كاهن آمون

رجعَت طِيبة إلى عهدها الزاهر بعد أن ذاقت مرارة الهِجران والانطواء على عهد «المارق». أصحبت العاصمة من جديد، يزين عرشَها فرعونُ الشاب توت عنخ آمون، وعاد إليها رجال السِّلم والحرب، واستقرَّ الكهنة في معابدهم، وعمَرت القصور، وغنَّت الحدائق، وشمَخ معبد آمون بأعمدته العملاقة وحديقته الزهراء، وماجت الأسواق بالباعة والناس والسِّلع. كل شيء يتألَّق بالعزة والاستقرار، وتيَّار السابلة لا ينقطع. وكنت أزورها لأول مرة في حياتي، فبهَرني جلالها وأبنيتها وناسها الذين لا يُحيط بهم حصر، واقتحمَتني أصواتها ونداءاتها وعجلاتها ومحفَّاتها، فتبدَّت لي بلدتي سايس بالمقارنة قريةً خاملةً خَرساء. وقصدت في الموعد المضروب معبد آمون، فاخترقت بَهوَ الأعمدة في إثر خادم، ثم مِلت إلى دِهليزٍ جانبي أوصَلني إلى الحجرة التي انتظرني بها الكائن الأكبر. رأيته يجلس في الصدر على كرسي من الآبنوس ذي مقبضَين من الذهب، شيخًا هرِمًا حليق الرأس، داخل نقبة طويلة واسعة، يلفُّ أعلاه بوشاحٍ أبيض. وضح لي أنه رغم شيخوخته يتمتَّع بحيويةٍ فائقة وقلبٍ مُطمَئن. حيَّا أبي ونوَّه بإخلاصه قائلًا: عرَّفَتنا المِحنة بالمُخلِصين من الرجال.

وأثنى على مشروعي مُتمتمًا: لقد حطَّمنا الجُدران بما سجَّلت من أكاذيب، ولكن الحقيقة يجب أن تُسجَّل.

وحنى رأسه كالمُمتنِّ وهو يقول: اليوم يتربَّع آمون على عرشه، ويقف في سفينته المقدَّسة بقدس الأقداس سيدًا للآلهة، حاميًا لمصر، رادعًا لأعدائها، ويستردُّ كهنته سيادتهم الشاملة، هو الإله الذي حرَّر واديَنا بيدِ أحمس، ومدَّ حدودنا شَمالًا وجنوبًا وشرقًا وغربًا بيدِ تحتمس الثالث، هو الإله الذي ينصر، ويُذل من يخونه.

فركعت إجلالًا حتى أذِن لي، فجلست على مقعدٍ مُنخفض بين يدَيه، واستجمعت حواسِّي للإصغاء، على حين راح الكاهن الأكبر يقول: إنها قصةٌ حزينة يا مري مون بدأت فيما يُشبه الهمس البريء، وجاءت البداية على يد الملِكة العُظمى أم المارق وزوجة فرعون العظيم أمنحتب الثالث. امرأة من الشعب لا يجري في عروقها دمٌ ملكي، من أسرةٍ نُوبية، وكانت قوية وداهية كأن في رأسها أربع أعيُن ترى الجهات جميعًا في وقتٍ واحد، وكانت في الظاهر تحرص على إرضائنا ومودَّتنا، ولن أنسى قولها لي يوم احتفال بعيد النيل: أنتم الخير والبَركة يا كهنة آمون!

وكان من عادتها أن تُحدق في الرجال الأقوياء بعينَيها النَّجلاوَين حتى يحنوا الرءوس مُتعثرين في ارتباكهم. ولم نتوجس منها خيفةً، ولا ننسى حب فراعين الأسرة المَجيدة لكهنة آمون، حتى وجدنا الملكة تهتمُّ بتوسيع مجال الدراسات الدينية لتشمل ديانات الآلهة الأخرى، وخاصةً الإله آتون. ولم يعدُ الأمر في ظاهره أن يكون زيادةً في المعرفة بدياناتٍ نحترمها جميعًا ونقدِّسها؛ فلم نجد ثَمة وجهًا للاعتراض، ولكن ساءنا أن تحظى الآلهة بذلك الامتياز في طِيبة مَوطن آمون. ولم يُلطف من مشاعرنا ما ردَّدته تيى من أن آمون سيظل سيِّد الآلهة إلى الأبد، كما أن كهنته سيظلُّون على رأس كهنة مصر بلا استثناء. وقال لي توتو الكاهن المرتِّل: إني أستشفُّ وراء القرار سياسةً جديدة لا شأن لها بالدين في ذاته!

فطالَبته بمزيد من الإيضاح، فقال: الملكة العظمى تخطب ود كهنة الأقاليم لتُقيم توازنًا بيننا وبينهم، فتُحدَّ من سلطان الكهنة وتقوِّيَ سُلطة العرش.

فقلت له ولم أكُن أخلو من الهواجس: نحن خُدام الإله والشعب، نحن المعلِّمون والأطبَّاء، والمُرشِدون في الدنيا والعالم الآخَر، والملكة العظمى سيِّدةٌ حكيمة، وهي لا شك تُقرُّ لنا بالفضل.

فقال توتو بامتعاض: النِّزاع على السلطة، والملكة قويةٌ طَموح، وهي في رأيي أقوى من الملك نفسه!

فقلت وكأنما أُناقش مَخاوفي: نحن أبناء الإله الأعظم، ووراءنا تراثٌ أقوى من الدهر.

ولعله من المُفيد الآن أن أحدِّثك عن الملك أمنحتب الثالث. لقد شيَّد له جده تحتمس الثالث إمبراطورية لم تُسبَق بمثيل في اتِّساعها وتعدُّد أجناسها. وكان ملكًا قويًّا، يثِب للدفاع عن أملاكه عند أول نذير يخطر، وحقَّق انتصاراتٍ حاسمةً حتى دانَت له الإمبراطورية بالطاعة الكاملة، غير أن عهده الطويل غلب عليه السلام والرخاء. جنى هو ثمار ما تعِب أسلافه في زرعه، فانهمرت عليه المحاصيل والثياب والمعادن والنساء، وبنى القصور والمعابد والتماثيل، وغرِق حتى أذُنَيه في الطعام والشراب والنساء. وعرَفت المرأة الداهية نقاط القوة والضعف في زوجها فاستثمرتها على خير ما يكون الاستثمار. شجَّعَته على الحرب حين الحرب، وتسامَحَت معه في شهواته مضحِّيةً بقلبها كامرأة لتُشاركه سلطانه بكل جدارة، ولتُمارس طموحها غير المحدود. ولا أُنكر أنها كانت ملمَّةً بكل صغيرة وكبيرة من شئون مصر أو الإمبراطورية، ولا أنكر إخلاصها وبُعد نظرها وحِرصها على المجد والعظمة، ولكني آخُذ عليها نهَمَها للسلطة؛ ذلك النَّهَم الذي سوَّل لها أن تستغلَّ الدين بنعومة ودهاء لتستأثر بالقوة للعرش دون الكهنة أجمعين. ثم تبيَّن لي أن ثَمة أفكارًا أخرى تدور برأسها؛ فقد زارت المعبد يومًا لتقديم القرابين، وتقدَّمَتني بعد ذلك إلى مَثوى الراحة بقامتها القوية المُتوسطة، فلما استقرَّ بنا المجلس سألتني: ماذا يحزنك؟

وجعلت أفكِّر في اختيار رد مُناسب، ولكنها عاجَلتني قائلةً: إني أقرأ أسرار القلوب مِثل الكهنة، إنك تظن أني أرفع من شأن الكهنة الآخرين على حساب كهنة آمون؟

فقلت مسلِّمًا: كهنة آمون هم أُمناء أسرتكم المجيدة …

فقالت وعيناها تبرُقان: إليك ما أفكِّر فيه أيها الكائن الأكبر، آمون سيِّد آلهة مصر، وهو يقوم أمام رعايانا في الإمبراطورية رمزًا للسلطة وربَّما للهزيمة، أما آتون إله الشمس فإنه يُشرق في كل مكان، وبوُسع أي مخلوق أن ينتميَ إليه دون غضاضة!

تُرى أهذا حقًّا ما تفكِّر فيه أم إنه حُجَّة جديدة تُداري بها رغبتها الحقيقية في تقليم أظافرنا؟ على أن الفكرة نفسها لم تفُز بإقناعي، وقلت: مولاتي، أولئك المتوحِّشون يحكمون بالقوة لا بالمودَّة!

فقالت باسمةً: وبالمودَّة أيضًا، ما يصلُح لمعاملة الوحوش لا يصلُح لمعاملة الحيوان المُستأنَس …

وآمَنت بأنها رؤيةٌ أنثويةٌ عقيمة، وقد تُثمر عواقب وخيمة، وهذا ما أثبتته الأحداث الأليمة فيما بعد.

وسكت الكاهن الأكبر كأنما ليتأمَّل أو ليتذكَّر، ثم واصَل حديثه: ومما يُذكَر أنه صادَفَتها في مَطلع حياتها الزوجية متاعب، فلبِثت مدةً غير قصيرة لا تُنجب، تُعاني المخاوف من شبح العقم، ويُضاعف من مخاوفها أصلها الشعبي. وبفضل آمون وكهنته، وبفضل الدعوات الصالحات والسحر القوي، حملت الملكة، ولكنها أنجبت بنتًا! وكلما التقَينا في القصر أو المعبد رمَقتني بنظرةٍ حذِرة مُترَعة بسوء الظن كأنني المسئول عن سوء حظها. وما كنا نفكِّر في تعكير صفو العرش أبدًا، ولكنها كانت قليلة الثقة في الناس لفساد طويَّتها.

وسكت مرةً أخرى كالمتردِّد ثم قال: وبطريقةٍ غامضة أنجبَت ذَكرَين!

وتريَّث الرجل حتى اشتعلت تساؤلاتي الخفيَّة، ثم قال: مات أكبرهما وأصلحهما، وبقيَ الآخر ليُمارس شذوذه في تخريب مصر.

وقرأ الكاهن تساؤلاتي المُحرقة، فقال: نحن نعرف كيف نصيد الحقيقة وإن امتنعت عن الكثيرين، لنا من السحر قوة، ولنا من العيون قوة … فالمارق مجهول الأب، فاقد الرجولة، مؤنَّث الصورة، مُتنافر القسَمات … وعلى مثال أبيه تزوَّج من فتاة من الشعب، جمعت في شخصها مِثل أمه بين الأصل الشعبي والطموح الجنوني والفِسق، جميلة عنيدة مُتحدية؛ فاندفعت معه في سياسته المدمِّرة، وأنجبت له ست بنات من رجالٍ آخرين. ورغم حبه الظاهر لها فلعلَّه لم يُحب في الواقع إلا أمه، أعطته الحياة والأفكار. ولشِدَّة التصاقه بها شعرَ بوَحدتها وآلامها، فحنق على أبيه حنقًا دعاه إلى الانتقام منه بعد موته، فمحا اسمه من الآثار بحُجَّة اقترانه باسم آمون، أما الحقيقة فهي أنه أعدمه بعد موته بعد أن عجز عن قتله في حياته. وقد لقَّنته أمه دين آتون الذي آمَنت به لأهدافٍ سياسية، ولكنه آمَن به إيمانًا حقيقيًّا نابذًا السياسة التي لم تُوافق طبيعته الأنثوية، ومنه مرق إلى الكفر، وهو ما لم تتوقَّعه أمه نفسها. ما زِلت للأسف أتذكَّر صورته الكريهة … ما كان رجلًا وما كان امرأة، وكان ضعيفًا لحد الحقد على الأقوياء جميعًا من رجال وكهنة وآلهة. وقد اخترع إلهًا على مثاله في الضعف والأنوثة، تصوَّره أبًا وأمًّا في وقتٍ واحد، وتصوَّر له وظيفةً وحيدة هي الحب! فكانت عبادته رقصًا وغِناءً وشرابًا، وغرِق في مُستنقَع الحماقة مُعرِضًا عن واجباته الملكية، على حين كان رجالنا المُخلِصون في الإمبراطورية وأحلافنا الأوفياء يتساقطون تحت ضربات العدو، يستغيثون ولا يُغاثون، حتى ضاعت الإمبراطورية، وخربت مصر، وخوَت المعابد، وجاع الناس. هذا هو المارق الذي سمَّى نفسه إخناتون!

وصمتَ الكاهن الأكبر تحت وطأة الانفعال وحِدَّة الذكريات، ثم شبك أصابع يدَيه في قبضةٍ واحدة، وراح يقول: ومنذ نشأته الأولى جاءتني الأخبار عنه بلسان رجال لي في القصر ممن نذروا أنفسهم لآمون والوطن، وعنهم عرفت أن وليَّ العهد ينجذب نحو آتون ويُهمل آمون، وأنه رغم حداثة سنه يلوذ بخلوة على شاطئ النيل يستقبل فيها الشروق بالأغاني. أدركت لتوِّي أنه صبيٌّ غريب يُنذر بالمتاعب. وسعَيت إلى مقابلة العرش، وأفضيت هناك للملك والملكة بمخاوفي. وابتسم أمنحتب الثالث وقال: ما زال ابني طفلًا.

فقلت: ولكن الطفل يكبر ويحتفظ في أعماقه بأفكار طفولته.

فقالت تيى: إنه ينشُد الحكمة في كافَّة مظانِّها بقلبٍ بريء.

قال فرعون: عما قريبٍ يبدأ تدريباته العسكرية، ويعرف أهدافه الحقيقية.

فقالت تيى: لا حاجة بنا إلى المزيد من البُلدان، ولكننا في حاجة إلى الحكمة للمحافظة عليها …

فقلت بوضوح: لا سبيل إلى المحافظة عليها إلا بالاعتماد على آمون وممارسة القوة.

فقالت المرأة الداهية: ما رأيت حكيمًا يستهين بالحكمة مِثلك يا كاهن آمون!

فقلت بإصرار: إني لا أستهين بالحكمة، ولكني أراها لغوًا بغير سند من القوة.

فقال أمنحتب: لا خلاف في هذا القصر على أن آمون هو سيِّد الآلهة.

فقلت بقلق: إنه انقطع عن زيارة المعبد.

فقال الملك: صبرًا، عما قليل سيؤدي كافة واجباته كوليٍّ للعهد …

لم أرجع من اللقاء بما يسكِّن الخواطر، بل لعل مخاوفنا — نحن الكهنة — وجدت ما يسوِّغها ويقوِّيها. وجاءتنا أنباءٌ جديدة عن حوارٍ دار بينه وبين والِدَيه، أدركنا منه أن ذلك الجسد المهزول ينطوي على سراديب قوة وعناد شِريرة تُنذر بأوخم العواقب. وذات يومٍ قابَلني أحد أتباعي وقال لي: الشمس نفسها لم تعُد إلهًا!

فسألته عما يعني، فقال: إنهم يتهامسون هناك عن إلهٍ جديد لم يُعرَف من قبلُ تجلَّى لروحِ وليِّ العهد، وطالَبه بأن يعبده باعتباره الإله الوحيد الحقيقيَّ في الوجود، هو وحده لا شريك له، وكل معبود سِواه باطل.

صعَقني الخبر صعقًا، وأيقنت أن الموت الذي خطف الأخ الأكبر أهوَن وأرحم من الجنون الذي حلَّ بالأصغر، وتجسَّدت أمام عيني الكارثة في أبشع صورة.

– أأنت واثقٌ مما تقول؟

– إنما أنقل إليكم ما يتهامس به الجميع.

– وكيف تجسَّد له ذلك الإله المزعوم؟

– سمِع صوته فقط …

– لا شمس ولا نجم ولا تمثال؟

– لا شيء البتَّة.

– وكيف يعبد ما لا يرى؟

– إنه يؤمن بأنه القوة الوحيدة الخالقة.

– لقد أذاب المجنون ذاته في اللاشيء!

وقال الكاهن المرتِّل توتو: لقد جُن وفقدَ الأهلية لتولِّي العرش.

فقلت برجاء: اهدأ يا توتو؛ فمهما كفر فستظلُّ الآلهة باقيةً معبودة للملايين …

فتساءل بحِدَّة: ولكن كيف يتولَّى العرشَ كافرٌ مارق؟

فقلت بكآبة: فلننتظر حتى تُعلَن الحقيقة، ثم نُقدِم على طرح الموضوع للمناقشة مع الملك، وسوف تكون المناقشة الأولى من نوعها في تاريخنا الطويل …

وحدَث أن تزوَّج وليُّ العهد من نفرتيتي الابنة الكبرى للحكيم الصديق آي. كانت أيضًا مِثل الملكة العظمى تيى من أصلٍ شعبي، ولكني تعلَّقت بأملٍ واحد رآه، وهو أن يردَّه الزواج إلى شيء من التوازن. ودعوت آي إلى مقابلتي فوجدته حذِرًا في حديثه، فقدرت حرج مركزه، ولم أُشِر من جانبي إلى أنباء الكفر، ولكني اتَّفقت معه على أن يرتِّب لتدبير زيارة سِرية تتمُّ بيني وبين ابنته. وتأمَّلتها بعين فِراستي المستمدَّة من روح آمون، فتكشَّف لي جمالها عن قوةٍ ذكَّرتني بالملكة العظمى تيى، فرجوت أن تكون هذه القوة لنا لا علينا. وقلت لها: تقبَّلي بَركاتي يا ابنتي وابنة صديقي آي.

فشكرتني بعذوبة، فقلت: أرى من واجبي أن أذكِّرك، ولستِ في حاجة إلى تذكير، بأن العرش يقوم على ثلاثة؛ آمون سيِّد الآلهة، وفرعون، والملكة.

فقالت: سعيد من يُصغي إلى حكمتك.

فقلت: والملكة الحكيمة تُشارك الملك في المحافظة على الوطن والإمبراطورية.

فقالت بثبات: أيها الكاهن المقدَّس، قلبي مليء بالحب والإخلاص.

فقلت بوضوح: مصر مَثوى التقاليد الخالدة، والمرأة هي الوعاء المقدَّس للتقاليد.

فقالت بالثبات نفسه: وقلبي مليء بالواجب أيضًا.

يا لها من حذِرةٍ متحفِّظة كتمثال بلا نقوشٍ تفسِّره. لقد تكلَّمَت ولم تقُل شيئًا، ولم يكُن بوسعي أن أُكاشفها بأكثر من ذلك. غير أنها في الحقيقة قد قالت أكثر من المتوقَّع. إن تحفُّظها يعني أنها تعرف كل شيء، وأنها لن تكون معنا. إنها مرشَّحة للعرش بضربةِ حظٍّ خليقة أن تُدير أكبر رأس، وسيكون همُّها الأول في الحياة المحافظةَ على العرش، لا آمون ولا الآلهة. وأقمت مع الكهنة صلاةً للحزن في قدس الأقداس، ثم وافَيتهم بفحوى الحوار بيني وبين نفرتيتي، فقال توتو معلِّقًا: سينكشف الغد عن ليلٍ طويل.

ثم خلا إليَّ مُتسائلًا: ألا تستطيع أن تُناقش المستقبل مع القائد ماي؟

فلمحت ما يرمي إليه وقلت بصراحة: لا نستطيع أن نتحدَّى أمنحتب الثالث والملكة العظمة تيى.

بدا أن الأمور لا تسير يسيرةً في القصر بين المجنون ووالِدَيه؛ من أجل ذلك صدَر أمرٌ ملكي لوليِّ العهد ليقوم برحلة تعارُف في أرجاء الإمبراطورية. ولم أشكَّ في أن الملك أراد أن يعرف ابنه رعاياه، وأن يعيش الواقع لعله يُفيق من ضلاله. وحمِدت له ذلك في نفسي، غير أن كآبتي ظلَّت راسخة. وفي أثناء الرحلة حدَثَت أمور على جانبٍ كبير من الأهمية؛ فقد أنجبت تيى توءمَين هما سمنخ رع وتوت عنخ آمون. بعد فترة تدهوَرَت صحة الملك العجوز ومات، ورحل مبعوثون إلى وليِّ العهد بالأخبار ليرجع فيتولَّى سلطته. وتشاوَرنا نحن الكهنة حول مستقبل البلاد فاتَّفقنا على رأي. وسعَيت إلى مقابلة الملكة تيى رغم الحِداد وانشغالها بتحنيط زوجها. وجدتها في حزنها قويةً ثابتةً واعية بأهدافها، وكان عليَّ أن أُصارحها بما جئت من أجله مهما كلَّفني ذلك. قلت: جئت يا مولاتي لأُفضيَ برأيي إلى الأم الشرعية للإمبراطورية.

وأصغَت إليَّ ومَنظرها يُوحي بأنها تحدس بفطنةٍ ما سيُقال.

– مولاتي، أصبح معروفًا أن وليَّ العهد قد كفر بجميع الآلهة.

فتجهَّم وجهها وقالت: لا تصدِّق كل ما تسمع.

فقلت بلهفة: إني على استعداد لتصديق ما تقولين يا مولاتي.

فقالت باقتضاب: إنه شاعرٌ أيها الكائن الأكبر.

ولذَّت بالصمت بغير اقتناع، فقالت بثقة: سوف يعرف واجبه تمامًا.

فقلت مُستجمعًا شجاعتي: مولاتي تعرف عواقب الكفر بالآلهة على العرش!

فقالت بضِيق: لا خوف على عبادة الآلهة!

فقلت مُستزيدًا من شجاعتي: أمامنا حلٌّ إذا مسَّت الضرورة إليه، وهو أن نولِّيَ أحد ابنَيك الصغيرين وتكوني الوصيَّة على العرش!

فقالت بحزم: سيحكم أمنحتب الرابع؛ لأنه وليُّ العهد.

هكذا غلَبت الأم العاشقة الملكةَ الحكيمة، وضيَّعت فرصة النجاة، وأتاحت للقدر أن يضرب ضربته القاتلة.

ورجع وليُّ العهد المؤنَّث المجنون. ودُفِن الملك الأب في مَوعده. وسُرعان ما طُلبت لمقابلته بصفته الرسمية. لأول مرة أراه عن قُرب وأُمعن فيه النظر. كان ذا سُمرةٍ غامقة، وجسمٍ طويلٍ نحيل، وعينَين حالمتين، وتكوينٍ أُنثوي لا يخفى على أحد، أما ملامحه فمُتنافرةٌ مُثيرة للقلق. إنه كائنٌ هزيلٌ حقير لا يليق بعرش، ولا يتصور أن يتحدى بعوضةً لا آمون سيد الآلهة. ودارَيت تقزُّزي وعزَّيته مُقتبسًا من حِكم الحكماء وشِعر الشعراء، وهو يرمقني بنظراتٍ محيِّرة، لا كراهية فيها ولا تحدٍّ ولا ود. وشتتَّ منظره فِكري لدرجة أن غلَبني الصمت، فبادَرني هو قائلًا: طالما تسبَّبت لي في مناقشاتٍ مُرهِقة مع والديَّ!

فاسترددت قُدرتي على الكلام فقلت: لا همَّ لي في الحياة إلا آمون والعرش ومصر والإمبراطورية …

فقال بهدوء: لديك ما تقوله ولا شك.

فقلت وأنا أتأهَّب لخوض المعركة: سمِعت أنباءً مُقلِقة، ولكني لم أصدِّقها.

فقال بلا مُبالاة: إنها حقيقية!

فذهلت وانعقد لساني، فواصل حديثه: إني المؤمِن الوحيد في بلد من الضالِّين.

– لا أصدِّق أُذنيَّ.

– بل صدِّقهما، لا إله إلا الإله الواحد.

واقتحمني الغضب لعقيدتي؛ فلم أعُد أُبالي بالعواقب دفاعًا عن آمون وسائر الآلهة.

وقلت بصراحةٍ مُخيفة: هذا تجديف لن يغفره آمون لبشر …

فقال بهدوءٍ باسم: لا يملك منحَ المغفرة إلا الإلهُ الواحد.

فقلت وأنا أنتفض من شدة الانفعال: إنه لا شيء.

فبسط ذراعَيه بحنان وقال: هو كل شيء؛ الخالق … القوة … الحب … السلام … السرور.

ثم ثقبني بنظرةٍ نافذة تتناقض تمامًا مع هيكله الواهن: إني أدعوك للإيمان به.

فقلت محذِّرًا مُحتدًّا: احذر غضب آمون، إنه قادر على المنع قُدرتَه على العطاء، قادر على العون قُدرتَه على الخذلان، قادر على التأمين قُدرتَه على التدمير، خفْ على رزقك وذُريتك وعرشك وإمبراطوريتك.

فقال مُتماديًا في الهدوء: إني طفلٌ يحبو في رحاب الواحد، وبرعمةٌ تتفتح في حديقته. إني راض بقدره، خادم لأمره. وقد تعطَّف فتجلَّى لروحي حتى أُترعت بالأنوار، وسالت بالأنغام. ولن أُبالي بعد ذلك بشيء!

فقلت بغضب: إن وليَّ العهد لا يصير فرعون حتى يُتوَّج بين يدَي آمون!

فقال باستهانة: بل يُتوَّج تحت نور الشمس في رعاية الخالق الوحيد …

وافترقنا على أسوأ حال. معي آمون والمؤمنون، ومعه تراث أسرته المجيدة، ومنزلته المقدَّسة عند رعاياه، وجنونه الذي لا يُبالي بشيء. وتوثَّبت للحرب المقدَّسة موطِّنًا نفسي على التضحية فِداءً لإلهي ووطني، ولم أتوانَ عن العمل لحظةً. وقلت لأبنائي الكهنة: فرعون الجديد كافر، عليكم أن تعلموا بذلك، وأن تُعلِموا الناس به …

ورغم حماسي وجدتني مسُوقًا إلى كبح جِماح توتو الكاهن المرتل، فاقترحت عليه الانضمام في الظاهر إلى المارق ليكون عينًا لنا عليه، ومن ناحيةٍ أخرى فلم يتوانَ الملك أيضًا عن العمل، فتمَّ التتويج في رحاب الإله المزعوم، وأصرَّ بتشييد معبد له في طيبة؛ مدينة آمون المقدسة، وراح يَعرِض دينه على الرجال ليختار مُعاونيه؛ فأعلن صفوة مصر إيمانهم بدوافع شتَّى ولهدفٍ واحد، وهو تحقيق طموحهم على حساب عقيدتهم. ولو جاهَر الرجال بالعِصيان لتغيَّر المصير، ولكنهم سقطوا كالنساء الداعرات. هذا الحكيم آي اعتبر نفسه ضِمن الأسرة، فأسكره الجاه وأعماه، وحور محب الجندي الشجاع لم يكُن صاحب عقيدة صادقة؛ فكان الأمر بالنسبة إليه مجرَّد تغيير اسم لا معنى له، أما الآخرون فلم يكونوا سوى مُنافقين لا همَّ لهم إلا الجاه والمال. ولولا ارتدادهم عن غيِّهم في اللحظة الحرِجة لاستحقُّوا القتل. وقد فازوا بالحياة، ولكنني لا أُكنُّ احترامًا لأيٍّ منهم. واشتدَّ التوتر في طيبة، وانقسم الناس بين الولاء لآمون والولاء للمجنون سليل أعظم أسرة في تاريخنا المجيد. وجزِعت الملكة الوالدة تيى وهي ترى غرس يدَيها وهو يتحوَّل إلى نباتٍ سام، وهو ينحدر نحو الهاوية جارًّا معه أسرته إلى الفناء. وواظبت على زيارة معبد آمون وتقديم القرابين، مُحاولةً تلطيف موجة التمرُّد العارمة التي تهدِّد باقتلاع العرش. وجعلت تقول لي: بالولاء تكسبون، وبالتمرُّد تخسرون …

وكنت أقول لها: كيف تُطالبيننا بالولاء لكافر؟! ليتكم آمنتم بنصائحي!

فتقول لي: علينا أن نطرد اليأس من أفقنا!

لقد ثبت عجزها أمام ابنها المؤنَّث المدلَّل، وانهارت قوتها التقليدية حِيال قوة جنونه الخفيَّة، ولم يكن مفرٌّ من أن نُواصل القتال حتى النهاية. من أجل ذلك ضاق المجنون بطيبة، وترامت إلى مسمعه هتافاتٌ عدائية في عيد آمون، فادَّعى أن إلهه أمره بالهجرة إلى مدينةٍ جديدة تُشيَّد من أجله. هكذا أجبرناه على الهجرة مصحوبًا بثمانين ألفًا من المارقين ليُقيموا لأنفسهم سجنًا تحلُّ به اللعنة. وخلا لنا الجو لإدارة معركتنا المقدَّسة، وخلا له الجو للإمعان في الكفر والضلال حتى انقلبت العاصمة الجديدة مدينةً للملاهي والسُّكْر والعربدة والفسق التي يبشِّر بها إلهٌ مجهول الهُويَّة، شعاره الحب والسرور! وكلما ألحَّ على المجنون ضعفه الطبيعي غالى في إظهار قوته؛ فأمر بإغلاق المعابد، ومصادرة الآلهة وأوقافها، وتشريد الكهنة. وقلت لأبنائي الكهنة: لا قيمة للحياة بعد إغلاق المعابد؛ فأحِبُّوا الموت.

وقد وجدنا في بيوت المؤمنين مأوًى، وفي قلوبهم جيوشًا، فواصلنا الجهاد بهمَّةٍ مُتصاعدة، وأملٍ يقترب من الشروق يومًا بعد يوم. وتمادى المارق، فقام بزيارات إلى الأقاليم داعيًا شعبه إلى الكفر. وشدَّ ما عانى الشعب في تلك الأيام السُّود من تمزُّق بين ولائه لآلهته وولائه لملكه الذي أذهلهم بجسمه المُتهافت، وطابعه الأُنثوي، ووجهه المنفِّر، وزوجته الجميلة الفاسقة.

تلك كانت أيام الأحزان والعذاب والنفاق والندم والدموع المُنهمرة والرعب من غضب الآلهة. وأحدثت رسالة الحب المؤنَّث آثارها، فاستهتر الموظَّفون بواجباتهم، واستغلُّوا الناس أبشع استغلال، وسرى التمرُّد في أنحاء الإمبراطورية، واستهان بحدودها الأعداء، واستغاث بنا الأمراء المُخلِصون، فأرسلت إليهم الأشعار بدلًا من الجيوش، فقُتلوا دفاعًا عن إمبراطوريتنا وهم يلعنون الخائن المارق المجنون. وتوقَّف الخير المتدفِّق على أرض مصر من جميع البُلدان حتى خلت الأسواق، وأفلس التُّجار، وجاع العِباد. وصِحت بأعلى صوتي: ها هي لعنة آمون الغاضب تحلُّ بنا؛ فإما القضاء على المارق، وإما الحرب الأهلية.

ولم أدع فرصةً للخير لم أجرِّبها لتجنيب البلاد ويلات الحرب، فقابلت الملكة الأم تيى، وقالت لي بحرارة: إني حزينة أيها الكاهن الأكبر.

فقلت بمرارة: لم أعُد كاهنًا أكبر، لست إلا شريدًا مُطاردًا …

فقالت مُلعثمةً: إني أسأل الآلهة أن تمدَّنا برحمتها.

فقلت لها: لا بد من العمل، إنه ابنك، وهو يُحبُّك، وإنك تتحمَّلين تبِعةً لا يُستهان بها فيما انتهت إليه الأمور، فبادِريه بنصحك قبل أن تنشب حربٌ أهلية لن تُبقيَ على شيء …

فقالت بامتعاض لتذكيري لها بمسئوليَّاتها فيما حدث: لقد قرَّرت السفر إلى العاصمة الجديدة أخت آتون …

ولا أُنكر أنها بذلت جهدًا، ولكنها لم تستطع أن تُصلح ما أفسدت. ولم أستسلم لليأس، فسافرت بنفسي مُجازفًا إلى أخت آتون، واجتمعت بالرجال وقلت لهم: إني الآن أتكلَّم من موقع القوة، وورائي رجال ينتظرون إشارةً للانقضاض عليكم، ولكني آثرت أن أحاول محاولةً أخيرةً لإنقاذ ما يمكن إنقاذه دون سفك دماء أو خراب، وسأترك لكم مهلةً لتؤدُّوا واجبكم وترجعوا إلى ضمائركم …

وقرأت في وجوههم الاقتناع بما قلت، وبصرف النظر عن دوافعهم الحقيقية فقد أدَّوا ما طالبتهم به، وجنَّبوا البلاد شرَّ ويلاتٍ كثيرة. قابَلوا المارق المجنون، وطالَبوه بأمرَين عاجلين؛ إعلان الحرية الدينية، وإرسال جيش للدفاع عن الإمبراطورية. ولكنه رفض مُعلنًا بذلك جنونه على الملأ. وعند ذاك طالَبوه بالتنازل عن العرش، وله أن يحتفظ بعقيدته، بل وأن يدعوَ إليها كيفما شاء، ولكنه رفض أيضًا. غير أنه عيَّن أخاه سمنخ رع شريكًا له في العرش، فتجاهلنا أمره، واخترنا توت عنخ آمون ليجلس على العرش مُختارًا منا. وبإزاء عِناد المجنون قرَّر الرجال هجره وهجر مدينته، وإعلان ولائهم لفرعون الجديد؛ بذلك تغيَّرت الدولة بلا حرب ولا خراب، وفي نظير ذلك عدَلنا عن الانتقام من المجنون وزوجته، ومن أبقى على الوفاء له من رجاله.

وفتحت المعابد أبوابها، وهرع إليها المؤمنون بعد حِرمان طويل، وانقشع الكابوس، ومضى كل شيء يعود إلى أصله على قدر الإمكان. أما المارق فبعد أن شبِع جنونًا أدركه المرض، وما لبِث أن مات خائب المَسعى في الدنيا، وفاقد الأمل في العالم الآخر، مخلِّفًا وراءه زوجته الشِّريرة تُعاني الوَحدة والهجر والندم.

وصمت الرجل طويلًا وهو يرنو إليَّ، ثم قال: نحن نضمد جِراحنا، يلزمنا عملٌ كبير وشاق، خسارتنا في الداخل والخارج أكبر من أن يُحيط بها حصر. كيف حدث هذا؟! … كيف أُتيح لمجنونٍ مشوَّهٍ أن يفعل بنا ذلك كله تحت سمع العُقلاء وبصرهم؟!

وتريَّث قليلًا ثم خاطَبني قائلًا: لقد كشفت لك عن الحقيقة خالصةً بلا تزويق ولا تشويه، فسجِّلها في دفترك بأمانة، وأبلِغ تحيَّاتي والدك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤