ماي

سعيت إلى لقائه في رنوكولبورا على الحدود حيث يُقيم في خيمة بين جنوده من جيش الحدود. كان على عهد إخناتون قائدًا لجيش الحدود، وما زال يشغل مركزه بكل جدارة في العهد الجديد. وقد وجدته كهلًا عملاقًا جادَّ الملامح مُعتزًّا بنفسه لحدٍّ كبير. وبعد إطلاعه على خطاب والدي قال بانفعال مُرحبًا بالفرصة التي دعته للتنفيس عن صدره: ذلك المارق، مجهول الأب الذي أذلَّ بشذوذه أعناق الرجال! لقد سكتت طبول القتال، ونُكست رايات المجد؛ ليرتفع صوت الغناء والطرب من فوق عرش الفراعين من حنجرة امرأة قبيحة الوجه مُتنكرةً في إهاب الرجال. وقد أُرغمت — أنا قائد الدفاع عن الإمبراطورية — على التجمُّد وأوصالُ الولايات تتمزَّق وتقع في قبضة المُتمردين والأعداء، واستغاثات المُخلِصين من أصدقائنا تتلاشى في الهواء. أفقدنا ذلك المخبول شرفنا العسكري، وجعلنا هُزْأة للمُعتدين وفريسةً سهلة لقُطاع الطُّرق. ومن حسن حظي أنني لم أكُن ضِمن حاشيته وإن اقتضى واجبي التردد على أخت آتون بين الحين والحين. وفي كل مرة كانت تتملَّكني الحيرة لخدع رجال مِثل آي وحور محب وناخت لغِرٍّ مشوَّه، وولائهم المُذهِل له ما بين القصر والمعبد. وكنت وما زِلت مُخلِصًا لآلهة بلادي وتقاليدها المُتوارثة، يوم بلَغني كفره غضِبت غضبًا شديدًا، وعقدت العزم على الانضمام إلى المؤمنين إذا شقُّوا عصا طاعته. ويوم صدر الأمر بإغلاق المعابد وتشريد الكهنة أيقنت من أن اللعنة الكبرى ستحيق بنا، وستوجِّه ضربتها إلى الجميع غير مفرِّقة بين الخبيث والطيب. ولدى زيارة لي لطيبة، جاءني بليلٍ الكاهن الأكبر لآمون، وسألني: هل تجد حرجًا في هذا اللقاء؟

فأجبته بصراحةٍ أدهشته: لي الشرف، وقصري رهن إشارتك.

فشكرني وقال: إنك من جيل الأبرار يا ماي. انظر إلى الناس كيف فقدوا السَّلوى والعزاء، كان أهل الإقليم يلوذون بآلهة ويُقدمون القرابين، ويفزعون إلى كاهنهم في المُلمَّات فيُرشدهم في الحياة وحين الموت، ضاع المساكين كالأغنام الضالَّة …

فقلت بامتعاضٍ شديد: وما جدوى التشكِّي؟! ألا ترى أن الواجب يُطالبنا بالتخلُّص منه؟

فتفكَّر قليلًا ثم قال: ولكن ذلك سيجرُّ علينا حربًا طاحنة!

– ألا يوجد حل؟

فقال بيقين: إقناع رجاله المقرَّبين!

– يا له من أملٍ بعيد.

فقال الرجل بحذر: لن نعمد إلى وسيلةٍ يائسة قبل أن نستنفذ جميع الحِيَل …

فعاهَدته قائلًا: ستجدون جيش الدفاع وراءكم في اللحظة المناسبة.

ولكن نجاح حملة التحريض عليه اقتضت وقتًا طويلًا، حلَّت فيه الكارثة بالبلاد، فلم يبقَ إلا أن نُنقذ ما يمكن إنقاذه من تحت الأنقاض. ولقد تساءل كثيرون عن سر المأساة. أقول لك إن سرها يكمُن في ضعف المارق؛ ضعف جسده وعقله معًا. لقد أفرطَت أمه في تدليله فنشأ شديد الحسَّاسية لحدِّ المرض، داعيًا بانحطاطه لدى المقارنة بأقرانه المميَّزين مِثل حور محب وناخت وبك، فأخفى شعوره بالهوان وراء ستار رقيق من التواضع الأنثوي والعذوبة المخنَّثة، على حين بيَّت الغدر لكل قوي، إلهًا كان أو كاهنًا؛ ليَخطر وحده في الساحة، مُحتكرًا لصوت الإله الذي اخترعه، ولقوته غير المحدودة. من ناحيةٍ أخرى تصدَّى ضعفه لكل طامع كإغراء لا يُقاوَم. أجل لقد هرع إليه الرجال لا خوفًا من قوته، ولكن طمعًا في ضعفه؛ من أجل ذلك أعلن رجال الإمبراطورية إيمانهم برسالته، فبعث إليهم برسائل الحب حين تمرُّدهم بديلًا عن جيش الدفاع؛ ومن أجل ذلك أعلن الإيمانَ به رجالٌ لا يرتقي الشك إلى عقولهم مِثل آي وحور محب وناخت، وامرأة داهية مثل نفرتيتي. كان ضعفه الطُّعم الذي جُذب إليه المُنافقون والطمَّاعون واللصوص والفاسقون. ولبِثوا يُتابعون أناشيده في المعبد ثم ينهبون الأموال ويستغلُّون العِباد، حتى تهدَّدهم الموت فتخلَّوا عنه، وانضمُّوا إلى أعدائه محمَّلين بغنائمهم؛ لذلك أعلنت رأيي للكاهن الأكبر عند اشتداد الأزمة. قلت له: لا تقُم بزيارتك لأخت آتون، لا تُنذرهم، دعني أزحف عليهم وأُبيدهم ليستقرَّ قلب العدالة …

وأيَّدني توتو بحماسٍ أشد، ولكن الكاهن الأكبر مال مع الحلم وحقن الدماء، فقال لي: حسبُنا ما أصابنا.

وأدركت ما يجول بخاطره. إنه رجلٌ داهية، وينظر إلى بعيد، فقدَّر ولا شكَّ أنه إن أذِن لي في القتال فقضيت على المارق ورجاله، أحرزت بحقٍّ الصدارة والبطولة، وحُزت بذلك أقوى الأسباب لاعتلاء العرش. وعند ذاك سيجد على العرش ملكًا قويًّا لا يمكن أن يتجاوز حجمه الطبيعي في رحابه؛ لذلك جنح إلى السلم، واختار للعرش غلامًا لا حول له ليكبر ويتضخم على حسابه. وها هم اليوم يحومون حول العرش؛ الكاهن وآي وحور محب، ويتربَّصون بصاحبه. هكذا تجري الأمور في مصر التي نضب فيها مَعين الإخلاص.

على أي حال فنحن اليوم خيرٌ مما كنا أمس. لقد هُجر المارق مع ضعفه فمات غمًّا، وها هي الداعرة تنتظر النهاية وحيدةً بين أطلال المدينة الكافرة.

وسكت ماي مُضيفًا على نبرته نغمة الختام، بيدَ أني سألته: ونفرتيتي يا سيدي القائد؟!

فقال بلا مُبالاة: امرأةٌ جميلة خُلقت لاحتراف الدعارة، فشاء حظُّها أن تُمارس هوايتها في عشق الرجال من فوق العرش، ولا تُصدق ما يحتمل أن تسمعه عن كفاءتها كملكة؛ فلو كان بعضه حقًّا لا كله ما سقطت البلاد في عهدها في هُوَّة الفساد والخراب، وقد تخلَّت عنه في اللحظة التي فقد فيها نفوذه، ولكنها خابت في ركوب السفينة الجديدة!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤