بنتو

كان طبيب إخناتون الخاص، وما زال يشغل نفس الوظيفة في قصر توت عنخ آمون، في الستين من عمره، نبيل المظهر، وينبض به عرقٌ نوبي. وقد زُرته في قصره الأنيق في وسط طيبة، وجدته هادئ الطبع، خافت الصوت، جمَّ النشاط، مُتأنقًا في مَلبسه. مضى يتكلم في استسلام لتيَّار الذكريات قائلًا: مهما قيل عن إخناتون الذي يُعرَف اليوم بالمارق فإن ذكراه تُدفئ القلب بالحب، وتتحدَّى الذاكرة بعجائبها، هل حقًّا عاش ذلك الرجل بيننا؟ … هل حقًّا كرَّس حياته للحب؟ وهل حقًّا خلَّف وراءه هذه العواصف من الحقد والكراهية؟ وكلما تذكَّرته تذكَّرت معه القلق الذي أثاره في قلوب القريبين منه والبعيدين منذ صِباه المُبكر. كانت الملكة العظمة تيى تسألني: ما سر ضعفه يا بنتو؟

شدَّ ما حيَّرني ذلك السؤال! لم يكُن به مرض، ولكنه كان نحيلًا هزيلًا شاحب اللون، لا يمكن أن يصمد لمرض أو حادث، بخلاف شقيقه تحتمس القوي الجميل، ولم يُحب الألعاب الرياضية ولا الطعام الجيِّد. وكنت أصلِّي إلى تحوت إله العلم وأقول له: «تعالَ إليَّ أُرشدني؛ فإني خادم في دارك.» ولم ينفع معه عصير الأعشاب المُبارَكة برُقية إيزيس، ولا تمائم تحوت كاتب رسائل الآلهة. وبلَغ الخوف غايته عندما مسَّه المرض في الخماسين، وجرَّ معه أخاه تحتمس فرقدا في حجرةٍ واحدة. وقالت لي الملكة تيى: بهما إمساك، وانظر في صُفرة وجهَيهما …

ففحصتهما وقلت: بالقلب حرارة، وفي البطن انتفاخ، لا بد من شرابٍ يُفرغ الأمعاء، ثم انقعوا جِعةً حُلوة مع دقيقٍ جافٍّ لمدة ليلة واحدة ليأكلا منه أربعة أيام.

قبل أن تنتهيَ الأيام مات تحتمس القوي، ونجا الضعيف من كل سوء. ودار الصبي في جميع أنحاء القصر يبحث عن شقيقه وقلبُه يتقطع من الحزن. وكلما رآني رماني بنظرة احتجاج ويقول: تركت أخي للموت!

ونظر إلى أبيه وقال مُعاتبًا: عندما أصير فرعون سأقتل الموت!

وسألني يومًا بحرارة: ألا يمكن أن يرجع تحتمس يومًا واحدًا؟!

فقلت له: صلِّ للآلهة التي أنقذت روحك، أما الموت فلا رجعة منه، وكلنا سنموت. فسألني بحِدَّة: لماذا؟

فقلت له مُلاطفًا: ردِّد الأغنية التي كنت تترنَّم بها مع أخيك الراحل:

أولئك الذين يتحدث الناس بكلامهم،
أين ديارهم الآن؟
كأنها لم تكن.
افرح حتى تنسى قلبك؛
فإن أوزوريس لا يسمع العويل،
ولا ينقذ الصراخ إنسانًا من عالم الأموات.

وصاحَبه الحزن زمنًا طويلًا حتى خُيِّل إليَّ أنه فاق أمه في حزنه على أخيه. ومرةً وأنا أتعهَّده بالرعاية الطبية سألني: لمَ هذا الجهد كله طالما أننا كلنا سنموت؟

فابتسمت وواصلت عملي، فرجع يسأل: لمَ تبتسم كأنك لن تموت؟

فقلت له مُتهربًا من مطاردته: سل مُعلمك آي.

فقال باستهانة: إنه لا يعرف أكثر مما تعرف.

وكان نضج حديثه مع هزاله وحداثته مما يهزُّ النفس من أعماقها. وقد تابعت مغامراته الروحية بنظرٍ ثاقب مُسربَل بالإعجاب الذي لا حد له، وقلت لنفسي إن هذا الغلام ذو موهبةٍ غامضة خارقة تستعصي على الإدراك، مُثير للقلاقل، مُتحدية للقُوى المُتربصة به، فماذا يُخبئ له الغيب إذا جلس يومًا على عرش أجداده؟ وكان نشاطه — مع ضعفه — مما يبعث على الذهول. كان ينام قليلًا، يتعبَّد كثيرًا كأنه كاهن، ويقرأ كثيرًا كأنه حكيم، ولا يملُّ من طرح الأسئلة والنِّقاش. وضاق به الملك أبوه، فقال بمرارة: أثبت أنه جدير بأي كرسي إلا كرسي العرش!

ويومًا لاحظت أنه يسترق من أبيه نظرةً لم أرتَح لها، فقلت له: إنك تُدرك كثيرًا من الأشياء، ولكنك لم تُدرك عظمة أبيك بعد.

فقال بعصبية: ساءني مَنظره وهو يلتهم الطعام.

كان ينفر من أصحاب الشهوات المُسيطرة. وكنت أتصوَّر أن سلامة الجسم هي أساس لسلامة الروح، فأثبت لي أن العكس صحيح أيضًا، وأن قوة الروح قد تُمدُّ الجسم الضعيف بقوةٍ تفوق إمكاناته. ولا أنسى قوله لي مُداعبًا: إنك تهتمُّ بالجسم كأنه كل شيء بينا القوة الحقيقية تكمُن في الروح، هي الخالدة أما الجسم فهو بناءٌ مُهلهَل قذر سيئ الأخلاق، سرعان ما يتقوَّض عقِب قرصة حشرة!

وهتف وكأنه نسِيَ وجودي تمامًا: لا أدري ماذا أريد، ولكني مليء بالرغبة، ألا ما أحزنَ الليلَ الطويل!

وكان يقبع في الظُّلمة مُنتظرًا الشروق، ثم يتلقَّى النور فيتألَّق بالفرح، حتى تلقَّى يومًا مع دفقة النور صوت الإله الواحد، وعصف الرعب بقلب طيبة المُطمئن. وقلت لنفسي: إنه ليس نسمةً من نسائم الربيع، ولكنه عاصفة من عواصف الشتاء!

واستدعاني الملك والملكة، وسألتني تيى: ما معنى هذا الصوت يا بنتو؟

فقلت بحَيرة: لعل آي الحكيم أقدر على الإجابة مني يا مولاتي.

فقال الملك بضجر: إنها تسألك كطبيب.

فقلت بإخلاص: لا أعرف عقلًا أنضج من عقله يا مولاي.

فسألني بحِدَّة: أهو يعبث بنا؟

فقلت بإخلاص: إنه صادق وأمين.

– يبدو أنك لا تملك تفسيرًا لذلك.

– هذا حق يا مولاي.

فسألني مُقطبًا: أأنت مؤمن بسلامة عقله؟

– أجل يا مولاي.

– ألا يحتمل أن يصدر صوت عن قوةٍ شِريرة؟

فقلت بصدق: العِبرة بما يدعو إليه.

فهتف غاضبًا: العِبرة بما سيرسل علينا من زوابع.

وجاء زواجه من نفرتيتي مُبشرًا بآمالٍ كثيرة، فأمَّل والداه كما أمَّلنا نحن أن الزواج سيعقل من اندفاعه ويردُّه إلى الاتزان والرؤية العملية، ولكن الزوجة كانت كاهنة، فانطلقا في طريقهما حتى نهايته لا تُوقفهما قوةٌ فوق الأرض. ومات أمنحتب الثالث وخلفه صاحب الرسالة، وشعر الجميع بدنوِّ المعركة، وتوتَّرت الأعصاب لأقصى حد. ودعاني الملك فيمن دعا من رجاله، وخيَّرني بين الإيمان بدينه وبين ممارستي لحياتي كيفما أشاء بعيدًا عن بلاطه، ولم أتردَّد في الاختيار، فأعلنت بين يدَيه إيماني بالإله الواحد. لم يكُن في وسعي الانفصال عنه أو الاستهانة بجاذبيته الفائقة، كما أنني أحببت إلهه واعتبرته فيما بيني وبين نفسي كبير الآلهة مع حفاظي على إيماني القديم بسائر الآلهة، خاصةً تحوت إله العلم الذي أُداوي المرض بتمائمه وتعاويذه. وتعاقبت الأحداث كما عرفت، ومضى الرجال يُشيدون للإله الجديد مدينته، وانتقلنا إليها في جمعٍ زاخر ونحن نردِّد الأناشيد، واستخفَّ الفرح الملك فهتف ووجهُه يطفح بالبِشر: ها نحن ضيوفك يا إلهي في مدينتك الطاهرة التي لم تُلوَّث بعبادة إله زائف …

واستقبلنا عهدًا سعيدًا تمنَّينا معه الخلود على الأرض، وجعلت أُقارن كل صباح بين ما يُلقى علينا في المعبد وبين طقوس الآلهة القديمة وأشعار كتاب الموتى، فلم يُخامرني شك في أن دفقات من نورٍ صافٍ تملأ أرواحنا بخمرٍ إلهيةٍ صافية.

وعرض لنا أول عارض من كدر بوفاة الأميرة المحبوبة ميكيتاتون، وقد توسَّل إليَّ قائلًا: بنتو، أنقِذ محبوبة قلبي.

ولما لفظت الجميلة أنفاسها أجهش في البكاء كما نفرتيتي وأكثر، وعاتَب إلهه عتابًا تجاوز حد الصبر، حتى قال مري رع الكاهن الأكبر: لا تُغضب الإله بدموعك يا مولاي.

فانفجر مُولولًا، من الحزن أو الندم أو كليهما معًا. وهتفت نفرتيتي: ما هو إلا سحر كهنة آمون!

وكانت تُردد ذلك القول كلما أنجبت بنتًا، وضاعت فرصةٌ جديدة لإنجاب ولي العهد. وكان هو يُشاركها الألم، ويحزن لحزنها، فسألني مرةً: أليس لدَيك من نصيحةٍ تُجدي لإنجاب ذكر؟

فقلت له: أبذل جهدي يا مولاي.

فسألني: أتؤمن بسحر الكهنة؟

فقلت كارهًا: لا يجوز الاستهانة به.

فتفكَّر مليًّا ثم قال لي واجمًا: لَينتصرن الإله الواحد، ويملأن الكون بأفراحه، ولكننا نحن البشر لن نخلوَ من أحزاننا الصغيرة.

لذلك كان سُرعان ما يعبُر جسر الحزن لينغمس في نور الحقيقة. ولما تتابعت كربات الأزمات في الداخل والخارج، أرسل إليَّ كاهن آمون الأكبر رسولًا سِريًّا، ذكَّرني بعهد طلبي العلم في معبد آمون، ثم طرح عليَّ هذا السؤال: أيمكن الرُّكون إليك لإنقاذ الوطن من الخراب الذي يتهدَّده؟

فأدركت من توِّي أنه يُطالبني كطبيب باغتيال الملك؛ ولذلك قلت له بنبرةٍ حاسمة: مهنتي تأبى الخيانة.

اجتمعت بمحو رئيس الشرطة، وطلبت منه مزيدًا من مراقبة الطُّهاة، هذا والأمور تمضي من سيئ إلى أسوأ.

وسكت الطبيب بنتو وقتًا ينشُد شيئًا من الراحة في خِضم الذكريات المُرهِقة، فتذكَّرت ما سمِعت من أقوالٍ مُتضاربة عن حياة إخناتون الجنسية، ورجَّحت ألا يعرض الرجل لها، فسألته عنها مدفوعًا بحب استطلاع لا يُقاوَم. وعند ذاك قال: كان جسمه يجمع بين خواص الذكر والأنثى، كذلك قسَمات وجهه، ولكنه كان رجلًا قادرًا على الحب والإنجاب.

ارتعشت شفتاي بسؤالٍ مُضطرم، وتردَّدت طويلًا، ثم استجمعت شجاعتي وسألته: هل ترامى إليك ما قيل عن علاقته بأمه؟

فتجهَّم وجهه وأجاب: وسمِعت مِثلما سمِعت أنت، ولكني أعتقد أنه محض افتراء! وتريَّث ووجهُه يزداد تجهُّمًا ثم قال: المسألة أنه كان إنسانًا فاق سموُّه أي إنسان، يُبشر بمملكةٍ إلهية لا تتوافق مع طبيعة البشر، فأشعر كل فرد بتفاهته، وتحدَّاه باستفزاز لا قِبل له به، فانهالوا عليه بالغضب البائس والحقد الحيواني …

فسألته مُتشجعًا بسماحته: وما رأيك في نفرتيتي؟

– ملكةٌ عُظمى بكل جدارة.

– وكيف تُفسر انفصالها عنه؟

– لديَّ تفسيرٌ واحد، هي أنها لم تصمد للضربات المُنهالة فأُصيبت بانهيار، فهربت بمرضها مغلوبةً على أمرها.

ثم واصَل حديثه قائلًا: وبلَغت المأساة ختامها الأسود بصدور قرار التخلِّي عنه، وقد استأذنت حور محب في السماح لي بالبقاء إلى جانبه بوصفي طبيبه الخاص، فأخبرني بأن الكهنة قرَّروا إرسال طبيب من لدنهم! ولكنه سمح لي بفحصه إذا شئت قبل الرحيل. وذهبت من فوري إلى القصر الذي لم يبقَ به إلا نفر من العبيد، ومجموعة للحراسة اختارها أعداؤه. وجدته في خلوته وحيدًا وكان يُصلي، مُغردًا بصوته الحنون:

إنك جميل، إنك عظيم.
بك يفرح قلب الإنسان،
وتخضرُّ الأشجار والأعشاب،
وتُرفرف الطيور،
وتقفز الحُملان.
خلقت ملايين الأشبال.
إنك في قلبي،
وليس هناك من يعرفك
غير ابنك إخناتون.

ولما فرغ من صلاته نظر نحوي باسمًا، فغضضت بصري دامع العينَين. سألني: كيف تيسَّر لك أن تجيء يا بنتو؟

فقلت بصوتٍ مُتهدج: سُمح لي بأن أفحص مولاي قبل الرحيل.

فقال في هدوء: إني في خير حال يا بنتو.

فقلت بأسًى: جميع الأوفياء أُكرهوا على الذَّهاب.

فقال باسمًا: أعرف من ذهب باختياره ومن ذهب على رغمه.

فانحنَيت حتى لثمت يده وأنا أقول: يعزُّ عليَّ أن تبقى وحدك.

فقال بهدوء: لست وحدي يا ضعيف الإيمان.

ثم بقوةٍ مُنعشة: يتصوَّرون أن الهزيمة حلَّت بي وبإلهي، ولكن إلهي لا يخون ولا يقبل الهزيمة.

وغادَرته مُتورم العينَين من البكاء وأنا على يقين من أن الطبيب المُنتدَب ليحلَّ محلِّي سيُزهق باغتياله أنبل روح حلَّت بجسدٍ بشري. وغُصت في وَحدة لم أخرج من وحشتها حتى الساعة …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤