السِّرُّ

رجع قسطنطين من بعض غزواته فدخل على ميلتزا فرآها مطرقةً واجمةً، فلم يُلق لها بالًا وخلع رداءه ثم جلس على كرسيه جلسة الراحة والسكون، وإنه لكذلك إذ طرق مسمعه صوت تلك القيثارة البديعة التي كان يسمعها من حينٍ إلى حينٍ تصدح في قصر أبيه، فطرب لها طربًا شديدًا، وافترَّ ثغره بعد عبوسه، ثم نظر إلى ميلتزا وهي جالسة تحت قدميه، فرآها مصفرَّةً مغبرة الوجه ذاهلة كأنَّ نكبةً من النكبات العظام قد نزلت بها، فعجب لأمرها وقال لها: ألا تطربين معي يا ميلتزا لهذه النغمات الشجية البديعة؟! فرفعت رأسها إليه وكأنَّ دمعةً لامعةً تترقرق في عينيها، وقالت له: لا يا مولاي! فدهش لقولها وقال: ولم؟ قالت: لأني لا أحبها! قال: ولم لا تحبينها؟ قالت: لأني لا أحب صاحبها، قال: وهل تعرفينه؟ أليس هو ذلك الرجل البائس المسكين الذي يختلف إلى الأميرة من حينٍ إلى حينٍ ليُسمعها أناشيد قومها وأغانيهم فتعود عليه ببعض نوالها؟

قالت: إنه ليس بسائلٍ يا سيدي ولا مسكين، بل هو الضابط العظيم إبراهيم بك، أحد قُوَّاد الجيش التركي، فانتفض قسطنطين مذعورًا واستوى في مكانه جالسًا وقال: ماذا تقولين؟ قالت: إني كنت مخدوعةً به قبل اليوم، حتى رأيته ليلة أمس واقفًا تحت شجرةٍ وارفةٍ من أشجار الحديقة يُصلِّي صلاة المسلمين مطرقًا خاشعًا مستقبلًا قبلتهم، فارتبتُ في أمره، ثم دنوت منه وأنعمت النظر في وجهه من خلال بعض الأغصان من حيث لا يشعر بمكاني، فعرفته وذكرت أنه ذلك البطل العظيم الذي كنت أراه في معسكر الجيش التركي لا يزال مرافقًا للقائد الكبير، يسير في ركابه حيث سار، ويتنقَّل معه في غدواته وروحاته، وإن غابت عني معرفته فلن تغيب عني معرفة تلك الشَّجَّة الهلالية الواضحة في جبينه، وذلك الخال الأسود المرتسم تحت عينه اليسرى، بل أعرفه من تلك النغمات الشجية التي يغنيها الآن.

وهنا توقفت عن الكلام واضطربت وكأن كلمةً حائرةً تختلج بين شفتيها، فعجب قسطنطين لأمرها وسألها ما بالها، فأطرقت هُنَيهةً ثم رفعت رأسها فإذا دمعةٌ تنحدر على خدِّها، واستمرت في حديثها تقول: نعم، إنني أعرفه من تلك النغمات التي كان يدعوني إلى الرقص عليها في خيمته في المعسكر وهو جالسٌ بين صحبه وخلَّانه من قواد الجيش ورؤسائه يغنِّيهم ويطربهم، فأرقص أمامهم رقص الطائر المذبوح وفؤادي يتمزَّق لوعةً وأسًى، لا أهِنُ ولا أفْترُ، ولا أستعفي ولا أعتذر؛ مخافة أن يرى سيدي الجندي ذلك مني فيعاقبني، فقد كان يُحاسبني على الضَّعف والعجز، والحياء والخجل، والتَّلوُّم والاحتشام، محاسبة القاضي المجرمين على الذنوب والآثام؛ فاعذرني يا سيدي إن بكيت لحظةً بين يديك، فإنني وإن كنتُ ولدت في مهد الشقاء، ونشأت في حجر البؤس والآلام، فقد كانت تلك الأيام التي قضيتها في ذلك المعسكر أو في بؤرة السقوط والعار أشقى أيامي وأعظمها شدَّةً وبؤسًا، لا أذكرها إلَّا بكيت لذكراها، وأسبلت ردائي على وجهي حياءً منها وخجلًا.

على أنني أحمد الله إليك، فقد بسطت إليَّ يد رحمتك وإحسانك، واستنقذتني من مخالب ذلك الشقاء أيأس ما كنت من الخلاص منه، أحسنَ الله إليك، وهوَّن عليك همومك وآلامك.

وكانت تتكلم وقسطنطين لاهٍ عنها بقصة ذلك الجاسوس، لا يكاد يشعر بشيءٍ مما حوله، ثم التفت إليها وقال لها: إذن هو جاسوسٌ متنكرٌ! قالت: ذلك ما أعتقدُه يا مولاي ولا أرتاب فيه. فظل يدور في الغرفة دورة الهائم المختبل لا يهدأ ولا يتريث، وظلَّ على ذلك ساعةً ثم انقض بغتةً على ردائه فاختطفه وخرج من الغرفة مسرعًا، فأدركته ميلتزا وتعلَّقت بأطراف ثوبه وقالت له: أين تريدُ يا مولاي؟ قال: أريد أن أقبض على ذلك الجاسوس المجرم وأرفع أمره إلى الأمير ليرى رأيه فيه، قالت: إن القيثارة قد انقطع صوتها، ولا بد أن يكون قد ذهب لسبيله؛ فدعه وشأنه، قال: لا بد لي من أن أكشف أمره على كلِّ حالٍ حتى لا يعود إلى هذا المكان مرة أخرى، قالت: أضرع إليك يا سيدي أن تملك نفسك وأن تهدأ لحظةً واحدة حتى أتمم لك بقية حديثي.

فجمد في مكانه وقال لها: ماذا عندك بعد ذلك؟ قالت: إن كنت تريد أن ترفع أمر الرجل إلى أبيك ليعرف حقيقته، فاعلم أنه يعرفه حق المعرفة، بل هو أعلم به مني ومنك! فثار ثائره وصرخ في وجهها قائلًا: ماذا تقولين أيتها الفتاة؟ وجرد سيفه من غمده وأهوى به عليها ليقتلها، فاستخذت له ومدَّت إليه عنقها وقالت: اضرب يا مولاي، فدمي حلالٌ لك، وإن شئت فاستمع مني كلمةً واحدة قبل أن تفعل، فإن شرفك وشرف بيتك رهنٌ بما أقول! فجمد السيف في يده وظل شاخصًا إليها ينتظر كلمتها، فقالت: نعم، قد تم الاتفاق بين أبيك وزوجته وذلك الجاسوس التركي على أن يخلي أبوك تخوم المملكة من حُراسها هذه الليلة؛ لتتمكن الجيوش التركية من اجتيازها، فإن فعل أصبح في الغد سيد البلقان ومليكها، قال: ومن أين لك علم ذلك؟ قالت: قد سمعت الحديث الذي دار بينهم في هذا الشأن، ورأيت ورقةً منشورةً بين أيديهم يقرءونها ويتداولونها، وما أحسبها إلا وثيقة العهد الذي تعاهدوا عليه، فإن كنت لا تزال في ريب من ذلك فدونك الغرفة المجاورة لغرفة الأميرة فادخلها برفقٍ وهدوء، وضع أذنك على خصاص الباب المغلق بينهما، كما صنعت أنا منذ ساعة، تسمع ما يتحدَّثون به، ولك حكمك بعد ذلك.

فشعر قسطنطين أن الأرض الفضاء تدور به، وأن الشمس قد لبست قناعَها الأسود فما يرى شُعاعًا من أشعتها، وأن فرائصه ترتعد وتصطك فما تكاد تحمله، فتراجع إلى جدارٍ قائم وراءه فأسند ظهره إليه حتى هدأ قليلًا، ثم مشى يتحامل على نفسه حتى دخل الغرفة التي وصفتها ميلتزا، ومشى إلى الباب الموصد بين الغرفتين ووقف بجانبه يتسمَّع فلم يسمع شيئًا، حتى ظن الغرفة خالية، ثم سمع صوت أبيه فانتبه وتجمَّع للإصغاء، فإذا هو يقول لزوجته بصوتٍ خافتٍ متهدج: هل سافر الرجل؟ قالت: نعم يا سيدي، وما أحسب إلا أنه تجاوز أطراف التخوم الساعة، فإن جواده أفرَهُ الجياد وأسرعها. وصمت ولم يقل شيئًا، فدنت منه وقالت له بنغمة حلوة ساحرة: ما هذا الاصفرار الذي يكسو وجهك يا ميشيل؟ وما هذه الكآبة السوداء التي تتدجَّى في عينيك؟ فهل أنت نادمٌ على ما كان؟ قال: لا، ولكنني أخشى الفشل.

قالت: لا أعرف للفشل بابًا يمكنه أن يدخل عليك منه، فأنت قائد الجيش وصاحب الأمر والنهي فيه، فإن كان كلُّ ما يعنيك من الأمر ألَّا تظهر يدك في هذا العمل فقم الساعة والبس ثياب أحد الحراس، واذهب إلى مكان الحارس الأول القائم على حراسة الرابية الأولى وارقبه حتى تأتي ساعة انصرافه واستبداله، فأظهر له كأنك الحارس الذي يخلفه في مكانه، واهتف له بكلمة السر التي بثثتها الليلة بين جنودك — وحراس المداولة كثيرون لا يكاد يعرف بعضهم بعضًا — فإذا انصرف لشأنه أخذت مكانه من حيث لا يعلم من أمرك شيئًا، حتى إذا رأيت الجيش التُّركيَّ مقبلًا في منتصف الليل، وعلمت أنه قد أشرف على التخوم وملك رأس الطريق إلى «فيدين»؛ عُدت أدراجك إلى القصر متنكرًا كما ذهبت، لم يشعر بك أحد في ذهابك أو إيابك، وكأننا قد فوجئنا بهذه النَّازلة مفاجأةً لا نملك معها للأمر دفعًا ولا ردًّا.

فطارت نفس قسطنطين شعاعًا عند سماع هذه الكلمات، وكاد يصرخُ صرخة عظمى يرتجُّ بها القصر وأرجاؤه، لولا أنه طمع في أن يسمع من أبيه كلمة شرفٍ وإباءٍ تهدم صرح تلك الخيانة الذي تبنيه يدُ زوجته، فأرهف أذنيه ليسمع جوابه، فسمعه يقول بنغمة الفارح المغتبط، بعد كلام كثيرٍ لم يفهمه: نعم، هذا هو الرأي السديد، ولقد أَمِنتُ الآن كُلَّ شيءٍ، فائتيني بلباس الحارس، فقد عزمت ولا مردَّ لعزمي. فتهافتتْ على عنقه وقبلته قبلةً طويلةً رنَّ صوتها في أرجاء الغرفة، ثم ذهبت لشأنها.

فما سمع قسطنطين هذه الكلمة حتى أظلمت عيناه، واكفهر وجهه، وتداركت ضربات قلبه، وحاول أن يصيح فخانه صوته، فسقط مغشيًّا عليه، ولكن بين ذراعي ميلتزا؛ لأنها كانت واقفةً وراءه ترصده من حيث لا يشعر بمكانها، حتى إذا هوى تلقته بين ذراعيها وقادته إلى غرفتها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤