الفصل الثالث عشر

مربي النحل

توالت بضعة أيام على جيمي حين كان الاستيقاظ في حد ذاته كلَّ صباح بمثابة معجزة صغيرة له. أن يستيقظ مستريحًا ومنتعشًا، أن يستيقظ بأملٍ في قلبه، وينظر إلى امتداد الحديقة المتباين ونحو تلاطم أمواج البحر بلا توقف، ويقول لنفسه: «اليوم سأنقل الزنابق. سأشذِّب نباتات بِنت القنصل. سأزرع بعض الطماطم.» أن يكون قادرًا أن يقول لنفسه إنه سيفعل شيئًا بنَّاءً، ولديه اليقين في قلبه أنه يمتلك القوة ليفعله والإقبال في روحه الذي سيجعله يستمتع بما يفعله؛ لأنه من ذلك الوقت فصاعدًا، كان الاستيقاظ كلَّ صباح معجزةً جديدة بطريقةٍ ما. بدا له كأنه يستطيع أن يشعر بالنقاء، بنظافة الدم الذي يتدفق في أوردته. كان يشعر أن القلب الذي في صدره قد هدأ، وراح ينبض بانتظام واطمئنان لم يعهدهما منذ زمن طويل؛ إذ توقف عن الاضطراب، حتى عند تسلُّق ارتفاع يتطلب مجهودًا شاقًّا. أحسَّ أن العضلات صارت تتشكل تدريجيًّا في أطرافه ويديه وأن ذهنه بات صافيًا. فلم يعد الكائنَ الرِّعديد الذي يسير بتوانٍ متسائلًا كم من العمر تبقَّى له. إذ صار رجلًا مصلوب العود متفائلًا، لديه هدف محدَّد وهو أن يستمرَّ في المباراة للنهاية ما دام الفوز متوقفًا عليه هو ومارجريت كاميرون وكاليفورنيا. وقد كانت مباراةً طويلة تلك التي هو بصددها.

يجري النضال من أجل الحياة من الإنسان مجرى الدم. فهو يُطيق أيَّ شيء إلا الموت. وقد جلس جيمي على جانب الفراش وجعل يتأمل كم هو غريبٌ أن البشر قد يشكون من الألم والفقر والإحباط والانهزام من كل نوع، لكن حين يوشك الموت، الموت الذي قال الكشافة الصغير إنه جميل، يتسلَّح البشر في مواجهته ويقاومون حتى النفَسِ الأخير، كما قاومه هو. وأقر بأنه قد يكون مخطئًا، وأنه قد يكون مفرطًا في التفاؤل، بل أن رؤية مارجريت كاميرون ربما تأثرت بآمالها من أجله. لكن ثَمة شيءٌ وحيد لا يمكن أن يكون مخطئًا بشأنه. وهو أن جسده لم يَعُد بالغَ النحافة، وأن يدَيْه صارتا أكثر ثباتًا، وصار باستطاعته المشي دون أن تتقوَّس ساقاه تحته، وأنه أمسك عن نظرته السقيمة لذاته. كان قد وصل إلى المرحلة التي قام فيها مرات عديدة وهو وحده في المساء بإزاحة كتب النحل جانبًا وانتقاء أعظمَ الكتب جميعًا وقراءة فصلًا تلو الآخر، فأدرك أنه لم يفعل ذلك قط ولو مرة دون أن يُغلق الكتاب المقدس وقد اعتراه شعورٌ بأنه قد اكتسب شيئًا بطريقةٍ ما؛ قد تكون كلمة واحدة فقط، أو فكرة ما، شيء يبقى معه ويُعينه على أن يصنع يومه التالي.

وحينئذٍ نهض جيمي، وأمسك بقلم رصاص ورسم دائرة حول اليوم السابق في التقويم، ومن الدائرة مد خطًّا إلى الهامش وكتب الحرفين «ميم، كاف». أي مارجريت كاميرون، والتاريخ كان يوم اكتشافها أنه تحسَّن. سوف يُتابع النظام نفسَه شهرًا آخرَ وبمزيدٍ من الدقة، وبعد ذلك ستُلقي عليه نظرة أخرى، وقد حفظ في ذاكرته عهدًا وهو يرتدي ملابسَه بأن تجده أفضلَ حالًا.

وبينما هو يُنظم الضمادات على جانبه المصاب، نظر عن كثبٍ إلى الطبقة التي أزالها، وإذا بجيمي يجد نفسه فجأةً يفعل ما كان الصغير سيُسمِّيه دورانًا على ساقٍ واحدة. فبالكاد كان هناك رشحٌ طفيف شبهُ وردي. وظلَّ يشعر طيلةَ الأيام التالية أن البقع لم تَعُد بالغةَ الضخامة ولا بالغةَ السوء. في ذلك الصباح كان هناك دليلٌ عينيٌّ لا يمكن تجاهلُه. فقد كان البرهان على أن مارجريت مُحقَّة ماثلًا أمام جيمي، أوضحَ من أن تُنكره كلمات. وقبل أن يُدرك جيمي ماذا كان يفعل، وجد نفسه يرقص في أنحاء المخدع بتحفُّظٍ أقلَّ كثيرًا وحماسٍ أكثرَ من الكشافة الصغير وهو يرقص في ممشى الحديقة. حتى إنه كان يضحك من نفسه فعلًا وهو يرتدي ملابسَه، وحين سمع مارجريت كاميرون في المطبخ وقد جاءت بفطوره، فتح الباب ونادى عليها قائلًا: «يا سيدة اسكتلندا!»

دوَّى صوتُه بنبرة لم تلحَظْها مارجريت كاميرون من قبل.

قال جيمي: «فلتتفضَّلي إلى هنا.» وتابع: «أمسِ رأيتِ العرضَ الأول. وهذا الصباح ستُشاهدين العرض الثانيَ!» ومِن ثَم التقطَ جيمي الضمادةَ من سلة كانت تُعبأ للذَّهاب إلى فرن حرق النُّفايات، وفتحها لتتمكَّنَ مارجريت كاميرون من رؤيتها.

قال جيمي: «منذ شهر مضى، كانت تلك الضمادات متشربة تمامًا بلون فاقع. أما هذه التي أزلتها للتوِّ فهي تكاد تكون رطبةً وبلون وردي شاحب جدًّا. آه، يا مارجريت، يا عزيزتي! سوف أنجو! سأعود رجلًا مكتملَ الصحة مرة أخرى!»

«ستنجو بالتأكيد!» بادَرَته مارجريت كاميرون، وكانت على استعدادٍ أن تبثَّ في نبراتها جزمًا أكبرَ مما لديها في قلبها في سبيل هدف نبيل. لكن الفتى كان أفضلَ حالًا. كان بمقدور أي شخص أن يرى ذلك. فقد بدا واضحًا أن عظامه اكتسَت بمزيدٍ من اللحم. ولم تَعُد بشَرةُ وجهه شديدةَ الشحوب. راحت حُمرة باهتة تتسلَّل إلى وجنتَيه وشفتيه، فربما كان نصفُ المعركة يكمن في تصديقه أنه صار أفضلَ فحسب. كان ذلك على أي حال أفضلَ كثيرًا من السلوك الكئيب حين كان يحسبُ أيامه معدودةً ويقضي أغلبَ وقته في تخمين أكبر عدد.

خلال ذلك الشهر ظلَّ الاثنان يعملان ويتشاوران باستمرار. فقد راجَعا قوائم الحِمْية الغذائية مرارًا، فجعلا الطعام الذي شعرا أنه مناسبٌ ومفيد يتكرَّر أكثر، وحذفا الأشياء التي لم تكن مفيدةً والتزما التزامًا صارمًا بعصير الطماطم في الصباح، وعصير البرتقال في العصر، وأفضل حليب يمكن التحصل عليه بأكبرِ كميات يستطيع جيمي احتساءها. في ذلك الشهر كانا يسيران بانتظام. وكانا أحيانًا يتبادلان الحديث الهادئ. من ناحية جيمي كان الشهر مفعمًا تمامًا بما يمتنُّ له مسرورًا. إذ أصبح قادرًا في كل يوم على رؤية الإنجاز الذي أحرزه والشعور به. أصبح قادرًا في كل يوم على زيادة إنجازه قليلًا في الحديقة. في كل يوم كانت معلوماته عن النحل تزيد.

في ذلك الشهر نشأت لديه عادةٌ أن يضع الإنجيل بجانبه ليكون آخرَ شيء يفعله قبل الذهاب إلى الفراش هو أن يقرأ بضع آيات، ومن التفكير في الصلاة ومن تأمُّل الشكر، تطوَّر به الحال حتى واتَتْه الشجاعة ليجثوَ على ركبتيه ويُصليَ صلاةَ شكر، في ظل هدوء الحجرة الصغيرة وسكونها. ثم تبعها بصلاة طلب. وجد نفسه يطلب من الله أن يتولَّى العالَم كله برعايته، وأن يُساعد كلَّ من هو بحاجةٍ إلى مساعدة، وأن يزرع الحماس والشجاعة في كل قلب للخروج والإقدام على المغامرة الكبرى لصالح ذلك القلب. وعند الدعاء الخاص، طلب الطاقة لرعاية النحل والحديقةِ رعايةً صحيحة، وطلب العونَ، جسديًّا ومعنويًّا، ليصبح الرجلَ الذي يمكن لأبيه وأمه أن يفخرا به عن حق. ثم طلب من الله أن يرعى مارجريت كاميرون، وأن يُخفف المتاعبَ التي بدَت كامنةً في قلبها أيًّا كانت. وبعدئذٍ، من أول مرةٍ يجثو فيها ويرفع وجهه نحو العرش بحق، ذكَر جيمي الكشافة الصغير. فقد أخبر الله عن الروح الطيبة والذهن المتَّقد اللذَين يتمتعُ الصغير بهما، وكم كان الطفل مُحبًّا للغير وكم كان إحساسه بالحقِّ بالغَ النضج، وطلب رعاية الطفل الصغير وهدايتَه للسبيل الصحيح وإعطاءه الفرصة لأن يُصبح مواطنًا تنتفع به الأمة.

وحين جاء لسيد النحل، ازداد جيمي تضرعًا، وتوسَّل إلى الله العظيم، إن كان ذلك مما ينسجمُ مع الخُطة الإلهية ولو قليلًا، أن يمدَّ في عمر سيد النحل، وأن يُعيده إلى بيته والأشياء المألوفة البسيطة التي تُعطي للبيت روحَه، وأن يدَعه يتمتعُ ببضع سنوات أخرى في حديقته وألق ألوانها لتُعزيه في أيام سُهاده ونشيد البحر ليُرسله إلى نوم هادئ. وأخيرًا وصل إلى فتاة العاصفة، فطلب جيمي من أجلها الأمانَ والرحمة وأن يُمنَح القدرة على مساعدتها. ثم نهض، شاعرًا بالاستقواء بطريقةٍ ما، وأنه أعظمُ شأنًا بقدرٍ قليل، وأكثرُ اعتزازًا بالنفس بنسبة ضئيلة، وأشد بأسًا، وأكثر إنسانية ممَّا كان في اليوم السابق. لقد طلب العونَ وشعر أنه سيتلقَّى العون، وشعر أنه لن يخجل ثانيًا أبدًا من مواجهة أي رجل، أو شخص من البشر، وسيخبرهم أنه قد طلب العون وأن العون آتٍ في الطريق، وأن تلك التجرِبة في متناول كلِّ رجل إذا قرَّر فقط أن يُصدق كلمات الله؛ فقط إذا فعل ما يُدعى كلُّ الرجال دعوةً جادة إلى فِعله، أن يؤمن.

مر ذلك الشهر طيبًا على جيمي. فقبل نهايته أصبح جيمي ينزع الضمادات التي تُغطي جانبه ليجدَها جافة ونظيفة. وبات الآن يستخدمُها على سبيل الحماية للَّحم الرقيق الذي تكوَّن حديثًا ويُغطيه جلدٌ بالغ الرقة حتى يبدوَ كأن نفسًا قد يُمزقه، لا بسبب أي ارتشاح. حين كان جيمي يذهب إلى البحر فهو يستخدمُ ذراعه اليمنى فقط في السباحة. وحين كان يرفع حملًا ثقيلًا فهو يحمي جانبه الأيسر. وكان ليُحضرَ شيئًا من مكان عالٍ فهو يستخدم ذراعه اليمنى. لكن لم يحدث قط ولو للحظة، خلال النهار أو في ساعات استيقاظه من الليل، أن توقَّف بين جنباته نشيدُ الشكر بسيطًا خفيضًا هامسًا. ظل يُغنيه طوال اليوم، مرارًا وتكرارًا، لكن كلماته كانت قليلة جدًّا. إذ كان يقول: «الحياة! الحياة! حياة نافعة! أحمدك، يا ألله، على فرصة الحياة، وفرصة العمل الجميل، وفرصة الأصدقاء الطيبين. أحمدك، يا ألله، على الحياة!»

كان كلما ذهب إلى المستشفى حمَل معه زهورًا من الحديقة، وأحيانًا فاكهة ورسائل محبة من الكشافة الصغير، وهدايا طريفة متباينة تباينًا كبيرًا من مُدْية جيب باليةٍ وعصًا للكشط، إلى مجموعة مهترئةٍ من أوراق اللعب للعب سوليتير.

ذاتَ يوم وهو ذاهبٌ إلى المستشفى قابلَ مارجريت كاميرون أثناء خروجها؛ فعرَف أنها كانت في زيارة لسيد النحل وأنها لم تكن قد أخبرته بذَهابها، وعرَف من شحوب وجهها والألم البادي في عينَيها أن حال سيد النحل لم يتحسَّن، وأنه لم يكن يستجمع قواه، وأن الأملَ في رجوعه يومًا إلى منزله الودود المحاط بحديقةٍ من الحب زادتْه جمالًا، ربما كان يتضاءلُ ببطء، يومًا بعد يوم.

صعد جيمي إلى حجرة سيد النحل وطالع الحقيقة بنفسه. إذ كان السيد بصعوبةٍ قادرًا على الكلام. ولاحت على الملامح الكريمة شحوبٌ بدا لجيمي مؤْذِنًا بأن الروح النبيلة العجوزَ الماثلة أمامه باتت قريبةً جدًّا من التأهب كي تصعدَ إلى بارئها. وحين نهض ليرحلَ واجه صعوبة بالغة في الحفاظ على صوته ثابتًا وعينيه بلا دموع.

قال جيمي: «أريد أن أبلغك بمدى امتناني لك على الفرصة التي منحتني إياها لاستعادة رجولتي وتعلُّم عملٍ ما زال حبِّي له ينمو كلَّ يوم أكثر فأكثر. وأودُّ أن أشكرك على إعطائي في بيتك فرصةً للرجوع إلى اتفاق سري مع الله، من أجل العثور على السلام والقوة الداعمة التي يمنحُها طواعيةً لكل رجلٍ يستطيع حشد شجاعته لتلقِّي الهدية.»

انحنى جيمي وطبع قبلةً على جبهة سيد النحل.

«هذه بالنيابة عن الكشافة الصغير، الذي بعثَ لك بفيض من المحبة.»

ثم قبَّله مرةً أخرى، وأضاف بعفوية: «وهذه من جيمي. إنه يُعرب لك عن المقدار نفسِه من الحب.»

ظل سيد النحل قابضًا على يدَيْ جيمي بشدةٍ طَوال دقيقة، ثم قال فيما يُشبه الهمس: «أشكر الله أنك قد تعلمتَ استيعاب وعده. إنني ممتنٌّ أنك تعلمتَ أن تقبل عطاياه، كذلك أعتقد أنك قد تعلمت ما يكفي من الحياة وما يكفي من الحب في منزلي وفي حديقتي لتُصبح مستعدًّا لقَبول أي هدية تنبع من الحب والثقة.»

خرج جيمي وهو يتساءل ما المقصود بذلك. وفي اليوم التالي عرَف. إذ جاءه الاتصال مبكرًا من المستشفى. لقد وجد سيد النحل سبيله لذلك العبور الجميل الذي وصفه الكشافة الصغير باستيعاب بالغ. بيديه مطويَّتَين على صدره، أثناء نومه، أجاب النداء الذي جاءه في رفق شديد حتى إن الممرضة وجدته على الحال نفسه الذي تركته فيه. كان قد أوصى بأن تُنقَل رُفاته على الفور إلى عُنوانٍ تركه في الشرق. فقد أراد أن يرقد في نومته الأخيرة بجوار الماريتَين؛ ماري التي أحبها وتزوجها، وماري التي منحها حبهما الحياة. وحيث إن ثلاثتَهم قد ماتوا الآن، فقد دعا جيمي في الصلاة التالية التي نطق بها أن تجدهم تلك الساعة متماسِكي الأيدي هائمين وسط مواقعَ أروع جمالًا من التي ضمَّتها الحديقة الصغيرة قط، بل وسطَ مباهج وديان الجنة.

أثناء إبلاغه بالخبر، طلب منه الدكتور جرايسون أن يأتيَ إلى المستشفى من أجل عقدِ لقاء، وعند وصول جيمي إلى المستشفى بعد ساعةٍ أصابه الذهولُ لما وُضِع بين يدَيه آخرُ وصية لسيد النحل، جاهزة للتنفيذ. وقد جاء فيها، أنه بدافع الحبِّ والمودة، تُوهب الأملاك الموصوفة في هذه الوصية ويُوصى بها، للساكن والراعي الحاليِّ، جيمس لويس ماكفارلين، ومساعده الأول، جين ميريديث. تُقسم الأملاك المذكورة بالتساوي بين المستفيدين، على أن يكون الفدانُ الواقع على اليمين في مواجهة الشارع بما عليه من قفائرِ نحل من نصيب جين ميريديث. ويكون الفدان الواقع على اليسار في مواجهة الشارع من نصيب جيمس لويس ماكفارلين بكل ما عليه من ملحقات. تبع ذلك بندٌ آخر يقضي بأنَّ على الوريثَين الاقتراعَ على حيازة المسكن، على أن يُصبح مَن يفوز في القرعة هو مالكَ المنزل، وتُسدد نفقات النقل من أموال الإرث الموجودة في البنوك، وهي التي ستُوهب أيضًا، النصف بالنصف، للمستفيدين من الوصية. ومن هذه الأموال نفسِها يُسحَب مبلغ كافٍ لبناء نسخة مطابقة للمنزل، أو بناء منزل بنفس عدد الحجرات، والمظهر العام، والمرافق على أرض الخاسر. أما الجزء المتبقي من الأموال التي في البنك، بعد إجراء هذه العمليات، فيُقسَّم بالتساوي بين الطرفين المستفيدين من الوصية.

بعد شرح هذه الوثيقة العجيبة شرحًا دقيقًا لجيمي، جلس وهو ينظر نحو الدكتور جرايسون وقد بدا عليه الحزن. ولم يخجل البتةَ من الدموع الغزيرة التي جرَت على وجنتَيه.

ثم قال محتجًّا: «لكنني لا أستطيع. فأنا لا أستحقُّ ذلك المكان. لا بد أن هناك شخصًا أقربَ مني لسيد النحل.»

فقال له الدكتور جرايسون: «حسنًا، إن كان هناك فلا تقلق. فسوف يصلُك منهم خبر. إذا كان هناك على قيد الحياة أناسٌ يشعرون أنهم أحقُّ منك بتلك الأملاك، فسوف يظهرون. في الوقت نفسه، سنذهب وراء الاعتقاد بأن سيد النحل كان واثقًا من رغبته وعالمًا بشئونه وأنه، بمنحِك هذا المكان، أراده أن يُصبح في يد الرجل الذي سيُقدره، ويحبه، ويحافظ عليه كما تركه سيد النحل، مهما كانت الظروف.»

ظل جيمي جالسًا يُحملق، ويُمعِن التفكير، وعندئذٍ أدرَك ماذا كان سيد النحل يعني حين قال في الليلة السابقة إنه يجب أن يتعلم أن يقبل أيَّ هدية نابعة من الحب كما يقبل عطايا مالِك السموات. كان سيد النحل يشعر أن ساعته قد حانت، وأن أجله قد اقترب، وكان يرمي بطريقةٍ ما إلى إعداد جيمي لواقع أن البيت الصغير والنحل والحديقة المتألقة ستُصبح، جزئيًّا على الأقل، هديةَ محبَّةٍ له. وعلى نحوٍ مفاجئ اعتدل جيمي في جلسته وكرر الاسمَ ببطء.

«جين ميريديث.»

عندئذٍ أدرك أنه لا يزال على جهله. لم تَزِد معرفته شيئًا عن ذي قبل. فإن جين قد يكون صبيًّا وقد يكون فتاة. وهنا نظر إلى الدكتور جرايسون.

وسأله: «هل يعلم جين ميريديث بهذا الأمر؟»

«لقد أعطاني سيد النحل رقم الهاتف وقد اتصلت بالأب والأم. أجل، عرَف صديق سيد النحل الصغير بالأمر.»

تساءل جيمي: «وهل سيقبل الأبوان بتلك الهدية بالنيابة عن الطفل؟»

فأجابه الطبيب: «بكل تأكيد.» وتابع: «ولِمَ لا؟ فربما لم يكن لسيد النحل على وجه الأرض شخصٌ ارتبط به ارتباطه الشديد بذلك الصغير الذي كان يشير إليه دائمًا بصفتِه شريكه. وما دام ليس لديه طفلٌ من صُلبه، فلا يوجد سبب يمنعه من ترك أملاكه لأي شخص يختاره. وكان لديه كل الحق أن يتركَها للرجل الذي رعاها في غيابه، الرجل الذي وثق فيه، وللطفل الذي ربما خفَّف من ضجر ساعات حالكة في حياة سيد النحل أكثر من العالم بأسره مجتمعًا. لقد بدا لي من الصواب واللائق تمامًا أن يفعل سيد النحل ما فعله بالضبط. نسيتُ أن ألفتَ انتباهك إلى بندٍ أخير وملحوظة لاحقة في شكلٍ ملحَق للوصية بشأن مفروشات المنزل. فكل ما في غرفة المعيشة والكتب تَئول للكشَّافة الصغير؛ أما باقي المفروشات فهي لك.»

نهض جيمي. ومد يدَه للدكتور جرايسون.

وقال: «سأخرج للهواء حيث أستطيع أن أمشيَ وأفكر.» وأضاف: «لكنني أخبرك من الآن أنه لا جدوى من إثبات صحة تلك الوثيقة. فقد كتبها رجل مريض …»

فقال له الطبيب: «لقد كتبها رجلٌ كان يُناضل للبقاء على قيد الحياة بعد خضوعه لعملية جراحية.» وتابع: «كان ذهنه صافيًا مثل ذهنك وذهني حين قلت له تصبح على خير في الساعة العاشرة ليلة أمس. لا توجد محكمةٌ في البلد تستطيع أن تمسَّ تلك الوصية.»

فقال له جيمي: «مستحيل تمامًا. فلن أفكر حتى في الأمر.»

فقال له الدكتور جرايسون: «بلى، ستفكر، لأنك إن لم تُثبت صحة تلك الوصية، فسأفعل أنا ذلك بالنيابة عنك ولتتأكَّدْ تمامًا أن السيد ميريديث سوف يحرص على رعاية مصالح طفله. لتقبل التركة سواءٌ كنت راغبًا فيها أو لا. وإن لم تُرِد الاحتفاظ بها، فلتتنازل عنها بمجرد أن تُصبح في يديك، إذا كان يرضيك أن ترى شخصًا كان سيدُ النحل سيُبغضه يدخل المنزل الصغير ويتاجر بالحديقة، فالأمر يعود إليك، فيما له صلةٌ بالنصف الخاص بك. بإمكانك أن تُقرر موقفك عندما يحين الوقت. وما دمت في شك كبير من الأمر، فأعتقد أنه من الأفضل أن تحيل الوثيقة للسيد ميريديث، لكن من الوارد أن يرغب في تعاونك معه.»

قال جيمي بعناد: «حسنًا، لن أفعل!» وأضاف: «لن أقبل شيئًا لم أكتسبْه بنفسي!»

قال الدكتور جرايسون بنفاد صبر: «أوف، سحقًا للاسكتلنديين!» وأضاف: «إنني سعيد بكوني إنجليزيًّا وعلى استعدادٍ لقَبول كل ما أستطيع الحصولَ عليه، وإنك أولُ اسكتلندي أراه لا يرغب في الاستحواذ على كل ما يمكنه الحصول عليه، ناهيك عن أنه جاء فعلًا على سبيل الهدية. وما دمت لا تقبل الأشياء التي لم تكسَبْها بنفسك، فمن الأجدر بك أن تتوقف عن التنفس، وأن تتوقفَ عن الاستمتاع بأشعة الشمس، وأن تتوقف عن تناول ثمرات الأرض. فكلها هِبات قَبِلتَها، وقبلتَها بكل سرور!»

فقال جيمي: «إن الهبة من الله شيء. أما الهبة من شخص عرَفته مدةً بالغةَ القِصَر فهي شيء مختلف.»

فأجابه الطبيب: «لا فرق بين الهِبتَين. فكلاهما عطايا، وإنني أقول مرةً أخرى إنك ستُصبح أحمقَ إن لم تقبلها بقلب ممتن!»

هز جيمي رأسه، مبتعدًا من المكتب، لينزل إلى الشارع ثم يعودَ إلى المنزل وإلى الحديقة الزرقاء التي حدا حبُّ الزهور وحبُّ الجمال في قلب رجل عاطفي به ليَبنيها حول أحد البيوت. خطا برفقٍ أثناء دخوله من الباب. وحمل قبعته في يده ونظر حولَه باحثًا عن مكان، غير مرتبط ارتباطًا وثيقًا بسيد النحل، حيث يمكن له الاستلقاء.

ماذا كان ذلك الذي قالته تلك الوصية المدهِشة؟ فدَّان من التربة الخصبة المزدحمة لأقصى حدٍّ بزرع رائع، وصفٌّ من القفائر البيضاء الممتدَّة على طولها، وأموال في البنك، والكثير من الملابس المريحة الملائمة له، وفراش لينامَ عليه، وكلها ملكٌ له إذا أراد أن يمدَّ يده ويأخذها؟ وإذا بجيمي يكتشف أنه ليس قويًّا كما ظن نفسه؛ لأنه راح يرتعشُ حتى اصطكَّت أسنانه وجعلت الدموع تنهمرُ على وجنتَيه حتى بات مجهدًا. ومِن ثَم نهض وسار في الممشى الخلفي حتى بلغ أقصاه، وفتح البوابةَ وخطا إلى المدقِّ الهابط إلى رمال البحر البيضاء. وهناك وقعت عيناه على منظر عجيب.

إذ تراجع اثنان من الأطفال مرتَدِّين عند أحد الصخور، وهما يقومان بمحاولات خائرةٍ للدفاع عن النفس، وأمامهما وقف شخصٌ ضئيل بمِجْرفة رمالٍ جعل يستخدمها بدقةِ المحراث الدوار وسرعةِ الدوَّامة. كانت الضحيتان المحاصَرتان عند الصخرة تفركان أعينهما وتلهثان وتبذلان جهدًا غيرَ مُجدٍ للرد. وبدا واضحًا لجيمي أن الرمل المتطاير كان قد أوشك جدًّا على خنقِهما. وببضع خطوات واسعةٍ ذهب إلى هناك لإنقاذهما. إذ أمسك بالكشافة الصغير من حزامه وجذبه بشدة.

وقال: «رفقًا، يا صديقي! مهلًا!» وتابع: «سوف تخنق هذَين الطفلين!»

انتشل الكشافة الصغير المجرفة ورفعَ وجهًا غاضبًا وهو يفسر ما حدث: «هما مَن بدآ! لقد ضايَقاني! ظللتُ دون أن أفعل شيئًا حتى رمَياني بالرمال عدةَ مرات!»

فقال جيمي: «بالتأكيد. بالتأكيد، لكن ليس هذا بالسبب الكافي الذي يدفعُك إلى خنقِهما. إنك تُهاجمهما مثل الزوبعة!»

شدَّ الكشافة الصغير قامته. وتنفس نفَسًا عميقًا ملأ صدرَه الذي راح يرتفع وينخفض. لم تكن الحُجَّة المطروحة محلَّ نقاش.

«مجددًا، لقد ألقيت على كلِّ واحد منهما الكمية نفسَها التي بإمكان كِليهما إلقاؤها عليَّ؛ كان لا بد أن أُلقيَ كميةً كبيرة!»

استوعب جيمي ذلك الأمر ببطء.

ثم قال: «وربما فعلت. هل هذه المجرفة لك أم لهما؟»

فأجابه الكشافة الصغير: «إنها مِجرفتُهما. لقد أخذتُها من أكبرهما، فلتلحَظْ أنه أطولُ وأشدُّ مني. وكان ذلك ما حدث.»

فقال له جيمي: «لتأتِ معي. هيا نصعد إلى هذه الصخرة ونجلس لمشاهدة المحيط. متى كنتَ في المنزل آخر مرة؟»

فأجابه الكشافة الصغير: «لقد غادرته بعد الفطور مباشرةً.» وتابع: «فاليوم هو السبت، كما تعلم. وقد أتيت لمساعدتك في رعاية النحل، لكنك لم تكن موجودًا، فنزلت إلى الرمال وخطر لي أن أبحثَ لأرى إن كان ثمة شيءٌ لأفعله، وفي الحال بدأ ذانِك الصبيَّان مضايقتي، فرأيتُ أنه من الأفضل أن ألقنهما درسًا.»

اتجه جيمي نحو العرش وإلى جانبه سار الكشافة الصغير هرولة.

وحين جلسا أخيرًا يُطلان على المحيط، قال جيمي: «إذا كنت لم تعد للمنزل منذ الفطور، إذا كنت لم تَعُد للمنزل منذ الفطور، يا جين …»

قاطعه الكشافة الصغير: «من أخبرَك أن اسمي جين؟»

فأجابه جيمي: «الدكتور جرايسون. لقد أخبرني هذا الصباحَ في المستشفى أن اسمك جين ميريديث.»

استفسر الكشافة الصغير: «ما الذي ثَرثر به عني غير ذلك؟» بدا جَليًّا لجيمي أن الجسد الصغير الجالس بجواره قد فاض تمامًا على نحوٍ مفاجئ بالتمرد، وصار مستنفَرًا لمعركة.

فقال جيمي: «لم يقل أي شيء، عدا أن لديك من الحكمة ما يجعلك تقبلُ الهدية الرائعة جدًّا التي ستُقدَّم إليك.»

سأله الكشافة الصغير على الفور، وقد بدأ تمرده يخفت: «هل هي حصان؟»

فقال جيمي: «لا، إنها شيء أغلى ثمنًا من عدد كبير من الخيل. دعك من أمرها الآن. ثمة شيءٌ آخرُ أريد إخبارَك به. لقد أتيت لتوِّي من المستشفى.»

انسحب الصغير من جيمي شيئًا فشيئًا. وببطء اتسعت العينان الرماديتان. وببطء انقبضت يداه. وببطء راح صدره الصغير يرتفع وينخفض مرة أخرى.

«آه!» جاءه صوت الصغير مبحوحًا. «آه! لا، لم يرحل ليخلُدَ للنوم الهانئ، أليس كذلك؟»

جلس جيمي ساكنًا وجال ببصره في أنحاء المحيط. كان الخبر بمثابة ضربة وجد نفسه عاجزًا عن تسديدها. وببطء تحولت عيناه إلى الوجه المفزوع للطفل الذي بجانبه، وإذا بالكشافة الصغير يرتمي بجسده المرتجفِ بين ذراعَيه ويدفن وجهه المنقبض في صدره، ولمدةٍ قصيرة من الوقت وجد جيمي صعوبةً في احتواء الجسد المتلوِّي بين ذراعَيه. فطرأت على باله فكرةٌ غريبة. تلك الصخرة التي كان قد سمَّاها العرش لم يكن ذلك الاسمَ الأنسب لها. فقد بدا أنها مكان يأتي إليه الناس بمتاعبهم. إذ كان في موقف سابقٍ عليها ضم بين ذراعَيه جسدَ امرأة معذَّبة لأقصى درجات الاحتمال. والآن يضمُّ جسد طفلٍ هزيل وخفيف للغاية حتى إنه لا يكاد يقدرُ على التحكم في ذراعَيه الطويلتين لإعطائه الدعمَ المطلوب.

قال جيمي متوسلًا: «توقف!» ثم أردف قائلًا: «لا تنظر إلى الأمر هكذا! دعني أخبرك شيئًا. لقد جرى الأمر كما جرى مع عمتك بيث. كان في الليل من دون حتى أن يوقظ سيد النحل. وكانت يداه مضمومتَين على صدره هو الآخر. وكان على وجهه ابتسامةٌ رائعة، الابتسامة نفسُها التي وصفتها بالضبط، الابتسامة التي تبدو وكأن هناك سرًّا عظيمًا كانت الشفتان المضمومتان ستنطق به لو أنهما تستطيعان الحركة.»

تلمَّس جيمي منديله وأخذ وجهَ الكشافة الصغير ومسح الدموع المنهمرة ثم وضع يده الكبيرة تحت الوجنتين المرتعشتين وظل متشبثًا بهما.

ثم قال يرجوه: «لا تبكِ هكذا.» وتابع: «إنك تعذِّب نفسك تعذيبًا بالغًا! ما كان سيد النحل ليَروقه ذلك. ألا تذكر حين قلتَ إن كل الملائكة ستُسرُّ حين ترى عمتك بيث وهي آتيةٌ تسير، مستقيمةَ القامة وشامخة، وبخطوات واثقة، على الطرق المزروعة بالزهور في الجنة؟ هذا ما سيحدث مع سيد النحل. إنك تتصرف بأنانية حين تبكي هكذا. فإنك لا تُفكر فيه، وعن رجوعه لماري وفتاته الصغيرة؛ إنك تفكر في نفسك.»

على الفور استقام الجسد الصغير.

«بالتأكيد أفكر في نفسي! ولماذا لا أفكر في نفسي؟ فهي كل ما لي، أليس كذلك؟ من الذي سيتألم حين أشعرُ بوجع أو لا أقوى على السيطرة على بيل السمين الطيب، أو حين لا أستطيع أن أجعلَ أحدًا يفهم أي شيء من الأشياء التي كان دائمًا يفهمُها؟ فلم يكن هو الوحيدَ الذي باح بأسراره. حين أخبرني بكل شاردةٍ وواردة عن خيبة مسعاه والناس الذين جنَوا عليه، لم يكن وحده مَن تكلم. فقد عرَف عنِّي بقدر ما عرَفت عنه، والآن ليس لديَّ إنسانٌ على قيد الحياة لأذهب إليه ويفهمني! ماذا سأفعل؟ فقط أجبني على ذلك السؤال! ماذا أنا فاعل؟»

وعلى نحو مفاجئ وجد جيمي نفسه يأخذ الوجه البائس الذي أمامه بين يديه؛ وجد نفسه يضعه على وجهه، على إحدى صفحتي وجهه أولًا ثم على الأخرى؛ وجد نفسه يحتضن الجسد الضعيف حتى شعر أنه يكاد يهشم عظامه، ثم سمع صوته عميقًا ومبحوحًا وهو يقول: «تأتي إليَّ مباشرةً! حين يكون لديك سر تريد حفظه، وحين لا يبدو أن هناك مَن يفهمك، وحين ينقلب عليك بعض أفراد مجموعتك وتتعقد الأمور، تعالَ إليَّ!»

على الفور تملَّص الكشافة الصغير منه. ولقيَ جيمي نظرةً ثابتة ذات عمق ورجاء لم يرَ لهما مثيلًا قط في عيون البشر.

بينما يسأله الكشافة الصغير: «هل أنت صادقٌ فيما تقول؟» ثم قال: «هل تتعهد بأن تنتزع قلبك، وتُمزقه، وتُلقي كلَّ قطعة منه في جهة من جهات الأرض الأربع؟»

فسأله جيمي: «أي المنظمات الأخوية (مجموعات من أشخاص لهم نفس الأهداف) كنتَ تقرأ طقوسها؟»

فقال الكشافة الصغير بهدوء: «منظمة أبي. إنما جعلنا العهد الخاصَّ بنا قاسيًا بقدرِ ما استطعنا.» ثم قبض أصابعه مرةً أخرى.

«بأمانة؟ هل تقصد حقًّا ما قلتَه مخلصًا؟»

فقال جيمي: «بأمانة. مخلصًا فيما وعدت به. وأقسم عليه بحياتي.» «احمِلْ يدي اليمنى واتلُ القسَم أمام الله العظيم! سأظل صديقَك دائمًا. سأحفظ أي سرٍّ تُخبرني به. سأفعل أي شيء في العالم يمكنني أن أفعله في أي وقت، في أي مكان، لأكون عونًا لك.»

اندفعتْ إليه يدٌ ثابتة.

قال الكشافة الصغير: «فلتُصافحني!» وتابع: «كل ذلك سيسري عليَّ. كل ما وعدتني به، أعدك به. سوف آتي إليك كما كنتُ آتي إلى سيد النحل. سنصبح شريكَين كما كنت أنا وهو. وسوف أساعدك بقدر ما أستطيع. لكن صحيح، ماذا سيحدث للنحل؟ وماذا سيحدث للحديقة؟ وماذا سيحدث لذلك المنزل الجميل؟»

تردَّد جيمي. يجب على أحد الأشخاص أن يخبرَ الطفل. وها هما معًا. كانت هذه فرصته. فقد أراد أن يسمع وجهة نظر طفل. ولمَ لا؟

ومِن ثَم فقد قال بهدوء: «هل تعتقد أن هناك في العالم كلِّه أي شخص كان سيد النحل يحبه أكثر مما أحبَّك؟»

فأجابه الكشافةُ الصغير: «لستُ مضطرًّا إلى إهدار أدنى مجهودٍ في شرح أيِّ ظنون بذلك الشأن.» وتابع: «فلديَّ معلوماتٌ واقعية، وقد حصلت عليها من الزعيم الأعظم؛ حصلت عليها من الخالق الكائن في السموات؛ لقد عرَفتُها حين اقتربتُ بشدة من قلب سيد النحل؛ عرَفتها من قُبلة حانيةٍ وإنه سرٌّ لن أخبر به أحدًا سوى الرجل الذي سيحلُّ محله. تذكر أنك حلفت يمينًا وهذا أول ما سأخبرك به لأنه كان سرًّا بيننا. ربما كان هناك ناسٌ لن يروقَها السر لو كانوا اطلَعوا عليه. كان هناك من الناس مَن سيستاءُ منه. لم يكن ليروقَ مارجريت كاميرون، من ناحية، لأنني أشكُّ إن كانت تهتمُّ لأمر لولي أكثرَ مما كانت تهتمُّ بسيد النحل. بناءً على ما رأيته منها، طريقة تنظيفها لمنزله ورعايتها له! أعتقد أنني رأيتُ أمي وهي تتودَّد إلى أبي من قبل. وأعتقد أنني أعلم القليل عن المتزوجين، وأظنُّ بناءً على ما رأيته منها أنها كانت ستسرُّ سرورًا بالغًا لو كان سيد النحل قال لها: «هل تقبَلين الزواج بي؟» وكانت ستقبل بكل تأكيد! كانت ستقبل أيَّما قَبول! لكنه لم يسألها الزواج قط، ولم ينوِ أن يسألها قط. فإنه لم يحبَّ البتة أيَّ امرأة في العالم كله سوى ماري، وكان قد سمح لامرأةٍ واحدة بخداعه حين كان في غاية الوحدة بعد رحيلها، مثل دجاجة تُحاول أن تتطلَّع حولها ورأسها مقطوع، حسنًا، ذلك أيضًا سر! يبدو أنني أُفشي إليك بكل ما أعرفُه مرةً واحدة. ربما تسمعها منظمة أكثر وتبقى في ذاكرتك بشكلٍ أفضل إذا أخبرتك بكل واحدٍ على حدة، وعلى أي حال، سيكون منطقيًّا أكثر أن أُخبرك بأسراري. فربما لا يروقُ له أن أخبرك بأسراره. وإنني لم أقصد كذلك. لكنه الحديث عن مارجريت كاميرون جعلَني أتذكَّر كيف كان باستطاعتي أن أُخبرها، في أي مرة من المرات وهي تدور حول نفسها، أن كلَّ ما هنالك أنه كان يراها امرأةً مهندمة، وكان يرى أنها كريمة، وكان يُفضل أن يلعبَ معها أحدَ ألعاب الكوتشينة أو الداما على أن يُفكر في الشيء الفظيع الذي ألمَّ بأكثرِ سيدة أحبها وبصغيرته ماري. كلا، ما كان يجب أن تظنَّ قط أنه أحبَّها أكثر؛ لأنه لم يفعل. وإنما كان يحبُّني أنا بكل تواضع! أما كيف عرَفت فقد أخبرتك من قبل. لأنه أخبرني! وما كان سيُضطرُّ لأن يقول ذلك لو لم يُرِد. فلم يطلب منه أحدٌ ذلك. لم يدفعه أحدٌ لذلك. بل كان هو مَن أقبلَ عليه من نفسه.»

فقال له جيمي: «حسنًا، إذن، ما دام قد أحبَّك لتلك الدرجة، وأنت تعلم ذلك، وإذا كان ذاهبًا في رحلةٍ طويلة ولديه شيءٌ عزيز جدًّا عليه سيتركه، فمن تعتقد سيكون الشخصَ الذي سيتركه له؟»

سيظل جيمي ما دام حيًّا يتذكر ردَّ فعل الكشافة الصغير على ذلك السؤال. فقد انتصبت قامتُه النحيفة. ورفع رأسه عاليًا للغاية. وشمخ بذقنه. وراح يطرف بعينَيه. ووضع يدًا على صدره أسفل عنقه؛ ثم فتح فمَه وأغمض عينَيه، وجعل الكشافة الصغير يُمثل ابتلاع لقمة كبيرة أكبر ما يمكن نزوله على الإطلاق في حلق صغير. ثم تكلَّم بصراحة من دون مواربة، وقد بدأ جيمي يُدرك أن ذلك شأن الكشافة الصغير في كل تصرفاته.

«حسنًا، بالقطع سيتركها لي بطبيعة الحال!»

جاءت الكلمات بهدوء وعفويةٍ واقتناع مِن شفتَين مطمئنتين. «سيتركها لي، وربما يترك لك بعضًا منها لأنك التزمتَ بالعمل حين كنتَ تكاد لا تكون قادرًا على ذلك، وواجهت النحل كما يجدر برجلٍ حقيقي أن يفعل، وكنت أمينًا في رعايتك شئونَه. بإمكانك أن تُدوِّن إجابتي على ذلك السؤال: سوف يترك لي جزءًا، وإذا فعل الصواب، كما كان يفعل دائمًا، فسيترك لك جزءًا.»

فقال له جيمي: «حسنًا، يا لك من بارعٍ في التخمين يا جين! هذا ما فعله سيدُ النحل بالضبط. فقد ترك رسالةً يعتقد الدكتور جرايسون أن المحاكم ستعملُ بها، وتقول الرسالة إن الفدان الغربيَّ من تلك الحديقة البديعة والقفائر التي عليه من حقِّك، والفدان الشرقي وما عليه من قفائر من حقي. من ناحيتك لك حريةُ أن تفعل أيًّا ما تراه أنت ووالداك مناسبًا. أما أنا، فهي تبدو لي كهديةٍ لا يمكنني قَبولها.»

«كيف ذلك؟»

وجَّه الكشافة الصغير السؤالَ لجيمي بحزم.

فقال جيمي: «مهلًا، إنني لم أفعل أيَّ شيء لأستحقَّها. كل ما فعلتُه هنا هو نقطةٌ في بحر مقارنةً بقيمة فدان الأرض الواقعة أسفلَ ذلك المنحدر، بما فيها من زرع، والنحل الذي يملؤها. إنه ببساطةٍ بمثابة الانتقال إلى منزلٍ ومعيشة مريحة ومهنة أعلم يقينًا أنني مؤهلٌ ذهنيًّا لإتقانها خلال بضعِ سنوات من العمل بحب واجتهاد، ولديَّ كل الكتب التي أحتاج إليها وكل المواد التي أحتاج إليها، واسم رجل سيُساعدني. الأمر في غاية السهولة! كأنها قصة خيالية! إنه حلم! والأمور لا تجري هكذا في الواقع.»

هنا جعل الصغير يُقلِّب الأمر على وجوهه.

ثم قال بصوت رصين: «فلتُصغِ إليَّ» ووضع يدَه الصغيرة على خدِّ جيمي وحوَّل إليه وجهَه فورًا بحيث يتلقَّى نظرات المتحدِّث. ثم تابع: «أصغِ إليَّ! ربما تظن أن الضمادات التي ترتديها لا تظهر من وراء القميص على ظهرك؛ لكنها تظهرُ حين تنحني. إنك تُحسن إخفاءها ولا تتذمَّر، لكنك ما كنتَ سترضى أن تُصبح مقيدًا تمامًا هكذا لو لم تكن مضطرًّا إلى ذلك. وذلك معناه أنك واجهتَ في طريقك متاعبَ وأشياءَ آذَتْك وضرَّتْك ضررًا بالغًا، وكان ذلك من أجلنا جميعًا، «من أجلكِ يا بلادنا.» لكنك ثابرتَ وتحملتَ آلامك، ولم تشتكِ، ونجوتَ منها. فقد عرَفت، وحدك تمامًا، أنه قد تنالك أشياءُ بشعة وأشياءُ بغيضة، وربما أشياء لم تكن تستحقُّها على الإطلاق. فلماذا إذن لا يحدث لك شيء رائع وجميل بنفس الطريقة؟ لماذا لا يمكن لشيءٍ جميل أن يحدث لك تمامًا كما ألمَّ بك أمرٌ بغيض؟ لماذا لا يمكن أن تحصل على فدانِ أرض بقفائر نحلٍ وزهور تمامًا كما أصابتْك كارثةٌ كِدت أن تموت منها كمَدًا؟ هلا تغاضيتَ عن هذا الأمر؟»

فقال له جيمي: «حسنًا، بعد تأمُّلِ الأمر، تذكرتُ قانون التعويض. حسَب قانون التعويض حين تمضي الأمورُ في اتجاهٍ ما حتى تبلغ أقصاه، فإنها أحيانًا ما ترتدُّ وتمضي بالقدر نفسِه في الاتجاه الآخر.»

جاءه ردُّ الصغير: «بالتأكيد!» ثم قال: «ذلك هو الصواب! هكذا تنظر إلى الأمر! فلا تجلس وتقول إنك لا تفهم ما حدثَ ولا تستحقُّ هذه الأشياء. لأنك تستحقُّها، وإلا ما كنتَ ستحصل عليها! ما دامت فيك صفاتٌ مميزة، وأعتقد أنك وُلدتَ بها تمامًا كما وُلِد بها أخي الصغير. فمنذ جاءوا به من المستشفى وترى فيه صفاتٍ من أبي، وترى فيه أشياءَ من أمي، وأرجو من الله أن تُصبح به صفةٌ واحدة تُشبهني! حين ركبتُ قاربًا ومررتُ بالكهف الكائن في الصخور، حيث تستطيع أن ترى الضوء، إن أمعنتَ النظر، قالت مولي إنني إن تمنيتُ أكثرَ شيء أرغبُ فيه في الدنيا عند رؤية الضوء فسوف يتحقَّق. لذلك فقد تمنَّيتُ أمنيةً وأرادت مولي أن تعرفَ ما تمنيتُه، لكنني لم أخبرها. إنني أحبُّ مولي، لكنه ليس من شأنها. إنني أحبها، لكنها ليست كاتمةَ أسراري كما كان سيدُ النحل وكما ستصبح أنت الآن من بعده. لذلك سأخبرك بما تمنيتَه من أجل أخي الصغير حين رأيت الضوء الذي يجعل الأمنيات تتحقق. لقد خطر لي هو فقط لحظة أن رأيت الضوء؛ لأن رغبتي في الشيء الذي أتمناه لأخي الصغير أكبرُ حتى من رغبتي في حِصان. لذلك بأسرع وبأقوى ما استطعت، قلت بنيَّة صادقة موجهًا نظري إلى الضوء مباشرةً: «أتمنى ألا يُصبح صغيرُنا جيمي شخصًا نذلًا حين يكبر أبدًا»!»

نهض جيمي وأخذ الكشافة الصغير من يده.

وقال: «هيا يا جين، لنعد للمنزل.»

جعل الكشافة الصغير يقفز من شقٍّ إلى شق هابطًا الصخرةَ أمام جيمي ثم انتظره أسفلها.

«يبدو أن اسمي قد راق لك.»

فقال جيمي: «حسنًا، إنه اسمٌ غاية في الجمال. وإنه معلومة مؤكدة عرَفتها عنك، بيد أنه لا يُخبرني ما إن كنتَ فتًى أم فتاة.»

وعندئذٍ رأى جيمي التمرد الذي لاح في الحال في العينين المرفوعتين إلى عينيه.

سأله الصغير في حدة: «أما زلتَ تجترُّ ذلك الهراء القديم؟» وتابع: «ما زلتَ مشغولًا بالتفاهات ومعك ما هو أهم. ما دمتُ شريكَك وأنت كاتمُ أسراري، وما دمنا عائدَين للمنزل معًا، أفليس ذلك كافيًا لك؟»

فأجابه جيمي: «يجدر بذلك أن يكون كافيًا لأي شخص.»

ومضى الاثنان عبر المسار متجهين إلى البوابة الخلفية. لكن توقف الكشافة الصغير في منتصف الطريق ونظر إلى جيمي مخمِّنًا.

«هل عليَّ أن أناديَك سيد النحل من الآن؟»

فقال له جيمي: «لا. لن تُناديني سيدَ النحل، بل ربما لن تناديني بهذا الاسم إلا بعد عدة سنوات. فإن سيد النحل مسمًّى لا بد أن يُكتسَب بالعمل الشاقِّ وصواب الآراء والعمليات الدقيقة. إنه مسمًّى اختصَّ به عن جدارةٍ الرجلُ الذي تُوفِّي الآن. لقد استطاع أن يسير به بسمو وشموخ. لكنه يعلو كثيرًا عن مقامي. سيكون علينا أن نجدَ لي مسمًّى بمعنى مواصلة السير رغم العقبات باستكانةٍ وتواضع، دراسة ما أعمل والاستمتاع به لأقصى حدٍّ كلَّ يوم، الإقبال على الأشياء بكل حماس وبذل أقصى ما أستطيع من جهد، الالتزام بالعمل لأنني أحببتُه فحسب، كما توقَّعت لي.»

بين الصور الذهنية الباقية في وعي جيمي ترسخ ما رآه من ارتفاع الكتفين، وميل الرأس للوراء، وارتفاع الذقن، والتلويح بكلتا اليدَين، حين سقط على أذنَيه القولُ الفصل إذ قال: «حسنًا، إذن، ما دمتَ تريد أن تكون متواضعًا وبسيطًا، وما دمت تريد التعمق في أصول العمل، فيجدر بك أن تُجيب عن النداء الذي يصفُك، مربِّي النحل. إنه اسم رائع لأي رجل.»

فقال جيمي: «أتفق معك تمام الاتفاق. إنه لقبٌ رفيع. إنه يُرضيني تمامًا، بل أكثر مما يمكن لأي لقبٍ من الألقاب ذات الأصل الألماني.»

تساءل الكشافة الصغير: «هل «سيد النحل» ألمانيُّ الأصل؟»

فجاوبه جيمي: «أجل، ذلك اللقب ألمانيُّ الأصل.»

«هل كان سيد النحل ألمانيًّا؟»

فقال جيمي: «لا. مطلقًا! إن سيد النحل بريطانيُّ النشأة والتعليم. تصادف وجوده في بلدنا، لكنه بريطاني الأصل وحسبما أظن فقد يكون بريطانيَّ المولد.»

فقال الصغير: «حسنًا، إن ظنك ليس في محله.» وأضاف: «وذلك شيء آخر أخبرَني إياه بنفسِه. لقد وُلد في بنسلفانيا، ولقي ماري هناك وتزوَّجها هناك وعاش هناك، وكانت الصخرةُ المائلة البغيضة في الجبال هناك.»

سأله جيمي: «أي صخرة مائلة؟»

أحنى الكشافة الصغير نظرَه.

وقال بعد حسمِ أمره: «أعتقد أنني مضطرب نوعًا ما اليوم. أعتقد أنني ذكرتُ أمرين أو ثلاثةً كان يجدر بي التزامُ الصمت حيالها. لن نتحدث عن تلك الصخرة اليوم. ربما أحكي لك عنها ذاتَ يوم. إنها حكاية مروعةٌ جدًّا وحين أفكر فيها لا أنام جيدًا. وحين أفكر فيها باستغراق، لا أستطيع التوقفَ البتَّة. أريد أن أراه قبل أن يرسلوه بعيدًا. أريد أن أسوِّي شعره وأضبط ربطة عنقه وأطوي يدَيه بنفسي. أريد أن أضع قدميه في وضع مريح وأود أن ألبسه نعله كذلك.»

وعندئذٍ بالتحديد انهار جيمي. كانا آنذاك قد بلغا المقعد الكائن أسفل الجاكرندا. فجلس عليها ودفَن وجهه في يديه وعلا صوته بالنحيب. بينما وقف الصغير بجانبه ووضع ذراعيه الصلبتين حول عنقه.

ثم قال وقد جاء صوته خشنًا من الانفعال: «آه، لا تقل إنهم مضَوا في الأمر وأرسلوه بالفعل؟ إنهم وضعوه في قطار الصباح؟ إنهم لم يعطوني فرصة؟ إنهم سمحوا لأحد آخر بضبط هندامه؟»

استقام جيمي في جلسته.

ثم قال: «أخشى أن هذا ما حدث، يا عزيزي.»

قال الكشافة الصغير مُجهِشًا في البكاء: «بئس ما فعلوا!» وتابع: «إن هذا لم يمنَحْ سيد النحل أي مظهر فخم، ولم يمنحْني أي مظهر فخم أيضًا! إنما كان سيُريدني أنا أن أضبط مظهره؛ لأنه كان يحبُّني أكثر. كانت أمي ستأتي معي وكذلك أبي. إن الدكتور جرايسون يعرفني جيدًا، وسوف أخبره برأيي في ذلك الأمر! كنت قد اتصلتُ به هاتفيًّا ربما عشر مرات وأتيت به هنا وكنت أهرول بأقصى سرعة لإحضار ما يريد ولتسخين المياه ولمساعدته. وكان يعرف تمامًا من الذي يفضل سيد النحل أن يُسوِّي له هندامه عند ذَهابه للقاء خالقه! ليس هذا عدلًا!»

وعندئذٍ انهار الصغير، فحانت لجيمي فرصةُ مواساته. وبعد برهة، حين أصبح كلاهما أهدأ حالًا، جلسا على المقعد متجاورَين وجفَّفا دموعهما بالمنديل نفسِه.

وفي تحولٍ مفاجئ كما كان دأبه، قال الصغير متسائلًا: «هل قسَّم الأشياء على النحو الذي كنتَ ستريده؟ هل منحك من الحديقة الجانبَ الذي كنت ستفضل الحصول عليه؟»

فجاوبه جيمي: «بالقطع، إنني راضٍ تمامًا. ولا أرى أي فرق.»

فقال الكشافة الصغير: «أما أنا فأرى فرقًا. لو كان لي حقُّ الاختيار، فسأختار الجانب الشرقي.»

سأله جيمي: «وما الفرق؟» ثم أضاف: «هناك في الجانب الغربي قفائرُ بنفس عدد الموجودة في الشرقي. وإن لم تكن كذلك، فسنحصيها ونجعلهما متعادلَين. إنني على استعدادٍ تام لنقلِ النحل الألماني الأسود وإعطائه لك مكافأة. هل النحلُ الألماني الأسود ما كنت تريده؟»

قال الصغير: «لا، ليس النحل الألماني الأسود ما أردتُ. وإنما زنابقُ مادونا. فإنني أسبقُ النحل إليها في كل مرة. كم أحب امتصاصَ الرحيق منها! فإنه شديد الحلاوة، من المصدر مباشرةً، وأنا تروق لي الأشياء الأصلية! كذلك أرغب بشدة في الحصول على ذلك الجزء من السياج حيث نُسقط الهنود.»

«ألن يؤديَ السياج الغربي الغرضَ نفسَه؟»

«أوه، أعتقد أنه سيؤدي الغرض نفسَه. الفرق الوحيد أنني لست معتادًا على السياج الغربي، وكذلك بيل السمين الطيب والطفل المطيع وذو الوجه الملائكي. كلنا معتادون على الشرقي، لكن أعتقد أننا نستطيع استخدام الغربي كذلك.»

ثم نظر الصغير إلى جيمي نظرَ تكهُّن.

«لقد خاب ظني فيك نوعًا ما.»

استقام جيمي في جلسته.

وقال: «أنا لا أعلم ماذا فعلت.»

فقال الصغير: «هذا هو الأمر بالضبط. ليس ما فعلته. ولكن ما لم تفعله. حين قلت إن الأمر سواءٌ بالنسبة إليك، وأوضحتُ لك بجِلاء أن ما يُهمني هو زنابقُ مادونا وفخُّ الهنود، كان بإمكانك أن تعرض عليَّ أن نتبادلَ الجهات! ربما ما كنت سأوافق. ربما ما كنتُ سأحصل على أي شيء غير ما أراد لي سيدُ النحل الحصولَ عليه. ربما كنت سأدخر نقودي وأشتري بعض زنابق مادونا وأزرعها في جانبي لنفسي، لكنني ظننت أنك ستعرض عليَّ التقايض.»

استوعب جيمي المسألة ببطء.

ثم قال: «أستمحيك عذرًا. لا بد أنها كانت غفلةً من جانبي. فإن رأسي أكبرُ سنًّا من رأسك، وقد أدركتُ أننا لا نستطيع التبادل دون الذَّهاب إلى المحكمة وإجراء قياسات وكتابة صكوكٍ وسدادِ أتعاب موظَّفين لإجراء التغيير، وأعتقد أن تلك المعلومة هي ما منَعني من القول بأنني موافقٌ على التبادل حيث إنها لن تفرق معي مطلقًا حقًّا أيُّ جانب تحصل عليه ولن تفرق البتة حتى إن حصلت عليهما معًا.»

فقال الصغير من فوره: «لكنني لن أقبل الحصول عليهما جميعًا». ثم أضاف: «لو كان سيد النحل قد قال بأن يئول الجانبان لي، ما كنتُ سآخذ سوى النصف؛ لأنه ليس تصرفًا شريفًا، بعد أن طلبتُ منك البقاء وفعلتُ كل ما بوسعي لأجعلَك تبقى. ليس من العدل أن آخذها كلها.»

نظر الصغير إلى جيمي مرة أخرى نظرةً متسائلة.

«ماذا سيحدث لكل الأموال التي لديه في البنك؟»

فأجابه جيمي: «حسنًا، وفقًا لنص الوصية، فإنه بعد سداد مصاريفِ الجنازة وديونه المستحَقَّة، يخضعُ ما يتبقَّى في البنك لبنودِ الوصية التي سيشرحُها لك والدُك بعد أن يدرُسَ الوثيقة دراسةً وافية. لكن أستطيع إخبارك بأن هناك أموالًا مخصصة لدفع تكاليفِ نقل المنزل لأرض مَن سيفوز به منَّا، وهناك أموالٌ لبناء منزلٍ صغير آخرَ يتكلَّف قيمة هذا المنزل نفسَها، وما يتبقَّى سيُقسم بالتساوي بيننا.»

قال الصغير بتأنٍّ: «هممم. هل تعتقد أنه من المرجَّح أن سيد النحل قد أعطاني بعضَ المال علاوةً على النحل والزهور؟»

فقال جيمي: «بلغَني أنه فعلَ هذا، إن أُثبِتَت صحةُ تلك الوصية. إن لم يتبيَّن أن لديه بعضَ الأقارب بالدم في مكانٍ ما، يستطيعون إثباتَ أنهم أقاربُه ومن حقِّهم بالقانون الحيازةُ. ينبغي ألَّا يحملك الحماسُ بعيدًا. لا بدَّ أن تعلم أن سيد النحل أراد أن تحصل على إرثه، لكن هناك احتمالًا كبيرًا أنه يمكن لرجلٍ أو امرأة في مكانٍ ما في العالم أن يأخذَه منك، وأغلبُ الظن أنه سيفعل ذلك عند علمِه؛ لأن الأقربين أولى بالمعروف، على كل حال، ومِن ثَم فإن أي شخص على صلةِ قرابة بسيد النحل سيُصبح أحقَّ مني ومنك.»

فقال الصغير: «نعم، إنني مدركٌ لذلك. وأفهمه تمامًا. لكن في حالة إذا كان سيد النحل على علمٍ بشئونه وقال القاضي إن الأشياء من حقِّنا، فهل ستَئول لي النقود؟»

فردَّ جيمي عليه وقال: «نعم، أعتقد أنها ستَئول لك، لكن أشكُّ أنها قد تذهب إليك قبل بلوغك السنَّ القانونية. أعتقد أنه من المرجح أن يتعيَّن على أبيك تولِّيها من أجلك والحفاظُ عليها من أجلك حتى يقول القانون إنك كبرتَ كفايةً لتصبح في حيازتك.»

صاح الصغير: «آه!» وتابع: «آه، الأمر نفسُه مجددًا!» وجعل يركل بالقدم الصغيرة حصى الممشى حتى طار بعيدًا عدة ياردات. ثم أضاف: «الأمر نفسُه مجددًا! دائمًا مضطرٌّ إلى الانتظار، دائمًا محبطُ الآمال!»

سأل جيمي: «ما الذي كنتَ ترغب فيه بشدة؟»

قال الصغير الساخط: «وما جدوى أن أخبرَك ما دمتُ لن أناله؟» وتابع: «ماذا تظنُّ أنني أريد؟»

فقال جيمي: «حسنًا، على سبيل التخمين عشوائيًّا سأقول إنك تريد حِصانًا.»

«أصبتَ، يا بني!»

ووثب قائد الكشافة في الهواء.

«لقد أصبتَ! إذا كان هناك أي شيء أريده من الأساس، إذا كان هناك شيء أريده بشدةٍ في هذا العالم، فإنني أريد حصانًا! أريد حِصانًا خاصًّا بي! كوين رائعةٌ وهانس ممتاز، لكنني أريد حِصانًا خاصًّا بي! أود أن أحيطَ عنقه بذراعيَّ وأحبَّه هو دون غيره. أود أن يعرفني ويتبعني كما يفعل كلبُ أبي. أريده أن يأتيَني حين أناديه. أريده أن يتعلم أسلوبي. ولا أريد أن يمتطيَه أي شخص آخر أبدًا؛ لا نانيت، ولا أخي الصغير، ولا أي شخص، وإنما وحدي أنا أمتطيه! أريده ليُصبح ملكًا لي وليس ملكًا لأيِّ أحد. أريد أن أكون أنانيًّا غايةَ الأنانية معه!»

فقال جيمي: «حسنًا، حيث إنني لم أقابل أباك وأمَّك من قبلُ فإنني لستُ متأكدًا، لكن يبدو لي من نبرات صوت أمك حين تحدثت معي على الهاتف …»

فقال الصغير: «نعم، أعلم كيف يكون صوتُها على الهاتف.» ثم أضاف قائلًا: «أنا نفسي أحبُّه. فإنني أقف وأستمعُ إليها أحيانًا وهي تتحدث لمجرد أن أرى كم تستطيع أن تُضفيَ العذوبةَ على طريقة قولها الأشياء.»

«أما والدك، فلأنه والدك فإنني أعتقد أنه من رأيي ما دامت هذه الأموالُ وهذه الأرض هديةً لك من مُربي النحل فأظن أنه …»

بادَرَه الكشافة الصغير مقاطعًا: «هذا ما تظنُّ بالطبع!» وتابع: «أي شخص كان سيظن أنهما سيسمحان لي بشراء حِصان من مال الوصية. ألا نستطيع الاحتفاظ به هنا؟»

فقال جيمي: «لا أعرف إلى أين تمتدُّ حدود المدينة لكننا سنتحرَّى الأمر. سيبقى الأمر سرًّا بيننا وسنتحرى بشأنه. سنرى ما بوُسعنا فعله. إذا كنت تعتقد أنه ليس من المرجَّح الموافقةُ على امتلاكك حِصانًا في البلدة، فلا تنبسْ بكلمةٍ بهذا الشأن. لنتكتمْ عليه ونرَ كيف يمكننا حلُّ المشكلة وحدنا.»

فقال الصغير: «اتفقنا. لن أبوحَ لهما بكلمة. سنرى ما سنتوصل إليه. والآن أعتقد أنه من الأفضل أن أذهب إلى المنزل. قد يكون الدكتور جرايسون اتصل بأبي. وقد يكون في انتظاري. وربما تودُّ أمي رؤيتي. وربما أيضًا أنهم لم يأخذوه بعيدًا بعد.»

فقال له جيمي: «إنني آسف. إنني في غاية الأسف، لكنني عرَفت أنهم أخذوه. لا ينبغي أن تعلق أي آمال حِيالَ ذلك. فقد عرَفت أنه قد ذهب.»

ظل الصغير واقفًا يُحدق بشدةٍ في حوض زهور الزينيا، محاولًا جهدَه الحفاظَ على شفتَيه دون ارتعاش وعينيه دون دموع. ثم حدَث المعتاد من تغييره الموضوعَ بسرعة البرق.

إذ قال الكشافة الصغير: «إنني أرجو، أرجو بحقٍّ ألا يكون لدى سيد النحل مالٌ كثير في البنك. أرجو ألَّا يكون هناك إلا القليلُ منه.»

سأله جيمي: «لماذا؟»

فقال الكشافة الصغير: «أوه، إنني لا أرى فائدةً في امتلاك الناس الكثيرَ من المال. فهي لا تفعل سوى جلب الكثير من المتاعب كما يبدو. فقد ظللتُ أشاهد المواقف طوالَ سنوات عديدة، ويبدو لي أن أغلب المشاجرات والمشاحنات والدعاوى القضائية وتدهور العلاقات تحدث بين الناس الذين لديهم ثروات طائلة. لِمَ لا يمكن للناس الاكتفاءُ بمبالغ معقولة من المال؟»

فقال جيمي، سعيدًا بتغيير الموضوع: «حسنًا، وما المبلغُ الذي تعتقد أنه كافٍ؟ ما المبلغ المناسبُ لنا في نظرك؟»

جعل الكشافة الصغير يفكر بإمعانٍ ثم أفصح بحسم: «أرى أن أيَّ شخص لديه الفدان الشرقي أو الغربي من هذا المكان، وصفٌّ طويل من قفائر النحل والكثير من أشجار الفاكهة والزهور والمزيدُ والمزيد من الزهور، ورمال وبحر، وبيتٌ صغير يهتف بصوت واضح على الطريق قائلًا: «فلتتفضَّل بالدخول!» أرى أن مَن أسعده الحظُّ بامتلاك ذلك، والحصول على خبز وزبد ومياه غازية بنكهة الفراولة وسجق، لا يحتاج إلى شيءٍ آخر في العالم، والملابس بالطبع، نسيت أن أقول ملابس كافية لتستره.»

قال جيمي: «ألم تنسَ أن يكون لديه حِصان؟»

«أوه، حسنًا، بالطبع أردت أن أذكر الحصان. أردت أن أذكر الحصان أولًا قبل أي شيء آخر ما عدا مكان للاحتفاظ به. لا يمكن أن تربيَ حصانًا من دون مكانٍ لتضعَه فيه. ظلَّت تلك مشكلتي طيلةَ سنوات. كان بإمكاني امتلاكُ حصان متى أردتُ. لكن لم يكن هناك أيُّ إصطبل له ولا أي برسيم أو شوفان أو أي شخص للحفاظ على نظافة الإصطبل. كانت تلك مشكلتي طوال الوقت. الحصان ضروري بالتأكيد!»

فقال جيمي مقترحًا: «وقارب بالطبع. فلا فائدة من المحيط من دون قارب، أليس كذلك؟»

تريَّث الكشافة الصغير. «أوه، حسنًا، بالطبع، ما دام لدينا المحيط عند بابنا الخلفي، فقد نحتاج إلى قاربٍ بالطبع. أخبرني سيدُ النحل ذات مرة لماذا وضع السياجَ حيث وضعه، وهو يملك كلَّ الأرض الممتدةِ حتى المحيط. أراد رجلٌ أن يشتريَ أرضه التي على الشاطئ ويضعَ كشكًا للسجق هناك لكنه قرَّر ألَّا يسمح له بذلك لأننا نستطيع الحصول على السجق من عند الناصية. وقال سيد النحل إن أحد أعظم الرجال الذين عاشوا في إنجلترا مطلقًا، أحد أكبر مفاخر ذلك البلد القديم الطيب كان رجلًا يُدعى ويليام بلاكستون. وقد جعلني أكرِّر مرارًا بشأن موضوع كشك السجق ما قاله ويليام بلاكستون. وسوف أخبرك به الآن.»

وتقدم الكشافة الصغير أمام جيمي، وضم قدمَيه الصغيرتين، وأبرز كتفيه النحيلتَين، ورفع ذقنه، واستطاع أن يأتي مظهرًا نبيلًا مدهشًا. لم يفهم جيمي كيف يمكن لذلك الوجه الملطَّخ بالدموع، وذلك الشعر الأشقر المليء بالرمال، والحاجبين والأذنين اللذين غطَّتهما الرمال أن تكتسيَ بمظهر الوقار والرزانة الذي لاح على وجه الصغير وهو يُلقي هذه الجملة: «لا يحقُّ لك حجبُ الضوء العتيق عن جارك!»

وإذ فجأةً، بالتغيير المباغت نفسِه المألوفِ في الكشافة الصغير، تراخى جسدُه كله، وعاد إلى المقعد، وجلس بجانب جيمي ومال إليه.

قال الكشافة الصغير: «المقصود بذلك «الضوء العتيق» أشعة الشمس وضوء القمر والهواء النقي الآتي رأسًا من الصين. اعتاد سيد النحل النزول والاستلقاء على الرمال لمدة تصل لساعة حيث يترك المحيط يخبره بأشياء تواسيه. وقد قال إنه لو باع تلك الأرض سيكون الرجل المجاور له هو المالك، وسيكون هو الجار، وهو لم يُرد أن يُفسد كشك سجق «ضوءَه العتيق»، ولم يرد أن يصبح إرثه من الهواء النقي المشبع بالملح الذي يحمله إليه البحر مباشرةً مضببًا تمامًا بدخان السجق. ولا يهم البتة إن كان يجعل لعابنا يسيل، فباستطاعتنا الحصول عليه من عند الناصية.»

ثم وضع الكشافة الصغير ذراعَيه بإحكام حول رقبة جيمي وأحاط بها حتى كاد يخنقه، ثم حصل مربي النحل على قُبلته الحارَّة الصغيرة الثانية قوية على خده.

وقال الكشافة الصغير: «أشكرك أنك حللت محله لديَّ، وإنني سعيدٌ أنك قد حصلت على زنابق مادونا وأرض المعركة، وسعيد أنك حصلت على الفدان الشرقي ونصف قفائر النحل. سوف آخذ النحل الألماني الأسود إن كنت لا تريده. وإنني سعيد، حتى إن كان سيد النحل قد اضطُرَّ إلى الرحيل، أسعد مما يمكنني الوصف أنك سوف تبقى وترعى النحل!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤