توءما آل فانشر

طريق كينج ستريت هو طريقٌ سريع، ينعطف بمحاذاة قمة المنحدر الصخري الرائع الجمال الكائن في الركن الجنوبي الشرقي من مقاطعة ويستتشستر؛ إذ ينحرف ويتلوَّى مع كفاف الأرض ويسمح، في هذه الانعطافات المفاجئة من اليمين إلى اليسار، برؤية مناظر خلابة للمياه البعيدة الواقعة خلف تلال لونج آيلاند الزرقاء الراسخة والضبابية. وهو طريقٌ فخمٌ فسيح؛ إذ كان الرجال، في أيام المستعمرات التي أُنشئ فيها هذا الطريق، أسخياء بأراضيهم. وتنتصب على جانبيه، كالحراس، أشجارُ الدردار السامقة المتهدِّلة الأغصان وتتناثر بينها أشجار البلوط الملأى بالنتوءات. ولا يكتفي الطريق بتحقيق الغرض الأصلي منه؛ وسيلةً للعبور من وإلى الميناء في الجنوب والوادي الخصيب الرومانسي إلى الشمال، ولكن يُعتمَد عليه أيضًا في بعض الأماكن كحد؛ بحيث إنه إذا ركب أحدهم من وايت بلينز إلى البحر وقابل آخر يسير شَمالًا، فصار على أحدهما أن ينعطف يمينًا، وعلى الآخر أن ينعطف يسارًا تيسيرًا لمرورهما، فإن أحدهما سيكون عند الطرف القصِيِّ للحد الشرقي لولاية نيويورك، وسيكون الثاني عند أقصى الحافة الغربية لولاية كونيتيكت. وفي نقطةٍ ما، على بُعد نحو ستة أميال من البحر، ينعطف الطريق انعطافةً هائلة من الشرق إلى الغرب، كاشفًا منظرًا بانوراميًّا للبحر البعيد شرقًا وصولًا إلى الجُروف التي تطوق خليج هنتينجتون، وغربًا إلى أن تبدو المياه وكأنها قد اختفت فجأةً بفعل حصن سكايلر الموحش، في حين يضفي مشهد بعيد لصخور كونيتيكت المنحوتة تباينًا على هذا المشهد. ومن هذه النقطة تظهر الأطلال الكئيبة لمنزل يقع في منتصف حقل موحش مهجور، تخفيه عن الطريق السريع غابةٌ حرشية. كانت الأطلال غاية في الضعف والتحلُّل بفعل الزمن والإهمال لدرجةٍ تجعلك تتعجب من أن نسمات الهواء، حتى الخفيفة منها، لم تُسوِّها بالأرض منذ وقتٍ طويل. ومع ذلك فقد قاومت العواصف والعزلة لأكثر من مائة عام، وحينما تندثر في نهاية الأمر سيكون ذلك بتحللها المفاجئ إلى عناصر الطبيعة. إنها الآن أشبه بهيكلٍ عظميٍّ لكائن كان حيًّا. ثقوب مفتوحة كبيرة تعلوها ألواح خشبية بُنِّيَّة مهترئة كالحواجب الكثيفة الشعثاء، كانت في يوم من الأيام نوافذ، وأسفلها فجوة كهفية فاغرة، تميزها أعمدةٌ ولوحٌ خشبي مهترئ مثبت بمسامير مثنية صدئة، تخبرك بالمكان الذي كان مثبتًا فيه باب ثقيل من خشب البلوط في يوم من الأيام، وقد سقط الآن فوق درجات السلم الصخرية التي لا تبدو عليها علامات الزمن، بخلاف أنها قد اختفت تحت طبقة من الطحالب الخضراء.

تبدو الرياح وكأنها تعوي على الدوام في هذه الأطلال، وفي الليل يوقظ نعيق البوم أصداء قرن من الزمان، فلم يُسمَع في هذه الجدران أي صوت آخر طوال أكثر من مائة عام، بخلاف أصوات الخشخشة والقرقرة التي تُحطِّم بها قوى الطبيعة ما صنعه البشر وأهملوه، أو التغريد أو الصياح الجَسور للطيور التي تحتل المكان حين يهجره البشر. ولكن لماذا تُهجَر مثل هذه البقعة التي كانت لا محالة في يوم من الأيام ساحرة مبهجة — وربما تصبح كذلك مرة أخرى — كما لو كان قد ضربها الطاعون؟ لم يجد هذا السؤال إجابةً حتى الآن. هل كان ثمة تأثيرات خفية حاضرة دومًا مع توءمي آل فانشر، كغلاف جوي ثانٍ، هي التي أودت بها لمصيرها المحتوم؟ فإذا كان هذا هو السبب الحقيقي، رغم أنه ربما يكون سببًا غير مُدرَك بالعقل الواعي، أفلا يكون حقيقيًّا أنه حتى في العوالم التي تنهزم فيها الخرافات، وتحكم فيها الحقائق وحدها، يظل هناك في الطبيعة البشرية قرابين غامضة غير معترف بها تُقدَّم للقوى التي يعبدها مُنجِّمو الشرق وسحرته؟ من المؤكد أنه ما من أحد سكن هذه البقعة بعد أن هجرها توءما آل فانشر، ويحق للمرء بعد قراءة هذه السيرة لحياتهما أن يحكمَ بنفسه عما إذا كانت الأسباب التي دعت للتفكير في أن الناس في الماضي اعتقدوا أن هذا المنزل قد أُلْقِيَت عليه لعنة شريرة هي أسباب وجيهة أم لا.

عندما أظلمت الأرض واكْفَهَرَّتْ في الكسوف العظيم الذي حدث عام ١٧٣٣، استحوذ الرعب على البشر، فقد بدا لهم أن الطبيعة انقلبت رأسًا على عقب، وخيَّم على كل الأشياء سكونٌ خانِق، حتى إن الحيوانات في الحقل كانت تُطلِق صيحاتِ رعبٍ، والكلاب تعوي، والطيور الداجنة تأوي لأعشاشها حتى في منتصف النهار؛ إذ كان البشر، حتى ذلك الحين، غير مستعدين كما هم الآن لدقة العلم، ولمشاهدة هذا الدليل المخيف على قوى الله الهائلة وقوانينه.

في تلك الساعة بالضبط اجتمع الجيران في منزل آل فانشر، وانحنوا بعطف يمدون يد العون لشخص كان في أَمَسِّ وأقدس حاجة للمساعدة. وحينما بدأت العتمة تجتاح الأجواء في منتصف النهار، وتزداد عمقًا وكثافة، وكشف الضوء الشاحب المشاهِد الأخرى غير المعتادة في الخارج، قبع الجيران بعضهم بالقرب من بعض أمام النار العظيمة الموقدة في غرفة المعيشة، لا يتحدَّثون إلا بالهمس، مُلقين نظرات خاطفة من النافذة على الضوء الغريب المنبعث منها. ولكن فجأةً ظهرت من الغرفة الداخلية امرأة مُسنَّة تبدو على مُحيَّاها أمارات الكآبة والحزن قائلة: «كان من الأفضل له أن يموت؛ لأن هذا سيفسد حياته.»

وسأل الجيران في همس، ليس عن الطفل بل عن الأم، أجابت السيدة: «إنها لا تعرف أن الشمس غربت حين خرج الطفل إلينا.»

بعد قليل دَلفت السيدة إلى الغرفة الكبيرة حاملة بين ذراعيها حِملًا، وبعد أن أزالت البطانية المصنوعة من الصوف الناعم، سمحت لصديقاتها بالنظر إلى الطفل الصغير.

سألت إحداهن: «هل … هل هو حي؟»

«للأسف نعم. إنه ولد، وسيكون داكن البشرة قويًّا، ومن يعلم ماذا أيضًا؛ فهل تظنون أن مثل هذا الشيء الذي حدث للشمس لن يؤثر على شخصٍ خرج إلى الدنيا في تلك اللحظة؟»

عندئذٍ فتح الرضيع عينيه لهم، ورأوا ذلك؛ فرغم أنه حسب ما تتذكره النساء لم يكن في آل فانشر أو في أقاربه من ناحية الأم أحد إلا ويملك عينين زرقاوَين وديعتَين، فحين أُزيحت تلك الجفون كشفت عن عينين قاتمتين تَعِدان، عند انقضاء فترة تغير لون العيون، بأن تُصبحا في سواد الليل الحالك، وحتى خصلات الشعر البسيطة التي كانت تُكلِّل رأسه كانت قاتمة، وأكدت بعض النساء العجائز أن عيونهن الثاقبة تكشف لونًا تحتيًّا غامقًا تحت بشرة الخد الناعمة.

قالت إحداهن: «إنه لا يبكي.»

وقالت أخرى: «لا، ولكنَّ قبضتيه مغلقتان.»

قالت السيدة العجوز: «جميعهم يغلقون قبضاتهم: ليس هذا دليلًا على شيء.» فردَّت السيدة: «نعم، ولكن ليس بهذا الإحكام والقوة.» واستطردت الأولى: «لو أنه بكى، لكنت أحببته.»

ردَّت السيدة التي تحمله على ذراعيها: «أشك في أنه سيذرف دمعة طوال حياته.»

بعد ذلك جاء الأب ونظر إلى ابنه البكْر عدة لحظات، وأخيرًا قال: «سأسميه دانيال.»

بعدئذٍ، حينما انقشعت الغيوم التي تُغطي الأرض وكانت النسوة على وشك الرحيل، جاءت لحظة ثانية عندما نظرت السيدة العجوز من الغرفة الداخلية لوهلة، ورغم أنها لم تنبس ببنت شفة، فإنه ما من امرأة كانت موجودة عجزت عن قراءة أفكارها، فحدْس المرأة يكون قويًّا جدًّا في مثل هذه الأوقات، واجتمعن حول النار مرةً أخرى يتحدَّثن بأصواتٍ هامسة وينظرن بعضهن إلى بعض نظرات تنم عن القلق. وفي الوقت الذي كانت الشمس فيه على وشك الاختباء وراء تلال وايت بلينز، جاءت العجوز مرة أخرى، حاملةً حِملًا آخر بلطف وقالت وهي تُزيح طرف الغطاء عنه لتريهنَّ إياه: «خرج هذا إلى دنيانا حينما كانت الشمس ساطعةً في السماء، وسوف يكون جميلًا وديعًا هادئ الطبع، ولكنَّ ظِلَّ مولد أخيه سيُلْقَى عليه طوال حياته.»

حينما رأت النساء هذا الرضيع قلن إنه ورث عيون آل فانشر … أي إنَّ عَيْنَيْه كانتا زرقاوَيْن صافيتَيْن، وكان شعره كشعاع الشمس، ناعمًا كشعر أمه وكل أهلها.

وعندما نظر الأب إلى هذا الطفل قال: «سأسميه ديفيد.»

بطبيعة الحال كان الحدث استثنائيًّا للغاية؛ بحيث كثر الحديث عنه لدى القاصي والداني، وكان توءما آل فانشر مراقَبَين أكثر من غيرهما من الأطفال في تلك الأنحاء؛ فقد كان الفضول يتملَّك الجميع لملاحظة تأثير ذلك الحدث الغريب غير الطبيعي الذي وقع عليهما عند مولدهما. ومع تقدمهما في العمر اتفق الناس جميعهم على أن دانيال وديفيد كان الأفضل أن يُسمَّيا عيسو ويعقوب؛ إذ كان دانيال داكن البشرة كبعض الهنود الذين يعيشون على مقربة منهم، وكان أسود الشعر أشعثه. كان عنيفًا مهيمنًا، تنم سيماه عن أنه سيكون صيادًا قويًّا أو ربما محاربًا؛ إذ كان يتحدث عن الحرب وإراقة الدماء، وقبل أن يبلغ العاشرة قاد أخاه إلى مكانٍ ناءٍ بحثًا عن هنود ليحارباهم وينتصرا عليهم. أما ديفيد فكان وديعًا. كان يحب المزرعة والغنم، ولكنه لم يهتم يومًا بأيِّ رفقاء آخرين؛ لأنه كان مكتفيًا بدانيال. وهكذا ترعرع الأخوان التوءمان، فكان ديفيد معتمدًا على أخيه الأسمر وخاضعًا له، كما يعتمد النبات المتسلق على الشجرة التي يُعانقها. كانا ينامان معًا، ويأكلان معًا، ويتعلمان الحروف والحساب من الكتاب نفسه؛ ومِن ثَمَّ كان ما يعرفه أحدهما يعرفه الآخر، ورغم اختلافهما الشديد الذي يجعلهما يبدوان من عرقَيْن مختلفَيْن، كان لهما عقل واحد وهو عقل دانيال، وكان الجميع يقولون: «ستظل غيوم الأخ تُخيِّم على ديفيد إلى أن تنطفئ شمس حياته.»

ذات مرة قال أبوهما وهو يتطلع إلى مزرعته في الصباح: «أخشى أن عاصفة ستهب قبل الليل، فالرياح قادمة من الجنوب الشرقي. وربما تمطر أيضًا.»

عارضه دانيال قائلًا: «ليس من الجنوب الشرقي، بل من الجنوب الغربي.»

«أنت مخطئ يا بني.»

«لست مخطئًا. أنا لا أخطئ أبدًا. لم أكن لأنطق إن كنت مخطئًا. اسأل ديفيد وسوف يخبرك.»

«ديفيد سيقول ما تقوله؛ فأنتما جسدان بعقلٍ واحد.»

«إننا بعقل واحد؛ لأننا نقول الحق ونفكر في الحق.»

ابتسم الأب وهو يسمع ما يقوله ابنه الصغير العنيد، ثم انصرف، وعندما خرج قال ديفيد: «دانيال، سوف ننتصر على أبينا وسيتبيَّن أنه مخطئ وأننا على حق.»

«إذا لم يصدق كلامنا فلن يصدق شيئًا.»

«إذًا سيرى. سنصنع ديك الرياح.»

«لن يكون ديكًا يا ديفيد.»

«نعم، لن يكون. ماذا سيكون إذن؟»

«سيكون محاربًا.»

«سيكون كذلك. وهل نستطيع أن نصنعه؟»

«ستصنع أنت الرأس والذراعين؛ لأنك تتمتع بمهارة في استخدام السكين، وسوف أصنع أنا الجسم والساقين. وبعدها سوف نجمع الأجزاء، وإذا صنعت الذراعَيْن بسيفَيْن عريضَيْن، فسوف تضربهما الريح ويشيران إلى الاتجاه الذي أتت منه. يجب ألَّا يظن أبونا أننا نهذي حين نعارضه.»

وهكذا ذهب الصَّبِيَّان إلى الورشة، وبحلول الظهر كانا قد صنعا هيكلًا رائعًا وأطلقا عليه المحارب، وأطالا ذراعَيْه بسيفَيْن عريضَيْن مصنوعَيْن من أخشاب الشوكران القوية، وعندما ترتفع إحدى ذراعَيْه فوق رأسه تُشير الأخرى إلى الأرض، وفي حالة وجود نسيم تدور الذراعان بسرعة مذهلة.

قال ديفيد، وهما ينظران إلى الصورة: «يجب أن يُلَوَّن المحارب يا دانيال.»

أجاب دانيال: «يجب أن يرتدي معطفًا أحمر.»

«ماذا عن بنطاله؟»

«سيكون أبيض، ويجب أن يكون لديه لحية ثقيلة وعينان صارمتان.»

وهكذا لوَّنا الجسم وثبتاه على حافة الورشة وعندما رآه والدهما كان ذراعاه وسيفه يدوران بفعل النسيم المتجه للجنوب الغربي، وكانت عيناه تُحدِّقان بإصرار — رغم أنهما لم تُرسما بدقة — إلى الأفق البعيد حيث تلمس تلال لونج آيلاند السماء. ظل المحارب هناك، بعد بدء العاصفة بوقت طويل، وحتى أُصيبت ذراعاه في حربهما مع الريح إلى أن تقلقلتا في ليلة من الليالي وسقطتا إثر عاصفةٍ قويةٍ ورقدتا على الأرض دون دفنٍ حتى أكلتهما الديدان. قال دانيال لأبيه حين رأى أبوه المحاربَ: «عندما تنظر إليه تذكَّر ألا تجادلنا أنا وديفيد مرةً أخرى.»

سمع الجيران قصة المحارب هذه وقالوا: «الغيوم تخيم على الصبيين. تُرى ماذا يمكن أن يحدث؟»

حين اشتد ساعدا دانيال، ذاع صِيتُه كرجل ذي بأسٍ شديدٍ لدى القاصي والداني، وقيل إنه أسقط ثورًا بلكمة، وإنه قبض على لصَّيْن من المدينة بقبضة من حديد، كل واحد منهما بيد، ولم يكن أحد ليجرؤ على أن يُظهر وجهة نظره في أي شأن إلا بعد أن يتأكد أولًا من رأي دانيال ورغباته. أما ديفيد فكان محبوبًا لوداعته، ومحترمًا لمهارته في استخدام الأدوات، وكان طيب المعشر حتى إنه ما إن يدرك بحدسه رغبة لدى أحد الجيران حتى يحاول جاهدًا أن يُلبيها له؛ ومِن ثَمَّ عندما كان الجيران يرغبون في أن يصنع دانيال شيئًا أو يقدم يد العون، كانت رغبتهم تُنقل لديفيد وعندئذٍ يخضع دانيال لرغبة أخيه. وكلما مضى بهما العمر بدا أنهما يقتربان أكثر وأكثر من الاتحاد في النزعات والغايات، رغم أن الناس أكدوا أن الغيوم تزداد سيطرةً عليهما أكثر فأكثر، وأن قلب ديفيد وعقله يضمحلان بكلِّ تأكيد، وأنه قبل انقضاء سنوات كثيرة لن يكون سوى مجرد ظل لأخيه.

على بُعد عدة أميال، عاشت في بلدة بدفورد الآنسة بيرشا رولاند، وقيل عنها إنها لم تكن توجد من تضاهيها، رغم أن جمالها كان يُعادل جمال الفتيات الأخريات، وإنها كانت تعرف ذلك، وسعيدة به، وإنها لم تكن تتوق فقط لكسب إعجاب الآخرين، ولكن أيضًا لاعترافهم بذلك؛ ومِن ثَمَّ منحها الكثيرُ من الشباب الأشداء مطلبَها، الأمر الذي جلب عليهم الشقاء.

في يوم من الأيام استدعت الآنسة بيرشا أحد معجبيها الذين يُطيعونها طاعةً عمياء، وقالت له: «عما قريب سيُقام الحفل الكبير للعام في عشية عيد الحب، وسيطيب لنا التزحلق على الجليد.»

«سيكون هذا رائعًا يا حبيبة القلب. ولكن سواء أكان التزحلق جيدًا أم لا، فسيأتي الشباب لهذا التجمع من شتى الأماكن على بُعد أميال.» ردت: «بلا شك، فالشتاء ممل.»

«نعم، ولكن ليس هذا، فأنتِ تعلمين تمام العلم يا حبيبتي لمَ يأتون، ولمَ سيغادرون سريعًا، إذا لم يجدوكِ هناك.»

«ولكنني أسأم من رؤية الوجوه نفسها، بأعينهم المحدقة الولهى. ليس بهم روح. سمعت عن شاب في بلدة مجاورة يقولون إنه لا يسمح لنفسه أبدًا بأن يوجه نظره إلى فتاة؛ ليس بدافع الخجل، ولكن لأنه لا يهتم بهنَّ على الإطلاق، لولعه الشديد بظله … أو أخيه التوءم. سيسعدني أن أرى مثل هذا الرجل.»

«آه، لعله لم يركِ يا حبيبتي، فلو أنه رآك، لذهب أخوه في طي النسيان.»

«هل رأيته؟»

«كثيرًا.»

«وما شكله؟ أهو قوي وشديد، أهو عبوس، أهو ملتحٍ؟»

«إنه كل هذه الأشياء، ويبدو أن كلَّ الرجال يخافون منه ما عدا أخاه، وهو لا يتحدث إلى النساء مطلقًا.»

«إذا كنت تود إسعادي، كما تؤكد دومًا، فاحرص على أن يحضر هذا الكائن الغريب وأخوه الحفل. قلت إن التزلج سيكون ممتعًا.»

ولرغبة الشاب الشديدة في أن تُغدق تلك الشابة عليه ولو حتى بابتسامة سريعة، اقترب بحذرٍ من ديفيد وفاز أخيرًا بوعدٍ منه أن يحضر هو وأخوه الحفل. ولكن عندما تحدث ديفيد وأخوه عن هذا الأمر، قال دانيال: «لقد قلتَ إننا سنذهب؛ ولذا فسوف نذهب. ولكن لمَ يكثرون من الثرثرة حول هذه الفتاة؟ أهي مختلفة عن الأخريات؟ ألا يمتلكن جميعًا أعينًا يضعنها على الفتيان يا ديفيد؟ ألا يضممن جميعًا شفاههن كي تبدو ابتساماتهن أجمل؟ حمقى هم من يُفتنون بهذه الأشياء، ولكنك قلتَ إننا سنذهب، ونحن نفعل ما نقول يا ديفيد.»

بينما كان الشُّبان والشابات منشغلين في رقصة المينيويت الهادئة في قاعة الاحتفال الكبيرة، انضم إليهم توءما آل فانشر. وقفا جنبًا إلى جنب في الطرف الأقصى للغرفة، حيث كان النور الناجم عن احتراق الحطب يكشفهم بوضوح. كانا يتمتعان بالطول نفسه، ولكن أحدهما كان مفتول العضلات قوي البنية، وبدا وجهه في الضوء الخافت أكثر سُمرة من حقيقته، ووقف شعره الأسود الخشن متكتلًا أشعث، كما خلقته الطبيعة، دونما تصفيف منمق كما كان سائدًا في ذلك الوقت. أما الآخر فكان نحيلًا جميلًا كفتاة، تشع ملامحه بابتسامة، فقد كانت الوجوه المشرقة والفساتين المبهجة والرقص ووميض الشموع تُسعده.

رأتهما الآنسة بيرشا يدخلان، ورغم أنها بدت منشغلة برزانةٍ وكياسةٍ بتطورات الرقصة، فقد رأتهما على الفور. وعندما انتهت الرقصة استدعت عاشقها وقالت: «الأسمر، هذا من أقصده. لمَ تتركهما واقفَين هناك؟ هل سيكون أخوه هو رفيقه في الرقصة التالية؟ لا يصح. لمَ لا تحضره إليَّ؟»

وهكذا ذهب الشاب، الذي كان يرتدي شعرًا مستعارًا متيبسًا وجوارب حريرية وبنطالًا من الساتان، إلى دانيال وانحنى له وهو يقول: «أخشى أن هذا ممل بالنسبة لك.»

«إن كان كذلك، فيمكننا أن نذهب من حيث أتينا.»

«ولكن ليس قبل التعارُف، أليس كذلك؟»

«جئنا كي نَرَى، لا لكي نُرَى.»

فقال أخوه التوءم ديفيد: «إنه يودُّ أن يُقدِّمَك يا دانيال.»

«حسنًا، فليفعل.»

ولكن الفتى ببعض الحرج أدرك أن دانيال لم يكن ينوي أن يتحرَّك قيد أنملة ما دام ديفيد هنا، وفكر في المرات الكثيرة التي سمع فيها عبارة «الفتى الجميل هو ظل الآخر.» ومع ذلك فقد قادهما هما الاثنين إلى المقعد العالي الظهر الذي كانت تجلس فيه الجميلة بيرشا، ورغم أن دانيال وقف أمامها محدقًا فيها بفظاظة دون خجل، وديفيد انحنى لجمالها بالتواضع اللائق، فإنها لم تُعر انتباهًا للفتى الجميل وإنما تحدَّثت مع الفتى الأسمر فحسب.

قالت: «لقد سمعنا عنكما، ولكننا لم نَرَكما قط من قبل، فما السبب في ذلك؟»

أجاب دانيال بكبرياء رزين: «لأن هذه لم تكن رغبتنا.»

«لكن كان الأحرى أن تكون كذلك؛ فالرجال أمثالكم يسيئون إلى أنفسهم والآخرين بعيش حياة الرهبان.» كانت تدرك أنها لن تحظى باهتمام هذا الرجل إلا بالجرأة والثقة في النفس. وأردفت: «تعالَ معي. أعطني ذراعك، إذا تكرمت. أرى أنها ذراع قوية. لا عجبَ أنهم يحكون عن قوتك الشديدة. أود أن أسمعك تتحدث، وإنه لمن الأمتع أن نتحدث ونحن نتمشَّى. والآن دعني أقدم أخاك لشابة جميلة. لمرة واحدة يا سيدي، امنحني الشرف واسمح لأخيك أن يُرافق الآنسة نانسي برَش.»

وقبل أن يُدرك ما يحدث كان دانيال الصارم يتنزه مع هذه الجميلة متأبطة ذراعه، بينما ديفيد … لأول مرة نسي دانيال أمره تمامًا.

قالت: «إنه لمن دواعي سرورنا أن نرى رجلًا قويًّا هنا؛ فالمرأة تكاد تفقد إيمانها في الرجال إذا لم يظهر من هم على شاكلتك من آنٍ لآخر.»

أجابها: «إن قوتي لي، ولديفيد. ما لكِ أنت بها؟»

«ما لي أنا؟ متعة الشيء غير المألوف. يقولون إن الحرب على الأبواب، والقوات بدأت بالفعل الحرب في بانكر هيل. إن هذا هو ما يمنحني ويمنح جميع النساء شعورَ الأمان؛ لأنني أعرف الآن أن ثمة رجالًا شجعانًا جسورين، على استعداد لمواجهة العدو؛ ومِن ثَمَّ نستطيع أن نعيش في أمان. يا إلهي! لماذا خُلِقتُ امرأة؟»

«تتحدثين عن القوة، مع ذلك من الضعف أن تتحسري على نصيبك وقدرك.»

«ألم تكن لتتحسر أيضًا إذا وُلدت دون ذراعين؟» أجابها متسائلًا: «وماذا كنتِ ستفعلين لو كنتِ رجلًا؟»

«سأتمتع بالقوة وأحظى بالشهرة والمجد. وفي حالة الحرب كنت سأقود جيشًا، كما قد تفعل أنت، وفي حالة السلم كنت بلا شك سأجبر أي فتاة جميلة على أن تمنحني احترامها وحبها.»

«قيادة الجيش أمر طيب، أما التودد للفتيات فهو تسلية للمراهقين وليس للرجال.»

«أنت لا تدرك سوى أقل القليل عن سطوة القوة. إن أعظم انتصار يستطيع الرجل أن يحققه هو ذلك الذي يُمكِّنه من أن يتقرب إلى من تحلو له من النساء اللائي يَراهُن ويخطب ودها. فإذا كانت ذات كبرياء يستطيع أن يُخضع كبرياءها، وهذا إنجاز أعظم من الفوز في معركة. وإن كانت مغرورة يستطيع أن يكسر شوكتها. وإذا كانت أنانية يستطيع أن يجعلها تنسى نفسها. وإذا كانت تفوق غيرها من الفتيات، جمالًا وفتنة، يستطيع أن يتأكد إذا تزوجها أن هذا الجمال وهذه الفتنة ملكه. وهكذا ينتصر على غيره من الرجال.»

وبينما كانت تقول هذا، تطلعت إليه وهي تثني عنقها الجميل حتى تتمكن من رؤية وجهه العابس الصارم بالكامل وتكرهه بذلك على أن ينظر إليها. وعندما رأى صفحة وجهها وجمالها الفتان، لم ينبس ببنت شفة، وإنما قادها نحو الركن القصي من القاعة الكبيرة، وبعد أن حرر ذراعه منها، استدار ليقف في مواجهتها مباشرة، وحدق في وجهها بثبات للحظات لم تبدُ عليها خلالها أي علامات على الخوف. وبعدها بادرت هي بسؤاله: «ما الأمر؟ لِمَ تنظر إليَّ بكل هذه القسوة؟»‎‎

«بما أنكِ قلتِ هذا القول، وبما أني أُدرك الآن قوة جمال المرأة، ألا تتمتعين إذًا بقوة أكبر من قوتي؟» فتساءلت: «أنا؟ أنا أقوى منك؟»

«نعم، أنتِ تعتقدين ذلك. وأنا أعتقد أنكِ قد تكونين على حق، ولكنك رقيقة وذكية. فهل هذا شكل من أشكال القوة؟ هل يوجد رجل هنا، أو حتى رجل قابلتِه في أيِّ مكان، يجرؤ على ألا يطيعك عن طيب خاطر؟ وإذا كان الأمر كذلك، أفليس هذا راجعًا إلى القوة نفسها التي أشدتِ بها في الرجال؟»

«ربما يوجد البعض، مَن يعلم؟ أستطيع أن أضاهيك في الصراحة. يوجد رجل هنا لم يكن ليطيعني.»

«لا أعرف إذا كنتُ لن أطيعكِ، لأنكِ تقصدينني.»

«نعم، وأنت لا تعرف؟ حسنًا، سأجربك. لديَّ حصان قوي لكنه وحشي، ولا يجرؤ رجل على الاقتراب منه. أعتقد أن لديك الجرأة. هلَّا تأتي غدًا وتروضه لي؟»

«سآتي مع أخي.»

«إذًا فأنت لا تجرؤ على المجيء وحدك.»

نظر إليها لحظةً نظرةً يشوبها الغضب، ثم قال: «سآتي وحدي.»

«الآن اذهب وأحضر أخاك لي؛ فهو يقف هناك وحيدًا، ويركز نظراته عليك. هل هناك ثمة رابط غير ملموس بينكما؟»

«أخي هو أنا، وأنا هو.»

«إذًا أسرع بإحضاره، واتركنا قليلًا لعلي أفهم كيف يسلك دانيال سلوك ديفيد؛ لأنني شاهدت بالفعل من خلال اعترافك الغريب كيف يبدو ديفيد في شخص دانيال.»

قال وهو يتطلع إليها بصرامةٍ بعينَيْن في سواد الكهرمان الأسود الذي ترتديه، وتبرقان بريقًا أشد من بريقه: «أنتِ امرأة غريبة.» ولكنه جلب لها ديفيد، وتنحى جانبًا ليراقب ذلك الجسد اللين الضئيل، يتأبط ذراع ديفيد، وهي تتهادى في مشيتها كما تنساب البجعة على سطح الماء دون هدف واضح، ورأى مدى بياض عنقها ورشاقته إذ ينكشف فوق الثوب المخرم الذي ترتديه، وكيف يتجمع شعرها الأسود الفاحم كأنه تاج على رأسها، يتلألأ بالحُلِي التي زُيِّن بها كالنجوم في ليلة شتوية، وكان يستطيع سماع حفيف ثوبها الحريري وهي تَخطِر بجواره، ناظرة لأعلى إلى عينيه بوجه تُغطيه تعبيرات الجد، ورأى قدميها الصغيرتين تبزغان أحيانًا في حذائهما الأبيض اللدن من تحت تنورتها كما تُبرِز الفراخ الصغيرة رءوسها أحيانًا من تحت جناح أمها ثم تعود لتخبئها.

خطر له: «ما قوتي وعزمي أمام هذه السلطة؟ أستطيع أن أَسحق، ولكن هذا الشيء اللين يستطيع إرغامي.»

بينما كانت الآنسة بيرشا تسير بصحبة ديفيد قالت: «من يظن أنكما أنت وهو شقيقان؟»

سأل ديفيد: «ولمَ لا؟»

قالت: «ألم تتأملا على الإطلاق نفسيكما جنبًا إلى جنب في المرآة؟»

«ولمَ نفعل ذلك؟ أظن أن المرايا تكذب؛ ولذا ما من مرآة ستجعلني أفقد إيماني بأنني أشبهه وأنه يُشبهني. إننا لا نستطيع رؤية أنفسنا.»

«ولكنَّ أخاك شديد العنف والعبوس والاستبداد.» فردَّ قائلًا: «آه، ما هذا إلا الجانب الآخر من نفسي.»

«وأنت، هل لي أن أقولها؟ يقال إنك لطيف وطيب ومُسالم.»

«آه، ولكن هذا هو الجانب الآخر منه.»

قالت: «وبما أن كلًّا منكما يُكمل الآخر، فأنتما تكونان معًا رجلًا واحدًا.»

ضحك، فواصلت هي حديثها: «ولكنكما لا تستطيعان العيش دومًا بهذه الطريقة. هناك من هم أفضل من الأخ يمكن أن يكملوكما.» فتساءل: «أخبريني مَن في اعتقادكِ أفضل.»

«فتاة جميلة، وسوف تدرك هذا لاحقًا. ولكنك منعزل عن جيرانك تمامًا. فنحن لم نَرَك إطلاقًا من قبل. تعالَ وسوف نُكوِّن صداقة قوية. تعالَ لأنني أريد أن أتحدث معك أكثر. هلَّا تأتي؟»

«سوف نأتي.»

«ليس معًا. سوف تحرجني بهذه الطريقة؛ لأنني لن أعرف إلى من منكما أوجه الحديث. تعالَ أنت بعد غدٍ وزُرني في منزلي. سيُسر والدي بالتعرف إليك.» ونظرت إليه مستعطفةً إيَّاه بابتسامة ماكرة، ولم تتظاهر بالجدية والحياء كما كانت تفعل عندما حصلت على وعد دانيال بالحضور. وهكذا وعدها.

كان التوءمان صامتَيْن لفترة طويلة في طريق العودة إلى المنزل في تلك الساعة الهادئة السابقة لبزوغ الفجر، ربما لأن دانيال كان يقود العربة بسرعة جنونية. وأخيرًا قال دانيال:

«إنها ليست كالنساء الأخريات يا ديفيد.»

«ليست مثلهن يا دانيال.»

«لها عينان لامعتان.»

«ووجنتان ورديتان كالأصداف التي تُزين غرفة المعيشة في منزلنا يا دانيال.» فقال دانيال: «وابتسامتها، إنها ابتسامة مبهجة لأن لها معانيَ يا ديفيد.» ردَّ ديفيد: «نعم إنها مبهجة، ولكن الأجمل منها وجهها وهي جادة.»

«نعم هو أجمل بالفعل، وليونة حركتها لها قوة عظيمة.»

«هكذا أظن أيضًا.»

في ظهيرة اليوم التالي اعتلى دانيال صهوة جواده وانطلق عبر كينج ستريت إلى بدفورد، وعندما عاد كان يعرج كما لو كان أعرج، ولكنه لم ينبس ببنت شفة.

قال ديفيد: «أنت تعرج.»

«نعم، رفسني حصان ولكنني روضته.»

وفي اليوم التالي اعتلى ديفيد صهوة الجواد وغادر دون أن يعبأ دانيال بمغادرته. وعندما رجع لم يقل أيَّ شيء.

سأله أخوه التوءم: «هل ستذهب للفراش دون عشاء؟»

قال ديفيد بهدوء: «تناولت العشاء مع أصدقاء.»

بعد ذلك وإلى أن استسلم صقيع الشتاء أمام شمس الصيف كان دانيال وديفيد يأكلان وينامان ويعملان معًا، ولكن في صمت، وتقريبًا كل يوم يتوجَّه أحدهما مسرعًا نحو الشمال، ولكن لم يذهب كلاهما معًا قط.

ذات يوم بعد أن غادر ديفيد، تبعه دانيال بعد ساعة. وشقَّ طريقه إلى باب قصر إسكواير رولاند مباشرة، ودخل دون استئذان، متوجهًا إلى غرفة المعيشة. وهناك شاهد ديفيد جالسًا إلى جوار بيرشا الجميلة التي لم تسمع صوت دخول دانيال.

وقف على عتبة الغرفة للحظة ثم قال: «ديفيد، لقد جلست في هذا المكان بالأمس، وسوف أجلس فيه غدًا. هل ستكون لعنتنا أننا لا نملك إلا رغبات مشتركة؟ تعالَ يا أخي، قلت لك تعالَ.»

لم يتحدث إلى بيرشا وإنما نكص على عقبيه بسرعة وخرج من المنزل، أما ديفيد، فقد نهض من مقعده وتبعه دون أن يفتح فمه بكلمة.

جلست الفتاة في مكانها مذهولة مصعوقة، وعندما استعادت رشدها أخيرًا أدركت أن الأخوين قد قطعا بالفعل مسافة بعيدة على الطريق السريع.

قالت الفتاة وهي تُحدِّق من الشباك الصغير متابعة التوءمين إلى أن غابا عن ناظرَيها: «آهٍ لو أن هناك واحدًا فقط، وهو هذا الأسمر.»

لم ينطق دانيال ولا ديفيد بكلمة إلى أن وصلا إلى منزلهما. ثم قال دانيال:

«ديفيد، نحن نتفق في هذا كما نتفق في كلِّ شيء. أنت تحب الفتاة، كما أحبها. وإذا كنت كرهتها كنت سأكرهها أنا أيضًا. لكن رغم أننا قد نكون واحدًا فنحن في نظر العالم شخصان. نحن نحبها، ويجب أن نعترف بذلك.»

«هذا صحيح يا دانيال. وهي لا تستطيع أن تفصم عرى الرابط الذي يربط أحدنا بالآخر.»

«أحبك كما أحب نفسي يا ديفيد، وأنت تحبني بالقدر نفسه؛ لأننا حقًّا واحد في كلِّ شيء عدا الجسد؛ لذا يجب ألا نراها ثانية. وكما تفرق العادات والتقاليد المتناقضة بين الرجال وترسل كلًّا في اتجاه، ربما تتغلب على أحدنا رغبته المحمومة، ويزور الفتاة مرة أخرى. في هذه الحالة، أيًّا كان من سيفعل ذلك، فعليه أن يذهب إلى أخيه ويعترف ويقول: «ماذا أفعل؟ ماذا ستفعل معي؟» وسوف يفعل بالضبط ما يقوله أخوه.»

«ثمة منطق وغاية وراء هذا العهد يا دانيال، وسوف نصونه وننفذ ما جاء فيه.»

«ديفيد، إذا كنت أنت من ستأتي إليَّ، فسوف أطلب منك ما أتمنى أن تطلبه مني إذا أخللتُ بالعهد.»

«وهو أن أُنهي حياتي؟»

«نعم، هذا هو.»

في أحد الأيام بعد عدة أسابيع توجَّه دانيال إلى ديفيد وقاده إلى الوادي المنعزل الذي لا زال يُرى حتى ذلك اليوم خلف المنزل القديم.

«ديفيد، أنا شخص بائس ضعيف الشخصية. لقد رأيتُها أمس ثانية، وأنت تعرف عهدنا.» وهنا سحب دانيال مسدسًا من جيبه.

نظر ديفيد إلى أخيه مفجوعًا، في حين وقف دانيال أمامه متجهمًا صارمًا، ومسودًّا جدًّا. كانت يده تضغط على الزناد.

قال ديفيد: «لا أستطيع، لا أستطيع يا دانيال.»

«بل تستطيع؛ لأنني لو كنت مكانك كنت سأستطيع وكنت سآمرك أن تفيَ بوعدك وتفعل ما أمرتك بفعله. لا مفرَّ من أن تفعل ما اتفقنا عليه.» ورفع المسدس.

قال ديفيد وهو يضع يديه على عينيه ويهز كتفيه: «لا، لا أستطيع أن آمُرَك بأن تفعل ذلك، رغم أننا تعاهدنا عليه.»

قال له دانيال بازدراء: «يا لكَ من طفل.»

«ولكن يا دانيال، هناك شيء آخر يمكن فعله. لقد اندلعت الحرب، وواشنطن صار قاب قوسين أو أدنى منا. فلتتطوع في الجيش وتصبح جنديًّا. ربما تصير قائدًا عظيمًا، كما كنت تحلم دومًا.»

«تأمرني بأن أتطوَّع في الجيش؛ سأفعل إذًا.» وفي هذه الليلة ترك دانيال منزله وفي غضون ثلاثة أيام كان مع واشنطن في هارلم.

بعد بضعة أشهر كان الجيش مجتمعًا بالقرب من الحصن الطبيعي في وايت بلينز، يستعد لمقاومة تقدُّم جنود الملك جورج. كان زمنًا الرجال فيه متشائمون، ولكن أولو عزم؛ إذ كان ظل الحرب يُخيِّم عليهم، وكانت شجاعتهم أكبر من آمالهم. في صبيحة أحد الأيام جلب الحارس الواقف على أقصى الجناح الأيسر — والذي كان مُعسكِرًا في أطراف مدينة بدفورد — رجلًا حزينًا متجهم الوجه. وأخبروا الضابط القائد أنه كان هاربًا من الجندية، فقبضوا عليه في تلك الليلة.

سأل الضابط: «مَن أنت؟»

«أُدعى ديفيد فانشر.»

«هل سمعت الاتهام المُوجَّه لك؟»

«إنه حقيقي، فافعل بي ما شئت. ولكن دعني أقُل لك شيئًا واحدًا … لم يكن هروبي نابعًا من جُبن.»

«إن لم يكن كذلك، فماذا إذًا؟»

«هذا شأني.»

سأله: «أتعرف العقوبة لو لم يكن هناك سببٌ وجيه؟»

«أعرف العقوبة. وربما أكون سعيدًا بها، مَن يعلم؟»

أخذوه بعيدًا، وبينما يمثل أمام ضباط المحكمة العسكرية عابس الوجه، اعترف بجريمته دون أن يُبررها بكلمة واحدة؛ فصدر ضده حكمٌ بالرمي بالرصاص في مطلع شمس صبيحة اليوم التالي.

وفي المساء أرسل ديفيد رسالة إلى الضابط قائلًا: إذا لم يكن الوقت قد فات فهو يود التحدث إلى أحد الجنود الذين اختيروا لتنفيذ حكم إعدامه. وقال الضابط: «فلتحققوا رغبته.»

وهكذا أُحضر أحد الجنود إلى مكان احتجاز السجناء العسكريين وسُمح له بالدخول في جُنح الليل. وقف بالباب؛ إذ لم يستطع رؤية من بالداخل، ولكنه قال: «مَن الذي أرسل بطلبي ولماذا؟»

«هذا أنا يا دانيال.»

«هذا صوت ديفيد.»

«نعم يا دانيال. دانيال، هل تتذكر كيف كنت تُصيب قطعة خشبية لا يزيد حجمُها عن حجم يدي بالبندقية من بُعد ٥٠ خطوة؟»

«أتذكر ذلك.»

«تذكَّر ذلك غدًا عندما ترى يدي.»

«لا تتحدث بالألغاز يا ديفيد.»

«هل تذكُر العهد الذي قطعناه على أنفسنا وتذكُر أنك وعدتني أنه إذا أتيتُ لك وقلتُ «دانيال لقد رأيتُها ثانية»، فسوف تفعل ما أَمرتُ به جزاءً لي؟»

«أذكر أنك لم تنفذ ما تعاهدنا عليه.» فرد ديفيد: «ولكنك قلتَ إنك كنتَ ستنفذه إن كنتَ مكاني. دانيال لقد رأيتُها ثانية.»

«كنت أعلم أنك ستفعل، وأنا أيضًا إذا عِشت. فهذه رغبة مشتركة لدينا.»

«دانيال، عندما يأخذونني غدًا، وتقف في مواجهتي، عدني بأنك ستُصيب المكان الذي أضع فيه يدي بدقة. سأضعها على قلبي.»

«هل يتفق هذا مع عهدنا؟»

«نعم.»

«إذًا سأفعل. ولكن انتظر: ثمة أمر عسكري بخصوص هذا. سوف يُحدَّد الشخص المنوط بالمهمة.»

«لقد سبق وحُدِّد، وأنت هذا الشخص.»

«وكيف عرفت؟»

«لأنه أمر محتوم. لم يخبرني أحد، ولكنني عرفت.» فأجاب دانيال: «إذًا فسوف أفعل ما تأمرني به.» ثم استدار عائدًا من حيث أتى. قال ديفيد: «انتظر يا دانيال. ما يَحدث لأحدِنا، يحدث للآخر.» فرد دانيال: «أعلم هذا. لا مناصَ من ذلك.»

«دانيال، سيكون في يدي خصلة شعر.»

«لقد أعطتك إياها، أعطني إذًا نصيبي منها على الفور … لا، بل احتفظ بها. ماذا يهم إن كانت في يدي أو في يدك؟»

«عندما تطوَّعتُ في الجيش كان عليَّ أن أتبعك ورغم أني لم أستطع أن أعثر على كتيبتك، فإنني كنت على يقين من أننا سنلتقي معًا.» رد دانيال: «كنت أعرف ذلك.»

«كنا في معسكر بالقرب من بدفورد، وبالصدفة، كانت تتجول مع بعض رفقائها بالقرب منا. رأتني أولًا، وتوسلت إليَّ أن أعود معها. ورغم أني كنت في الحراسة، فلم أستطع أن أقاوم، وذهبت معها. عثروا عليَّ وأحضروني إلى هنا، وغدًا صباحًا سيُحَل لغز حياتنا معًا.»

«هذا أفضل يا ديفيد. أنا سعيد بذلك.»

«أكنت تحبها يا دانيال؟»

«أكثر من حبي لنفسي، ومِن ثَمَّ أكثر من حبي لك.»

«وهكذا بطبيعة الحال كان الأمرُ معي. وأخبرتها في نوبة جنون أنني أحبها أكثر من نفسي.»

«وكذلك فعلتُ أنا في اليوم الذي جئتُ إليك فيه وطلبت منك أن تنفذ وعدك لي.»

«قالت إننا لو كنَّا شخصًا واحدًا لنال رضاها. إنها لا تستطيع الزواج باثنين.»

«كانت تلك هي كلماتها لي. إننا لا نستطيع أن نهرب من قدرنا يا دانيال. لقد جئنا إلى الدنيا معًا، وحجبت عنا الطبيعة نورها وغيمت علينا بسحابة غامضة.»

«وسوف نخرج منها معًا يا ديفيد. ولنأمل أن يجتمع شملنا ثانية، إذا كان هذا ممكنًا وصادف أن كانت أرواح البشر تعيش بعدهم.»

«اجلس هنا بجواري يا دانيال قليلًا. لستَ حزينًا لأنني لستُ كذلك.»

«نعم يا ديفيد، نحن راضيان.»

جلسا جنبًا إلى جنب لدقائق عديدة، إلى أن أتى الحارس وأخرج أخا المُدان من الحجز.

في الصباح أخرجوا ديفيد إلى المرج الموجود خلف المعسكر، وتبعه طابور من الجنود، سار في مقدمته رجل أسمر قوي البنية لم يكن أحد من كلِّ هذا الجَمْع يعرف أنه أخو ذلك الرجل العاري الرأس الذي كان يركع بإباء ورباطة جأش دون أن يهتزَّ له جفن، على بُعد نحو عشرين خطوة، وأخبرهم أنه سيكون جاهزًا حينما يضع يده على قلبه.

وقفت المجموعة المختارة من الجنود أمامه رافعين بنادقهم في انتظار الأمر، ونظر ديفيد إلى دانيال للحظة … ويقول الجنود إنه ابتسم … ثم وضع يده على قلبه.

سُمع صوت طلقات نارية مُتعجلة؛ فقد أطلق الجندي الأسمر النار قبل أن يصدر أمر الضرب، ثم تلاه وابل من الرصاص من الآخرين، ولكن ديفيد فانشر كان قد سقط صريعًا قبل أن تصل إليه رصاصاتهم.

ثم رأى الجنود شيئًا غريبًا. اتجه زميلهم الأسمر، ضاربًا عرض الحائط باللوائح، إلى الرجل الصريع وبدا أنه قد انحنى عليه، ثم انبطح بجواره، وعندما ذهب الجنود إلى هناك وجدوا أن الاثنين قد لقيا حتفهما، وليس أحدهما فحسب.

ورغم أن الجنود كانوا معتادين على الأشياء المفزعة، فإن هذا الحادث كان بمنزلة لُغز غامض بالنسبة لهم؛ مما استدعى الكثير من التحقيق والبحث. وأخيرًا جاء أحدهم ونظر إلى وجهَي الميتَين.

وقال: «هذان هما توءما آل فانشر.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤