الحياة بلا دخان

في رشاقة بالغة كانت تستلقي ناعمة بيضاء، ومن شفتيها الورديتين تتصاعد نكهتها ذات السحر الخاص، فتنسج حولها غلالة من حرير شفاف، تتلوى، وتستطيل، وتستدير، وتعلو، وفي تراقص مثير تتمايل في كل الأركان كجواري الشرق، ويسري عبقها إلى صدرك بلسمًا لكل الجراح. بدا أن صاحبها لا يطيق فراقها طويلًا، ولا يجد حرجًا في أن يقبِّل قدميها بين حين وآخر فينبعث أريجها الفواح معلنًا عن رضاها. ومن بين أنامله التي كانت تحتضن خصرها بعشق، أفلتت على استحياء تستجمع أنفاسها وتستريح لبعض الوقت على حافة الطفاية. يا لهذه السيجارة الملعونة!

كنت أرقبها وهي على المنضدة المواجهة، حيث تركها شاب وانشغل عنها باستخراج بعض الأوراق من حقيبته، وانشغلت عنه هي أيضًا بإغوائي. يا للعوب! لا تخشى صاحبها ولا تكترث لوجود زوجتي. لا تكف عن البوح بعطرها للجميع حتى تنطفئ شعلة الحياة فيها، فتتقمص روحها سيجارة أخرى. كُتب لك الخلود يا عشيقتي، وتقدَّم بي العمر فما عدت قادرًا على ملاحقتك. هجرتني السيجارة، ومعها ضاعت أحلى أيام العمر.

دومًا كنت أُعاند، أقاوم تقدم العمر ووهن الجسد، وكنت أنفق من جيبي ومن صحتي، في غير بخل، لأشتري إحساسي بالحياة. عنيدًا مرة، وعن قناعة مرة أخرى، ودون مبالاة أغلب الوقت، كنت أرفض الإقلاع عن التدخين مهما كانت النصائح وأيًّا كان من يحذر؛ فالحياة ليوم واحد أفضل من مجرد البقاء أبد الدهر، وما دام الموت قادمًا لا محالة، فمن الأفضل ألَّا أموت «خرمان».

التقيت بها للمرة الأولى وأنا ما زلت بعدُ في الخامسة عشرة من عمري، وكان لمحمود حسنين، جاري وصديقي الذي يكبرني بعامين، الفضلُ في تدبير تجربتي الأولى معها، وما إن انساب دخانها إلى رئتي حتى سعلت بشدة، لأطرد من صدري إلى غير رجعة براءة الطفولة وحياء العذارى.

ناولني عمي أول سيجارة منه يوم نجاحي في الثانوية العامة، كنت مذهولًا، وتلفت حولي خشية أن يراني أحد. كيف لواحدٍ من أعمامي أن يناولني سيجارةً وأن يرمقني بزهوٍ وفرح وأنا أدخنها أمامه؟! لم أفهم وقتها أن حصولي على الثانوية العامة كان يشهد على شيءٍ آخر غير تحصيل العلم. وقتها كان عمي نموذجًا للرجل في تقديري؛ بنية قوية، مفتول العضلات، ذو شارب كث، وملامح خشنة، وشفاه غليظة تنفرج غالبًا عن قهقهة عالية. يعشق سماع أم كلثوم وخطب عبد الناصر ولعب الطاولة، ويدخن النرجيلة ومليون سيجارة في اليوم. يصغي باهتمام واحترام إلى حكم الكبار ولا يلقي بالًا بأي منها. يتأنَّق في ملبسه، ويعشق الليل، وله ألف صديق، ولا يكاد ينام. وكان لتدخين السيجارة معه شأنٌ آخر. تمنيت طويلًا أن أكون مثله، ولم أفلح إلا في أمرين؛ التدخين والشارب الكث، لكنهما ضاعا كما ضاع عمي وشبابي.

لم أكن على وفاقٍ مع أبي منذ التحاقي بالمدرسة الثانوية وإلى أن تزوجت، كان يعلم أنني أدخن لكنه تغاضى عن الأمر، وعندما أبلغه أحد الجيران، من ذوي النوايا الحسنة، أنه رآني أدخن، أراد أن يؤكد رجولته وهيمنته على قطيعه أمام أب مثله وكأنهما يتبارزان، فاستدعاني وصفعني على وجهي فسقطت على الأرض، وما نهضت بعدها إلا لأتحداه، وكان إصراري على التدخين أحد أسلحتي.

ألقي القبض عليَّ مع مجموعة من الزملاء على إثر تظاهرة خرجت من الجامعة، وساعتها كنت أظن أن الأمن سوف يعاملنا معاملة حسنة تتناسب مع أهدافنا النبيلة وأسلوبنا السلمي؛ ولهذا انتظرت هادئًا دوري في التحقيق، وحسبت أنه لا غضاضة في أن أشعل سيجارة أثناء انتظاري خارج مكتب ضابط الأمن، وعندما حملت من «قفاي» إلى داخل المكتب كانت السيجارة معلقة بشفتي، استقبلني أحد المخبرين بترحاب مبالغ فيه؛ صرخ في وجهي: أتدخل مكتب الباشا والسيجارة في فمك يا ابن …؟

وصفعني على وجهي صفعة أطاحت بوطنيتي، وصدغي، ونظارتي الطبية، والسيجارة، فتبعثروا شتاتًا في المكتب. ولسوء حظي، لا لسوء حظ المخبر، هبطت السيجارة على أحد المقاعد فأصابت الجلد الذي يغطيه بحرق بسيط، فما كان من الضابط إلا أن كال للمخبر ولي السباب، وقذفني بطفاية سجائر كانت على مكتبه تركت فوق حاجبي جرحًا لن يندمل.

تحلَّق الأطباء حولي وأخذوا يحملقون فيَّ ويتبادلون الحديث، ثم، وربما بعد أن استقر رأيهم على شيء، ذهبوا بعيدًا. التفتُّ إلى أخي وطلبت منه أن يشعل لي سيجارة، فاتسعت عيناه في استهجان ودهشة وتركني وخرج.

هل ظن هذا الصغير أنه امتلك القرار في حياتي لمجرد أنني مريض؟! تحاملت على نفسي ونهضت من رقدتي وخرجت من الغرفة، مضيت إلى أقرب مقعد وجلست، وجالَت عيناي تبحثان عن أي شخصٍ أعرفه. أدرك أخي ما كنت أعتزمه، فأشعل سيجارة وناولني إياها دون أن ينطق.

أظن أنني دخنت نصفها، لم أعد أذكر، ولا أذكر إن كنت قد أطفأتها أم لا، فلقد أخذت على غرة وحملوني إلى غرفة العناية المركزة.

ومر عام أو يزيد لم أشعل خلاله سيجارة واحدة لأوامر الأطباء الصارمة، بدعوى المحافظة على حياتي! أي حياة هي التي يحرصون على صونها لي؟

وأنا الآن، كما يدعون، بخير، أتناول طعامًا صحيًّا جدًّا وأشرب الماء النقي، وأصحو من نومي مبكرًا، وألتزم بمواعيد الوجبات الثلاث، وأزاول عملي على النحو المقرر، ولا يعلو صوتي في المكتب أو في المنزل، ولا أسمح مطلقًا للدم بأن يصعد إلى رأسي، وأزاول الرياضة الخفيفة، وأصل الأرحام، وأشتري الهدايا لزوجتي في كل مناسبة، وأقرأ جرائد الحكومة وأصدق ما فيها، وأشاهد التلفاز، وأنتظر الموت.

(تمت)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤