الفصل السادس

«ماذا أفعل، يا إلهي؟»

بعد رحيل مساعد سيد النحل، الذي كان السيد قد أشار إليه بحنانٍ بالغ باسم «الكشافة الصغير»، ظل جيمس ماكفارلين طَوال ساعة جالسًا يُحملق في ألواح السياج المطلية بالكلس التي اختفى الطفلُ من فوقها. في البداية تراقصت على أساريره ابتسامةٌ عفوية وهو يتذكر المرح البسيط، والسلوك العمَلي، ولحظات الرقَّة، وتقبل الواقع بلا اكتراث التي تتابعَت واحدةً تِلْو الأخرى بسرعة شديدة في عقلية الصغير. ثم أخذ يتفكَّر باهتمام، لبضع دقائق، فيما إذا كان الشخص الصغير الغريب صبيًّا حقًّا أم فتاة فعلًا. فكان الاستنتاج الأكيد الوحيد الذي توصَّل له أنه كان صبيًّا أحيانًا وفتاة أحيانًا أخرى.

ثم انتقل ذهنُه إلى الشيء الذي كان دائمًا في الصدارة. ما الذي قاله الصغير عن الموت؟ إن هناك سُبلًا عدة؟ كان الموت هو ما ظل يُواجهه طوال العامين الماضيَين، لكن المثير للشفقة في الأمر بالنسبة إليه أنه لم يشعر به قريبًا ولا أكيدًا كما شعر به في تلك اللحظة. كانت عظامه الموجوعةُ تُذكِّره بضعفه كلما تحرَّك. وقدماه المتورمتان تصرخان كلما أثقلَ بحمله عليهما، وأما الألم المضطرم في جانبه الأيسر، فقد ظل يحمله طويلًا جدًّا حتى إنه بات مثل كرب لا شفاء منه أو إجهادٍ ذهني لا يستريح منه المرءُ أبدًا. شعر جيمي بيقينٍ أن بإمكانه استبعادَ الموت بالغرق والحريق والانفجار. إذ لم يشعر أن أيًّا من هذه الأشياء قد تحدث له. بذلك صار هناك نوعان متبقِّيان من الموت؛ لا بد أن يواجِهَ واحدًا منهما.

جعله ذلك يعود بذهنه إلى أيام كان صبيًّا صغيرًا حين يتلو صلواتِه بلا تمييز عند رُكبتَي أمِّه أو أبيه؛ إذ كان أبوه في رقة النساء مع طفله الوحيد. وقد ظل سنواتٍ يجثو بجانب فِراشه ليُكرر ما تعلَّمه مع بضع إضافات من عنده. كما ظل سنواتٍ بعدها يذهب إلى الفراش ليُتمتم بصلاة مرتجلة. ثم توالت سنوات أخرى، كان خلالها، في خُيَلائه بقوته واهتماماته المتعددة طوال اليوم، لديه من العافية في بدنه وذهنه ما يُغنيه عن الانزعاج بأي حاجة حيث لم يكتفِ بأنه لم يكن يُصلي صلاة سؤال — لأنه كان في أفضل حال من دون أن يسأل أي شيء — بل لم يَعُد يُصلي حتى صلاةَ شكر. وبينما كان جالسًا هناك ذلك العصر، أرسل نظره إلى الحديقة الزرقاء التي هي عبارةٌ عن مجرد جبل صغير منحدر باتجاه البحر، متأملًا جمالَ الزهور والزرع والفاكهة، وبينما يجول ببصره في المساحات البيضاء من الرمل، والزرقاء من المحيط والسماء الممتدَّة بعيدًا حتى آخر العالم، هاجمه شعورٌ حادٌّ بالأسى، شعور بالندم على توقفه عن صلاته الليلية. فحتى لو كان جسده قويًّا وكان عقله عفيًّا، ولو لم يكن بحاجةٍ إلى طلب المساعدة البدنية، فربما هو في حاجةٍ إلى طلب حماية عقله من تَكْرار الشيء نفسه الذي حدث وهو ترك الصلاة، كما أن هناك دائمًا صلاة الشكر. منذ أن انقشع الضباب في البداية وسطع ضوء الشمس في الأنحاء فاستحثَّ الأرض لتُنبت الزروع والفاكهة، وتطورت الحيوانات والإنسان وفقًا للنظام المقدَّر للأشياء، لطالما وُجِد بقَدْرٍ ما الجمال الخلاب نفسه الكائن أمامه الآن. ولطالما وُجد في صدر كل إنسان يُولَد ليستمتع به قلبٌ لا بد أن يبتهجَ ولا بد أن يرفع الشكر على ذلك الإرث. ولطالما وُجدت شِفاهٌ تُجاهر بالقول وتخبر الخالق كم هو رائع غموض الأرض وعظمة البحر ونعمة أشعَّة الشمس وقدرة ساعات العتمة وقد أضاءها ضوءُ القمر على أن تُبرئ الجراح. ولطالما وجد الواجب الذي التزم به والده بشجاعة، من اعتراف بالتزاماته، بأن يدلَّ على السبيل الرجالَ الآخرين الأقلَّ وعيًا لنداء الرب والطبيعة.

استغرق جيمي في التساؤل كيف سيجعل طريقة الموت التي مرح بها الكشافة الصغير وقبَّلها وابتهج بها، ورآها جميلة، تُصبح واقعًا بالنسبة إليه. حين تذكَّر ما قاله الطفل، شعر جيمي بامتنانٍ بالغ أنه مهما كانت أخطاؤه، ومهما كانت زلَّاته، ومهما كانت الخطايا التي ارتكبها، فإنه لم يظلم بشرًا، ولا لطَّخ سمعة امرأة بريئة أو ألحق بها الخزي، ولا كذب ولا غش ولا دنس روحه بالاحتيال والصفقات التجارية المجحفة. كان قد انتوى دراسة زراعة الغابات حين غادر الكلية. فقد أراد أن يكون خادمًا للأشجار. إذ إنه لطالما أحبَّ الغابات والحقول والزهور؛ حيث يرى أن الشجرة كائنٌ حي، كائن له مشاعر، كائن له قدمٌ في الأرض ورأس في السماء وأذرع كريمة ممتدَّة بشكل متَّسع لتمنحَ إما الظل وإما الثمرات وإما بهجة الزهور ليستفيد منها العالم. كان ينوي الذَّهاب إلى أعظم طبيب أشجار، ويأخذ دورةً تدريبية شاملة في جراحة الأشجار، تحت توجيهه وإشرافه، وانتوى عندئذٍ أن يبدأ مهمةً كبرى بإنقاذ كلِّ ما يمكن من أشجار في الوجود.

ومِن ثَم اعتقد أن العمل مربيًا للنحل ليس بالشيء السيِّئ. فبوُسعه دائمًا أن يفعل ما في إمكانه من أجل الأشجار، وفي الوقت نفسه لا بد من توفُّر الزهور لتوفير الغذاء الحلو الذي ظل يُسعد الإنسان منذ فجر التاريخ، وكان بلسمًا شافيًا. فإن العمل الذي تقوم به الأجنحةُ الشفافة الطنانة التي عجَّت بها أنحاء الحديقة أمامه من العناصر المهمة في ثروة العالم. وإن كان مقدَّرًا له العيش، وتوفرت لديه فرصة البقاء لأي مدة في مكانٍ كهذا، واستطاع تعلم الحرفة من دون تعليمات متعِبة، ومن دون تدريب طويل، فقد تصبح وسيلةً أسرعَ لكسب العيش، وربما بالمتعة نفسِها وأشدَّ تسليةً. ومن المحتمل أن تحتويَ المجلدات التي على الرفوف أعلى مكتب سيد النحل على معلومات تجعل النحلَ النشيط، القادرَ على فعل أشياءَ قريبةٍ قربًا ملحوظًا من التفكير والعمل المنسق مسبقًا، مثيرًا للاهتمام تمامًا مثل الشجرة الساكنة، التي لا يمكن قطعًا أن نخلع عليها ملَكة التفكير مهما جمَح بنا الخيال.

حين قرَّر جيمي أنه في حال عودة سيد النحل من المستشفى ضعيفًا وعاجزًا واستحسن الطريقة التي بها اعتنى بمنزله وروى الحديقة والأشجار ورعى النحل، فقط إذا استطاع أن يجعل نفسه مفيدًا ومهمًّا ثم طُلِب منه البقاء — بالضبط حين قرر أن يكتشف بنفسه إذا ما كان التكهُّن بأنه «بالمكوث» سوف تروق له حديقة سيد النحل — عندئذٍ طرأتْ على ذهنه الفكرةُ الكئيبة السابقة: كم تبقَّى لك من وقتٍ حتى تروقَ لك خلاله؟ حتى متى تظلُّ مثل كفيفٍ يقود كفيفًا، وأنت تحاول أن تفعل شيئًا لسيد النحل؟ إن لم يستعِدْ هو عافيته، وإن لم تستعِدْ أنت قوَّتك، وإن أصبح النحل بطنينِه وصراصيرُ الليل بصرصرتها والطيورُ بشَدْوِها والمياهُ بجريانها، وزُرقةُ الحديقة والبحر والسماء، وكل ذلك في طيِّ الماضي بالنسبة إليه خلال بضعة أشهر، فما الجدوى؟

واستطاع أن يرى بالأسفل كيف أن أبراجًا وجبالًا من الصخور قد نهَشها وأكلها المدُّ المرتفع والأمواج المتلاطمة. وحين يعود سيد النحل وتنتهي الثقة التي كان قد اكتسبها، لماذا عساها الصدفةُ لا تؤدي به إلى الوقوع من أحد تلك الجروف الناتئة إلى تيارٍ معاكس تحت الماء ربما يحمله إلى الصين دون أن يدري؟

وعندئذٍ مَثلَت أمامه في لقطةٍ حية الصورةُ الذهنية التي استحضرها الكشافةُ الصغير حين أخبره بفتورٍ شديد بأمر الرجل الغارق والسلاحف؛ غالبًا أسماك القرش هي التي ستتجاذب جيفتَه الهزيلة. كانت الابتسامة التي الْتَوى لها وجهه مروِّعةً بعضَ الشيء حين تصوَّر أن القروش لن تجد ما تقتاتُ به في عظامه وعضلاته. ثم تمادى في التفكير أكثر قليلًا وتخيَّل أن اللحم سيكون طريًّا إلى حدٍّ ما. من الممكن أن يجد فيه أحد الكائنات ما يملأ فمه.

وبعد ذلك، لاح فجأةً أمام عينَيه، طاغيًا وجَليًّا، ذلك السردُ الطفولي لأنواع الموت، ووصف السيدة العجوز الضئيلة التي تمدَّدت على ملاءة ساتان أرجوانية مغطَّاة بالدانتيلا الرقيقة، السيدة المحبوبة التي خلَدَت للنوم ليلًا في هدوءٍ ورفق من دون حتى أن ترفعَ يدَيها المضمومتين، والتي حملَت معها إلى القبر نظرةً على وجهها وصفَها الكشافة الصغير ﺑ «السر الذي يدعو للابتسام». كان في هذا الطفل فِطرةُ الطفولة وصراحتها وقسوتها. (ما الذي قاله لافونتين عن الأطفال؟ إنَّ كلهم صُرحاء لحد الغِلظة، وقُساة قسوة وحشية؟) لقد بدَت خِصال القسوة واضحةً في الكشافة الصغير، لكنها ليست في وضوح الكرَم والحنان وحبِّ الأمانة. استطاع جيمي أن يرى ذلك في الكفِّ المتسخة التي تبعثرَت فيها الأزرارُ والخيوط والثقالات والفلين والمشابك بحثًا عن العملات المعدنية التي قدَّمها لشراء طعامٍ شهي للسيد.

كذلك، أيضًا، توجد لدى الكشافة الصغير في عقله الباطن بصيرةٌ نافذة أدرك بها النظرةَ التي لاحت على وجه السيدة النائمة. تصور جيمي أنه إذا ذهب عامدًا إلى جروف المحيط الهادئ وألقى بنفسه إلى أسماك القرش، فإنه حين يمثل أمام الله ويُقابل أباه وأمَّه، فلن يتمكن من أن يحمل على وجهه مثلَ تلك الابتسامة الغامضة. فلن يُصبح بذلك قد أخلص الإيمان. إذ سيخالف شرائعَ الله وقوانين الإنسان. وبذلك سيسمح للنساء الضِّعاف بالتفوق عليه في الشجاعة والقدرة على التحمُّل. ومِن ثَم أغمض عينَيه ليتحاشى النظرة التي تخيَّل أنها قد ترتسمُ على وجه أمِّه. وهنا حذف جيمي فكرةَ إلقاء نفسه في المحيط من مخططه للخلاص، وحلف يمينًا مغلَّظة في قلبه أنه مهما حدث، حتى إن عاد لتقلبات الحظ على الطرق، إلى قسوة الجفاء التي يلقاها الكثيرُ جدًّا من عابري السبيل، مهما حدث، حتى إن كان أبعدَ ما قد يخطر على الخيال، فإنه لن يُجازف بمواجهة الخالق بروحٍ جبانة. أقسمَ بكل ما أحبه وأجلَّه طيلة حياته أنه سوف يحاول، يحاول بكل قوته خلال ما قد يتبقَّى له من وقتٍ قصير، أن يتمكن من السرِّ الذي بعث على الابتسام، وإنه أيًّا كان المعروف الذي قد يتمكَّن من فعله لسيد النحل أو أي شخص يلقاه في الوقت المتبقِّي له، فإنه بقدر ما يستطيع، سينسى نفسَه، ويُنحِّي جانبًا ألمَه وكدَرَه وخيبةَ رجائه، ومشاعرَه بالانهزام والخيبة، وتوقه للحب والصحبة الذهنية، وسيرى إذا ما كان جسده الذي يربو عن ستِّ أقدام من العظام واللحم بإمكانه أن يُسدِيَ أي خدمة صغيرة ربما تُصادفه من أجل الله ومن أجل رفيقه سيد النحل قبل أن يرحل. ربما إن استطاع إنجاز شيء صغير، شيء من شأنه أن يُخفف ولو ألم قلب واحد ألمه مثل الألم الذي يعتصر قلبه في تلك اللحظة، فربما تكون تلك المعلومة هي السرَّ الذي قد يحمله في صدره، فيطبع على وجهه ابتسامةً لا تُمحى لدرجة أنه حتى مجرد طفل صغير يمكنه أن يرى عظَمة الباعث الذي وراءها، ولا يُساوره هو خزيٌ حين تحين النهاية.

وهكذا نهض وبعزيمة، لكن متألمًا، وهبط وهو يعرج على السلَّم الجبلي طويلِ الامتداد ذي المنحنيات والنتوءات حتى وصل إلى البوابة. وهناك جلس وتطلَّع إلى طول الدرجات المتبقية وفي أنحاء الشاطئ. وعلى يساره، غيرَ بعيد جدًّا، اكتشف جبلًا حجَريًّا صغيرًا وجذَّابًا للغاية. انتصب بجَسارة وكبرياء، وشموخ أشمَّ على حافة المحيط الهادئ، وبدا أنه ثمة طريقٌ يمكن بسلوكه تسلُّقه من الخلف. تخيل جيمي أنه في مكانٍ ما على قمته قد يكون هناك بقعةٌ ممهدة حيث يمكن الجلوسُ والتطلُّع إلى الشمال والغرب والجنوب، عبر أميال لا حدَّ لها من واجهة البحر، وإلى فضاء عالم السماء اللامتناهي، وإلى بساتين السماء العامرة بالنجوم. وتساءل إن كان أيُّ ملكٍ من الملوك قد حكم من عرش مثل ذلك، ثم خلص إلى أنه لم يحدث قط. هكذا قرَّر أن يجعل ذلك الموضعَ هدفًا له. لكنه لن يبتعدَ اليوم أكثر من ذلك؛ لأنه قد تعلم أن نزول الجبل أسهلُ كثيرًا من تسلقه. لكنه سيفتح البوابة غدًا، وسيذهب بالتحديد إلى المكان حيث زهورُ بوق الملاك والأحواض الأرجوانية اللون التي اعترشتها زهرة رقيقة هي رعي الحمام الرملي — لم يكن جيمي قد سمع عن نبات رعي الحمام الرملي قط، لكنه يملك أنفًا حسَّاسًا جدًّا، فاستطاع في تلك الساعة من المساء أن يلتقطَ عبيرًا أخَّاذًا، كما أنه شاهد بضع نحلات متأخرة وهي تذهب إلى الأحواض الرقيقة الملونة وتجيء منها — تحديدًا عند الخط الذي تتفتَّح فيه للشمس زهورُ رعي الحمام بلونها الأرجواني المائل للوردي وزهور الربيع المسائية بلونها الذهبي؛ سيبتعد حتى ذلك الحد اليوم التالي. وفي اليوم الذي يليه سيسيرُ متقدمًا مباشرةً حتى يصل إلى قمة الصخرة الجسور.

وحتى يبلغها لا بد أن يجتاز مسافةً طويلة من الأمواج المتكسرة، التي بدَت كأن كلَّ واحدة منها تقول له: «أتحدَّاك! أتحداك أن تتقدم!» جلس جيمي هناك وجعل يتأمل قدمَيه وتفكَّر في حالتهما من تورمٍ وألم، فاجتاحه توقٌ شديد لدسِّهما في مياه المحيط المالحة الباردة. وبمجرد أن أوشكَ على النهوض، راودَته الأفكارُ فتساءل ماذا لو شعر بالبرد وارتجف، ماذا لو أُصيب بنزلة بردٍ شديدة، ماذا لو أصابه سُعال، فوضع جيمي يدَه على يسارِ صدره وجلس ساكنًا. من شأن ذلك أن يُعجل جدًّا بالنهاية، وهو قد انتوى إن كان ذلك ممكنًا أن يُقاوم حتى يأتيَ سيد النحل ويعفيه من الواجب الذي أخذه على عاتقه حين وافق على البقاء مع النحل. لكن اللهفة، الرغبة في النزول إلى المياه المالحة الباردة كانت قد استيقظت.

حين سمع النداء لتناول العشاء، مضى على مهل، متألمًا، في صعود السلَّم المتعرِّج. كان يتوقف كلَّ بضع درجات ويلتفتُ لينظر إلى الأمواج المتباطئة وهي تزحف على الرمال وتتراجع عائدةً مرة أخرى، ثم قال في نفسه، إنه واثقٌ ثقةً مطلقة أنه سينزل إلى هناك ذات يوم ويضع ولو قدمَيه على الأقل في المحيط، وسوف يتسلَّق الجبل الصخري ويجلس على قمته المرتفعة في وقتٍ متأخر من الليل كيفما يريد. وسوف يشاهد المحيط الهادئ وقد نسجَ فيه القمرُ بضوئه مليونَ مسار فِضِّي. قد تهبُّ عاصفةٌ في وقت من الأوقات. وقد تهيج الأمواج حتى تكاد تصل إلى قمة ذلك الجبل الحجري الشاهق، وقد يُدوي الرعد وقد يُطلق البرق ألسنتَه المتشعِّبة، وقد تجنُّ الأمواج فتأتي بأسوأ أفعالها في هيجان خارج عن السيطرة. عندئذٍ سيحرص على أن يقف على قمة تلك الصخرة، وسوف يُشاهد عاصفة عناصر الطبيعة في ثورتها ويرى كم تتشابهُ مع العاصفة التي ظلَّت ثائرةً في قلبه وعقله زمنًا طويلًا. إن مجرد بلوغ قمة تلك الصخرة العالية سيُصبح شيئًا لينشغل فيه، شيئًا يعمل في سبيله، هدفًا محددًا نُصْب عينَيه.

صعد بضع درجات أخرى وتوقَّف ثانيةً ليتفحَّص وجهَ البحر والقمة الباسقة التي أسماها في رأسه العرش. كانت عرشًا، مكانًا يُسيطر فيه الإنسان على روحه. حيث يصبح الإنسان ملكًا على كل ما يُمكنه استعراض دقائقه ولو لوقت قصير على تلك القمة، وإنه من الأفضل أن تُصبح ملكًا ولو لساعة من ألَّا يكون لديك تطلعٌ للمُلك قط.

ومِن ثَم ذهب جيمي إلى العشاء الذي أعدَّته مارجريت كاميرون من أجله، ولأن التسلُّق كان قد أنهكَه للغاية، ولأنَّ قدمَيه كانتا ترتجفان ألمًا لدرجةٍ كادت تفوق احتمالَه من المسير الطويل غير المعتاد الذي أجبرَهما عليه، فقد أقرَّ بأنه لم يَعُد على ما يُرام كما كان حين غادر المستشفى. وقد كان مخطئًا خطأً كبيرًا في ذلك. فمن الوارد أن يكون جسده قد أُنهك إلى الحدِّ الذي جعله خائرًا، أما قلبه وعقله فقد خضعا لبعض التمارين التي أفادتهما بالتأكيد.

وبينما يتناول عشاءه، مرَّت مارجريت كاميرون على الحجرات، لتضع لمسةً على إحدى الستائر هنا وهناك، وتمسح ذراتِ الغبار عن قطع الأثاث العتيقة الجميلة، مستطلعةً بعينين غيورتين لترى إن كان الغريبُ قد أحدث أيَّ ضرر بأملاك جارها الذي اعتادت، على مر السنوات، ليس فقط أن تحترمَه ولكن أن ترعى ودَّه بإخلاص عميقٍ ودائم.

وسرعان ما جاءت من غرفة المعيشة وخرَّت جالسة في الحال على مقعدٍ بجانب المنضدة التي كان جيمي يأكلُ عشاءه عليها.

وقالت: «أوَتدري، لقد عانيتُ اليوم ما يكفي من المشكلات. إذ لديَّ أمور خاصة تَشغل بالي. لديَّ ابنة واحدة فقط وطالما كانت فتاةً مطيعة. فهي تؤدي فروضها المدرسية على أكمل وجه وكذلك برنامجها التدريبي، ولم تُواجهها أيُّ صعوبة في الالتحاق بمدرسة حين أرادت ذلك، لكنني لا أعلم سبب عزمِها الذَّهاب بعيدًا جدًّا عن الديار بينما كان بإمكانها الالتحاقُ بمكانٍ هنا حيث تستطيع البقاء معي. ربما سئمت من المنزل الصغير والسيدة العجوز الصارمة دائمة التنظيف والتلميع، دائمة التذمُّر من أن الشباب مصيرهم أن يَفسَدوا. لا أدري إذا ما كنت أنا مَن دفعها إلى الابتعاد، لكنني متأكدةٌ أن ابنة عمها مولي زينَت لها الابتعاد. لست متأكدةً إذا كان من المنطقي التفكيرُ في أن الجيل الحاليَّ مصيره أن يفسد. كانت أمي لديها الرأي نفسُه بالضبط في بنات جيلي. حين كنت أريد الذَّهاب مع الفتى الذي تزوَّجته إلى حفلٍ راقص أو لأحد تجمعات تقشير الذرة أو لنمتطيَ الخيل ذاهبين إلى نزهةٍ أو حشد، كانت تظنُّ بالطبع أننا نفعل شيئًا لم يفعله الشباب من قبل قط، وأننا ماضون إلى هوَّة الجحيم. ربما كان الأمر كذلك، فما أدراني. إنني حزينة على لولي، على أي حال. فقد بدا لي أن ذهنها مشغولٌ بشيء لا تريد إخباري بها. وليس هذا كلَّ ما في الأمر.

وإنني لَأقرُّ صراحةً بأنه في حال لم ينجُ سيد النحل من هذه الجراحة ويَعُد إلى منزله وجيرانه، فسوف يُصبح سائر هذا العالم بلا طعمٍ قطعًا بالنسبة إليَّ. فقد عشنا هنا، جنبًا إلى جنب، سنواتٍ طويلة. فقد كنت آتيه وأساعدُه في إصلاح مسكنه، ويأتيني هو ويُساعدني في إصلاح مسكني، وحين كان الصغار يخرجون في المساء ويمر الوقت رتيبًا، كان يأتيني فنلعب الكريبيج (أحد ألعاب الكوتشينة) أو الداما. لم أتمتَّع قط بالذهن المتَّقد للعب الشِّطرنج بالأسلوب الذي قد يثير اهتمامه. كنت أحيانًا آتي هنا ويجلس هو بجانب المدفأة ويقرأ بصوت عالٍ من بعض تلك الكتب القديمة اللطيفة.» ثم أمسكَت عن الكلام ونظرت إلى جيمي. وسألته: «هل تعرف كتاب «تبتلات» لجون دون؟»

فهز جيمي رأسه بالإيجاب.

وقال: «لقد كان في مكتبة أبي، لكن لم يخطر حتى لأحدٍ أن يحتفظ بكتبِه من أجلي. لقد قضى نَحْبه وأنا في الحرب، وفاضت روحُ أمي بعده بمدةٍ قصيرة، وقد باع الجيرانُ كل شيء؛ لم يحتفظوا لي ولو بقطعةٍ من الملابس أو الأثاث. وبِيعَ كتاب «تبتلات» دون مع بقية الأشياء. لا أعلم إلى أين، وقد حال المرضُ الشديد بيني وبين البحث عنها، كما أنني لم أمتلك المالَ الكافي. فاضطُرِرت إلى البقاء حيث كانت الحكومة ستَرعاني. لكن يمكنني أن أتخيَّل كيف يُصبح شعور مَن يُشاهد سيد النحل وقد انعكس ضوءُ المدفأة على وجهه العجوز الجميل وهو يُمسك كتاب جون دون بأصابعه الرشيقة.»

هزَّت مارجريت كاميرون رأسها بأناة.

وقالت مبهورةَ الأنفاس بعض الشيء: «أجل، أجل، كان يبدو في صورة بديعة. لم أرَ في حياتي بأسرها ولو لوحةً لرجل بارعِ الحسن جسدًا وروحًا مثل سيد النحل. أرجو أن تمكثَ عند عودته حتى تستقيَ من نقاء روحه. فسوف تجد ما يُعينك على ما تبقى من حياتك عند اطِّلاعك على مدى لطف وطيبة وحُسن خلق مايكل ورذينجتون. إن الصحف اليوم تَفيض بأخبارٍ عن أفعالٍ يجب ألا يُقدِم عليها الرجال. أتمنى لو كان بإمكان كلِّ شاب في العالم بأسره أن يعيش سنةً واحدة مع رجلٍ مثلِ سيد النحل ليتعلم صبره وتسامُحَه، وسَعة أفُقِه، ونظرتَه المُحبَّة للحياة، وعدم خوفه من الآخرة.»

سأل جيمي: «لماذا، إذن، كان يُعارض إجراء الجراحة أشدَّ المعارضة؟»

تسلَّلت حُمرة داكنة إلى وجنتَي مارجريت كاميرون.

وأجابته قائلةً: «حسنًا، مِن بين الأسباب، أنه جاء إلى هنا بقلبٍ مفطور. إنه لم يُحدثني عن الأمر بالتفصيل قط، لكنني قد أتيت هنا مرتين بينما كان يتحدث مع الكشافة الصغير، وأعتقد أن ذلك الطفل يعلم مَن الشخص أو ما الشيء الذي فطَر قلبه. أعتقد أن ذلك الطفل يعلم ممَّا كان فِراره حين جاء إلى هنا وحده فقط مع أثاث لمكتبته ومخدعه. ثَمة صورةٌ في مخدعه، ربما صورة زوجته. سألته مرةً عنها فقال إنها ماتت منذ عدة سنوات وإنه فقَدَ، أيضًا، طفلتَها التي كان متيَّمًا بها. لكن كان ثمة شيء أكبرُ من ذلك. الموت ليس من الأشياء التي يصعب تجاوزُها إذا صاحَبَه الأمل، ويمكن اعتبار وجه المرأة المعلَّقةِ صورتُها في مخدع سيد النحل تجسيدًا نموذجيًّا للأمل، للنقاء، للشجاعة التي لا تلين، أيُّ صفةٍ طيبة يمكن لأي امرأة التحلي بها. وقد فقدَها، وفقدَ طفلتَها، كما يُساورني يقين أنه قد فقدَ منزله وأصدقاءه. أعتقد أن قدرته على التحمُّل نَفِدَت شيئًا فشيئًا، وحين لم يَعُدْ قادرًا على الاستمرار استسلمَ وسلَّم أمره لربٍّ كريم.»

هكذا استرسَلا في الكلام حتى الغسَق. وبعد أن جُمِعَت بقايا عَشائه في السلة الصغيرة وقبل أن تعود مارجريت كاميرون إلى منزلها، دعَتْه ليأتيَ إليها متى شعر بالوحدة، ووعدته أن تُساعده في عمله الصباحيِّ حتى تتأكدَ أنه قد تعلم ريَّ الزرع بالطريقة الصحيحة؛ لأن الزنابق لا بد ألا تُروى للدرجة التي تجعل بُصيلاتها تتعفَّن، ولا بد من حماية الورود من الإصابة بالعفن الفطري، ولا بد أن يظل النخل جافًّا من دون إفراط، وأن تُروى أشجار السنط من دون مغالاة. شعر جيمي، بعد أن انتهت من إحصاء الأسباب التي تُحتم قدومها، أن وجودها ضرورةٌ حقًّا عندما يبدأ العمل.

بعد ذلك ذهب إلى حجرة المعيشة، ولأن دمَه كان مليئًا بالسموم ويدور ببطء، فقد أشعل عودَ ثقاب وأوقد الحطبَ الموضوع في المدفأة. وظل وقتًا طويلًا ينظر إلى الكرسيِّ بجانبها، وهو ذو ظهرٍ مرتفع بمسندين عريضين للذارعين، ويُغري بالجلوس. من دون حتى أن يُغمِض عينيه استطاع أن يرى الشعرَ الحريري واللحية والجبهة البيضاء والعينين الجميلتين للرجل العجوز المهيب الذي كانت روحه مسيطرةً على النحل ومسيطرةً على المنزل ومسيطرةً على روحه، وكان ثَمة وازعٌ بداخل جيمي، جزءٌ مهم من شخصيته جعَله يرفض أن يأخذ مقعد السيد. لذا نحَّاه جانبًا واختار واحدًا آخر رأى أنه سيُناسب هو الآخر قامته الفارعة إلى حدٍّ كبير. ثم فتح الخِزانة المعلقة فوق طاولة الكتابة والتقط أحدَ المجلدات التي كان الكشافةُ الصغير قد أشار إليها. وقد انفتح وحده على إحدى الصفحات، وكانت أُولى الفقرات التي وقعَت عليها عينا جيمي تقول: «هناك نوعان من الحكَّام بين النحل، فإنه يهلك إن كثر عددُ الحكام؛ لأنه يصير بذلك مشتتًا. يتكاثر الزيتون وأسراب النحل في الوقت نفسِه. وهم يبدَءُون بصناعة القرص، الذي يضعون فيه ذُريتهم. ينتقل القرص في أفواههم، كما يقول أولئك الذين يؤكدون أنهم يجمعونه من مصادرَ خارجية. يُصنَع الشمع من الزهور. فإنهم يأتون بالمادة الخام للشمع مما يتساقط من الأشجار، أما العسل فيسقط من الهواء، بالأخصِّ حين ترتفع النجوم وحين يسقط قوسُ قزح على الأرض.»

حين قرأ جيمي تلك الفقرة اهتزَّ منكباه ضاحكًا ضحكةً سخرية. توقَّف عن القراءة وبدأ يُناجي النار.

فقال: «أما وقد أُسندت إليَّ مهمةُ رعاية النحل هذه، فإن عليَّ الذَّهابَ حيث الكتبُ المفيدة وانتقاء مجلد به تعليمات للمبتدئين لأكتشفَ بنفسي بِضعًا من تلك الأشياء التي ذكرها الكشافة الصغير، كيف أعرف الملكة من العاملة، والذكرَ من الممرِّضة. أعتقد أنني سأشعرُ بأنني حادُّ الذكاء إذا استطعت أن أرى النحلة وهي تتسلَّق الزهرة فأعرف ما إن كانت نحلةً عاملة أم ممرِّضة. ترى هل يعلم الكشافة الصغير تلك الأشياء؟»

نظر جيمي إلى النار.

قال لنفسه: «لا ينبغي أن أندهش البتة.» وتابع: «أرى أن ما عليَّ هو فهمُ الجزء العمَلي من حياة النحل أولًا وقراءة الخيالي فيما بعد، لكنني، بحقِّ قوسي وبلطتي، أُقسِم إنَّ هذه الكتب الخيالية عن النحل تُغري بالقراءة!»

قرَّب جيمي المصباحَ إليه أكثرَ وألقى قطعةً أخرى من الحطَب في النار واستلقى مسترخيًا على المقعد وظلَّ يقرأ حتى أحسَّ بعينيه مجهَدتَين وصارت النار خافتة، وعندئذٍ ذهَب إلى الفراش.

حين استيقظ في الصباح التالي من نومٍ طويل وعميق وتمكَّن من الاستحمام ثم وضع الأربطة التي تربط اللفافات على صدره وفوق كتفَيه وحول ظهره لتثبيت الضمادات في مكانها، أحرَز تقدمًا ملحوظًا لأنه لم يكن يُفكر في جُرحه أو متى سيقضي عليه. وإنما كان يُفكر إذا ما كان الكشافة الصغير سيأتي مرةً أخرى ذلك اليوم؛ إذا ما كان، بعد أن يفرغ من العمل الواجب عليه القيام به، سيبقى لديه قوةٌ ليحمل نفسَه إلى الحدود الأرجوانية والصفراء على الشاطئ، والعسل الذي تساقط من السماء بكرَم شديد حتى يجمعَه نحلُ الأزمنة الغابرة ويملأ به الخلايا. كان يُفكر في أي شيء تقريبًا، إلا نفسه، وكان ذلك من أفضل الأشياء التي حدثَت له خلال سنتين طويلتين.

في ذلك اليوم، بعد أن فرَغ من الريِّ وغفا بعد الغداء، ذهب في الرحلة التي كان قد انتوى القيامَ بها وجلس على الرمال الساخنة، فسحَرَه بشدةٍ الشذا المسائيُّ لزهور الخُزامى الصغيرة التي تنمو هناك، وفتَنه للغاية جمالُ اللون الذهبي، حتى إنه قرر أن يبحث بين كتب سيد النحل ليرى إن كان بإمكانه العثورُ على كتابٍ عن الزهور ليعرف منه طبيعة هذه الأشياء الغريبة الجميلة. وحين نظر من أعلى موقعٍ للمشاهدة بعينين توَّاقتَين نحو مياه البحر المالحة الصافية ونحو المساحة الواقعة بينه وبين العرش، أدرك احتماليةَ أنه يستطيع خلال أسبوع الذَّهاب حتى ذلك الحد؛ لأن قدمَيه كانتا قد تحسَّنتا كثيرًا، بعد ليلةٍ من الراحة، وبعد نقْعِهما في الماء مدةً طويلة، ولم تكن عضلاتُه بالغةَ التيبُّس ولا ألَمُ عظامه يفوق احتماله.

في الساعة السادسة ذلك المساء رنَّ جرس الهاتف وأبلغَه الدكتور جرايسون أن الجراحة قد انتهت، وعاد سيد النحل إلى حجرته، واستعاد وعيه. وكان أولُ الأسئلة التي سألها تقريبًا هو إذا ما كانت ثَمة أيُّ رسالة له بخصوص النحل، وقد أخبره الطبيب أن كل شيء على ما يُرام، لكن إن كان هناك أيُّ خبر خاص ليُخبره به وهو يُغيِّر على جرحه في الصباح فقد يكون مفيدًا له. هنا أعاد جيمي القول بأن كل شيء على ما يرام وأضاف بعض التفاصيل الخاصة بالريِّ واستفسر متى يمكنه رؤية سيد النحل.

أجاب الدكتور جرايسون قائلًا: «إنه لا يدرك كم هي خطيرةٌ حالتُه ولا كم هو ضعيف، لكن أعتقد أنك قد تستطيع أن تأتي لزيارته أول زيارة خلال أسبوع أو عشَرة أيام. في الوقت نفسه، سوف أتصل بك وأعطيك تقريرًا كل مساء، ليُصبح لديك علمٌ بحالته، كذلك يُهمني أن أعرف كيف أصبحتَ أنت نفسُك.»

تردَّد جيمي أمام ذلك الأمر. فلم يدْرِ ماذا يقول على وجه التحديد. لكن قبل أن يتمكَّن من قول أي شيء، واصل الطبيبُ حديثه فقال: «لم يكن هناك وقتٌ لأُولِيَك أي عناية حين كانت حياة سيد النحل في خطر، لكن تبدو لي واحدًا من أبنائنا الذين يُعانون من مشكلة خطيرة بعض الشيء في مكانٍ ما من جسده، وقد تشكَّكتُ فيما إن كنت مناسبًا للمهمة التي ستضطلعُ بها. لذا متى أردت فلتأتِ كي أتمكن من فحص حالتك، هات قلمًا وسأعطيك إرشادات للوصول للمستشفى، إن كنت غريبًا عن المدينة.»

فقال جيمي إنه غريب، وإنه يودُّ جدًّا الحصولَ على عنوان المستشفى، وإنه إذا تكرَّم الطبيب بإتاحة ذلك العرض إلى أن يأتي لزيارة سيد النحل، فسيصبح ذلك ممتازًا للغاية.

هكذا مرَّ يوم ومر بعده يوم آخر، وكان جيمي في كل يوم ينتهي من ري الزهور والفاكهة وخلط الشراب للنحل وفحصه للقفائر في مدة أقل قليلًا من اليوم السابق. حيث اتبع نصيحة الكشافة الصغير. فحين ذهب وسط النحل ارتدى المعطف الذي كان سيد النحل يرتديه وفرَك يديه وشعْرَه بزنابقِ مادونا وزار حوضَ القَرنفُل أكثرَ من مرة. كان ثَمة سؤالٌ في ذهنه، نتَج عمَّا قاله الطفل، بشأن ما إن كانت الأعضاء الحساسة لدى النحل قد تتبيَّن الرائحةَ الخافتة للضمادات وتستاءُ منها لأنها غيرُ مألوفة، لكن لم يحدث شيء من ذلك. فهو يُقارب سيد النحل جدًّا طولًا وهيئةً، وقد ارتدى معطفه المألوف، وتدرب كثيرًا على أغنية «هايلاند ماري»، فلم ينتبه له النحلُ البتَّة حين اقترب منه. أما قفائر النحل الألماني الأسود المعزولة فقد ابتعد عنها. حيث شعر في أعماق روحه أنه إن اقتربَ من قفير نحلٍ يُسمى ألمانيًّا أسودَ، فسوف يستجمع ما تبقى لديه من قوة ويركُله في وسط المحيط الهادئ بغضِّ النظر عمَّا قد يحدث على سبيل الانتقام.

بعد أن علَّق المعطف على المشجب الذي وجده عليه، اصطدمت أصابعُه بشيء خشن ودافئ حين تفحَّصه تبيَّن أنه ثوبُ سباحة من الصوف، ثوبٌ ثقيل دافئ. أنزله جيمي وتحسَّسه متحمسًا ثم سار إلى الرواق الخلفي وأطلَّ على مياه البحر الزرقاء. رفع ثوبَ السباحة إلى كتفيه ولفه حول نفسه، وتساءل إن كان سيُغطي الأربطة أم لا وما سيحدث إن ابتلَّت الضمادات بالماء المالح.

خشي ألَّا يكون مناسبًا، فاستدار آسفًا وعلَّق ثوب السباحة الصوفَ ببطء، ليس حيث كان، ولكن على المشجب الأول الأقرب إلى إطار الباب الخلفي، علقه في موقعٍ واضح حيث لا بد أن يراه كلما دخل من الباب أو خرج منه، وكان كلما رآه وقفَ ونظر إليه، وفي غضون بضعةِ أيام قرَّر أنه لا بأس من ارتدائه والسيرِ بقدمَين حافيتين على الرمال الساخنة. لن يكون هناك برودةٌ في الجو خلال حرارة النهار، ويمكنه عندئذٍ السيرُ حيث تتكسَّر الأمواج الصغيرة بحيث تبلُّ قدمَيه، لمجرد الشعور بالبهجة التي تصوَّر أنها ستغشاه حين تزحفُ تلك الأمواج الباردة المالحة مقتربةً وتمر عليهما. وبإمكانه العودةُ إلى الرمال الساخنة وتجفيفهما سريعًا، أوَليس من الوارد أن تُحفز تلك العمليةُ دورتَه الدموية؟ أليس من الممكن أن تجذب الرمال الساخنة الدمَ الخامل المسمَّم في أوردته نحو قدمَيه؟ أليس من الممكن أن تدفعه المياه المالحة الباردة مرةً أخرى؟ أليس من الممكن أن يؤديَ النشاط الناشئُ عن ذلك إلى التخلص من السمِّ الناجم عن الجرح الذي في صدره؟

هكذا ظلَّ جيمي، خلال أيام الدفء العامرة، محافظًا على أمانة سيد النحل على قدر استطاعته، بمساعدة مارجريت كاميرون، وقد بذل ذهنه أيضًا نشاطًا بقدرِ ما بذله جسدُه. وأسرعَ مما توقع بلغ سفح العرش. لم يكن التسلقُ سيئًا على الإطلاق وقد وجد بالفعل، قريبًا على الجانب المواجهِ للبحر من الصخرة الكبيرة، أُخدودًا طويلًا على شكل مقعدٍ رائع، مقعد يُناسب منحنيات جسده، مقعد يمكن عند فرشه بمعطف العمل الخاص بسيد النحل أن يكون رائعًا للاستلقاء عليه، والاستجمام، والتشبُّع من الشمس، وتنفس الهواء المشبَع بالملح عند هبوبه من غرب القمة.

لم يكن قد وصل إلى مرحلةِ أن يُقرر إن كان سيصمد. كان ذهنُه مضطربًا فحسبُ تتنازعه الأفكارُ والتخمينات والاحتمالات. فإن سأله أيُّ شخص، شخصٌ له الحقُّ أن يسأله، وردَّ عليه ردًّا صريحًا، كان سيقول إن ستة شهور، دون أيِّ شك مطلقًا، ستكون مدة تولِّيه تلك المهمة. فقد صار في أسوأ حال بعد عام من الحصول على أفضل علاج استطاعت الحكومة توفيرَه له. فكان يعتقد أن ستة شهور تقريبًا ستكون النهايةَ. كان أحيانًا ينتابُه بعضُ القلق لأنه لم يتلقَّ الدعوة لزيارة المستشفى. وظل في الساعة السادسة كلَّ ليلة يردُّ على الهاتف ويبلغ بأن سيد النحل يتعافى بصعوبة. وأنه لم يكن قادرًا بعدُ على الحديث أو التفكير في العمل.

وكان في كل مرة يتلقَّى واحدًا من هذه التقارير، يتَّصل بالكشافة الصغير على الرقم الذي أعطاه له ويُخبره بالتقرير. وقد جاء الكشافة الصغير إلى الحديقة مرتَين في زيارة قصيرة بعد المدرسة. وكان جيمي في كل مرة يفترقُ عن صديقه الجديد بأسفٍ أشد. حيث يتجلَّى له جانبٌ جديد من عقلية الصغير فيدهشه، وأحيانًا يصدمه، وأحيانًا أخرى يُسعده، وأما مسألة جنسه، فلم يقترب من التحقُّق منها قِيدَ أَنمُلة عمَّا كان في اليوم الأول.

بعد عَشاء اليوم التاسع، سلك جيمي سبيلَه للمرة الثانية بامتداد الجدار الخلفي، عابرًا الشاطئَ، وتسلَّق ليصلَ إلى العرش. كان متزودًا بقبعة قديمة عريضة الحواف متدلِّية ومعطفٍ قديم. تسلق العرش ولبث عند مقعدٍ خاص به تمكن من صُنعه بجهدٍ كبير وقوة فاقت ما كان يظنُّ أن باستطاعته استجماعَها. كان قد جمَع بعض القطع المهشَّمة من الصخور ورتَّبها ترتيبًا مختلفًا متنحيًا أكثرَ جهة اليسار، وهكذا صار لديه مقعد. متلفعًا بالمعطف، جلس على المقعد ليُواجه السماء والبحر بحقيقتهما السرمدية. لم تكن الأرض ظاهرةً في المشهد على الإطلاق. كانت صفحة السماء تقترب: وأمواج البحر الهادئة تتدافع، وبعيدًا في الأفق توهج لونٌ أحمرُ خافت علامة على موقع الشمس التي ألقت بأشعتها على العالم الذي راح يتحوَّل عنها شيئًا فشيئًا.

عندئذٍ استغرقَ جيمي أكثرَ في التفكير. فقد كان ذهنه يعمل كثيرًا تلك الأيام. فهو ما زال يتأمَّل الموت، لكنه على الأقل صار لديه تصور أكثر شجاعة في مواجهته. وحين أخذ يتأمَّل الحياة، لم يكن يفكر في نفسه، أو يُلقي باللوم على حكومته، أو يشفق على سائر الرجال المصابين. إنما كان يُفكر في ذلك الشيء الوحيد الذي ربما يمكنه فعله وماذا قد يكون ذلك الشيء الذي سيشفع له بعضَ الشيء، حين يُواجه خالقَه، على استنفاده أيامه الأخيرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤