العاصفة

١

كان يوسف الفخري في الثلاثين من عمره عندما ترك العالم، وما فيه وجاء ليعيش وحيدًا متزهدًا، صامتًا في تلك الصومعة المنفردة القائمة على كتف وادي قاديشا في شمال لبنان.

وقد اختلف سكان القرى المجاورة في أمره، فمنهم من قال: «هو ابن أسرة شريفة مُثرية، وقد أحب امرأة فخانت عهده فهجر الديار، وطلب الخَلْوَةَ توصلًا إلى السلوان» ومنهم من قال: «هو شاعر خيالي قد انصرف عن ضجة الاجتماع، ليدون أفكاره وينظم عواطفه»، ومنهم من قال: «هو متصوف متعبد قد اقتنع بالدين دون الدنيا» ومنهم من اكتفى بقوله «هو مجنون».

أما أنا فلم أكن من رأي هذا ولا ذاك؛ لعلمي أن في داخل الأرواح أسرارًا غامضة لا تكشفها الظنون، ولا يبوح بها التخمين، غير أني كنت أتمنى لقاء هذا الرجل الغريب، وأشتهي محادثته. وقد حاولت مرتين التقرب إليه، لأستطلع حقيقته، وأستفسر مقاصده، وأمانيه، فلم أظفر منه سوى بنظرات حادة، وبعض ألفاظ تدل على الجفاء، والبرودة والتَرَفُع.

ففي المرة الأولى، وقد لقيته سائرًا بقرب غابة الأرز، حييته بأحسن ما حضرني من الكلام فلم يرد التحية إلا بهز رأسه، ثم تحول عني مسرعًا، وفي المرة الثانية وجدته واقفًا في وسط كَرْمَةٍ صغيرة بقرب صومعة، فدنوت منه قائلًا: «قد سمعت بالأمس أن هذه الصومعة بناها ناسك سرياني في القرن الرابع عشر، فهل لك علم بذلك يا سيدي؟».

فأجاب بلهجة خشنة «لا أعلم من بنى هذه الصومعة، ولا أريد أن أعلم»، ثم أدار لي ظهره وزاده ساخرًا: «لماذا لا تسأل جدتك فهي أقدم عهدًا، وأكثر علمًا بتاريخ هذه الأودية؟»، فتركته مكسوفًا نادمًا على تطفلي.

وهكذا مر عامان، وحياة هذا الرجل المُكْتَنفة بالأسرار تراود خيالي، وتتمايل مع أفكاري، وأحلامي.

٢

ففي يوم من أيام الخريف، وقد كنت متجولًا بين تلك التلول، والمنحدرات المجاورة لمزرعة يوسف الفخري، فاجأتني العاصفة بأهوائها، وأمطارها، وأخذت تتلاعب بي مثلما يتلاعب البحر الهائج بمركب كسرت الأمواج دفته، ومزَّقت الريح شراعه، فتحولتُ نحو الصومعة قائلًا في نفسي: هذه فرصة موافقة لزيارة هذا المتنسك، وستكون العاصفة عذري، وأثوابي المبللة شفيعي.

بلغت الصومعة، وأنا في حالة يُرثى لها، ولم أطرق الباب حتى ظهر أمامي الرجل الذي طالما تشوقت إلى لقائه حاملًا بيده طائرًا مُهَشَّم الرأس، منبوش الريش وهو يختلج كأنه على آخر رمقٍ من الحياة، فقلت بعد أن حييته «اعذرني يا سيدي على مجيئي إليك في هذه الحالة، ولكن العاصفة شديدة وأنا بعيد عن المنازل».

فتفرس فيَّ عابسًا، وأجاب بصوت يساوره الاستنكاف: «الكهوف كثيرة في هذه النواحي، وقد كان بإمكانك الالتجاء إليها».

قال هذا وهو يلامس رأس الطائر بانعطافٍ لم أر مثله في حياتي، فعجبت لِمَرْأَيَّ الضدين: الرأفة، والخشونة في وقت واحد، وتحيرت في أمري، وكأنه قد علم بما يخالج ضميري، فنظر إليَّ نظرة استيضاح، واستعلام ثم قال: «إن العاصفة لا تأكل اللحوم الغامضة، فَلِمَ تخافها وتهرب منها؟».

فأجبته: «العاصفة لا تحب الحوامض، ولا الموالح، ولكنها تميل إلى الرطب البارد، ولا أشك بأنها ستجدني لقمة لذيذة إذا قبضت عليَّ ثانيةً».

فقال وقد انفرجت ملامحه قليلًا: «لو مضغتك العاصفة لقمةً، لحصلت على شرف رفيع لا تستحقه».

فأجبته: «نعم يا سيدي، ولقد جئت إليك هاربًا من العاصفة لكي لا أنال ذلك الشرف الذي لا أستحقه».

فحوَّل وجهه محاولًا إخفاء ابتسامة ضئيلة، ثم أشار نحو مقعد خشبي بقرب موقدٍ تتأجج فيه النار، وقال: «اجلس وجفف أثوابك».

فجلست بقرب النار شاكرًا، وجلس هو قبالتي على مقعد محفور في الصخر، وأخذ يغمس أطراف أصابعه بمزيج زيتي في طاسة فخارية، ويدهن بها جانح الطائر، ورأسه، وقال: «هذا الشحرور حملته الريح، فهبط على الصخور بين حي وميت».

فقلت: «والريح قد حملتني أيضًا إلى بابك يا سيدي، وأنا للآن لا أدري ما إذا كانت قد كسرت جانحي أو هشمت رأسي».

فنظر إلى وجهي بشيء من الاهتمام وقال: «حبذا لو كان للإنسان بعض أطباع الطيور. حبذا لو كسرت العواصف أجنحة البشر، وهَشَّمَتْ رؤوسهم، ولكن الإنسان مطبوع على الخوف والجبانة، فهو لا يرى العاصفة مستيقظةً حتى يختبئ في شقوق الأرض ومغاورها».

فقلت وقصدي متابعة الحديث: «نعم إن للطير شرفًا ليس للإنسان، فالإنسان يعيش في ظلال شرائع، وتقاليد ابتدعها لنفسه، أما الطيور فتحيا بسبب الناموس الكلي المطلق الذي يسير بالأرض حول الشمس».

فلمعت عيناه وانبسطت ملامحه كأنه وجد بي تلميذًا سريع الفهم ثم قال: «أحسنت، أحسنت، فإذا كنت تعتقد حقيقةً بما تقول، فاترك الناس وتقاليدهم الفاسدة وشرائعهم التافهة، وعش كالطيور في مكان بعيد خالٍ إلا من ناموس الأرض والسماء».

فقلت: «إني اعتقد بما أقول يا سيدي».

فرفع يده وقال بصوت يمازجه التعنت، والتصلب: «الاعتقاد شيء والعمل به شيء آخر، كثيرون هم الذين يتكلمون كالبحر، أما حياتهم فشبيهة بالمستنقعات، كثيرون هم الذين يرفعون رؤوسهم فوق قمم الجبال، أما نفوسهم فتبقى هاجعةً في ظلمة الكهوف».

قال هذا ولم يدع لي فرصة للكلام، بل قام من مكانه، ومدد الشحرور على جبة قديمة بقرب النافذة، ثم تناول رزمة من القضبان اليابسة، وألقاها في الموقدة قائلًا: «اخلع حذائك، وجفف قدميك، فالرطوبة أضر بالإنسان من كل شيء آخر، جفف أثوابك جيدًا ولا تكن خجولًا».

فاقتربت من النار، والبخار يتصاعد من أثوابي الرطبة، أما هو فوقف في باب الصومعة محدقًا بالفضاء الغضوب.

وبعد هنيهة سألته قائلًا: «هل جئت إلى هذه الصومعة منذ زمن بعيد؟».

فأجاب دون أن يلتفت نحوي: «جئت إلى هذه الصومعة عندما كانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة وروح الله يَرِفُّ على وجه المياه».

فسكتُ قائلًا في سري: «ما أغرب هذا الرجل، وما أصعب السبيل إلى حقيقته، ولكن لا بد من محادثته، ومعرفة خفايا روحه، وسوف أصبر حتى يتحول شموخه إلى اللين والدِّعَةِ».

٣

وغمر الليل تلك البِطاح بردائه الأسود، ونمت العاصفة، وغزرت الأمطار حتى خُيِّلَ لي أن الطوفان قد جاء ثانيةً ليبيد الحياة ويطهر الأرض من أدرانها، وكأن ثورة العناصر قد ولَدَّتْ في نفس يوسف الفخري تلك الطمأنينة التي تجيء في بعض الأحايين مظهرًا لرد الفعل، فتحول نفوره مني إلى الاستئناس بي، فقام وأشعل شمعتين، ثم وضع أمامي جرَّة طافحة بالخمر، وطبقًا عليه الخبز والزيتون والعسل وبعض الأثمار المجففة، ثم جلس قبالتي، وقال بلطف: «هذا كل ما عندي من الزاد فتفضل يا أخي وشاركني به».

تناولنا العشاء صامتين صاغين إلى ولولة الريح وبكاء الأمطار، غير أنني كنت أتبصر وجهه بين اللقمة والأخرى، مستفسرًا ملامحه عن غوامضه، سائلًا معانيه عن الميول، والمقاصد المستحكمة بوجدانه.

وبعد أن رفع المائدة تناول من جانب الموقد إبريقًا نحاسيًا، وصبَّ منه قهوة صافية زكية الرائحة في فناجين، ثم فتح علبة مفعمة بلفائف التبغ، وقال بهدوء «تفضل يا أخي».

فأخذت لفافة رافعًا بيدي فنجان القهوة، وأنا لا أصدق ما تراه عيني، فنظر إليَّ، وكأنه قد سمعني مفكرًا، فابتسم هازًا رأسه، ثم قال بعد أن أشعل لفافة، وشرب قليلًا من القهوة: أنت بالطبع تستغرب وجود الخمر، والتبغ، والقهوة في هذه الصومعة، وقد تستغرب وجود الطعام والفراش، وأنا لا ألومك؛ فأنت واحد من الكثيرين الذين يتوهمون أن البعد عن البشر يستوجب البعد عن الحياة من الملذات الطبيعية، والمسرات البسيطة.

فأجبته: «نعم يا سيدي لقد تعودنا الاعتقاد بأن من يتنحى عن العالم ليعبد الله يترك ورائه كل ما في العالم من الملذات، والمسرات؛ ليعيش وحده متنسكًا، متقشفًا، مستكفيًا بالماء والأعشاب».

فقال: «لقد كان بإمكاني عبادة الله وأنا بين خلقه؛ لأن العبادة لا تستلزم الوحدة والانفراد. وأنا لم أترك العالم لأجد الله؛ لأنني كنت أجده في بيت أبي، وفي كل مكان آخر، ولكنني هجرت الناس؛ لأن أخلاقي لا تنطبق على أخلاقهم، وأحلامي لا تتفق مع أحلامهم، تركت البشر؛ لأنني وجدت نفسي دولابًا يدور يمنة بين دواليب تدور يسارًا، تركت المدينة؛ لأنني وجدتها شجرة مسنة فاسدة، قوية هائلة عروقها في ظلمة الأرض، وأغصانها تتعالى إلى ما وراء الغيوم، أما أزاهرها فمطامع، وشرور، وجرائم، وأما أثمارها فويل، وشقاء، وهموم، ولقد حاول بعض المصلحين تطعيمها، وتغيير طبيعتها، فلم يفلحوا بل ماتوا قانطين، مضطهدين، مغلوبين على أمرهم».

واتكأ إذ ذاك إلى جانب الموقد، وكأنه قد وجد لذةً في تأثير كلامه عليَّ، فرفع صوته أكثر من ذي قبل، وزاد قائلًا: لا، لم أطلب الوحدة للصلاة، والتنسك؛ لأن الصلاة، وهي أغنية القلب، تبلغ آذان الله وإن تصاعدت ممزوجةً بصياح ألوف الألوف، وأما التنسك، وهو قهر الجسد وإماتة رغائبه، فمسألة لا مكان لها في ديني؛ لأن الله بنى الأجسام هياكل للأرواح، وعلينا أن نحافظ على هذه الهياكل؛ لتبقى قوية نظيفة لائقة بالألوهية التي تحل فيها، لا يا أخي لم أطلب الوحدة للصلاة، والتقشف؛ بل طلبتها هاربًا من الناس، وشرائعهم، وتعاليمهم، وتقاليدهم، وأفكارهم وضجتهم، وعويلهم. طلبت الوحدة؛ لكي لا أرى أوجه الرجال الذين يبيعون نفوسهم ليشتروا بأثمانها ما كان دون نفوسهم قدرًا وشرفًا. طلبت الانفراد؛ لكي لا ألتقي بالنساء اللواتي يسرن ممدودات الأعناق، غامزات العيون على ثغورهن ألف ابتسامة، وفي أعماق قلوبهن غرض واحد.

طلبت الانفراد لكي لا أجالس ذوي «النصف معرفة» الذين يبصرون في المنام خيال العلم فيتخيلون أنهم أصبحوا من المدارك بمقام النقطة من الدائرة، ويرون في اليقظة أحد أشباح الحقيقة فيتوهمون أنهم قد امتلكوا جوهرها الكامل المطلق. طلبت الخلوة؛ لأنني مللت مجاملة الخشن الذي يظن اللطف ضربات من الضعف، والتساهل نوعًا من الجبانة، والترفع شكلًا من الكبرياء. طلبت الخلوة؛ لأن نفسي تعبت من معاشرة المتمولين الذين يظنون أن الشموس، والأقمار، والكواكب لا تطلع إلا من خزائنهم، ولا تغيب إلا في جيوبهم، ومن الساسة الذين يتلاعبون بأماني الأمم، وهم يذرون في عيونها الغبار الذهبي، يملئون آذانهم برنين الألفاظ، ومن الكهان الذين يعظون الناس بما لا يتعظون به، ويطلبون منهم ما لا يطلبونه من نفوسهم. طلبت الوحدة، والانفراد؛ لأنني لم أحصل على شيء من يد بشري؛ إلا بعد أن دفعت ثمنه من قلبي. طلبت الوحدة، والانفراد؛ لأنني سئمت ذلك البناء العظيم الهائل المدعو حضارة، ذلك البناء الدقيق الصنع والهندسة، القائم فوق رابية من الجماجم البشرية. طلبت الوحدة؛ لأن في الوحدة حياة للروح، والفكر، والقلب، والجسد. طلبت البرية الخالية؛ لأن فيها نور الشمس، ورائحة الأزهار، وأنغام السواقي. طلبت الجبال؛ لأن فيها يقظة الربيع، وأشواق الصيف، وأغاني الخريف، وعزم الشتاء. جئت إلى هذه الصومعة المنفردة؛ لأنني أريد معرفة أسرار الأرض، والدنو من عرش الله».

وسكت متنفسًا الصُّعَدَاء كأنه ألقى حملًا ثقيلًا عن عاتقه، وقد تلمعت عيناه بأشعةٍ غريبة سحرية.

وظهرت على وجهه أمارات الأَنَفَةِ، والإرادة، والقوة.

ومرت بضع دقائق وأنا أنظر إليه مسرورًا بظهور ما كان محجوبًا عني، ثم خاطبته قائلًا: «أنت مصيب في كل ما قلته، ولكن ألا ترى يا سيدي أن بتشخيصك أمراض الاجتماع وأوصابه قد أَبَنْتَ لي أنك أحد الأطباء الماهرين، وأنه لا يجدر بالطبيب الإعراض عن العليل قبل أن يشفى أو يموت؟ إن العالم بحاجة ماسة إلى أمثالك، وليس من العدل أن تعتزل عن الناس، وأنت قادر على نفعهم».

فحدق بي هنيهة، ثم قال بلهجة مِلْئُوهَا القنوط والمرارة: «منذ البدء والأطباء يحاولون إنقاذ العليل من علته، فمنهم من جاء بالمباضع، ومنهم من جاء بالأدوية، والمساحيق، ولكنهم ماتوا جميعًا بدون رجاء ولا أمل، ويا ليت عليل الدهر يكتفي بملازمة مضجعه القذر، ومؤانسة قروحه المزمنة، ولكنه يمد يده من بين اللِّحَفِ، ويقبض على عنق كل من يزوره ممرضًا ويخنقه، والأمر الذي يغيظني ويحول الدم في عروقي إلى نار محرقة، هو أن ذلك العليل الخبيث يقتل الطبيب، ثم يعود ويغمض عينيه قائلًا لنفسه: «لقد كان بالحقيقة طبيبًا عظيمًا» … لا يا أخي، ليس بين الناس من يستطيع أن ينفع الناس، فالحارث وإن كان حكيمًا ماهرًا لا يقدر على استنبات حقله في أيام الشتاء.

فأجبته قائلًا: «قد يمر شتاء العالم يا سيدي، ويجيء بعده ربيع بهي جميل، فتظهر الأزهار في الحقول، وتترنم الجداول في الأودية».

فَقَطَّبَ ما بين عينيه متنهدًا، وبصوتٍ تعانقه الكآبة قال: «ليت شعري هل قسم الله حياة الإنسان — وهي الدهر بكامله — إلى فصول تشابه فصول السنة بمصيرها، وتتابعها؟ هل يظهر على سطح الأرض بعد ألف ألف عام طائفة من البشر تُحَيِّى بالروح والحق، هل يأتي زمن يتمجد فيه الإنسان، فيجلس عن يمين الحياة فَرِحًا بنور النهار، وطمأنينة الليل؟ هل يتم ذلك يا ترى، هل يتم بعد أن تشبع الأرض من لحوم البشر، وترتوي من دمائهم؟

وانتصب إذ ذاك واقفًا رافعًا يمينه نحو العلاء، كأنه يشير إلى عالم غير هذا العالم: «تلك أحلام بعيدة، وليست هذه الصومعة منزلًا للأحلام؛ لأن ما أعلمه يقينًا يشغل كل فسحة وكل قَرْنَةٍ فيها، بل يشغل كل مكان في هذه الأودية وهذه الجبال، أما ما أعلمه يقينًا فهو هذا، أنا كائن موجود، وفي أعماق وجودي جوع وعطش، ولي الحق أن أتناول خبز الحياة وخمرها من الآنية التي أصنعها بيدي. من أجل ذلك تركت موائد الناس، وولائمهم، وجئت هذا المكان، وسأبقى فيه حتى النهاية».

وأخذ يمشي ذهابًا، وإيابًا في وسط تلك الغرفة، وأنا أتأمله، وأفكر بكلامه، وبالعوامل والبواعث التي صورت له الجامعة البشرية بخطوط عوجاء، وألوان قاتمة، ثم استوقفته قائلًا: «إني احترم أفكارك، ومقاصدك يا سيدي، واحترم وحدتك، وانفرادك غير أنني أعلم، والعلم مجلبة الأسف، أن هذه الأمة التعسة قد فقدت بتنحيك، وابتعادك رجلًا، موهوبًا، قادرًا على خدمتها وإيقاظها».

فأجاب هازًّا رأسه: «ليست هذه الأمة إلا كالأمم كافة، فالناس من جِبِلَةٍ واحدة، وهم لا يختلفون بعضهم عن بعض إلا في الظواهر، والمظاهر الخارجية التي لا يُعْتد بها، فتعاسة الأمم الشرقية هي تعاسة الأرض بكاملها، وليس ما تحسبه رقيًا في الغرب سوى شبح آخر من أشباح الغرور الفارغ، فالرياء يظل رياءً وإن قَلَّم أظافره، والغش يبقى غشًا، وإن لانت ملامسه، والكذب لا يصير صدقًا إذا لبس الحرير، وسكن القصور، والخداع لا يتحول إلى أمانة إذا ركب القطار، أو اعتلى المنطاد، والطمع لا ينقلب قناعة إذا قاس المسافات، أو وزن العناصر، والجرائم لا تصبح فضائل وإن سارت بين المعامل والمعاهد، أما العبودية، العبودية للحياة، العبودية للماضي، العبودية للتعاليم، والعوائد، والأزياء، العبودية للأموات؛ فستبقى عبودية، وإن طَلَتْ وجهها، وغيرت ملابسها، العبودية تظل عبودية حتى، وإن دعت نفسها حرية، لا يا أخي ليس الغربي أرقى من الشرقي، ولا الشرقي أحط من الغربي، وما الفرق بينهما إلا كالفرق الكائن بين الذئب والضبع، ولقد نظرت فرأيت مظاهر الاجتماع المتباينة ناموسًا أوليًا عادلًا يفرق التعاسة، والعماوة، والجهالة على السواء، فلا يميز شعبًا على شعب، ولا يظلم طائفةً على طائفة.

فقلت وقد بلغ بي الاستغراب حد الالتباس: «إذًا فالمدنية باطلة، وكل ما فيها باطل».

فأجاب متهيجًا: «نعم باطلة هي المدنية، وباطل كل شيء فيها، فما الاختراعات والاكتشافات سوى ألاعيب يتسلى بها العقل وهو في حالة الملل والتضجر، وما تقصير المسافات وتمهيد الجبال والأودية والتغلب على البحار والفضاء غير أثمار غشاشة مملوئةً بالدُخَاِن لا تُرضي العين ولا تغذي القلب ولا ترفع النفس، أما تلك الألغاز والأحاجي التي يدعونها بالمعارف والفنون فهي قيود وسلاسل ذهبية يجرها الإنسان مبتهجًا بلمعانها ورنين حلقاتها، بل هي أقفاص ابتدأ الإنسان بتطويق أعمدتها وأسلاكها منذ القدم، غير عالم بأنه لا ينتهي من صنعها إلا ويجد نفسه أسيرًا مسجونًا في داخلها، نعم، باطلة هي أعمال الإنسان، وباطلة هي تلك المقاصد، والمرامي والمنازع والأماني، وباطل كل شيء على الأرض، وليس بين أباطيل الحياة سوى أمر واحد خليق بحب النفس وشوقها، وَهُيَامِهَا، ليس هناك غير شيء واحد».

فقلت: «وما ذلك يا سيدي؟».

فوقف دقيقة ساكتًا، ثم أغمض أجفانه، واضعًا يديه على صدره، وقد أشرق وجهه، وانبسطت ملامحه، وبصوت عذب مرتعش قال: «هي يقظة في النفس، هي يقظة في عمق أعماق النفس، هي فكرة تفاجئ وجدان الإنسان على حين غفلة، وتفتح بصيرته، فيرى الحياة مُكْتَنَفَةً بالأنغام، محاطةً بالهالات، منتصبةً كبرج من النور بين الأرض واللانهاية، هي شعلة من شعلات ضمير الوجود تتأجج فجأة في داخل الروح، فتحرق ما يحيط بها من الهشيم، وتصعد سابحةً، مرفرفة في الفضاء الوسيع، هي عاطفة تهبط على قلب الفرد فيقف مستغربًا مستهجنًا كل ما يخالفها، كارهًا كل شيء لا يجاريها، متمردًا على الذين لا يفهمون أسرارها، هي يد خفية قد أزالت الغشاء عن عيني وأنا في وسط الاجتماع بين أهلي وأصحابي ومواطني، فوقفت منذهلًا مدهوشًا قائلًا في نفسي: ما هذه الوجوه، وما شأن هؤلاء الناظرين إليَّ، وكيف عرفتهم، وأين لقيتهم، ولماذا أقيم بينهم، بل لماذا أجالسهم وأحادثهم؟ هل أنا غريب بينهم، أم هم الغرباء في ديار بنتها الحياة لي وأسلمتني مفاتيحها …؟».

وسكتْ فجأةً كأن الذكرى رسمت على حافظته صورًا وأشباحًا لا يريد إظهارها، ثم بسط ذراعيه وقال همسًا: «هذا ما حلَّ بي منذ أربع سنوات، فتركت العالم، وجئت هذه البرية الخالية لأعيش في اليقظة، متمتعًا بالفكر والعاطفة والسكينة».

ومشى إذ ذاك نحو باب الصومعة ناظرًا إلى أعماق الليل، ثم هتف كأنه يخاطب العاصفة: «هي يقظة في أعماق النفس، فمن يعرفها لا يستطيع إظهارها بالكلام، ومن لم يعرفها لا ولن يدرك أسرارها».

٤

ومرت ساعة طويلة ممنطقة بهمس الفكر ونداء العاصفة، ويوسف الفخري يمشي تارة في وسط تلك الحجرة، ويقف طورًا في بابها محدقًا بالفضاء العابس، أما أنا فبقيت صامتًا شاعرًا بتموجات روحه، مستظهرًا أقواله، مفكرًا بحياته وما وراء حياته من لذة الوحدة وآلامها، وعند انقضاء الهزيع الثاني من الليل اقترب مني، ونظر طويلًا إلى وجهي كأنه يريد أن يحفظ في ذاكرته رسم الرجل الذي باح له بسر وحدته وانفراده، ثم قال ببطء: «أنا ذاهب الآن للتجول في العاصفة، هي عادة أتمتع بلذتها في الخريف، وفي الشتاء … هناك إبريق القهوة، واللفائف، وإن طلبت نفسك الخمر تجدها في الجرة، وإذا شئت النوم تجد اللُّحَفَ، والمساند في تلك القَرْنَةِ».

قال هذا والتفَّ بجبة سوداء كثيفة، ثم زاد مبتسمًا: «أرجوك أن تُوصِدَ باب الصومعة عندما تذهب في الصباح، لأنني سأصرف الغد في غابة الأَرْزِ».

ثم سار نحو الباب، وتناول من جانبه عكازًا طويلًا، وقال: «إذا فاجأتك العاصفة ثانية وأنت في هذه النواحي، فلا تتأخر عن الالتجاء إلى الصومعة هذه، ولكنني أرجو أن تُعَلِّمَ نفسك حب العواصف لا الخوف منها … مساء الخير يا أخي».

وخرج إلى الليل مسرعًا.

ولما وقفت في باب الصومعة لأرى وجهته كان الظلام قد أخفاه، ولكنني بقيت بضع دقائق أسمع وقع قدميه على حصباء الوادي.

٥

جاء الصباح وقد مرت العاصفة، وانقشعت الغيوم، وظهرت تلك الصخور، والغابات مُتَشِحَةً بنور الشمس، فتركت الصومعة بعد أن أقفلت بابها، وفي نفسي شيء من تلك اليقظة المعنوية التي تكلم عنها يوسف الفخري.

ولكنني لم أبلغ منازل الناس، وأرى حركاتهم، وأسمع أصواتهم حتى وقفت قائلًا في سري: «نعم إن اليقظة الروحية هي أخلق شيء بالإنسان، بل هي الغرض من الوجود، ولكن أليست المدنية بما فيها من التلبس والإشكال من دواعي اليقظة الروحية؟ وكيف يا ترى نستطيع إنكار أمر موجود، ونفس وجوده على إثبات صلاحيته، قد تكون المدنية الحاضرة عَرَضًا زائلًا، ولكن الناموس الأبدي قد جعل الأعراض سُلَّمًا تنتهي درجاته بالجوهر المطلق».

ولم اجتمع ثانية بيوسف الفخري؛ لأن الحياة أبعدتني عن شمال لبنان في أواخر ذلك الخريف، فجئت منفيًا إلى بلاد قصية عواصفها داجنة، أما التنسك فيها فضرب من الجنون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤