرس المسن.
(٤٥) هذا مشهد آخر من مشاهد السباق لا بد منه في كل مضمار، فقد أبان الشاعر فيه حالة الواقف موقف الشاهد؛ إذ لا بد له من أن يتمنى الغلبة لفريق دون آخر، إما لضلعٍ له معه أو لغرض آخر، أو لميل تدفعه إليه نفسه، وهو لا يعلم مصدره، فلا غرابة إذن في مثل هذه الأحوال أن تتباين الأميال فيحصل الجدال، وقد يشتد فيعقبه القتال، وهذا ما أراد الشاعر إثباته، ولكنه جعله سليم العقبى بوساطة آخيل، ولو كان بين عبس وفزارة حكم كآخيل لما ثارت بينهم الحرب على إثر سباق داحس والغبراء.
(٤٦) استينيل رفيق ذيوميذ وحوذيه والخطر جائزة الرهان، أي: إن ذيوميذ وصل الأول، ولم يكن له معارض فبادر رفيقه إلى استلام الخطر المعد للمجلي، وهو الغادة البكر والدَّسيعة.
(٤٧) أي: إن أنطيلوخ كان بمزاحمته منيلاوس قد ابتعد عنه مسافة مرمى كرة (أو قرص)، أي: سبقه شوطًا غير يسير، ولكن منيلاوس جد وراءه فأدركه ولصق به، كما يلصق الجواد بمضمد المركبة، ويرتفع ذيله فوق دواليبها.
(٤٨) قوله: ذلك، أي: ذيوميذ.
(٤٩) لقد راعى آخيل بقوله هذا جانب الوجدان والرفق دون الحظ والعرف؛ لأن أفميل وهو من أشهر فرسانهم كانت خيله أجود خيلهم جميعًا، وكان السابق في الشوط الأول، وإنما تأخر عرضًا لحادث طرأ له.
(٥٠) الجوشن: الدرع، فارسية معربة بلفظها.
(٥١) كانوا إذا أراد أحدهم أن يخطب فيهم قبض على صولج وأشار به فيصمتوا، والغالب أن يتكلموا وبأيديهم صوالج الفيوج (وهم الرسل والمنادون)، وقد مرت أمثال ذلك (راجع ن ٢)
(٥٢) يقول: إذا حكمتم لي فاحكموا لي بالعدل، ولا تنحرفوا معي فتنيلوني الجزاء، لعلمكم إني أشد بأسًا من أنطيلوخ أو أرفع قدرًا منه فنحن في حلبة رهان فيجب أن نحسب متساويين.
(٥٣) يمثل لنا الشاعر أنطيلوخ بن نسطور الحكيم فتى طابت فطرته، وأحسنت تربيته، ولكن نزق الصبا، وحب الفخار يدفعانه إلى الاسترسال في الغلواء، على أنه لا يكاد ينبه إلى خطأه حتى يرعوي بكرم عنصره، ويرى أن تلافي الوصمة أقرب إلى العصمة، وأن الإقرار خيرًا من الإصرار وأبقى.
(٥٤) أي: إن منيلاوس انتعش انتعاش السنبل إذا فرش الطل حبابه على سنبله القائم في الزرع المائد.
(٥٥) يريد أن يقول: أعرف لكم صنيعكم بجهادكم معي في هذه الحرب، التي اضطرمت بسببي على هيلانة.
(٥٦) لم ينل أحد صلة المرتاح وهو الرابع؛ لأن جياد أفميل أتت رابعة وحكم له آخيل بالسبق كما رأيت، ثم حباه بصلة من عنده فبقي الكوب المعد للرابح بلا صاحب، ولم يكن أجدر به من نسطور فأهداه آخيل إليه، وإن لم يكن له دخل في ألعابهم، وهي مراعاة لا أوقع منها في محلها.
(٥٧) هذا سباق اليونان لا يكاد يختلف عن سباق العرب بشيء من كلياته، إلا أن هذا على صهوات الخيل وذاك على سدد العجال، والسباقان في ما سوى ذلك متشابهان، فالحلبة والخطر والمضمار والخدع والشهود كلها تتشابه في الفريقين، حتى لقد يتشابه ما يحتاله المتخاطرون لإحراز قصب السبق على غير السبيل المشروع، فإن أنطليوخ احتال بما رأيت على منيلاوس، وقد حصل ما يشبه ذلك في سباق داحس والغبراء؛ إذ عقد قرواش بن هانئ العبسي وحمل بن بدر الفزاري رهنًا على سباق هذين الفرسين، وكان أحدهما لقيس بن زهير العبسي والآخر لحذيفة بن بدر الفزاري، ثم أرسلوهما في المضمار، وكان حمل الفزاري قد أقام كمينًا في الطريق حتى إذا سبق داحس ينفره لتسبق الغبراء، فكان كذلك ووقع الخلاف بين الحييِّن، فنشبت على أثره حرب قتل فيها خلق كثير في حديث طويل ليس هذا موضعه، وهم يتشابهون أيضًا بإرسال الخيل وحثها ومخاطبتها بأسمائها، إلى غير ذلك مما يكاد يستوي به أكثر الناس مهما تباعدوا.
(٥٨) هذا نسطور كجاري عادته بل كجاري عادة الشيوخ يذكِّر القوم، ويفاخرهم بماضيه حيث لا يسعه أن يتفوق عليهم بحاضره، أشار بحديثه إلى خطار سابق كان الرابح في كل أبوابه ما خلا السباق، واعتذر عن ذلك بغلبة الكثرة على القلة، وفي هذا القول إبهام لا يتضح للقارئ إلا إذا رجع إلى أصل هذه الحكاية في أساطيرهم، قالوا: إن مخاطر نسطور في ذلك الرهان كان فتى بل فتيان، لاصق أحدهما بالآخر منذ خلقا فلما برزا لسباق نسطور طلب أن يبرز معه فارس فذٌّ مثله، فالفارس له يدان ولهذين التوأمين أربع أيدٍ فلهما مزية على الفارس الفرد، فلم يعبأ القوم باعتراض نسطور فجرى معهما وقصر وهذا تفسير قوله:
… … … …
والفوز للكثرة بالفضل
والتوأمان انبريا فذا افتحم
بسوطه وذا الأزمة استلم
قال الراعي:
فلست بالأكثر منهم حصى
وإنما العزة للكاثر
(٥٩) ترى أن الجوائز في جميع الألعاب كانت توزع على الغالب والمغلوب، حتى إذا أحرز الظافر فخر الغلبة، وعاد بصلة نفيسة، لا يحرم المغلوب صلة دونها تجبر كسرهُ وتثبت أنه من ذوي الخطارة؛ لأنه لا يتبارى إلا الأكفاء أو الذين يكادون يكونون كذلك.
(٦٠) لا يصلح أن يكون الرابح في هذا المجال إلا بغلًا يجاز بغلًا، وكأن هوميروس فطن لذلك فاختار للِّكام عتلًّا ضخم الجثة قوي الهامة، لم يكن له شيءٌ من الشأن في مضارب الفرسان، وأجاز هذا البغل بغلًا نظيرهُ.
(٦١) الجُمع: الكف حين تقبض. كان ذيوميذ صديق أفريال، ولهذا بادر إليه يحرضه وينشطه، ويلبسه لباس اللكام، فشد له النطاق على حقويه وأعطاه قفاز الجلد ليغشي به كفه كما يفعل المتلاكمون في هذه الأيام.
(٦٢) هذا بلا ريب أقبح أنواع الرياضة، ولا أعلم وجه الحكمة في بقائه حيًّا في بلاد تعد في مقدمة البلاد الحية، وأكثرها تفننًا في الألعاب الرياضية، ولا أرى له أثرًا في مخاطرات العرب في جاهليتهم.
(٦٣) يظهر من رؤية كف الدماء على جسدي المتصارعين أنه لم يكن عليهما من اللباس إلا السترة المعتادة في مثل هذه الأحوال، وهو ما لا يزال جاريًا في بلاد العجم بين مصارعيهم (أو بهلوانيتهم).
(٦٤) هذه خدعة كثيرة الاستعمال بين المتصارعين، وهي حيلة يلجأ إليها الأقل قوة، الأخف حركة، والعرب يقولون: ضربه الشغزبية أو الشعربية، إذا لف ساقه على ساق خصمه، وتقول عامة أهل الشام: «فركشه» ويقولون في مصر: «شكهُ مقلبْ».
(٦٥) حكم آخيل للمتصارعين بالجزاء على السواء، ولم يقل الشاعر كيف تساوت القسمة؛ إذ كان الجزاء مرجلًا قيمته اثني عشر ثورًا، وسبية قيمتها أربعة من الثيران، ولقد استاءت عقيلة داسيه لهذا البخس في قدر بنات جنسها، ولكن فاتها أن المراد هنا سبية رقيقة والأرقاء من الذكور كانوا يباعون بتلك الأثمان وأبخس منها، وفاتها أيضًا أن هوميروس وإن ذكر للنساء حطة كما قال في هذا الموضع، فقد بوَّأ المرأة أعلى مراقي الرفعة في مواضع أخرى، أوليس هو القائل عن هيلانة:
ليس بدعًا أن كان هذا سناها
وعليها تلاحمت أمتان
لا شك أن الصراع أقدم ما مر وما سيجيئ من الألعاب؛ لأنه الأصل في أسباب الهجوم والدفاع، كان له شأن عظيم عند العرب، كغيرهم وذكروا كثيرين ممن اشتهروا بقوة ذراعهم، وخفة بدنهم، ومن أشهرهم هلال بن الأشعر المازني ذكر له صاحب الأغاني وغيره أخبارًا من قبيل الخوارق بغرابتها.
(٦٦) الحضر: العدو أو الركض.
(٦٧) الوشيعة: خشبة الحائك، أي: إن أوذيس كان مطبقًا وراء أياس يكاد يلصق به، كما تكاد تلصق الوشيعة بصدر النساجة وهي تحوك، قال ذلك اطراءً لسرعة المتسابقين، ولا يخفى أن صناعة النسج والحياكة كانت من خصائص النساء عند الأقدمين، ولهذا قال هوميروس: الحائكة، ولم يقل الحائك. ومثل ذلك قول المسيب بن علس؛ إذ شبه سرعة مطيته بسرعة يدي المرأة التي تحوك ثوبًا، وقد همت قبل المساء بإكمال جدَّاده، أي: باقي خيوطه:
مثل السريعة بادرت جدَّادها
قبل المساء تهم بالإسراع
(٦٨) الدمال: الخثي، أو روث الحيوان.
(٦٩) لم يكن أنطيلوخ بالفتى المكابر كما علمت من محاورته مع منيلاوس، ولكنه غالبًا ومغلوبًا فتًى لبقٌ متجمل بحكمة أبيه نسطور، التمس لنفسه عذرًا حسنًا بتقصيره عن ندبه، وختمه بمدح آخيل مدحًا استماله فيه إليه.
(٧٠) إنه وإن كانت الإلياذة خلوا من البحث في مدائح الشعراء وجوائز الملوك، فإنه يظهر من قوله: «ما كنت مدَّاحي بلا جزاء» وأمثالها أنهم كانوا يجيزون المدح بالمال الوافر نظير العرب، ولكنهم لم يغالوا فيه مغالاة أصحابنا سامحهم الله.
(٧١) الحضر أيضًا مما كان يتنافس به العرب، ولهم عدَّاءون مشهورون، كالشنفري، وشيبوب العبسي أخو عنترة، وتأبط شرًّا، ولكن أعداهم الحارث بن عمرو التميمي الملقب بسليك السلكة، قيل له ذلك؛ لأن أمه كانت تلقب بالسلكة، وهي أنثى الحجل، وكانت العرب تسميهُ سليك المقانب، وهي جماعات الخيل؛ لأنه كان أعدى العرب على رجله لا تلحقه الخيل الجياد، وله بهذا المعنى أخبار عجيبة لا محل لإيرادها.
(٧٢) يستفاد من ثلاثة مواضع بيان الطعان، أنه لم يكن المقصود منه أن يقتل أحد المتطاعنين الآخر، بل أن يجرحه فقط؛ إذ قال أولًا: «إن الذي يسيل دم مباريه ينفح بالجزاء الأول». ولم يقل: إن الجزاء للقاتل، ثم جعل جزاء للطاعن والمطعون دلالة على أنهما يبقيان حيين، وأرانا الشاعر بعد ذلك أنهم كانوا يراقبون المتطاعنين، حتى إذا خيف البطش بأحدهما فصلوهما، كما يفعل بلعبة السيف والترس في بعض البلاد الشرقية وبالمتبارزين بالسيوف في بعض بلاد الغرب، ومهما كان من خشونة هذا البراز فهو أقل حماقة وأكثر معنى ولباقة من اللكام.
(٧٣) إن لفظة (Σολος) باليونانية لا تعني إلا كرة أو الكرة، كما عربناها ولا تفيد القرص كما فسرها الأكثرون، ولكن معناها قطعة حديد على الإطلاق، فعربناها بكرة لقرب اللفظة إلى مفهومنا وعرفنا، وفسروها بالقرص لقربها إلى لفظة (Δισχος) ومعناها القرص.
(٧٤) يقول: إن من ربح هذا الجزاء، فحديده يكفيه خمسة أعوام مئونة السعي إلى المدن في طلب الحديد لمحراث أو سكين، وما أشبه.
(٧٥) النضال: المباراة في رمي السهام.
(٧٦) المسد: الحبل.
(٧٧) مريشه، أي: سهمه المريش.
(٧٨) ذو السهام: أفلون.
(٧٩) الدقل: السنارية.
(٨٠) قد رأينا أن طفقير كان أرمى رماة الإغريق، ومع هذا فقد قصر في نضال مريون، وذلك لأنه اتكل على براعته ومعرفته، ولم يتوسل إلى مولاه فكان الفائز مريون، وإنما فاز بتقواه دون قواه، وهي حكمة ينبه إليها الشاعر كلما سنحت له سانحة، ولقد رأينا قبل بضعة أبيات أن أوذيس الكهل كان أعدى من فتيين، أطرأ الشاعر خفة أقدامهما مرارًا، ولكن أوذيس لم يتكل على خفة قدمه بل دعا فاستجيب دعاؤه. كان النضال من أسمى أسباب المنافسات في جاهلية العرب، وقد تقدم لنا ذكر نضال جميل وعتبة عشيقي بثينة (ن ٢٢).
(٨١) الصعاد: الحراب.
(٨٢) أحسن الشاعر أيما إحسان باستبقاء أغاممنون إلى آخر الحفلة، واستنهاضه للخطار بأمر يتبارى به الملوك والزعماء، فأدى الشاعر مفادًا كثيرًا بهذا الكلام الوجيز؛ إذ أثبت أنه لم يكن يليق بأغاممنون، وإليه منتهى الرئاسة أن يبقى بمعزل عن القوم، فلا بد أن يمتاز بأمر خطير، ولم يكن يجدر به أيضًا إلا أن يهتم لمأتم فطرقل رعايةً لآخيل، ولم يكن يصح أن تختم الحفلة على غير يده ففعل وكان الفائز، ثم وجب على آخيل بعد هذا أن يرعى حرمة أغاممنون فأجله وحكم له بالجزاء فورًا، وهي مجاملة لم يبدها لأحد غير أغاممنون، فثبت من كل ما تقدم أن التصافي قد أحكم بين الخصمين وزالت كل أسباب الخلاف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤