الفصل العشرون

الزراعة

الزراعة هي صناعة أو علم أو فن هدفه استغلال الأرض؛ لكي تنتج وسائل التغذية البشرية، أما في المعنى الأوسع فإن الزراعة تشمل تربية الماشية.

هذا وتاريخ الزراعة هو تاريخ الإنسان منذ أبعد العصور؛ ولهذا كانت الأمم القديمة تنسب الزراعة إلى أصل سماوي: «براهما» في الهند، و«إيزيس» في مصر، و«ديميتر» في اليونان، و«سيريز» في إيطاليا، بوصف أن الآلهة قد خلقت الزراعة.

كانت الزراعة وحشية وصغيرة، وكانت الأقوام تنتقل من أرض إلى غيرها، وقد رافقت الزراعة والرعي الحياة البدوية وشبه البدوية كما وصف سيزار وتاسيتاس القبائل الألمانية، ثم تقدمت حين عُرف السماد والحرث؛ إذ كانت الزراعة قبلًا تجري بالتجربة والعرف، أما الآن فطبقًا للعلم.

ومما يدل على قدم الزراعة، أن مصر عرفتها قديمًا، وكانت تجري فيها وفاقًا لرغبات المالك وحال المستأجرين والأسرى؛ وذلك لأن ري الأرض كان ميسورًا من ماء النيل، وعرفت مصر أيضًا المحراث الخشبي.

وكانت اليونان تؤثر زراعة الكروم على الحبوب؛ لأن البلاد اليونانية جبلية. «يراجع تاريخ النبات وأصل النبات تأليف ثيو فراستاس».

أما في بابل فقد قامت الزراعة بين الدجلة والفرات وآشور جنوبًا، وكان الإسرائيليون زراعيين، ولهم قانون يوزع الأرض بين البالغين الذين أحصي عددهم قبلًا قبيل دخول كنعان، فكانوا ٦٠٠٠٠٠.

هذا ويقول السير آرثر العالم «الأنثروبولوچي»: إن الإنسان الكرمانيوني الذي عاش في أوروبا منذ عشرين ألف سنة، وجد القمح مزروعًا بريًّا فجففه وطحنه وتغذى به، هذا وقد وجدت حبات من القمح في بعض المقابر المصرية القديمة. قلنا: إن المفترض والمظنون أن اليابسة قد صلحت لإنبات النبات منذ شرعت القشرة الأرضية تدنو من الدفء والحرارة، ومن هنا كانت الحياة النباتية أسبق عمرًا من الحياة الحيوانية؛ لأن الحيوان لا غنى له عن أكل النبات، وإن كان من النبات ما يأكل الحيوان، وجد الإنسان البدائي نباتًا بريًّا وحشيًّا ينمو من تلقاء نفسه كالأعشاب وثمار الأشجار، فأكل منه وأصبح طعامًا اعتياديًّا له، فإذا هلك النبات أو اختفى لأسباب طبيعية من حالة أتربة الأرض أو الرياح أو الأمطار المدمرة، انتقل الإنسان إلى مكان آخر لعله يصيب فيه نباتًا أو ثمرًا.

ثم تعلم الإنسان من نظرته إلى ما يأخذ به النبات أو الشجر نفسه من أسباب النمو والاكتمال، كيف يسيطر على الطبيعة ذاتها، فيعمد الإنسان إلى إلقاء البذور عند شواطئ الأنهار أو حيثما ينزل المطر، أما متى بدأ الإنسان يصنع هذا، فإن البحوث العلمية لا تزال قاصرة عن تحديد تاريخه؛ ومن أجل هذا تباينت آراء العلماء، وقد انتهت ظنونهم منذ مطلع هذا القرن إلى أنَّ ثَمَّ زراعةً عرفها الإنسان منذ ١٢ ألف سنة أو أكثر إلى عشرين ألفًا، حين كان الآزيليون يسكنون جنوب إسبانيا، وكان الباقون من الصيادين البدائيين يذهبون شمالًا وشرقًا في شمال أفريقيا وغرب آسيا، وحين كان الذين يسكنون وادي البحر المتوسط قبل أن يصبح بحرًا مغمورًا بالماء، يعرفون منفعة الحيوان ويؤلفونه، وينتشرون في مراعيه، ويعدون لأنفسهم ولماشيتهم ما يصلح للطعام من خالص إنتاج الأرض، متخذين الأدوات الحجرية المنقورة وناسجين من الألياف النباتية خيوطًا وأثوابًا ساذجة، وصانعين من الطين أواني فخارية رديئة الشكل.

استقبل الإنسان حينئذ عصرًا جديدًا في الثقافة الإنسانية، وهو العصر «النيولونيكي» عصر الحجر الجديد على نقيض العصر «الباليوليتيكي» عصر الحجر القديم، وكانت شعوب الإنسان وجماعاته تشمل أقوامًا عديدة كالآزليين والكروماجناريين والكريماليين، وكلما انتشروا في الأرض وجاسوا خلال وديانها، نشروا ثقافتهم الساذجة في الزراعة والصيد وتأليف الحيوان والنسيج وصنع الأدوات التافهة.

ومنذ ١٢ ألف سنة كان الإنسان يعرف كيف ينثر البذر على الأرض، وكيف يحرثها ويدرسها ويحصدها ويستخلص حبوبها ويطحنها ويخبزها، مستعينًا بحرارة الشمس، فلما عرف كيف يوقد النار كان يعدها في حفرة يضع فوقها العجين منشورًا رقيقًا جدًّا، ومستديرًا لكي ينضج في سرعة وفي أقل العناء، ولعل هذا هو الأصل فيما نعرفه الآن من الرقاق، ومن المحتمل أن يكون الإنسان قد عرف الطحن قبل أن يعرف الزراعة؛ لأنه كان يحصل على الحبوب برية وحشية من إنتاج الأرض في غير زراعة أو غرس من أحد.

ويقال إن فكرة الزراعة؛ أي نثر الإنسان البذور بيده على الأرض، قد اقترنت بفكرة أخرى، هي التضحية بدم إنسان، وخاصة إنسانًا محترمًا، له منزلة الإله أو الملك أو ابن أو بنت لأحدهما، وذلك حين يقبل موسم الزراعة، كما تحدث عن هذا السير ﭼ. ﭼ. فريزر في كتابه «الغصن الذهبي»، ولم يكن الإنسان قد عرف التقاويم ولا ما هي السنة، ولعله عرف الشهور القمرية من نظرته إلى السماء معجبًا بالنجوم أو متخذًا منها هاديًا في سيره، ثم عرف تحديد المواسم الزراعية، وظهر بين مواطنيه السحرة والمنجمون ورجال الدين.

هذا ويطلق العالمان إيليوت سميث وريفرز اسم «الثقافة الهيليوليتيكية»؛ أي الشمسية الحجرية، على ما كانت هذه الجماعات والأمم الساذجة تعرفه منذ ١٢ ألف سنة أو ١٥ ألف على سواحل البحر المتوسط وغرب آسيا، وقد انتقلت جماعات من هؤلاء السكان إلى شرق الباسفيك ثم إلى أمريكا ممتزجين بالمنغوليين الذين جاءوا من الشمال، وقد زاد المهاجرون علمًا فعرفوا بناء المساكن والمعابد والأهرام والوشم والختان وتحنيط جثث الموتى وشيئًا من الفلك، وقد ظهرت هذه الحضارة البدائية في المناطق المعتدلة والقريبة من الحارة من ستونهينج وإسبانيا إلى المكسيك وبيرو.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤