النشيد التاسع

إرسال الوفد لاسترضاء آخيل

مُجْمَلُهُ

وهنت عزائم اليونان بعد اندحارهم في اليوم السابق ففاوض أغاممنون الزعماء وارتأى العودة إلى الأوطان، فعارضه ذيوميذ ثم نسطور فأقاموا الحرس وأولم أغاممنون للزعماء. فقام نسطور فيهم خطيبًا يحثهم على استرضاء آخيل بالاعتذار والهدايا، فأذعن أغاممنون لكلام نسطور وأتى على تعداد ما يعد من التحف لآخيل على شريطة أن يرعوي ويلين. فأرسلوا وفدًا إلى آخيل يرأسه أوذيس فخفُّوا إليه وألفوه ينشد على نغم قيثارته. فاحتفى بهم وأَوْلَمَ لهم، ولما فرغوا من الطعام خطب أوذيس في مجلس آخيل فذكره بوصايا أبيه وأطمعه بوعود أغاممنون واستحلفه أن يرفق بقومه الإغريق وإن كان موغر الصدر على أغاممنون. فما كان من آخيل إلا أن استشاط حنقًا وأبى الإقدام على الحرب لمعاضدة الإغريق. فانبرى أستاذه فينكس وأعاد عليه ذكر صباه وما كان له من العناية به حتى أصبح بمثابة ابن له، وأطال من الاسترضاء والاستصغار والالتماس والاعتذار وتلاه آياس الأكبر فلم يغنهم كل ذلك من شيء بل ظل آخيل مصرًّا على عناده. فعادت الرسل واستقص أغاممنون منهم الخبر فأنبَئوه بما كان، فانتصب ذيوميذ وكلمهم كلامًا هاج حميتهم فصرفوا النظر عن آخيل ونزعوا إلى الراحة والهجوع.

يستغرق هذا النشيد والنشيد التالي ليلة واحدة ومشهد وقائعه على جرف البحر عند مرسى السفن.

النشيد التاسع١

تَمَنَّعَ في الطرواد يخفُر جندُهم
وفرط الأسى والبث هد الأخائيا
يُساق لهم من موقف الخلد رعدة
يلازمها داعي الفرار مباريا٢
وتخفُق أحشاهم كما اللُّجُّ خافق
إذا لقي البحر الرياح السوافيا
ومن بطن إثراقا دبورٌ وشمأل
معًا هبَّتَا فيه هبوبًا مفاجيا٣
فتركُم دُهْمُ الموج من فوق يَمِّهِ
وتقذفها حتى تجوزَ الشواطيا٤
وأتريذ والتبريح ينتاب لُبَّهُ
يطوف بهم يدعو الدعاة تواليا
ويأمر بالشورى بأن يهمسوا بها
بأسمائهم للصِّيد واجتاز عاديا
وبلغ صدر الجند حتى إذا بَدَوْا
جلوسًا وصمت الحزن بَرَّحَ باديا٥
على قدميه قام والدمع هامرٌ
تدفَّق من عينيه كالسيل هاميا
كشؤبوب ماءٍ شُقَّ من قلب صخرة
وفي زفرات الحزن صاح مناديا:
«أحبَّاي والأقيال والصيد خلتُني
رماني زفسٌ في حبائل آتيا
وقد كان والاني بإيماء رأسه
بأنَّا بإليونٍ نَدُكُّ المراميا
ولا ننثني للأهل إلا بسَبْيِهَا
فمانَ وما أغراه فيما رمانيا
فقدتُ صناديد الرجال وقد قضى
عليَّ إلى أرغوسَ أرجعُ خاسيا
نعم ذاك أمرٌ شاءه الآمر الَّذي
يُقَوِّضُ أركان البلاد العواتيا
فهَيُّوا أطيعوني الهزيمةُ مغنمٌ
بعودتنا إني أرى زفسَ قاضيا
وأصدقكم وعدًا يقينًا فلن نرى
معاقل إليونٍ رُكامًا فوانيا»٦
أصاخوا وطال الصمت فوق وُجُومِهِمْ
فصاح ذيوميذٌ أخو البأس عاليا
«شططت أَأَتْرِيذٌ وأول منكرٍ
لقولك ذا لا تَحْنَقَنَّ أرانيا
فذا حق شُورانا وقبلُ بهمتي
عَبِثْتَ وقد أعلنتَ عزميَ واهيا
بذا شهد المردان والشيب جملةً
على أن زفسًا قسَّم الرزق وافيا
فلم تؤت بأس الكفِّ والبأس أولٌ
وأوتيت فخر الملك والعزِّ ثانيا٧
أأحمق هل خلتَ الأراغس أُوهِنُوا
فإن رمت عَودًا دونك السبل هاهيا
وذي السفنُ اللائي عزمت بِهِنَّ مِن
مِكِينَا تراها بالجدود رواسيا٨
وسائرُنا لن نبرحنَّ بأرضنا
إلى أن نرى هذي الحصونَ بواديا
وإن آثَرَ الكلُّ انهزامًا وعودة
فإني وَأَسْتِينِيلُ نكفِي الأعاديا
نقاتلهم حتى نفوزَ بدكها
وينصرني ربٌّ لحربٍ دعانيا٩
فضجت له الإغريق ضجة مُطْرَبٍ
وقام بهم نسطور يخطب تاليا:
«سموتَ ذيوميذٌ ببأسك مثلما
برأيك بالأتراب قد كنت ساميا١٠
فما لك في الإغريق لومةُ لائم
ولكنَّ فصل القول ما زال خافيا
فأنت فتًى لو قيس عمرك لم يكن
لأحدث أبنائي الصغار مساويَا
على أنك اخترت الحصافة منهجًا
وصيد السُّرَى خاطبتَ بالحق عانيا
وإني وحسبي الشَّيْبُ دونك مفخرًا
سيجمع أطراف الحديث كلاميا
ولن ألتقي بالقوم حتى زعيمِهم
أخي المجدِ أَتْرِيذٍ لقولي لاحِيا
فلا شرع لا مأوى ولا أسرة لمن
بِفِتْنَتِهِ في القوم يُفسد عاثيا١١
فقد خيم الليل البهيمُ فهَيِّئُوا
طعامكم ولنُحْكِمَنَّ التصافيا
ويخفُر من فتياننا حرسٌ على
حفير خططناه لدى السور صاحيا
لك الأمر أتريذٌ أقمهم وأولمن
لشيبك منهم تأخذ الرأي شافيَا
فخيمُك فاضت بالرحيق تسوقه
سفائن إثراقا بها جاء ضافيا
وعندك ما تبغي لخيرِ وليمة
وعدةُ غلمان تناهت تناهيا
وعند التئام القوم تجمع رأيهم
وتتبع ما قد كان بالقصد وافيا
فما أحوج الإغريق للرأي والعدى
أُوَارُهُمُ أضحى لدى الفلك واريا
فَلَيْلَتُنَا هذي وَوَا حَظَّ من رأى
سنَهْلِكُ فيها أو ننالُ الأمانيا»١٢
أصاخوا ولَبَّوْا ثم هبَّت خفارةٌ
بشِكَّتِهَا منهم تَجِدُّ المساعيا
يقودهم من نخبة الجند سبعة
ثَرِيسِيمُ نسطورَ الملقب راعيا
وَيَلْمِينُ عَسْقَالَافُ مِنْ وِلْدِ آرِسٍ
وَمِرْيُونُ ذِيفِيرٌ كذاك أَفَارِيَا
وَلِيقُومُ قُرْيُونٍ وكلٌّ مُؤَمَّرٌ
على مئة منهم تَقِلُّ العواليا
فحلوا انتظامًا بين سور وخندق
وأَذْكَوْا لإعداد الطعام المذاكيا١٣
وأتريذُ وافى بالشيوخ لخَيْمِهِ
لمأدَبة فاضت طعامًا مُوَافِيَا
فلما بأيديهم قَضَوْا من أمامهم
وكلُّ الظما والجوع أُجْلِيَ نائيا
بدا من بهم فاق اختبارًا وحكمةً
نبيلهم نسطور يخطب باديا:
«أَأَتْرِيذُ مولى الصيد أول من جرى
وآخر من يجري إليه مقاليا١٤
توليتَ من زفس عصا الملك واليًا
شعوبًا سمت عَدًّا ونِلْتَ المعاليا١٥
لك الرأي والإصغاء والأمر تنتقي
بآرائنا ما شئت تأتيه راضيا
وتنفذ قولًا قاله أيُّنا إذا
مضى عن فؤادٍ ظل بالخير ساعيا
فرأيي أراني لستَ تؤتى نظيره
وما هو في ذا الحين جالَ بباليا
أردِّدُهُ منذ استلبت أخيلَنا
بَرِيسا على رغم الأراغس باغيا
تولَّاك كيد النفس كبرًا فلم تُصِخْ
لحُكْمِي وقولٍ فيه جئتُك ناهيا
وقمتَ وأغلظتَ المقال لسيد
سما شرفًا حتى بني الخلدِ راقيَا
ومهما يكن من بُعْدِ مَنْآهُ فلنجدْ
سبيلًا لنستصفيه يأتِ مصافيا
نلينُ له قولًا به نَسْتَلِينُهُ
ونُتْحِفُهُ منَّا الصلات السَّوانيا»١٦
فقال أغاممنون: «أخطأتُ إنما
أصبتَ بتثريبي ولستُ بمنكِر
فإن فتًى زفس اصطفاه وزادنا
وبالًا لِمَنْآهُ يُقاسُ بعسكر
عَثا بي داعي الشر حتى أهنتُه
وعَلِّيَ إن أستغفر الذنبَ يغفرِ
سأُتحفه غُرَّ الهدايا وكلكم
شهود على قولي بحافل محضري
مناضد سبعًا لم ترَ النار جُدَّدًا
وعشرين طَسًّا ساطعاتٍ لمنظر١٧
ومن ذهبٍ يغلو شواقل عشرة
وخيرَ جياد تُحْرِزُ السبق ضُمَّرِ١٨
فيحرزها اثنَيْ عَشْرَ أجرد سلهبًا
حبتني كُنُوزًا في السباق المُكَرَّرِ١٩
كنوزًا إذا ما نالها أيُّما امرئٍ
ترفع عن شكوى شجيَّةِ مُعْسِرِ
وسبع غوانٍ فُقْنَ حسنًا وصنعةً
من اللاءِ في لسبوس نال بأبترِ٢٠
وقد كُنَّ لي سهمًا وذلك عندما
تولى عليها بالطِّعان المدَمر
كذاك بَرِيسَا مُقْسِمًا ومُثَقِّلًا
بأني إليها القربَ لم أتصور
فهذي صِلاتي اليوم يُحْرِزُهَا وإن
ننل دَكَّ إليون بحكم مُقَدَّرِ
نضارًا وصفرًا يُؤْتَ ملءَ سفينةٍ
وعند اقتسام السَّبْيِ بالغيد يظفرِ
بعشرين حُسنًا فُقْنَ غير هِلَانَةٍ
له بانتقاها خيرةُ المتخير
وإما رجعنا للخصيبة أرغُسٍ
يكونَنَّ صِهْرِي بالمقام الْمُوَقَّرِ
يُجَلُّ كأورستَ الحبيبِ الذي نشا
بأرغد عيشٍ في يسار مُوَفَّرِ٢١
ثلاثٌ بناتي هن أَخْرِيْسَثِيْمةٌ
ولَوْذِيقُ أَفْيَانَاسُ من يرضَ يَخْتَرِ
ولست بباغ مهرها وأزيدُها
جدًا لم يجُد فيه أبٌ منذ أدهر٢٢
فينزلها في دار فيلا وفوق ذا
مدائن سبع فوق بَرٍّ معمر
فريس النقى إيرا الزهور وإنْيُفا
وقَرْذَمِلا أنْثَا الفجاج المنوِّرِ٢٣
وإيفيةُ الحسناءُ فيداسُ كرمةٍ
إزاء فلوسَ الكلُّ في جُرْفِ أَبْجُرِ
يُجَلُّ بأهليها كرَبٍّ خُطُورَةً
ويؤتونه جَمَّ الخَراج المُقَرَّرِ
غنيمًا وأبقارًا تناهَى عديدُها
فتلك هِبَاتِي فَلْيَلِنْ ثم يحضُر
فكلُّ مَغِيظٍ غير آذِيسَ يرتضي
لذاك قلاهُ الخلقُ عن شر مخبر٢٤
كفى حنقًا مذ كنتُ أعظمَ رِفْعَةً
وأكثر أيامًا ليَذْعَنْ ويُقْصِرِ»٢٥
فقال له نسطور: «يا سيد الورى
أجل جُدْتَ فيما لا يهان ويُسْتَقَلْ
فهيِّ بنا نَدْعُ الدعاةَ ليذهبوا
لخيمة آخيلِ بْنِ فِيلا بلا مَهَلْ
أنا أتنقَّاهم ففينكس قائد
لهم معه يمضي أياسُ الفتى البطلْ
كذا المُجْتَبَى أُوذِسْ وفَيْجَانِ هُذْيُسٌ
وأُورِيبَطٌ وَلْنَغْسِلَنَّ على عجلْ٢٦
وبالصمت فَأْمُرْ نَسْتَغِثْ زفسَ علَّه
يرق» فضجَّ الجمع واستصوب العمل
فصب على الأيدي الفُيُوجُ قراحُهم
وفتيانهم بالخمر في أكؤس تُقَلْ
يَمُزُّونَ منها طافحاتٍ وبعد ذا
يديرونها دَوْرًا بكلهم اتصل٢٧
ولمَّا أراقوها على الأرض قربة
وفوق مرام النفس رشفُهُم اكتمل
عدا رسلُهُم من خيمة الملك عاجلًا
فقلَّب نسطور بهم محدِق المُقَلْ
وحَثَّهُمُ فردًا ففردًا وسِيَّمَا
أُذِيسَ ليسترضُوا أخيل الذي اعْتَزَلْ
فسار رسولَا القوم فيمن تلاهما
على جَدِّ بحرٍ عَجُّ أمواجِه اقتتلْ٢٨
محيطَ البرايا يستغيثان عَلَّهُ
يُبَدِّدُ حقدًا بابن آياك قد نزل٢٩
ولما إلى خيمِ الْمَرَامِدِ بُلِّغَا
إذا بأخيل يُطْرِبُ النفس عن مللْ
بقيثارةٍ غناءَ قد شاق صُنْعُهَا
يُنَغِّمُ في ذكر الجبابرة الْأُوَلْ
بقوس لُجَيْنٍ طُوِّقَتْ وأُنِيلَهَا
من الكسب مُذْ في دَكِّ إِيتُونَةَ استقلْ
يقابله فَطْرُقْلُ بالصمت ريثما
مليًّا تطيب النفس من ذلك الزجل٣٠
إذا بأُذِيسٍ يرئِسُ الوفد داخل
ففي دَهَشٍ من فوق مجلسه انتقل
وفي يده القيثارة انساب ناهضًا
كذلك فَطْرُقْلٌ على القدم امتثل
فصافحهم قال: «السلام ومرحبًا
فلا شك وافيتم لأمر لكم جَلَلْ
ومهما يكن من نفرتي فَلَأَنْتُمُ
لآخيل أدنى من يَوَدُّ ومن يُجَلْ»
وأجلسهم من فوق فُرْش تَدَبَّجَتْ
ببُسْطٍ من البِرْفِيرِ نادرة المثل
وقال لِفَطْرُقْلٍ: «عليك إذن لنا
بأكبر دَنٍّ وَلْتَفِضْ قِسْمَةً الْجُعْلِ
بكأس لكلٍّ من قراح مَلِيَّةٍ
فمن تحت سقفي خير رهطٍ وَدَدْتُ حَلْ
فبادر فَطْرُقْلٌ وآخيلُ عامدٌ
إلى وَضَمٍ قرب اللهيب الذي اشْتَعَلْ٣١
ومد عليه صُلْبَ كبشٍ وسَخْلَةٍ
كذا صُلْبَ خِرْنَوْصٍ سمينٍ لهم قَتَلْ
وَأَفْطُوْمِذُوْنٌ ممسكٌ وهو خازل
وينظم في تلك السفافيد ما خزل
وفَطْرُقْلً ذو الهمَّات يضرم وقده
إلى أن لهيب النارِ بُدِّدَ واضمحلْ
فألقى على الجمرِ السفافيد تحتَها
قوائمُ والملحَ الذكيَّ بها جبل٣٢
ولما استتم النضجُ مد سماطَه
وثَمَّ قفاعَ الخبز فَطْرُقْلُ قد حمل
لكل من الأضيافِ قدَّم قَفْعَةً
وآخيلُ توزيعُ اللحوم به اشتغلْ
تُجاهَ أُذِيسٍ جالسًا لرفيقه
أشار فباسترضاءِ آل العلى استهلْ
فللنار ألقى خير لحمٍ ضحيةً
ومُدَّتْ أياديهم وكُلُّهُمُ أَكَلْ٣٣
ولما انتهوا آياسُ أومأَ داعيًا
فنِكْسَ فأُوذِيسٌ أحاطَ بما سألْ٣٤
ففي كأسه صَبَّ الْمُدَامَ مُرَدِّدًا
بها نخبَ آخيلٍ ومن ثَمَّةَ ارتجلْ:٣٥
«سلامٌ أخيلٌ لا بحاجةِ مطعم
نُرَى فلدينا خير زاد مُيَسَّرِ٣٦
ففي خَيْمِ أَتْرِيذٍ يفيض شَهِيُّهُ
وعندك منه كلُّ أطيبَ أفخرِ
وما الآنَ آنُ القول في طيب مأكلٍ
وقد راعنا وقع البلاء الْمُدَثِّرِ
وإنا لفي ريبٍ بأمر سفيننا
أتَهْلِكُ أم تنجو إذا لم تُشَمِّرِ
فقد عسكر الطروادُ في حلفائهم
لديها وقد أَوْرَوْا لهيبَ مُسَعِّرِ
يلوح لهم أنَّا وَهَيْنَا وأنَّنَا
سنلقى عليها حتفنا بِتَقَهْقُرِ
وذا زفس أورى البرقَ فوق يمينهم
دليلًا به يشتد ساعد هَكْطُرِ
فأصبح لا يَرْعَى إلهًا خلافه
ويرمقنا طُرًّا بعينِ مُحَقِّرِ
ويدعو فتاة الفجر تَبْرُزُ عاجلًا
ليقطع أطراف السفين ويبتري٣٧
ويَذْكِي بها النيران ثم إزاءها
يُذَبِّحُ كلَّ العسكرِ المتضوِّرِ
تَحَدَّمَ غيظًا واستشاط وخَشْيَتِي
يُتَاحُ له فوزٌ فيفرِي ويفتري
ونهلِك في منأًى عن الوطن الذي
غَذَا الخيل في مرجٍ من الروض أخضر
فهُبَّ ابن فيلا إن ترُم نصر قومِنَا
وإن يكُ جلَّ الخطب واشتدَّ وانبري
ستندم لكن لاتَ حين ندامة
فذا الحين حين الكر والذب فافكِرِ
أما قال فيلا يومَ فارقْتَ إفثِيا
إلى جيش أتريذٍ: «بُنَيَّ تَبَصَّرِ
أثينا وهيرا تُولِيَانِكَ نُصرةً
إذا شاءتا لكن على جاشك اصبرِ
فبالحلم كل الخير والفتنة اطَّرِحْ
رعاية كل الشيب والمُرْدِ تذخر»
نعم ذاك قولٌ قاله الشيخُ إنما
تناسيتَه فاذعن وقومَك فانصرِ
وعِ الآن قولي إذ أَعُدُّ نفائسًا
سَيَحْبُوكَ أتريذٌ بأعظم مظهر:
مناضدَ سبعًا لم تر النار جُدَّدًا
وعشرين طَسًّا ساطعاتٍ لمنظر
ومن ذهبٍ يغلو شواقِلَ عشرة
وجُرْدَ جيادٍ تَأْلَفُ السبق ضُمَّرِ
فتحرزها اثني عشْر أجردَ سلهبًا
حَبَتْهُ كُنُوزًا في السباق المُكَرَّرِ
كنوزًا إذا ما نالها أيُّمَا امرئٍ
ترفَّع عن شكوى شجيةِ مُعْسِرِ
وسبع غوانٍ فُقْنَ حُسنًا وصنعةً
من اللَّاءِ من لَسْبُسْ سَبَيْتَ بأبترِ
وكُنَّ له سهمًا وذلك عندما
تَوَلَّيْتَهَا تحت الطعان المدمر
كذاك بريسًا مُقْسِمًا ومُثَقِّلًا
يقول إليها القربَ لم يَتَصَوَّرِ
فهذي صلاتُ اليوم تُحْرِزُهَا وإنْ
نَنَلْ دَكَّ إليونٍ بحكمٍ مُقَدَّرِ
نُضارًا وصفرًا تُؤْتَ ملءَ سفينة
وعند اقتسام السبي بالغِيدِ تظفر
بعشرينَ حسنًا فُقْنَ بعد هِلَانَةٍ
تَحُزْ بانتقاها خيرةَ الْمُتَخَيِّرِ
وإمَّا رجعنا للخصيبة أرغُسِ
يرومك صهرًا بالمقام الْمُوَقَّرِ
تُجَلُّ كأُورِسْتَ الحبيب الذي نشا
بأرغدِ عَيْشٍ في يَسَارٍ مُوَقَّرِ
ثلاثٌ بناتُ الْمَلْكِ أَخْرِيسَثِيمَةٌ
ولَوْذِيقُ أَفْيَانَاسُ من ترضَ تخترِ
وليس بباغٍ مهرها ويزيدُها
ندًى لم يَجُدْ فيهِ أَبٌ مُنْذُ أَدْهُرِ
فتُنزلِها في دار فِيلا وفوق ذا
مدائن سبعٌ فوق بَرٍّ مُعَمَّرِ
فِرِيسُ التَقَى إيرا الزُّهُورِ وإِنْيُفَا
وقَرْذَمِلَا أَنْثَا الفجاج الْمُنَوَّرِ
وإيفيةُ الحسناءُ فيداسُ كرمةٍ
تجاه فِلُوسَ الكل في جرف أبحُر
تجل بأهليها كَرَبٍّ خطورةً
وتُحْرِزُ مذخور الخراج المقرَّر
غنمًا وأبقارًا تناهى عديدها
فتلك الهدايا فاترك الغيظَ واحضُر
ولكنما إن كنتَ أُشْرِبْتُ بغضَه
وإن تزدري هذي الهباتِ وتسخر
فرقَّ لقوم سوف تُحْرِزُ رفعة
كربٍّ لديهم أُحْرِجُوا في المعسكر
ونَلْ ذروةَ المجد الرفيع مخلَّدًا
بمقتل هكطورَ الفتى الباسل الجري
إليك تدنَّى حانقًا مُتَوَهِّطًا
ويزعم ما في القوم نِدٌّ به حَرِي»٣٨
قال آخيلُ: «يا أذيس المؤانسْ
ليَ فاسمَعْ فإنني لا أُلَابسْ
لي مقالٌ فلن أحولنَّ عنه
فَعِهِ واطرحنَّ عنك الوساوسْ
من يقل غير ما تَيَقَّنَ فِكْرَا
كان عندي من الجحيم أَشَرَّا٣٩
فالذي قد أَسْرَرْتُ هاكم جهارًا
لجميع الإغريق لستُ بناكِسْ
ما بأَتْرِيذَ والأغارِقِ جَمْعًا
مَنْ حُقوقَ الأبطال بالحقِّ يَرْعَى٤٠
فَلَدَيْهِم سيَّان قرمٌ عنيد
وجبانٌ عن الوغى متقاعسْ٤١
ولديهم سهم الفتى الصنديد
مثلُ سهمِ الهيابة الرعديدِ
والردى يحصدُ الجميعَ سواءٌ
متقي الهول والجسورُ الحمارِسْ٤٢
أيَّ نفعٍ جنيتُ من قهرِ نفسي
واقتحام الأهوال فتكًا ببأسي
كنت كالطيرِ للفراخ يُوَافِي
بطعامٍ عن نفسه هو حابس٤٣
كم ليالٍ أحييتُ كم من نهار
باصطكاك القنا أثرت أُوَارِي
كل هذا حفظًا لعرضِ نساكُم
ولكم خُضْتُ فادحات الدَّرَاهِسْ٤٤
إِثنتي عشْرة مدائنَ بحرًا
نِلْتُ ثم الطرواد أأقلقتُ بَرَّا
حيث عشرًا وبلدة ثم دَمَّرْ
تُ ومنها قسرًا سلبتُ النفائس٤٥
ولأترِيذَ سُقْتُ كلَّ الغنائم
وَهْوَ بين السَّفْينِ بالأمن قائمْ
فحبا الصيد والقُيول يسيرًا
وبِجُلِّ الأسلاب قد ظلَّ آنِسْ
إنما من جميعهم ما استردَّا
أنا من دونهم بسهمي اسْتَبَدَّا٤٦
وإلى زوجتي استطال فدعْه
يتمتع بقربها وينافسْ٤٧
فعلام الإغريق هاجوا وماجُوا
وبحرب الطرواد ثار العَجاج
أفما في اطِّلَابِ هيلانةٍ قد
جاء أتريذ بالكُمَاةِ القَوَامِسْ٤٨
كل شهم لِعِرْسِهِ يَتَوَدَّدْ
لم يكن ذا بِالْأَتْرِذَيْنِ مقيدْ
وبعرسي أنا كَلِفْتُ وإن لم
تكُ إلا من السبايا العطامس٤٩
إن أتريذَ غَلَّ سهميَ مِنِّي
مثلما غرَّني فلن يخدعني
بك أُوذِيسُ والملوكِ لدرء الـ
ـضَّيْمِ عنه فليعقدنَّ المجالسْ٥٠
بَعْدَ بُعْدِي كم جاء أمرًا خطيرَا
رفع السورَ ثم مَدَّ الحفيرَا
ثم شاد الأبواب لكن أراه
من لقا هَكْطُرَ المدمر راعسْ٥١
قطُّ ما جاز هكطر الزانَ قبلَا
لا ولا باب إِسْكِيَا اجتاز فعلَا
بل إزاءَ الحصون ظل يُباري
عندما كنتُ في صدور الفوارس
للقائي بالحرب يومًا تربصْ
كاد يُصْمَى لكن نجا وتملَّص٥٢
بيد أني لا أَبْغِيَنَّ له بعْـ
ـد كفاحًا فالعود بعد الحنادسْ٥٣
فلزفس وسائر الأرباب
سأُضَحِّي غدًا قبيل المآب
وإذا شئتمُ ارْقُبُنَّ سفيني
جُسْنَ قلبَ العُباب أيَّ جوائسْ٥٤
بثقيل الأحمال تمخر مخرا
وبها الأردمون تخرق بحرا٥٥
وإذا شاء فُوسِذٌ ثالث الأ
يَّام في إِفْثِيَا رَسَوْنَ أَوَانِسْ
فبها قد غادرت مالًا وفيرًا
وإليه أضم كسبًا كثيرَا
ذهبًا ساطعًا حديدًا وصفرًا
والسبايا ذات القدود الموائسْ
كل هذا أحرزت سهمًا حلالًا
وأغاممنون أجاز وغالَا
أبلغوه قولي جَهارًا ليُخْزَى
إن رأى بعد أن يدسَّ الدسائسْ
وهو مهما عتا ولم يتهيَّبْ
ذل عن أن يدنو ووجهيَ يقرَب
لا يرومن بعدُ قولي وفعلي
لا يُطِيلَنَّ لي الحديث الخُلَابِسْ٥٦
وَلْيَسِيرَنَّ للهلاك ثبورَا
إن زفسًا أباد منه الشعورا
هو عندي كشعرة باحتقارٍ
وأنا كُلَّ ما به جاد باخسْ٥٧
لو حباني عشرًا وعشرين مِثْلَا
للذي رام والذي حاز فعلَا
أو حباني ما قد حوت أُرْخُمِينَا
أو حوت طِيبَةُ القصور الطوائسْ٥٨
تلك في مصرَ رحبة الأبواب
مئةٌ قد علون مثل الروابي
مئتا فارس على مركبات
وخيول في كل باب حوارسْ٥٩
أو حباني عدَّ الهبا والرمال
لن أحولَنَّ عن بعيد اعتزالي
لن أحِلَّنَّ وسط ناديه حتى
شر عقبى يلقى لتلك المدانس
بنتُه لو كَعَفْرُذِيتَ سناءً
أو أثينا الجلال كانت ذكاء
لن أرومَنَّهَا فغيري يلقى
من يُجَارِي هواه بين الأراغسْ
فإذا عدت سالمًا لِبِلَادي
ثَمَّ فِيلَا كُفْءٌ لكل مرادي
فَبِهِيلَاذَةٍ وفي إِفْثِيَا عنـ
ـدَ الصناديد لا تَقِلُّ العرائس
أَتَنَقَّى منهن من أتمنى
وبزاهي جمالها أَتَهَنَّا
تلك لي زوجةٌ حلال تليني
في رياش الشيخ الجليل المُؤَانِسْ
لا يوازي الحياة مالٌ توفر
ضمن إليون قبل سوق المعسكر
لا ولا كُلُّ ما بِفِيثُسَ في هَيْـ
ـكَلِ فِيبُسْ رب السهام الطوامسْ٦٠
يتسنَّى بالسيف كسب عجول
وغنيم مناضد وخيول
إنما النفس لا تعود إذا جا
زت خلال الأسنان يوم الدلامسْ٦١
أنبأتني ثِيتِيسُ أمي حقَّا
أنني للردى سبيلين ألقى
خالدَ المجد بعد موت قريب
أو طويل الحياة والذكر طامسْ٦٢
ذاك فيما إذا طلبت الطعانا
ثُمَّ هذا إن أبتغي الأوطانا
ومرامي حَثُّ الأراغِسِ طُرًّا
أن يَئُوبُوا إلى الديار نواكسْ
فاذهبوا أخبروا الأَخَاءَةَ جدَّا
لن تنالُنَّ بالطراود قصدَا
زفسُ ألقى على القلوب يد الأمـ
ـنِ وبالنفس ظل من فوق حارس
أبلِغُوا والبلاغ شأن الشيب
ينظروا في خلاف رأيٍ مصيب
فعساهم ينجون إذ أخطأوا في
طلبي لست بينهم قَطُّ دائس
وفنكسٌ هنا يبيت وإمَّا
رام عودًا معي غدًا فَنِعِمَّا
بسفيني سأقلعنَّ يقينًا
عند طَرِّ الصباح غير مُلايِسْ»٦٣
فاستتم الحديث والقومُ طُرَّا
بوجوم خالوا التصلبَ مرَّا
ثم فينكس والدموع هوامٍ
لاشتداد الوبال قال مُصِرَّا:٦٤
«إن تكن عن تَحَدُّمٍ واحتدادِ
راغبًا عن لقاء جيش الأعادي
وطلبت المآبَ يا ابني المُفَدَّى
كيف ألقى على بِعَادِك صبرا
فمعي قد بُعِثْتَ للحرب لمَّا
رام فيلا تَؤُمُّ أتريذَ قدمَا٦٥
باعتنائِي أُنْمِيكَ فَعَّالَ فِعْلٍ
وخطيبًا قوَّالَ قولٍ أَبَرَّا٦٦
يانعًا كنت جاهلًا للطِّعَانِ
حيث تبدو شجاعة الشُّجْعَانِ
وكذا جاهلًا مفاوض شُورا
نا وفيها يعلو أخو الرأي فخرَا
لا فلن أَلْبَثَنَّ عنكَ بعيدَا
لو حباني رَبٌّ شبابًا جديدَا
ومحا شَيْبَتِي فعدتُ كَيَوْمٍ
فيه أَبْحَرْتُ من هِلَاذَةَ قَسْرَا
يوم من فرط غيظ آمِنْطُورِ
فرع أُرْمِينَ والدي وأميري٦٧
هاربًا جئت مُذْ سعيتُ إلى جا
ريةٍ رام رغم أُمِّيَ نُكْرا
فأشارت أمي بها ليَ حتى
تَمْقُتَ الشيخ إن رأتنيَ مَقْتَا
وعلى ركبتيَّ صُغْرًا ترامتْ
فأطعتُ الهوى ولَبَّيْتُ أمرا
فدرى بي أبي وباللعن مالَا
وبناتِ الرَّدَى استغاثَ وقالَا:
«ركبتيهِ لا يَعْلُوَنَّ غلامٌ
كان منه» وقام ينذُر نذرَا
فاستجاب الدعاء زفسُ الجحيمِ
وفُرْسُفِينُ هول كل عظيم٦٨
فحدا بي غيظي فكدت أوافيـ
ـه بسيفٍ يَبْتَتُّ بطنًا وظهرَا
إنما راحَ بعض آل الخلودِ
يُخْمِدُ الغيظ من فؤادي الحديدِ
خشيةً أن يقال ما بين قومي
ذلكم كان قاتل الأبِ كِبْرَا
غير أني أَنْفِتُ طول المقام
ضمن صرحٍ فيه أبي باحتدامِ
بيد أن الخُلَّانَ والأهل راموا
بالتماسٍ أن لا أغادِرَ قصرا
ذبحوا للشِّوَا العجولَ السِّمانا
والخنانيص في لظى بُركانا٦٩
وخِرافًا وخمرة الشيخ صَبُّوا
بأباريقه وطابوا مقرَّا
وأقاموا حولي ليالي تسعَا
إن ينم واحدٌ فآخر يسعى
ولدى باب غرفتي وبباب الـ
ـدَّارِ لم يُطْفِئُوا مدى الليل جمرا
غير أني بِعَاشِرِ الأيام
والدياجي قد خيَّمت بالظلامِ
فَلِأَبْوَابِ حجرتي عامدًا قُمـ
ـتُ وقد أوصدت فكسرتُ كَسْرَا
وعلى الفور جُزْتُ باب الدَّارِ
خافيًا عن نَوَاقِدِ الأبصار
وطلبت الفرارَ في بَرِّ هِيلَا
ذَةَ أعدُو لِإِفْثِيَا مستمرَّا
فلقيتُ المليك فِيلَا الحليما
وعليه نزلت ضيفًا كريمَا
وَدَّنِي وُدَّ رَبِّ مالٍ وفيرٍ
بتناهي المشيب أنتج بِكْرَا
فحباني مالًا وشعبًا كثيرَا
وبقوم الذُّولُونِ قُمْتُ أميرَا
لك وُدِّي من ثَمَّ تدري تناهى
وبجُهدي بلغتَ ما أنت قدرَا
لم تكن ترتضي بغير طعامي
جالسًا فوق ركبتي وأمامي
أقطع اللحم باعتناءٍ وأُعْطِيـ
ـكَ بِكَفِّي هَذِي وأسقيكَ خمرَا
ولكم قد قذفتَ من فيك راحَا
فَبَلَلْتَ الثِّيَابَ مني مِزَاحَا٧٠
ولكم قد أجهدتُ بالقهرِ نفسي
ولكم قد لقيتُ بالجهد قهرَا
عالمًا كنت أنَّ آل الرشادِ
حرموني من لَذَّةِ الأولادِ٧١
فبك ابنًا قد رُمْتُ آخيلُ حتى
تدفع العارَ إن عراني وتَدْرَا
فاكظم الغيظ لا تر الحقد أبقَى
إن نفس الأرباب تَذْعَنُ رِفْقَا٧٢
ولهم ذروة الفضائل والمَجْـ
ـدِ وبأس الذراع فالرفقُ أحرى
إن يقم خاشعٌ لهم يتضرعْ
فالضحايا والنذرُ والخمر تشفعْ
إن زفسًا بناتُه الصلوات الـ
ـلَّاءِ تعدو ورِفْقَهُ تَتَحَرَّى
هن عُرْجٌ جُعْدُ الوجوهِ وحُسْرُ
يَتَعَقَّبْنَ زلةً حين تعرو
إنما زلةٌ لها السبقُ مذ كا
نت خطاها أشد وقعًا وأجرى٧٣
تنهبُ الأرضَ حيث تُلْقِي الوَبَالَا
يَتَتَبَّعْنَهَا فَيَشْفَيْنَ حالَا
فالذي عندما يوافينه يُبْـ
ـدِي احترامًا فعنه يدفعنَ ضُرَّا
إنما الويل للذي صدَّ صدَّا
فَلِزَفْسَ يَعُدْنَ يطلُبْنَ رِفْدا
يتطلبن زلةً منه تُهْمِي
فوق ذاك العاتي وبالًا أَمَرَّا
فاتَّقِيهِنَّ يا آخيلُ احترامَا
يَتَّقِيهِنَّ كل قِرْمٍ تَسَامَى
ويقينًا لو أن أتريذ لم يُسْـ
ـدِ الهدايا الغراء تُذْخَرُ ذُخْرَا
أو توانى عن ذكر ما سوف يُسْدَى
بعد هذا أو ظل يشتدُّ حقدَا
لم أَرُمْ منك نُصرة القوم مهما اشْـ
ـتَدَّ فيهم وقع الرَزِيَّةِ عُسْرَا٧٤
إنما الآن قد حبا وسيحبو
مُرْسِلًا في بلاغِهِ من تُحِبُّ
فخيار السَّرَاةِ جاءوك فاذعَنْ
وخُذِ الآنَ من بلاغي ذِكْرِي:٧٥
قد أتانا عن سالف الأبطال
عندما الغيظُ كادَ صدرَ الرجالِ
أنهم بين نَيْلِ غُرٍّ الهدايا
والتماسٍ كانوا يلينون صُغْرَا
وبذكراي حادثٌ مَرَّ قِدْمَا
هاكَمُوهُ كما جرى وأَلَمَّا
ذاك لما الكُورِيتُ ثاروا على الإِيـ
ـتُولِ والحرب وقعها اشتدَّ حَرَّا
تحت أسوار قَالِذَوْنَ تلاقَى
ذلك الجمعُ واستباحوا الشقاقَا
فترامى الْكُورِيتُ يَبْغُونَ فتحًا
وترامى الإيتُولُ يَخْشَوْنَ غدرَا
ذلكَ الخطبَ أرطميسُ أثارتْ
حنقًا من وِينَاسَ والحربُ ثارتْ
إذ تغاضَى عن أن يُقَدِّمَ باكو
رَةَ زرع لها وأغفلَ بِرَّا٧٦
والضحايا المئاتِ لما أتاها
لجميع الأرباب أذكى سواها
غفلةً أم تغافلًا كان منه
ذلك الأمر إنما كان وزرَا
فأثارت بالغيظِ خرنوصَ بِرٍّ
لأراضيه حيثُ عاث بكبرِ
بعُتُوٍّ يجتثًّ أصلًا وفرعًا
ويُبيدُ الأشجارَ غصنًا وزهرَا
فابن وِينَاسَ مِيلِيَغْرُ التقاه
قاتلًا بعد أن أعد سُرَاهُ
من بلاد الجوار رهطَ رُماةٍ
بكلابٍ لِتَذْعَرَ الوحشَ ذُعْرَا
رائعًا كان لم يكن باليسير
صَدُّهُ في سلاحِ نَذْرٍ يسيرِ٧٧
قتلوه من بعد قتلِ كثيرٍ
واستتب الشقاق من ثَمَّ جهرَا
بنزاعٍ يبغُون رأسًا وجِلْدَا
ذاك ما أَرْطَمِيسُ رامَتْهُ حِقْدَا
وبهم طالما سَطَا مِيلِيَغْرٌ
نال قومُ الإيتول فوزًا ونصرَا
فالأعادي ولو يزيدون عدَّا
ما استطاعوا أن يبلغوا السور حدَّا
إنما الغيظ وَهْوَ يعبثُ بالعُـ
ـقَّالِ بالكيدِ منه أوغرَ صَدْرَا
فأثارته نفرةً واحتدامَا
أَلْثِيَا أُمُّهُ فعافَ الصِّدَامَا
وبذاتِ الجمال إِكْلِيُّبَطْرا
زوجِه قد خلا وعافَ المَكَرَّا
(أمُّها غادة العُلَى مَرْفِيسَا
من بناتِ الْمَهِيبِ إِيفِينُوسَا
وأبوها إيذاسُ أعظم قَرْمِ
كان ذاك الزمانَ في الأرض طُرَّا
صال حتى على أَفُلُّونَ لمَّا
رام مَرْفِيسَ منفذًا فيه سهمَا
أبواها من ثَمَّ قد لَقَّبَاهَا
أَلْكِيُونَا لحادثٍ كان مُرَّا
حيثُ مَرْفِيسُ فِيبُسٌ قد بغاها
مثلَمَا قبل أَلْكِيُونَا سباها
فبكت تَلْتَظِي بشدة بؤسٍ
ودعت بِنْتَهَا كذلِكَ ذِكْرَا)٧٨
حانقًا مِيلِيَغْرُ من ثَمَّ ظَلَّا
عندها نار سُخطِه يتصلَّى٧٩
ذاك مذ أَلْثِيَا لقتلِ أخيها
أوسعته لعنًا وشتمًا وزَجْرَا٨٠
تضرب الأرض حِدَّةً بيديها
ثم تدعو سخطًا على رُكْبَتَيْهَا
وأَذِيسًا وفُرْسُفِينا تنادي
أن يذيقا ابنَها حمامًا أشرَّا
لإرينيسَ في دجى الظُّلُمَاتِ
بأريبا انتهى صدى الصلواتِ٨١
ثم قضَّ العدى الحصونَ وفي الأبـ
ـوابِ عَجَّ العجاجُ طعنًا ونحرَا
فإلى مِيلَيْغَر شيبُ البلاد
بعثوا بالكهان لاستنجاد
وَعَدُوهُ خمسين فدانَ حقلٍ
حيثما شاءَهَا وكرمًا أَغَرَّا
وَوِنَاسٍ الشيخُ الجليل أبوه
جاثِيًا عند بابِه يرجوه
والشقيقاتُ أَلثِيَا نفسها والصحبُ
والأهلُ وهو يزداد نَفْرَا
ظلَّ حتى ببابه الحرب شبَّتْ
خُرِقَ السور ثُمَّةَ النارُ شَبَّتْ
فتبدَّت لديه زوجتُه الْمَيْـ
ـسَاءُ للرفق منه تسألُ عُذْرَا
وتريه كم من وبالٍ تُعَانِي
بلدةٌ ذُلِّلَتْ بِحَرِّ الطِّعَانِ
للمباني حَرْقًا وللقَوْمِ ذَبحًا
والغواني والْوُلْدِ ذُلًّا وأسرَا٨٢
رَقَّ وارتدَّ يَرْفُدُ الصَّحْبَ رَفْدَا
شَكَّ وَاشْتَدَّ وَالْعِدَى صَدَّ صَدَّا
ولهذا ما نال غُرَّ الهدايا
ولئن كان سام أعداهُ كَسْرَا
صاحِ قُمْ لا تكُن كذاك عنادا
قبل أن تَلْهَبَ السفينُ اتِّقَادَا
والهدايا فاقبلْ وسِرْ معنا يُعْـ
ـلُوكَ طُرًّا مقامَ رَبٍّ أَبَرَّا
فإذا جئت عن مرامك آنِسْ
لصدامٍ به تُزِيحُ الدراهِسْ٨٣
لن يُنيلوك ما أنالوك تَوًّا
لو تُبيدُ الأعداءَ بَرًّا وبَحْرَا»٨٤
قال آخيل: «أيها الشيخُ صبرَا
ليس بي حاجة لما تَتَحَرَّى
إن زفسًا أجلَّنِي وسيحمي
سُفُنِي بي ما دمتُ بالعيش آنِسْ
هاك فصلَ الخطابِ لا تُهْمِ دَمْعَا
وتَسُمْنِي في حُبِّ أَتْرِيذَ صَدْعَا
لا تُحِبَّنَّهُ وأنت حبيبي
إن تكن من محبَّتِي غير بائس
فاقْلِيَنَّ الذي قلانِي حتمَا
ومعي احكُمْ أُشَاطِرَنَّكَ حُكْمَا٨٥
هؤلاءِ البَلَاغَ يُنْمُونَ حالًا
وهُنَا بِتْ على وتيرِ الطَّنَافِسْ
فإذا الفجر لاح نبحث فيما
نرتَئِيهِ لنغتدي أو نُقِيمَا»٨٦
ولِفَطْرُقْلَ مُومِئًا قال يأتي
بفراشٍ غَضٍّ لتمضي النَّوَاطِسْ٨٧
هب آياسُ قال: «أوذيسُ هَيَّا
لا أرى هكذا المُنَى يَتَهَيَّا
وعلينا نُنْمِي الجواب وإن سا
ءَ فإن الإغريق ظلوا بِهَاجِسْ
إن آخيل قد تصلَّبَ طبعَا
وأداني الخُلَّانِ ما ظل يرعى
عظَّمُوهُ من فوق كل عظيم
وَهْوَ عاتٍ جافٍ ظلومٌ قُنَاعِسْ٨٨
كم أخ يفتدون بالمال وَابْنِ
ويظل الجاني برَغْدٍ وأَمْنِ
وأهالي المقتول إن أحرزوا الما
لَ وفيرًا عَفَوْا وعافُوا الْمَرَاجِسْ٨٩
قلبك اكمَدَّ حانقًا لفتاةِ
وأتينا نَحْبُوكَ سَبْعَ بناتِ
وعدا الغيدَ باهراتِ العطايا
سَكِّنِ الرَّوْعَ ألقِ عنكَ الهواجسْ
عن جميع الإغريق جئنا إليكا
بغيةً أن نرى أحبَّ لديكا
نحن في بيتك الذي أنت فيه
فاحترمْه وارعَ الضيوف وآنسْ»٩٠
قال آخيل: «يا أياسُ أراكا
فُهْتَ حقًّا بما حواه نُهَاكَا
بيد أني لم أنس أَتْرِيذَ يُزْرِي
بي كأني فيكم دخيلٌ مُخَالِسْ
كلما هاج ذكر ذلك فكري
يتلظى قلبي ويُوغَرُ صدري
فاذهبا بَلِّغَا فلا قمتُ حتى
دون خيمي تعثو العُداةُ الغَطَارِسْ
فهنا ألتقي ابن فِرْيَامَ مهما
صال بالبطش مستجيشًا وأَدْمَى
بعد أن يَهْلِكَ الأراغسُ ذبحًا
وبكُلِّ السَّفِينِ تذكُو المقابسْ»٩١
ثم قاموا من ثَمَّ للقرُبات
بكئوس للخمر مزدَوِجات
فأراقوا وللسفائنِ عادت
رسلُهُم تقتفي لأوذيسَ إثرَا
والجواري بأمر فَطْرُقْلَ قُمْنَ
لِفِنِكْسٍ غضَّ الفراش أقمنَ
من جلود النعاجِ تحت غطاءٍ
وبَهِيُّ الكتان يُسْبَلُ سِتْرَا
ثم فِينِكْسُ نامَ يرقب صبحا
وأخيلٌ إلى الزوايا تنحَّى
وذُمِيذا من لَسْبُسٍ بنت فُرْيَا
سَ تليه في مرقدٍ شِيدَ خِدْرَا
ثم فَطْرُقْلُ في الخباء المقابل
وَلِيَتْهُ إِيفِيسُ ذات الشمائل
من آخيل أُنِيلَهَا مذ غزا إِسْـ
ـكِيرُسًا من إِيفِسْ وأحرز وَفْرَا
وإذ الوفد خَيْمَ أَتْرِيذَ حلَّا
نهض الجمع مكرِمًا ومُجِلَّا
وأتوهم بأكؤسٍ من نضارٍ
متقصِّين أمرهم كيف قرَّا
وأَغَامَمْنُونُ استهلَّ السؤالَا:
«قلْ أُذِيسٌ فَخْرَ الإخاءة حالا
أأرعوي مقبلًا لصد الأعادي
أم بغُلِّ الأحقاد يُكْمِنُ شرَّا»
قال: «بل غيظه العنيف أشدُّ
عن حباءٍ تحبو وعنك يصد
ويقول اشدُدْنَ فيمن سواه
لنجاة السفينِ والجيش أزرا
وعلى جملة الملوك يشير
أن يئوبوا لأهلهم ويسيروا
ولقد قال سوف يقذِفُ للبحْـ
ـرِ بأشراعه ويقفُلُ فجرَا٩٢
قال إليونُ لا مرام إليها
إن زفسًا ألقى يديهِ عليها
وقلوب الفرسان فيها لقد شَـ
ـدَّدَ هذا ما قال طَيًّا ونشرَا
وأياسًا كذاك فَيْجَيْكَ فاسأل
ما وعوه وثَمَّ فِينِكْسُ قد ظلْ
معه راجعًا يسير إذا ما
رام لا مُحْرجًا غدًا فهو أدرى»٩٣
فأصاخوا وكلهم بسكينهْ
ذُعِرُوا لاضطرام تلك الضغينهْ
وأطالوا الوجوم والصمت حتى
هب ذُومِيذُ صائحًا: «يا ابن أَتْرَا
حبذا لو لم تبغِ يا ذا الجلال
صلحَ آخيل بالهبات الغوالي
هو عاتٍ بنفسه وغشومٌ
ولقد زدتَه عتوًّا وجبرَا٩٤
فلندعه وشأنه أأقامَا
أم مضى سوف يَقْحَمَنَّ الصِّدَامَا
ذاك لمَّا تهيجه النفس أم تَدْ
عُوهُ آلُ العلى فيأتي مِكَرَّا
فاستريحوا ذا الآن وَأْتُوا الرُّقَادا
إذ جميعًا طبنا شرابًا وزادَا
فبهذا تُؤْتَوْنَ قوَّة بأسٍ
وغدا الفجر فاسطُرِ الجند سطرَا
والعجالَ اصْفُفَنْ أمام السَّفِينِ
ثمَّ في الصدر أَوْرِ نارَ الْمَنُونِ»٩٥
جاهروا بالثنا أراقوا وكلٌّ
راح يأتي فراشه مستقرَّا

هوامش

(١) لقد أكثر علماء الأدب والفصاحة من إطراء بلاغة الخطب المُدَوَّنَةِ في هذا النشيد، ولا سيما في شطره الأخير أثناء التقاء آخيل بوفد الإغريق، وقد كتبوا في ذلك الرسائل المطولة وأوردوا منها الأمثلة الكثيرة أنموذجًا ليتحداه طلبة الخطابة مما سننبه عليه في مواضعه.
(٢) الرعدة والفرار رفيقان متلازمان، وهما هنا مُجَسَّمَانِ كما في سائر المواضع.
(٣) الدبور الريح الغربية كما لا يخفى. ولقد اعتُرِض على هوميروس بقوله: إنها تهب من إثراقا حالة كون مهبها يتجه إلى إثراقا لا منها. وقد رد أفستاثيوس هذا الاعتراض بقوله: إن هوميروس قال هذا القول إما جريًا على ما تداولته أساطير ذلك الزمان من أن في تلك البلاد ملتقى الرياح، وإما نظرًا إلى موقع طروادة منها وكلا الفرضين يذهبان بالاعتراض.
(٤) إن تشبيه الفؤاد المضطرب بالموج الذي تقذفه الأنواء إلى ما وراء الجرف لمن أبدع ما قيل في هذا الباب. وقال هوميروس في النشيد الثاني والعشرين بلسان زوجة هكطور: وقلبي خافقٌ حتى يكاد يطير … ولا يقل عن قولي هوميروس قول الشنفرى:
ولا خَرِقٍ هَيقٍ كأن فؤادهُ
يظلُّ به المكاء يعلو ويسفُلُ
فالخرق: الدهش، والهيق: الظليم (ذكر النعام) والمكاء: طائر. شبه الفؤاد المرتجف بشيءٍ مع طائر يعلو به مرة ويسفل به أخرى. ومثل هذا قول صاحب عفراء:
كأن قطاة علقت بجناحها
على كبدي من شدة الخفقانِ
(٥) أي إن أغاممنون عهد إلى الدعاة بحشد القوم إلى مجلس الشورى ثم بلَّغ بنفسه فيمن حوله وطافوا وهم يبلغون في أطراف الجيش وينادون كلًّا باسمه همسًا. وإنما أمر بالهمس دون النداء لئلَّا يسود الهرج فينكشف أمرهم للأعداء.
(٦) لعل المطالع اللبيب يَدَّكِرُ أن هنا خطابًا ألقاه أغاممنون بلفظه ومعناه في النشيد الثاني وأنه تذرع به هنالك إلى إغراء الجيش على الذود والهجوم دون العود والوجوم على ما يوهم ظاهر العبارة. ولهذا تشعبت آراء الشُّرَّاحِ في القصد من هذا التكرار، ففريق إلى أنه نحا هنا ذلك النحو وفريق إلى أنه لا يصدق هنا ما صدق هناك. وليس من غرضنا الانتصار إلى إحدى الفئتين وإنما نرى أنه مهما يكن من صحة أحد الرأيين فالنتيجة واحدة لأن الشاعر أحسن التصرف فحصل الغرض من كلا الخطابين.
(٧) كأن المتنبي عارض هذا المعنى بقوله:
الرأي قبل شجاعة الشجعانِ
هو أولٌ ولها المحل الثاني
وهو كقول أبي تمام:
السيف أصدق أنباء من الكتبِ
(٨) الجدود أي الشواطئ، وهي في الأصل بعبارة معناها قرب البحر وقد فسَّرها أكثر النقلة بقولهم: «الراسية على الشواطئ» كما فسرناها نحن على أننا إذا اعتبرنا العبارة تهكمًا على أغاممنون كما قال بعضهم كان مراد ذيوميذ أن يقول: «إنك إنما أرسيت سفنك أدنى إلى اليم منها إلى الجرف ليسهل عليك الفرار عند الاضطرار» وعلى هذا يجب أن يقال «في العباب» عوض الجدود.
(٩) إذا ذهبنا مذهب القائلين بتواطؤ الزعماء مع أغاممنون على أخذ الجند خدعةً كما فعلوا في النشيد الثاني، فهذا التواطؤ يشفع في كل تحامل ذيوميذ على أغاممنون. وإذا ذهبنا مع الفريق الآخر إلى أن الشؤم بلغ حَدَّهُ من نفس أغاممنون ولم ينوِ إلا ما قال، فخطاب ذيوميذ أبلغ وأوقع إذ تكون حدة الشباب وشدة البأس ساقتاه إلى المجاهرة بكل ما في ضميره وكان كلامه مرآة تنعكس عنها ضمائر مغاوير الفتيان لذلك العهد. فشرع يبث رأيه بلا مبالاة وغير متحامل بل متزلفًا بعض التزلف ثم استطرد إلى إثبات الحق المنصوص له بالاعتراض لأنه من مخولات دستور الشورى (وحكمهم وإن كان ملكيًّا فهو دستوري شوروي على ما تقدم) ثم اغتنمها فرصةً للوم أغاممنون على سابق تعنيفه إياه. وكأن تلك الذكرى هاجت به نزق الصبا فنبذ واجب الرعاية والاحترام، وتمادى فصرح بكل ما استكن بضميره على غير عبء ولا مداهنة وانتهى باستمداد النصر من لدن رب النصر وكَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ فكان له تخلص حسن ولولاه عُدَّ مدعاه الأخير طيشًا وحمقًا.
(١٠) لا بدع أن يشهد نسطور ببأس ذيوميذ وهو الذي دون سائر الأبطال استهدف للبلاء فأنقذه من مخالب الموت.
(١١) حكمةٌ نطق بها نسطور فسارت مسير الأمثال، ولا بد لبيان متانتها ومكانتها من إيراد مفادها المقصود. فلا بد للمرء من وازع يزعه وهو شرعه، ومن كنٍّ يأوي إليه وهو مأواه ووطنه، ومن فرقة يمتزج بها وهي أسرته وآل بيته. فإذا لم تجمع له تلك المزايا فهو المتشرد الفوضوي الجانح إلى بث النفاق ودس الشقاق. وحسبك بها من معرَّة تأباها نفس كل كريم. وكأن نسطور قال بعبارة أخرى أن الساعي بالفتن والقلاقل كالعَرِيِّ من شعائر الشرع والوطنية وإباء النفس. فدل بقوله على استحكام روابط الدستور عندهم وألمع إلى هول النزاع وما وراءَه من سوء المصير.
(١٢) وفق نسطور بخطابه بين مرام الزعيمين ذيوميذ وأغاممنون، فامتدح الأول بما فيه ونبهه بألطف تعبير إلى اجتناب شطط قد تسوقه إليه رعونة صباه، ثم أتى بتلك الحكمة كأن وراءها قولًا خطيرًا. ولم يكن في الحقيقة وراءَها شيءٌ جلل وإنما أتى بها تذرعًا إلى إِبكامهم جميعًا وإنفاذ بغيته. ولم يكن يحسن لديه إعلان تلك البغية على رءوس الملأ رعايةً لأغاممنون؛ فأشار عليه بعد القول بوجوب إقامة الحرس بإيلام وليمة للشيب دون الشبان، فأعاد فيها الكلام ونال المرام على ما سيجيء.
(١٣) أذكوا المذاكي أي أشعلوا النيران.
(١٤) أراد نسطور بقوله أن يعلم أغاممنون أن جل ما يرمي إليه بأقواله وأفعاله رعاية مكانة ذلك الزعيم ومصلحته. وهي عبارة كثيرًا ما كانوا يستعملونها في أغانيهم وترانيمهم لآلهتهم.
(١٥) ترى من أمثال هذا البيت أن زفس كان الآمر المطلق وإن تعددت الآلهة. يولي الملوك ويتصرف بالكون كيف يشاء وليس من يقوى على معارضته.
(١٦) هذه أمنية نسطور التي حام حولها في مجلسين قبل أن يبوح بها لأغاممنون ألا وهي حمله على استرضاء آخيل وإحكام الوئام.
(١٧) الطس والطست والطشت: لإناء الغسيل معرب طست بالفارسية. شرع أوذيس في تعداد التحف التي أعدها أغاممنون لآخيل إذا هو ارعوى وهبَّ إلى نصرة الجيش فبدأ بالمناضد. وقد جعلنا المنضدة بمعنى المنصة أو النضد الذي يُرفع عليه متاع البيت تعريبًا لكلمة (Τριπους) ومعناها ذات الأرجل الثلاث ومنها أخذ الإفرنج كلمة Trépied, Tripod وأمثالهما بسائر اللغات. وليس عندنا ما يقابلها إلا السيبة المستعملة في سوريا للمرقاة المؤلفة من ثلاث قوائم متصلة بقرص في أعلاها. وهذه أيضًا من أوضاع العامة معربة سه پا بالفارسية ومعناها ثلاث أرجل. إلا أنه وإن اتفقت الكلمتان بالتركيب الوضعي فلا تتفقان بتأدية المراد.
كانت المناضد كثيرة الاستعمال عند اليونان، وقد وردت مرارًا في شعر هوميروس والجم الغفير من كتابهم، وهي منقوشة في كثير من رسومهم وممثلة في عادياتهم. وهي ضروب شتى تُسْتَعْمَلُ لمقاصد مختلفة وجميعها قائمة على ثلاث قوائم يعلوها إناءٌ له مقبضان من طرفيه. فمنها ما كان بمثابة القدور أو المراجل التي تعلو النار. ومنها ما كان لمزج الخمر بالماء وربما كان مراد الشاعر أحد هذين النوعين، الأول: لقوله إنها لم تَرَ نارًا، والثاني: لمقارنتها بالطسوت، وكلا النوعين مما كان يُتهادى به أو يُعطى مكافأة للمبرزين في الألعاب. ومنها ما كان للزينة في البيوت. ومنها ما يُتَّخَذُ في الهياكل للزينة أو للاستعمال أثناء التضحية والاستخارة. وكثيرًا ما اتخذوها أيضًا موائد وكراسي وأقاموها وسط البيوت أو علقوها على الجدران وهلُمَّ جرًّا.
(١٨) يقدرون قيمة الشاقل الذهبي في ذلك الزمن بنحو أربعة آلاف فرنك؛ فعلى هذا يكون في جملة ما أعد أغاممنون لاسترضاء آخيل أربعون ألف فرنك ذهبًا.
(١٩) ذهب أفستاثيوس إلى أنه يُستفاد من هذه العبارة أنهم كانوا يتراهنون سباقًا أثناء الحرب وربما كان ذلك في مآتم بعض الأبطال، وإلا لو كانت تلك الجياد من ذوات السبق قبل الحرب لكانت هرمت وباتت غير صالحة للهدية. ويحسن بنا أن نذكر في هذا المقام أن سباقهم لم يكن كسباق العرب على ظهور الخيل بل كان جريًا بالعجال. أما من حيث شيوع تلك العادة عندهم فلم تكن تقل عنها عند العرب ولقد طالما أورثت النزاع والخصام كما سنرى في النشيد الثالث والعشرين على أنه لم يتصل بنا أنها كانت باعث حرب دامت أربعين عامًا كحرب بني عبس وفزارة على إثر سباق داحس والغبراء.
(٢٠) لا يكاد هوميروس يمدح امرأة صبيحة الوجنتين إلا إذا كانت صَناع اليدين، وكثيرًا ما يضيف إلى نعم الخلَّاق محاسن الأخلاق بخلاف شعرائنا الأقدمين، وقل الحديثين أيضًا كأن المرأة إذا رزقت الجمال بلغت الكمال، فعسى أن يكون لنا من شعر جاهلي أعمى ما يرشدنا إلى سبيل ضللناه ونحن في حضارتنا مبصرون.
(٢١) أورست ابن أغاممنون.
(٢٢) المهر منذ القدم من حقوق العروس وأبيها أو من قام مقامه من ذويها، ولم يَصِرْ من حقوق الزوج في بعض الأحوال إلا في عصرنا أو ما ماثل ما ذكره هيرودوتس عن زواج البابليات، إذ كانوا يجمعون الأوانس الفتيات والعوانس اللائي طال بهن القعود مرةً كل سنة، فيجتمع إليهنَّ كل عَزَبٍ وطالب، ثم يُنادى بأجملهنَّ وتدفع للدافع المهر الأعظم. ثم يُنادى بمن تليها حسنًا وهكذا إلى أن تنفق الجميلات فيؤخذ مهرهن جميعًا، ويُنادى بالباقيات مع إضافة مبلغ إلى كل منهنَّ وتُدفع الفتاة التي لم ترزق الجمال للقانِع بأيسر مبلغ إلى أن تتم المناقصة في الدور الثاني كما تمت المزايدة في الدور الأول. وهكذا فالجميلات يمهرن رفيقاتهن. وعلى كلٍّ فليس من المهر شيءٌ للعرائس وذويهن، بل يؤدى لفريق من الأزواج ما يؤخذ من الفريق الآخر. على أن هذه الحكمة لم تُؤْثَرْ إلا عن بابل. وأما العبرانيون والعرب فكانوا كاليونان. والمهر مهران أحدهما للأهل والآخر للفتاة. فإبراهيم الخليل أهدى خرصًا من ذهب وسوارين إلى رفقة خطيبة ابنه إسحاق (تك ٢٤: ٢٢) ويعقوب خدم لابان سبع سنين بمهر ابنته ليا وسبعًا أُخر بمهر أختها راحيل (تك ٢٩: ١٨–٣٠). والمهر في جاهلية العرب كان في الغالب لأبي البنت أو أهلها، حتى لقد كانوا إذا وُلِدَ لأحدهم بنتٌ يقولون له: «هنيئًا لك النافجة» أي المُعظمة لمالك لأنك تأخذ مهرها فتضمه إلى مالك فينتفج. وربما تجاوز الأهل عن المهر لابنتهم إذا كانوا من ذوي اليسار. والظاهر أن العرب لم يكونوا جميعًا على مذهب واحد من هذه الوجهة؛ إذ لو كانوا كلهم يرجون السعة وازدياد الثروة من وراء البنات لما فشت بين الكثير من قبائلهم عادة الوأد أو دفن البنات وهُنَّ حيَّات.
أما القول بزواج البنت فكان لأبيها أو وليها يزوجها ممن أراد كما كانت العادة عند اليونان بقول أغاممنون، وربما رجعوا إلى خيار الابنة أو أكرهوها في خيارها كما روي عن ليلى عشيقة المجنون. قال صاحب الأغاني: «لما شهر أمر الجنون وليلى وتناشد الناس شعره فيها خطبها وبذل لها خمسين ناقة حمراء وخطبها ورد بن محمد العقيلي وبذل لها عشرًا من الإبل وراعيها فقال أهلها: نحن مُخَيِّرُوهَا بينكما فمن اختارت تزوجته، ودخلوا إليها فقالوا: واللهِ لئن لم تختاري وردًا لنمثلنَّ بك فقال المجنون:
ألا يا ليل إن مُلِّكْتِ فينا
خيارك فانظري لمن الخيارُ
ولا تستبدلي مني دنيا
ولا برمًا إذا حب القتارُ
يهرول في الصغير إذا رآه
وتعجزهُ ملماتٌ كبارُ
فاختارت وردًا فتزوجته على كره منها». ينبئك هذا السياق أن خيار البنت لم يكن حقيقةً لها إلا في حالات مخصوصة.
ولما جاء الإسلام أقر المهر والخيار كليهما للابنة وجعلهما لها حقًّا يضمن لها الراحة بعد الزواج. وقسم المهر إلى قسمين العاجل وهو ما يُؤَدَّى لها عند الزواج والآجل وهو ما تُعْطَاهُ فيما إذا طُلِّقَتْ فتستعين به على المعيشة بعد الطلاق.
(٢٣) المنوِّر: المُخرج نَوره أي زهرهُ.
(٢٤) آذيس: إله الجحيم والموت لا تنفع الزُّلفى إليه؛ ولذلك لم تكن له عندهم عبادة ولم يشيدوا له الهياكل. كانوا يرسمونه على أوضاع شتى وهو فيهن جميعًا قابض على صولجان وعلى رأسه خوذة.
figure
آذيس إله الجحيم.
(٢٥) قد يلوح للمطالع أن أغاممنون سام نفسه حطة وذلًّا بهذا الخطاب؛ لأنه شرع في الإقرار والاستغفار، ثم استطرد إلى استعطاف خصمه بالتحف السنية. على أنه في نظر الحكيم لا يزداد إلا وقارًا واعتبارًا؛ لأنه إذا كان نسطور أتى حكمة بإرشاده ونصحه فقد كانت حكمة أغاممنون أعظم بإذعانه وانتصاحه، والمقر بالخطأ لا يقل فضلًا عن المنبِّه إليه. وترى من انتقاء تلك الهدايا أن أغاممنون كما قال أفستاثيوس لم يدع مطمعًا لأخيل إلا وعد بسَدِّهِ. فالذهب يُسكن من غيظه لو طمحت أبصاره إلى الثروة والمال. والسبايا الحسان وبنت الملك الأعظم تستميل قلبه لو كان مشغوفًا بربات الجمال. والمدائن السبع وما يتبعها من أبهة الملك تُبَرِّدُ من حزازة صدره إذا كان طامحًا ببصره إلى عظمة الملك وواسع السلطان. وعلى الجملة فقد استجمع أغاممنون كل كفارة يتصورها خصمه جديرة به. نقول: وأعظمها تزلفه إليه بعد ذلك الشموخ وتلك الألفة.
(٢٦) لقد أتى الشاعر حكمة باختيار أفراد هذا الوفد للمسير إلى آخيل. ففينكس أستاذه وهو أكثر الناس نفوذًا وحرمة لديه. وأياس أبسل القوم بعده ويجمعهما نسب باتصالهما إلى آياك. وأذيس داهيتهم. وهذيوس وأريباطس فَيجاهم المكرمان. فكأنه سير إليه الأبوة والبأس. والحكمة والدهاء. والحرمة والرعاية.
(٢٧) تلك سنَّة دينية كان لا بد منها قبل الشروع في الأعمال الخطيرة، وقد ذكرها هوميروس مرارًا ذكرًا إجماليًّا وفصَّل هنا تفصيلًا لم يفصله في غير موضع. ذلك أنهم بعد أن غسلوا أيديهم دارت الفتية السقاة عليهم بكئوس الراح فكانوا يسقونهم بعد أن يمزُّوا منها أي يشربوا نهلًا قليلًا، وتلك عادة شرقية لا نعلم مصدرها وإنما نعلم أن تحتها مغزيين: أحدهما أن الساقي إذا شرب من الكأس التي بيده أمن المسقي على نفسه من سمٍّ يُدَسُّ فيها. ولا يزال سقاة العجم وأواسط آسيا يُجرون هذا المجرى في إسقاء القهوة وغيرها. ولا شك أنها بقية عادة قديمة تأصَّلَت فكانت مصدر تلك السنة اليونانية. والثاني: وكنا نود أن نضرب عنه تأدبًا لولا وجوب ذكره إتمامًا للفائدة، وهو جنوح شارب الخمرة إلى التلذذ برشفها من كأس امتزجت بشيءٍ من رضاب الساقي والسقاة في بلاد المشرق من خيرة الغلمان ونخبة الحسان. وقد سلف (ن ٥) أن زفس رفع غنيميذ بن أطروس ملك طروادة إلى السماء فجعله ساقيًا لفرط جماله.
(٢٨) ذكرنا أن الوفد مؤلَّف من خمسة نفر، ثم قلنا الآن «رسولا القوم» وهنا محل خلاف بين المترجمين؛ لأن الضمير في سار في الأصل يحتمل أن يكون للمثنى والجمع، والأكثرون على أنه للمثنى؛ فالرسولان بهذا الاعتبار أوذيس وأياس وأما فينكس فإنما أُرْسِلَ عونًا لهما، والفيجان رفيقان لا بد منهما في كل رسالة.
(٢٩) محيط البرايا: لقب من ألقاب زفس.
(٣٠) قالت العرب: الغناء والغزف بآلات الطرب من أشرف الصناعات لأن صاحبها يتوصل بها إلى مجالسة الأمراء ومنادمة الملوك. وأما هوميروس فزادها شرفًا على ذلك بأن جعلها صناعة الملوك أنفسهم، وأشرف من ذلك أن جعلها للتغني بأعمال الأبطال وكبار الرجال، ولا مجلس أعظم هيبةً من مجلس بطل باسل وزعيم يتضرم لبُّه للجهاد ويقعده عند الكيد والعناد. فإن ثناه القعود عن منازلة الفرسان فلا يطربه ويخفف عناه إلا ترداد ذكراهم على هزج الألحان. ولا نديم أوفى وأكفى من رفيق كفطرقل ذي حمية وبأس يرضى بسراءِ صاحبه وضرائه فيتخذ بؤسه بؤسًا ونعيمه نعيمًا.
figure
آخيل يضرب على قيثاره وراءَه فطرقل وتجاهه جاريتان.
(٣١) الوضم: الخشبة يقطع عليها اللحم.
(٣٢) الملح الذكي في الأصل الملح العلي أو الإلهي أي المقدس، وصفه هوميروس بهذا الوصف لأنه يقي الطعام من الفساد؛ وعلى هذا قول السيد المسيح: أنتم ملح الأرض فإذا فسد الملح فبماذا يُمَلَّحُ. ومن هذا القبيل تسمية المصريين الملح بالمصلح.
(٣٣) هذه وليمة أولمتها ملوك لملوك، ولقد كاد يأنف بعض نقلة الإفرنج من ترجمتها زعمًا منهم بأن فيها غضًّا من شأن الضيف والمضيف، فهنالك الوفد يدخل على آخيل ولا حجاب لديه، فيقوم لهم ويصافحهم مصافحة الخلان ويجلسهم إليه ويولم لهم بيديه، وهنا صديقه فطرقل وحوذيه أفطوميذون يعاوناونه معاونة الأصدقاء دون معاونة الأتباع، فآخيل يقوم مقام النَدَل (خدام الأكل) وفطرقل مقام الطهاة (الطباخين) ولا غلام بينهم ولا عبد رقيق. تلك معيشة أولئك الملوك على سذاجتها ومع هذا فلم تأنف التواريخ من تدوين أعمالهم والشعراء من التغني ببسط حالهم. ولقد كانت تلك السذاجة في جاهلية كل أمة كما يتبين من التوراة ومن آثار العرب وحسبنا الرجوع بنظرنا إلى معلقة شيخ شعرائنا الكندي وهو لم يأنف على كونه من أبناء الملوك أن ينحر بيده ناقته بل افتخر في موضع آخر بقوله:
نمشُّ بأعراف الجياد أكفَّنا
إذا نحن قمنا عن شواء مهضبِ
(٣٤) لا عجب أن يكون أياس أول الداعين إلى الكلام وهو أحدث الوفد سنًّا وأعظمهم بأسًا وأحرهم دمًا، فطبيعيٌّ أن يُعالَ صبرًا قبل رفاقه. وأما دعاؤه فينكس قبل الجميع فلعلمه بما له من دالة التربية على آخيل. وأما مبادرة أوذيس إلى الخطاب قبل فينكس فدهاء منه لأن أوذيس كان رأس الوفد فكان يجدر به أن يكون أول المتكلمين مع ما عنده من حسن التصرف، واستبقى فينكس مُتَّكَأً يستند إليه إذا أخفق مسعاه.
(٣٥) النخب: الشربة من الخمر يشرب الرجل لصحة عشيره وليست كلمة «النخب» مذكورة بلفظها في الأصل ولكنها مُسْتَفَادَةٌ من سياق الحديث إذ يقول عوضًا عن «مرددًا بها نخب آخيل» «مستقبلًا بها آخيل».
(٣٦) بدا أوذيس خطابه لآخيل بالسلام والعتاب كما فعل أمية بن الصلت إذ قال مخاطبًا لسيف ذي يزن تُبَّع حمير:
سلامٌ أيها الملك اليماني
لقد غلب البعاد على التداني
(٣٧) كانوا يزينون مقدم سفائنهم بصور الآلهة فبقوله: «يقطع أطراف السفين» يشير إلى أنه يروم قطع تلك الصور وإحرازها ذخرًا ثمينًا يفتخر به ويعلقه في هياكل بلاده جريًا على عادتهم قربةً من الظافر لمعبوده.
(٣٨) خطاب أوذيس هذا هو أول حلقة من الخطب التي دارت بين آخيل ووفد الإغريق والتي يتمثل بها الأدباء فيتخذونها أنموذجًا لمناهج الخطابة. وحسبنا في هذا المقام إيراد مطالعة دلاموت عدو هوميروس. قال: لا خطب في الإلياذة أوقع وأدل على بلاغة هوميروس وعظمته من خطب هذا الوفد فإنها بصرف النظر عن كونها من لوازم المقام فإن فيها من حسن الوضع ودقة الانتظام ما يزيد المطالع رغبة في مطالعتها وارتياحًا إليها. يشرع أوذيس في الخطاب فيحيط بحكمته بمقتضيات الحال وترتاح الفكرة إلى حسن انتقاء براهينه وحججه. فيجيب آخيل بحرية تشف عن إباء عظيم فترتفع بالفكر إلى عواطف الأبطال. فيأتي فينكس برقته فيتأثر القلب لكلامه. وهنالك يختتم أياس الجلسة بإنفة تشف عن عظمةٍ وإباءٍ. فتنفض الجلسة والعقل متلهب بهذا التعاقب البديع. ولا ريب أن هذا الترتيب يدل على عظمة الشاعر وتسلطه على تحويل الفكرة كيفما يشاء بحسن تنسيق مادته. وإنني لعلى يقين أنه ليس في الإمكان أن يكون إنموذج لحسن التنسيق خيرًا من هذا. اهـ. قال پوپ بعد إيراد ما تقدم: لا شهادة أعظم من هذه الشهادة على مكانة هوميروس لأنها كما ترى صادرة من كاتب اشتهر بعدوانه له وتحامله عليه.
(٣٩) ألمع آخيل هنا إلى دهاء أوذيس الذي يُلْجِئُهُ إلى تقليب الكلام على أوجه شتى تَذَرُّعًا لنيل بغيته، فأراد آخيل أن يفهمه أنه من وجه غير غافل عن دهائه ومن وجه آخر يصرح مفصحًا عما يخالج فكرته ليس إلا. وهو كلام ينطبق كل الانطباق على صفة الفتى الباسل ربيب المجد والحرية. قال قيس بن رفاعة الأنصاري:
أنا النذير لكم مني مجاهرةً
كي لا أُلامَ على نَهْيٍ وإنذارِ
وقال ميمون بن مبارك لعمر بن عبد العزيز: قل لي في وجهي ما أكره.
(٤٠) قال عنترة:
حلمت فما عرفتم حق حلمي
ولا ذكرت عشيرتكم ودادي
ولعنترة كلام كثير بهذا المعنى كقوله:
ولاقيت العدى وحفظت قومًا
أضاعوني ولم يراعوا جنابي
وقوله:
أذكر قومي ظلمَهم لي وبغيَهم
وقلة إنصافي على القرب والبعدِ
بنيت لهم بالسيف مجدًا مُشَيَّدًا
فلما تناهى مجدُهم هدموا مجدي
(٤١) قال السندي:
ولن يستوي عند الملمات إن عرت
صبورٌ على لأوائها وجَزُوعُ
(٤٢) الحمارس: المقدام، هذا المعنى مع اختلاف قليل وارد كثيرًا في شعر العرب كقولهم:
وما إن أرى الدهر في صرفه
يغادر من شارخ أو يفَن
(٤٣) انتقد بعض الشُّرَّاحِ ضرب هذا المثل لما فيه من اللين والرقة والمقام مقام شدة وعنف وهو انتقاد غير سديد إذ لا شيءَ أقرب إلى تصور الحنِق المستشيط من سابق رأفة احتفظ بها على غير بارٍّ بذمامه ونابذ حقوق وفائه.
(٤٤) الدراهس: الشدائد.
(٤٥) لأنهم قبل بلوغ إليون عاصمة الطرواد كانوا عاثوا في أرضها ودمروا بلادها، يردد آخيل ذكرى بطشه ترديد عنترة بقوله:
طرقت ديار كندة وهي تدوِي
دَوِيَّ الرعد من ركضِ الجيادِ
وبَدَّدْتُ الفوارسَ في رُباها
بطعن مثل أفواه المزادِ
وخثعمُ قد صبحناها صباحًا
بكورًا قبلما نادى المنادي
غَدَوْا لما رَأَوْا من حدِّ سيفي
نذير الموت في الأرواح حادِ
وعدنا بالنِّهاب وبالسبايا
وبالأسرى تكبَّلُ بالصفادِ
(٤٦) كانت العادة عند اليونان كما كانت عند العرب أن يتولى زعيم القوم توزيع الغنائم، وغيظ آخيل هنا ووجده أشبه شيءٍ بغيظ العباس بن مرداس إلا أنه أشد وأقوى. ذلك أنه لما وزع نبي المسلمين غنائم حنين واستقل العباس سهمه أنشد:
كانت نهابًا تلافيتها
بِكَرِّي على المُهر في الأجرعِ
وإيقاظيَ القوم أن يرقدوا
إذا هجع الناس لم أهجعِ
فأصبح نهبي ونهب العبيد
بين عيينة والأقرعِ
وقد كنت في الحرب ذا تدروءٍ
فلم أُعْطَ شيئًا ولم أُمْنَعِ
وما كان حصن ولا حابسٌ
يفوقان مرداس في المجمعِ
وما كنت دون امرئٍ منهما
ومن تضعِ اليوم لا يُرْفَعِ
قال صاحب الأغاني: وقال رسول الله : اقطعوا عني لسانه. وأمر بأن يُعْطَى من النساء والنعم ما يرضيه ليمسك فأُعْطِيَ.
(٤٧) دعا آخيل بريسا السبية زوجته لأنه كان مصممًا على اتخاذها زوجة لا لأنها كانت زوجته فعلًا.
(٤٨) القوامس: جمع قومس وهو الأمير، وفي كتب اللغة: القومس الأمير والقُمَّس الرجل الشريف. ولم تنبه أئمة اللغة على هاتين اللفظتين ولا أقرب من أن يكونا من (Comes) اللاتينية بمعنى الرفيق، ومنها كلمة كُونْت باللغات الإفرنجية للقب الشرف المعروف إذ كان أصحاب هذا اللقب مصاحبين للملوك وندماءَ لهم.
(٤٩) العطامس: جمع عطموس وهي المرأة الجميلة، هنا دليل آخر على احترامهم للسبايا في بعض الأحيان كما أشرنا في النشيد الأول فإن آخيل لم يأنف أن جعلها بالنسبة إليه كهيلانة بالنسبة إلى منيلاوس.
(٥٠) يتهكم على أوذيس وسائر الملوك، ويتكلم بأنفة الظافر بخصمه الذي يعلم أنه لا يسد مسدَّه أحد.
(٥١) الراعس: المرتعش.
(٥٢) في ذلك إشارة إلى واقعة جرت بين آخيل وهكطور قبل حوادث الإلياذة.
(٥٣) أي إنه عزم أن يقلع إلى بلاده فجر ليلته.
(٥٤) جسن قلب العباب: أي شققنه، من غريب وصف السفن المواخر في البحر قول طرفة:
يشق عباب البحر حيزومها بها
كما قسم الترب المغايل باليدِ
وحيزوم السفينة صدرها. والمقابلة ضربٌ من المقامرة للعرب كانوا فيه يجمعون التراب ويدفنون فيه شيئًا ويعمد أحدهم وهو المغايل إلى شقه شطرين ثم يسأل عن الدفين في أيهما، فإذا أصاب المسئول قمر: أي ربح. شبه شق السفن الماء بشق المغايل التراب المجموع بيده.
(٥٥) الأردمون النوتية.
(٥٦) الخلابس: الحديث الرقيق والكذب.
(٥٧) قد اختلف المفسرون في معنى كلمة (Χαρος) التي عرَّبناها «بشعرة» فمنهم من فسرها بهذا المعنى، ومنهم من فسرها بقاريٍّ نسبةً إلى طائفة القاريين الذين كانوا من سكنة بيوتيا وكانوا يوصفون كزنكانة هذه الأيام (وهم النوَر أو الغجر) بالخسة والبذاء لا يعاهدون ولا يواثقون، بل شأنهم شأن المرتزقة يؤجرون أنفسهم لموالاة المستأجر بالمال. وكلا المعنيين يصحُّ وضعًا للتعبير عن مرام آخيل. أما المعنى الأول فعندنا مثيله قول المتنبي:
أي محل أرتقي
أي عظيم أتَّقي
وكلما قد خلق اللـ
ـه وما لم يخلق
محتقر في همتي
كشعرة في مفرقي
وأما المعنى الثاني فكثير في كلام الشعراء من كل الملل إذ يحملهم التحامل على أفراد أمة أو عشيرة على رميها كلها بالسبة والاحتقار كقول موزون بن عُمير:
يا باغي اللؤم إن اللؤم محتدهُ
بنو قريظ إذا شابت نواصيها
تبلى عظام بني سكن إذا دفنت
تحت التراب ولا تبلى مخازيها
وقول الآخر:
لا تمدحنَّ بني سعد فإنهم
نفوك عنهم وبعض القول مسموعُ
لو انَّ قتلى تميم كلهم نشروا
فأثبتوك لقيل الأمر مصنوعُ
وأما بالنظر إلى الحقيقة التاريخية فقد قال لويريڤوست: إنه لا يمكن أن يكون مراد هوميروس المعنى الثاني لأن القاريين لم يتسفلوا إلى تلك المهانة إلا بعد زمن هوميروس، وقد ذهب بعض المفسرين إلى رفض المعنيين وفسروا تلك الكلمة بالموت فيكون المعنى: هو عندي مثل الحمام بغيضٌ إلخ.
(٥٨) الطوائس: الجميلة. وأرخومينا بلدة قديمة كانت في بيوتيا وعلى أطلالها الآن بلدة قلباكي.
(٥٩) يدلك هذا الكلام على معرفة هوميروس بأحوال مصر، فوصفه لثبس (طيبة أو طيوا) يقارب وصف هيرودوتس وغيره من المؤرخين.
(٦٠) الطوامس: البعيدة، فينوس اسم ذلفوس القديم. كان ذلك الهيكل يحوي من الرياش والذهب ما لا يحويه هيكل في العالم لتوارد النذور إليه من كل صقع ونادٍ فكانت التماثيل فيه من الذهب الصرف بقدر الإنسان والحيوان.
(٦١) الدلامس: الداهية، والمراد بها الموت. وقوله: خلال الأسنان كقول العرب: فاضت الروح من بين الشفتين، علمت مما مر أن آخيل هو الفتى المؤثر الموت على الحياة في طلب العلى والفخار، وهو إنما ينقلب هنا عن رأيه لا رغبةً في الحياة بل تشفيًا من عدوه وضنًّا عليه بنصرته.
(٦٢) هذا مما يعظم قدر آخيل في تصور القارئ؛ لأنه لم يأت الحرب كسائر الأبطال معللًا نفسه بالفوز والنجاة معًا، بل أقدم وهو على يقين أنه لا يخرج منها سالمًا.
(٦٣) الملايس: البطيء، إلى هنا انتهى كلام آخيل الفتى الغضوب ولو اجتمعت مهرة الرسامين على استخراج رسمه لم تمثل لنا بصورة أملأ من هذه الصورة. رأيناهُ يشرع في الحديث شروع المترفع الناشئ منشأ ذوي الحسب والنسب أَنُوفًا وَاجِدًا أول أمره وجدًا لا يشط به عن منهج الصواب، بل يتكلم بنوع من الإناءة والتروي رعايةً لأضيافه. فيذكرهم بما لقي من الإجحاف، ولا يكاد يذكر اسم أتريذ حتى يلهبه الغيظ فيندفق كالسيل المنهمر ويستطرق إلى التهكم على سائر الأقيال ثم إلى الوعيد والقول بالقفول إلى الأوطان حيث يعيش قرير العين والبال. وكأن ذلك بعيد على مخيلته صورة حرمانه من المجد الباذخ فيتضور ويتهور وينهال بالسباب على أغاممنون وينبذ بأنفة واحتقار هباته وأمواله. ثم كأنه يتنبه إذ ذاك إلى تهوره فيجهد النفس بالتظاهر بالراحة والسكون فيرجع ويشير مرة أخرى إلى ما يلقى في بلاده من السعة ورغد العيش، ولا يرى وسيلة أروى لغليله وأشفى لنفسه من الإعراض عن تزلف خصمه ردًّا لكيده في نحره، فيتهدد بسرعة الإياب وذلك على ما يعلم أشد عقاب لخصمه.
(٦٤) لم يكن يجدر بأحد غير فينكس أن يجيب آخيل بعد ما ظهر منه من التصلب.
(٦٥) قالوا: إنه لما أرسل فيلا ابنه آخيل إلى الحرب كان في الثانية عشرة من عمره فيكون إذا ذاك في الثانية والعشرين. وكلام هوميروس هنا يدل على أن أستاذه إنما كان فينكس. قال أفستاثيوس: ويتضح من ثَمَّ أن ما قيل من أن آخيل كان ربيب خيرون إنما كان من مخترعات الأعصُر التالية لزمن هوميروس.
قلت: وكيف يمكن أن يكون أقبل إلى طروادة وعمره لا يربو على الاثني عشر عامًا وله امرأة وولد.
(٦٦) ما أحسن ما قال تأبط شرًّا بهذا المعنى:
سبَّاق غايات مَجْدٍ في عشيرته
مرجِّع الصوت هدًّا بين إرفاقِ
حمال ألويةٍ شَهَّاد أنديةٍ
قوال محكمةٍ جوَّال آفاقِ
(٦٧) كان أرمين هذا ابن قرقافوس ملك الذولون في ثساليا وهو مؤسس مدينة أورمينيوم.
(٦٨) لقد ذهب بعضهم إلى أن المراد بزفس الجحيم إله الجحيم على الإطلاق فيكون إذ ذاك آذيس، وقيل: بل معناه الإله الأكبر لأن زفس كان رب الأرباب يمتد سلطانه إلى كل الأرجاء وإن كانت إقامته في السماء، وهذا ينطبق على معتقدهم بوحدة الخالق، وقد أضيف هنا إلى الجحيم لطباق المعنى. ولكن كون فُرُوسرفين امرأة آذيس يؤيد القول الأول.
(٦٩) لظى بركان أي النار لأن بركان (هيفست) هو إله النار واللفظة العربية مأخوذة من ﭭولكان وهو هيفست اللاتين.
(٧٠) اعترض بعض الشراح على هوميروس لإتيانه على هذا التعبير بزعمهم أن فيه بعض الغلظة التي يأنفها التصور. ولا أراها غلظة في الكلام عن طفل ولا سيما في عصر جاهلي، بل هي ذكرى وخير ذكرى لربيب شَبَّ بين يدي أستاذه وأنساه عنفوان الصبا مرارة طفوليته على ذلك الأستاذ.
(٧١) جاء في القرآن: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وفي التوراة ترغيب كثير في كثرة النسل إذ وعد الله إبراهيم أن يجعل ذريته بعدد نجوم السماء ورمل البحر. وفي الحديث: «لا رهبانية في الإسلام» إشفاقًا من ضياع النسل مع ورود مدح الرهبان في القرآن. وكان العرب في الإسلام يعتزون بأبنائهم وينذرون النذور استزادة لذراريهم كما نذر عبد المطلب لئن ولد له عشرة ولد ليذبحنَّ أحدهم قربانًا. ولا يزال هذا دأب الناس في كل ملة حتى يومنا هذا. ولا يُستثنى إلا ما أُخذ من وجه الزهد والورع كالتبتل في بعض الأديان. أما الرغبة عن الضنو من طريق الفلسفة فقلَّ من يقول فيه قول أبي العلاء:
هذا جناهُ أبي عليَّ
وما جنيت على أحدْ
(٧٢) قال بعضهم:
ولا أحمل الحقد القديم عليهم
وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا
ومن هذا القبيل قول مالك بن أسماء:
نخلت لهُ نفسي النصيحة إنه
عند الشدائد تذهب الأحقادُ
وقول عبدة بن الطبيب:
ودعوا الضغينة لا تكن من شأنكم
إن الضغائن للقرابة تُوضَعُ
(٧٣) لم يجسم هوميروس تجسيمًا أبدع من هذا التجسيم، فإنه جعل الصلوات بنات زفس بالنفس. قال فينكس ذلك تهويلًا على آخيل لإبائه إجابة ملتمسهم فذكره أنهن بنات الرب القدير، ووضعهنَّ بالمقابلة مع الزلة إشارةً إلى أنهن يتشفعن في الخطأ ويلتمسن الصفح. وقال: إنهنَّ عُرجٌ وجعد الوجوه وحُسْرٌ إشارةً إلى ضعفن وحزنهن وبطئهن. وهن مع ذلك يتعقبن أُخْتَهُنَّ الزلة أو الخطيئة. (وقد فسرها بعضهم بالإهانة أو الشقاء) ليدفعن ضرَّها ويَتَلَافَيْنَ شرها وهي كما ترى في البيت التالي بخلافهن قوية الجسم خفيفة البدن ولا يغنيها ذلك عنهن شيئًا لأن زفس من ورائهن.
(٧٤) لو رأينا في استعطاف آخيل بالهدايا مجرد الإطماع بالمال لكان في ذلك ضعة من قدره على أنها لما كانت شعارًا للفخر وذل الملتمس كانت مرقاة لإعلاء شأنه وإبلاغه منال الرفعة قبل منال الثروة.
قال المعري:
إن الهدايا كرامات لصاحبها
إن كنَّ لسن لإسرافٍ وأطماعِ
(٧٥) قال لبيد:
وفي غابر الأيام ما يَعِظُ الفتى
ولا خير في من لم تَعِظْهُ تجاربهْ
(٧٦) كانت باكورة الزرع في زمن هوميروس تُقَدَّمُ إلى أرطميس ثم صارت بعد ذلك إلى ذيونا.
(٧٧) يسير الأولى: بمعنى السهل، والثانية: بمعنى القليل.
(٧٨) أشار الشاعر بهذه الأبيات الستة إلى خرافة من خرافاتهم مؤداها أن ألكيونة ابنة أيولس علق بها أفلون فسباها، ولما توفي بعلها ألقت بنفسها إلى البحر فمسختها ثيتيس طائرًا. ثم إن أفلون سبى بعد ذلك مرفيسا والدة ألثيا زوجة مليغر، فثارت الحمية برأس إيذاس بعل مرفيسا فهب لقتال أفلون وانتهى الأمر بأن خُيِّرَتْ بين أفلون وإيذاس فاختارت زوجها على عشيقها وأعيدت إليه، فلقبت ابنتها كليوبطرا بلقب ألكيونة لتشابه الحادثتين وكان الأولى أن تلقب به نفسها.
ذكر رواة العرب حادثة سبي كانت العاقبة فيها عكس ما كان من أمر ألكيونة. ذلك أن النعمان سبى ذراري بني تميم لامتناعهم عن دفع الإتاوة فلما دفعوها لأخيه الريان خيَّر السبايا بين رجالهن وسُبَاتِهِنَّ، وكانت بينهن بنت قيس بن عاصم فاختارت سابيها على زوجها. قال الميداني: فنذر أبوها ليدفننَّ كل بنت تولد له فازداد وأد البنات بعد أن كاد يتلاشى من بين العرب قبل الإسلام.
(٧٩) يتصلى يتسعر ويتحرق.
(٨٠) يشير هذا البيت إلى أن أَلْثِيَا والدة مليغر كانت من قبيلة أعداء زوجها، وكانت لها يد في اشتداد الفتنة بين قبيلتين متناسبتين. ولنا في تاريخ اليونان والرومان والعرب أمثلة شتى على تناسب القبائل المتعادية والمتصافية التي تصبح متعادية بعد ذلك التناسب. فإن والدة طفقير أخي أياس كانت أخت فريام ملك طروادة، وقراء رواية هوراس لراسين الفرنسي يعلمون أن أخت هوراس الروماني كانت خطيبة كورياس الألبي، وجليلة بنت مرة وأخت جساس كانت امرأة كليب الذي قتله جساس فأثار حرب البسوس الشهيرة في كتب العرب.
(٨١) أرينيس ومعناها المنتقمة: إلهة تتولى تعذيب الخطاة. وأريبا ومعناه الظلمات: يفيد على إطلاقه الجحيم وإنما هو نهر فيها. وكان أخا الليل (والليل إلهة أنثى) فتزوجها فولدت له النهار ثم كان في جملة العصاة على زفس فمسخه نهرًا وأهبطه إلى الجحيم.
(٨٢) لا يزال شاعرنا كلما سنحت سانحة يبوح بميله إلى بنات الجنس الضعيف وإعظامه قدر الزوجية. فقد أرانا هنا رجلًا حانقًا متحدمًا غيظًا تألَّب عليه أبوه وأمه وذوو قرباه وخلانه واستعطفوه بكل وسيلة فعادوا جميعًا خاسرين ولم يلتوِ ويَلِنْ إلا لالتماس زوجته. والوسيلة التي تَذَرَّعَ بها الشاعر لإجابة ملتمسها من أرقِّ ما تتصوره العقول وأبعد ما تتخيله المدارك، أبرزت له كل ذلك بكلام موجز مثلت له به حالة البلاد المأخوذة عنوةً فلم تُبق شيئًا يقال بعد قولها:
للمباني حرقًا وللقوم ذبحًا
والغواني والولد ذلًّا وأسرَا
قال الشاعر العربي:
للسبي ما نكحوا والقتل ما ولَدوا
والنهب ما جمعوا والنار ما زرعوا
(٨٣) الدراهس: الشدائد. أي لو جئت من تلقاء نفسك لما أصبت مغنمًا. أراد بذلك أن يستعجله للكفاح.
(٨٤) من كلام إبراهيم بن العباس:
إذا أنت لم تملك أخاك بقلبه
وخافتك آمالٌ به ومطالبُ
غدوت به مُرَّ المذاق وأَجْلَبَتْ
عليك به في النائباتِ العواقبُ
قد انتُقد على هوميروس أن أطال الكلام بلسان فينكس بما تجاوز حدود الاعتدال. وهو انتقاد في محله لو لم يكن الحديث في ساعة من الليل قد سكن فيها الناس عن الحرب، ولو لم يكن يصلح أن يتخذ فينكس ذلك الإسهاب وسيلة لإخماد غضب آخيل لما يعلمه من عُتُوِّهِ وتصلبه. ثم إنه ضرب له مثلا رجلًا ليس في التاريخ من تُشبه أخلاقه أخلاق آخيل نظيره وهو ميليغر الإيتولي. وهذه القصة وإن اعْتُرِضَ على إيرادِهَا في هذا الموضع فهي في حد نفسها قطعة تاريخية استنار بها كثيرون من الكتاب كسائر ما ورد في شعر هوميروس. ويرى أنصار صاحبنا ونحن في جملتهم أن له من وراء ما تقدم شافعًا عظيمًا يشفع له بهذا الخلل إن كان ثَمَّةَ خلل.
(٨٥) يقول آخيل قول ربيعة بن مقروم الضبي:
أخوك أخوك من تدنو وترجو
مودته وإن دُعي استجابا
إذا حاربت حارب من تُعَادِي
وزاد سلاحه منك اقترابًا
يؤاسي في كريهته ويدنو
إذا ما ضالع الحدثان نابَا
ومثله قول الآخر:
ولكن فتى الفتيان من راح أو غدا
لضر عدوٍّ أو لنفعِ صديق
(٨٦) قال أفستاثيوس: حثيما نظرت إلى كلام آخيل رأيت فيه تلك الطباع ممثلة تمثيلا. فإنه لما أجاب أوذيس أجابه بكلام فظ متهددًا بالقفول إلى الأوطان في فجر ليلته. على أنه لان بعض اللين لفينكس ثم بعد كلام أياس نراه عزم على التربص ولكن لا لنجدة الإغريق بل للذود عن حوض نفسه. وهكذا فقد أخذت سَوْرَةُ الغيظ تخمد خمودًا قليلًا ولولا ذلك لظهر بمظهر الوحوش دون الناس وقد أخذ الشاعر على نفسه أن يخفف من شدته بالتتابع على مقتضى المجرى الطبيعي. ولو رأيناه أذعن دفعة واحدة للاح لنا تناقض عظيم بين ذلك اللين وذلك الخلق العنيف ولتأثر المُطَالِعُ من سرعة انتقاله من الغيظ إلى اللين.
(٨٧) النواطس: الرسل.
(٨٨) القناعس: العظيم الخلق، من كلام محمد بن عبد الله الأزدي:
وحسبك من جهل وسوء صنيعةٍ
معاداة ذي القربي وإن قيل قاطعُ
ومثله قول كثير:
بصاحب لك ما داليته غلظت
منه النواحي وإن عاتبته جحدا
وقول الآخر:
إذا سُمْتُهُ وصل القرابة سَامَنِي
قطيعتها تلك السفاهة والظلمُ
وأحسن من كل ذلك قول إبراهيم بن العباس:
دعوتك من بلوى أَلَمَّتْ ضرورةً
فأوقدت من ضغن عليَّ سعيرها
وإني إذا أدعوك عند ملمة
كداعية عند القبور نصيرها
(٨٩) قال أفستاثيوس: إنه كان من عرفهم أن القاتل يُجلى عن بلاده سنة واحدة على أنه قد كان يتسنى له أن يسترضي أهالي المقتول بدية يدفعها إليهم فلا يُنفى من وطنه. تَذَرَّعَ بذلك أياس ليعنف آخيل على حقده لسبب هو دون القتل بكثير. وإن أياس بكلامه هذا القليل أفاد كثيرًا وكان أشد إلحاحًا على آخيل من سائر المتكلمين، كانت الدية فاشية عند العرب في الجاهلية وقد تَخَرَّصَ كُتَّابُهُمْ في أصلها تَخَرُّصَاتٍ كثيرة فقال بعضهم: إن أول من سنها عبد المطلب جد صاحب الشريعة الإسلامية لأنه نحر مئة من الإبل فداءً عن ابنه عبد الله. وقيل: بل أول من سن ذلك أبو يسار العدواني. وقيل: بل عامر بن الظرب. والصحيح أنها كانت فاشية بينهم قَبْلَ من ذُكِرَ بِأَزْمَانٍ. وكانت على أوضاع شتى، فتقل وتكثر على مقتضى الأحوال ونسبة القاتل إلى القتيل. قال صاحب «الأغاني»: إن الغطاريف من الأزد كانوا يأخذون للمقتول منهم ديتين ولا يعطون إلا دية واحدة (١٢: ٥٠) وربما أبى أهل المقتول الدية على الإطلاق كما أبى قوم كليب أخذ ديته فثارت على أثر ذلك حرب بكر وتغلب. ولما جاء الإسلام أقر الدية ولكنه وضع لها أصولًا يُجْرَى عليها وقواعد يُرجع إليها في كل حال من الأحوال.
(٩٠) قال الشاعر العربي:
نزيل القوم أعظمهم حقوقًا
وحق اللهِ في حق النزيل
(٩١) هذا آخر خطاب ألقاه آخيل على الوفد، فنراه بأوله أذعن إذعان الموافق لما رأى من صحة حجج أياس، ثم عاد فهاج غيظًا لتخيله ذكر أغاممنون شأن الجريح الذي يسكن ألمه حتى يمس بموضع الجرح. وهو مع ذلك في ما نرى أقرب للين منه قبلا إذ عزم على الإقامة في موضعه بعد إصراره على الرحيل وهي خطوة كبيرة للرضاء والارعواء كما لا يخفى.
(٩٢) الأشراع جمع شرَعة وهي السفينة.
(٩٣) لم يبلغ أوذيس أغاممنون إلا جواب آخيل الأول وهو عزمه على الرحيل، ولم يقل شيئًا عن جوابه الأخير الذي عول فيه على البقاء وهي حكمة من أوذيس؛ لأن آخيل إنما قال بعزمه على البقاء للذود عن حوض نفسه دون الإغريق؛ إذ لم يرم أن يهب لقتال هكطور إلا بعد أن يكون قد نكل بأغاممنون وجماعته فكان من حسن دهاء أوذيس ألَّا يجعل أغاممنون يُؤَمِّلُ بعون يأتيه من لدى آخيل ليشتد عزمه وعزم جماعته بأنفسهم.
(٩٤) قال أبو الأسود:
بُلِيتُ بصاحبٍ أن أدنُ شبرًا
يزدني في تباعده ذراعَا
أبت نفسي له إلا اتِّباعًا
وتأبى نفسه إلا امتناعَا
ومن قول طرفة في معلقته:
فما لي أراني وابن عميَ مالكًا
متى أدنُ منه ينأَ عني ويبعدِ
ومن لطيف كنايات ابن الرومي وقد شبه مخاطبهُ بالسهم:
توددتُ حتى لم أجد متودِّدَا
وأفنيت أقلامي عتابًا مرددَا
كأنيَ أستدني بك ابن حنيةٍ
إذا النزع أدناه من الصدر أبعدَا
(٩٥) هذا ذيوميذ الباسل والفتى المضطرم بنار الشبيبة والبأس يفصل الخطابَ ولم يكن يجدر بغيره أن يجاهر بهذا الاستغناء عن آخيل، وليست بأول مرة أثبت فيها قوله بفعله فأتى خطابه هذا خير ختام لهذا النشيد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤