توتو

لم أكفر بإلهي آمون قط، ولم أنضمَّ إلى قافلة المُنافقين والانتهازيين، ولكنني خدمت المارق بالاتفاق مع كاهن آمون الأكبر لأكون عينه اليقِظة في القصر، ويده الضاربة عند الضرورة.

هكذا بادَرني توتو وزير الرسائل في عهد إخناتون دافعًا عن نفسه تهمة النفاق التي تحلِّق فوق رجال إخناتون. وقد قابلته في مقصورته بالمعبد حيث يشغل وظيفة الكاهن المرتل في عهد توت عنخ آمون كما شغلها في عهد أمنحتب الثالث. وهو رجل دين ريَّان الوجه، جاحظ العينَين، عنيف الأعصاب. ودون تردُّد راح يُعطيني تصوُّره عن المأساة. قال: امتازت هذه الأسرة العريقة بملوكها العظام، فلم يتسلل إليها الخَوَر إلا حين اختار أمنحتب الثالث شريكته في العرش من أسرةٍ شعبية، فاستعارت له ذلك الوريث الأرعن المخبول. وقد اتبع الملوك العِظام معنا — نحن كهنة آمون — سياسةً جديدة. عرفوا لآمون قدره وفضله، وآمنوا به كبيرًا لجميع الآلهة، وفي الوقت نفسه أولَوا كهنة الآلهة الأخرى رعاياتهم؛ ليضمنوا إخلاص الجميع، وليُقيموا بيننا وبين بقيَّة الكهنة توازنًا يُضاعف من قوة العرش واستقلاله. ولم تُصادف تلك السياسة هوًى في نفوسنا، ولكنها لم تبلُغ بنا حد الاستياء أو الاعتراض، ولم تنَل من سموِّ مركزنا. ولما ولي العرش المارق وجد الطريق أمامه واضحًا، وكان من الممكن أن يسير فيه بسلام مُلتزمًا بمنهج آبائه وأجداده، ولكن الخنفساء توهَّمت أنها أسد فكانت الكارثة. لم يكُن كأحد من سابقيه في القوة أو الحكمة، وكان واعيًا بضعفه وقبحه وأنوثته، ولكنه أُوتي من المكر والخبث ما لا يُتاح إلا لمن أذلَّه الضعف وأحرقه الحقد، فقرَّر أن يتخلَّص من جميع الكهنة ليخلوَ له وجه الملك وحده، ثم ينصِّب نفسه إلهًا يستأثر بالعبادة دون شريك إلا إلهًا وهميًّا يتَّخذه قِناعًا لطموحه. ومضت تبلُغنا أنباء عن معجزات الصبي الذي تفُوق قُواه سنه الصغير، حتى عرفنا حكاية الإله الجديد الذي تجلَّى له ودعاه إلى الكفر بجميع الآلهة. وقلت يومها للكاهن الأكبر: إنها مؤامرة، ويجب أن تُقتَل في مهدها.

وبدا أنه لا يسلِّم بأنها مؤامرة، فقلت: إني أتَّهم الملكة تيى والحكيم آي، أما الغلام فلا مسئولية عليه.

فقال الكاهن الأكبر: لا أُعفي الملكة من جانب من المسئولية، ولكنها مسئولية الخطأ في التقدير، أما آي فقد توكَّد لي أنه لا يقلُّ عنا انزعاجًا …

ولم يسعني إلا تصديقه؛ فهو معصوم من الخطأ، فقلت: إذن فنحن حِيالَ كائن قد حلَّت فيه روح ست إله الشر، فيجب اغتياله فورًا.

فقال الكاهن: الأمر لم يُفلت بعدُ من يدَي الملك والملكة …

وآمنت بأننا سندفع ثمن تردُّدنا غاليًا. وجعلت أدعو إلهي مردِّدًا:

يا آمون أنت سيِّد الصامتين،
الذي يأتي على صوت الفقير.
عندما ناديتك في مِحنتي
جئت لتخلِّصني.
يا آمون يا سيد طيبة إنك أنت
الذي تخلِّص من في العالم السُّفلي.
إذا ناداك إنسان
فإنك أنت الذي تحضر من بعيد.

ومضى يسرد لي الحوادث التاريخية كما سمِعتها من قبل؛ رحلة الأمير في الإمبراطورية، عودته، اعتلاؤه العرش.

•••

وهنا قال معلِّقًا: أعلن الرجال إيمانهم بدينه بين يدَيه ليتبوَّءوا مراكزهم في الدولة الجديدة. لقد سقط الجميع بلا كرامة، فأتاحوا للمكر الخبيث أن ينفُث سُمَّه ويُهلك الأرض، ولا عذر لهم عن خيانتهم؛ فهم مسئولون جميعًا عما حلَّ بنا من خراب. قلت للكاهن الأكبر: لا جريمة بلا عقاب، يجب اجتياح أخت آتون وقتل المارق والمارقة وآي وحور محب وناخت وبك …

فقال: الوطن لا يحتمل مزيدًا من الخراب.

فقلت بإصرار: لا بد من دم لنحظى برضا آمون.

فقال: إني أدري بما يُرضي إلهي.

فصمت وباطني يغلي بالحنَق؛ فإني أومن بأن الجريمة التي تُفلت من العِقاب تكرِّس الإثم بين الناس، وتُزعزع الثقة في العدالة الإلهية، وتُمهد لارتكاب المزيد من الجرائم. وشدَّ ما يسوءني أن أرى أحدهم وهو يَنعَم بعزلةٍ آمنة، أو يعمل بين الشُّرفاء كأنه أحدهم، كيف نوفِّر الأمان لمن شارَك في إلحاق الخراب بنا؟!

•••

وواصَل سرده للأحداث؛ بناء أخت آتون، الانتقال إلى المدينة الجديدة، الانغماس في نشر الدعوة.

•••

قال: بتُّ قريبًا منه، أعمل في رحابه، وأتلقَّى كالآخرين هذيانه، فعرفته على حقيقته أكثر من ذي قبل. كان يمكن أن يكون شاعرًا أو مُطربًا، ولكنه جلس على عرش الفراعنة، فكانت الكارثة. قرَّر منذ البدء أن يتجاوز ضعفه المَهين بمكر ودهاء، وأن يستأثر بالسيادة. أراد أن يقول لتحتمس الثالث: «رغم قوتك ومهارتك العسكرية فإنني الأقوى.» لم يكُن مُلهَمًا كما اعتقد البعض، ولا مجنونًا كما ظن البعض الآخر، ولكنه حظِي بأكبر قدر من مكر الضعفاء الخُبثاء، فأجاد تمثيل دوره. تخيَّل أنه يستطيع أن يخلق الدنيا على هواه، فعاش في دنيا من خلقه وصنعه لا رابطة تربطها بالواقع، دنيا خلق لها قوانينها وتقاليدها وأناسها، ونصب نفسه إلهًا عليها مُعتمدًا على سحر العرش وسيطرته على النفوس؛ من أجل ذلك تلاشى سحره لدى أول صِدام حقيقي مع الواقع، واجتاحه الفساد والتمرُّد والعدو وفرَّ عنه الجُبناء. وكثر الحديث عن ساعات وحيه وما تُثمر من خوارق الأفعال والأقوال. وقد شهِدت بعضها وأنا أعرض عليه الرسائل في خلوته. كانت تتلبَّسه حال من الانفعال المُفتعَل، فيخرج من حافة الوعي غائصًا في المجهول، ويتبادل كلماتٍ غامضةً مع أطرافٍ غير مرئية، ثم يعود رُويدًا إلى وعيه فيحدِّثنا عن إلهه الذي لن يخذله أبدًا. وكنت أختلس نظرات من وجوه الدُّهاة من أمثال آي وحور محب وناخت، وأتساءل: هل حقًّا يصدِّقون المهزلة؟ … هل حقًّا جاز عليهم خُبثه الأُنثوي؟! … كلَّا، لقد تظاهروا بتصديقه لينال كل مأربه، وما كشفوا عن أنفسهم إلا حين تهدَّدهم الموت من الشمال والجنوب.

•••

وحدَّثني عن انقلاب الأحداث؛ فساد الموظفين، عذاب الناس، تمرُّد الإمبراطورية، تحرُّش الحيثيين بالحدود، مَصرع توشراتا.

•••

قال: أغرقَني فيضان من الخوف على البلاد، ففكَّرت جادًّا في اغتياله لأُنقذ الدنيا والدين من شرِّه. وعثرت بلا كبيرِ عناء على من تطوَّع لقتله في خلوته قبل الشروق، ويسَّرت له مخبأً في الحديقة، وكاد الرجل ينجح في مهمته لولا أن أدركه في اللحظة الأخيرة محو رئيس الشرطة، فعاجَله بضربةٍ قاتلة، واستحقَّ بذلك لعنة الآلهة إلى الأبد. واستعنت كثيرًا بالسحر، ولكنه لم يُصِب الهدف من سوء حظ البلاد، ولعل الخبيث كان يلجأ إلى السحر المُضاد.

•••

وروى ما تلا ذلك من انتشار التمرُّد في الأقاليم؛ زيارة الملكة تيى لأخت آتون، اللقاء التاريخي بين كاهن آمون ورجال إخناتون.

•••

قال: ولما يئس الخبيث الماكر من رجاله، وعلِم بتفكير الكهنة في اختيار توت عنخ آمون للعرش، أشرك سمنخ رع معه في عرشه، ولكني نجحت في اغتيال الشاب بوسائلي الخاصة، وإذا بالبناء يتصدَّع باختفاء نفرتيتي نفسها، فمات الشر، ولكن بعد أن نفث سُمه في جميع الأوصال. وقد كان من سوء حظنا جميعًا أنْ ساقه قدره إلى اختيار نفرتيتي زوجةً له. حقًّا إنها امرأةٌ قوية الشخصية، راجحة العقل، فائقة الجمال، ولكنها مِثله مريضة بالطموح، فآمنت في الظاهر بدينه، وشاركته في الواقع مكره وخبثه. وعلى اليقين لم تكُن تُحبُّه، وما كان في وسعها ذلك، ولكنها هامت بالقوة والسيادة المُطلَقة. ولعلها دليلٌ آخر على الدور الخفي الذي قام به الداهية آي الذي كان يتلقى في المناسبات هدايا الذهب تُنثر عليه وعلى زوجته تي من الشُّرفة الملكية، فيحملها العبيد في القدور إلى قصره. ولكن كيف تعامَت المرأة الذكية عن عواقب سياسة زوجها على البلاد والإمبراطورية؟ وهل آمنت حقًّا برسالة الحب والسلام؟! الحق أني لا أتصوَّر ذلك ولا أُسيغه، ولكن لعلها غالت في تقدير سحر العرش الفرعوني، وتوهَّمت أنه السحر الذي يُغني عن العِقاب والسيف وجيش الدفاع. ولعلها أدركت الخطأ في وقتٍ مبكِّر، ولكنها خافت أن تُعلن وساوسها فتفقد ثقة زوجها، فاستسلمت للمقادر. ولما تخلَّت الحاشية عن الملك تخلَّت عنه مُتعلقةً بأملٍ أخير؛ ألا يغدر بها عُشاقها. وأعتقد أن حور محب حاوَل إقناع الكاهن الأكبر بقبولها في طيبة، ولكنه رفض ذلك، وأصرَّ على الرفض. وقد مات المارق وما زالت هي تتنفس في سجنها مُتجرعةً الأحزان والحسرات.

لو أن الذي خلف أمنحتب الثالث على عرشه عدوٌّ من الحيثيين، لما استطاع أن يفعل بنا أكثر مما فعل المارق اللعين …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤