الفصل الثالث

الحرية وأسس العدالة

ليسمح لي القارئ بأن أبدأ حديثي بحكاية رمزية ذات دلالة. تريد «أنابورنا» شخصًا ما لينظف لها الحديقة بعد إهمال طال على مدى الفترة الماضية. وتَقدَّم إليها لشغل هذه الوظيفة ثلاثة من العمال العاطلين؛ هم: دينو، وبيشانو، وروجيني، وجميعهم في مسيس الحاجة إلى الوظيفة. إنها تستطيع أن تُؤجِّر أيًّا منهم للعمل لديها، غير أن طبيعة العمل لا تقبل التقسيم، كما أنها لا تستطيع توزيعه بين الثلاثة. ورأت أنابورنا أن بالإمكان أن تحصل من أي منهم على العمل المطلوب أداؤه بالأجر نفسه، ما دام شخصًا ذا قدرة على إعمال فِكرِه. وتساءلتْ في نفسها تُرى أيهم الشخص المناسب الذي لها أن تعيِّنه؟

وذهب فكرها إلى أنه إذا كان الجميع فقراء، فإن دينو أفقر الثلاثة، وهذا واقع يقره كل منهم. واستشعرتْ أنابورنا لهذا السبب، ميلًا نحو استئجاره للعمل لديها، «وتساءلت في نفسها: أي شيء أهم من مساعدة أفقرهم؟».

بيد أن فكرها ذهب في اتجاه آخر؛ إذ رأت أن بيشانو طحنه الفقر أخيرًا. وبات لهذا السبب يعاني اكتئابًا نفسيًّا وقلقًا بسبب ورطته الأخيرة. هذا على عكس دينو وروجيني اللذين عاشَا حياتهما فقيرين واعتادَا هذه الحياة. ويتفق الجميع على أن بيشانو هو أكثر الثلاثة تعاسة، وأن العمل سوف يُحقِّق له قدرًا من السعادة أكثر من الاثنين الآخَرَين. وجعل هذا التفكير أنابورنا تميل إلى فكرة منح الوظيفة لبيشانو «وقالت في نفسها: مؤكد أن إزاحة التعاسة عن النفس أمر له الأولوية قبل أي شيء آخر».

ولكن أنابورنا علمت أيضًا أن روجيني أصابها الهزال والوهن بسبب سوء تغذية مُزمِن. وهي التي لا تعرف الشكوى والتذمر منذ ميلادها. ومن ثم يكون بوسعها أن تفيد بالنقود وتنقذ نفسها من هذا المرض العُضال. إنها لا تنكر أن روجيني ليست أقل فقرًا من الاثنين الآخرين (وإن كانت فقيرة يقينًا)، وليست أيضًا أقل تعاسة على الرغم مما تعانيه من حرمان دون أن يبدو على وجهها أثر للأسى؛ إذ اعتادت حياة الحرمان؛ (فهي من أسرة فقيرة، وأقْلَمَت نفسها، كامرأة، مع العقيدة السائدة: ألا تشكو وألا يتجاوز طموحها حدود قدراتها وتقنع بواقع حياتها)، ومع هذا تساءلت أنابورنا في نفسها، أليس الأصوب منح الوظيفة لروجيني؟ «وراودها ظن بأن الوظيفة ستكون سببًا في أن تحظى بحياة مختلفة تمامًا من حيث النوع ومن حيث التحرر من المرض».

واحتارت أنابورنا بشأن ما يَتعيَّن عليها عمله. إنها تعترف بأنها لو لم تعلم سوى أن دينو هو أفقر الجميع (ولم تعرف شيئًا آخر غير هذا) لاختارته يقينًا ليشغل الوظيفة. واستطردت في تفكيرها وقالت لنفسها لو أنها عرفت فقط حقيقة أن بيشانو هي أتعس الثلاثة، وأن فرصة العمل السانحة لها ستُدخل على نفسها السعادة (ولم تعرف شيئًا آخر) لتوافرت لديها أفضل الأسباب لاستئجارها للعمل لديها. ومضت في خواطرها ورأت كذلك أنها لو لم تعلم سوى أن سوء التغذية الشديد الذي تعانيه روجيني سوف يُشْفى بفضل النقود التي ستحصل عليها (ولم تعرف شيئًا آخر غير هذه الحقيقة) لكان لديها المبرر البسيط والحاسم لكي تمنحها الوظيفة المطلوبة. بيد أنها تعرف واقع حياة كل من الثلاثة، وبات عليها أن تختار من بين هذه الحجج الثلاث، وهي حجج وثيقة الصلة بالموضوع ولا سبيل إلى التغاضي.

يشتمل هذا المثال البسيط على عدد من القضايا المهمة ذات الدلالة العملية. ولكن ما أريد أن أذكره هنا هو أن الفوارق بين المبادئ الأساسية المتضمنة ذات الصلة بالمعلومات المُحدَّدة التي تبدو لنا حاسمة؛ إذ لو أن الوقائع الثلاث معروفة فإن القرار رهن أي المعلومات نوليها الأهمية القصوى قبل غيرها. وهكذا يكون من الأفضل النظر إلى المبادئ الأساسية في ضوء الأسس المعلوماتية الخاصة بكل منها. إن حالة دينو القائمة على المساواة في الدخل تركز على الفقر من حيث الدَّخْل. ولكن حالة بيشانو، وهي حالة نفعية كلاسيكية، تركز على قياس اللذة والسعادة. ونجد حالة روجيني المُقترنة بنوعية الحياة تتمركز حول نوعيات الحياة التي يمكن أن يعيشها كل من الثلاثة، والملاحَظ أن الحجتين الأولى والثانية من أكثر الحجج التي تناقشها وتستخدمها الدراسات الاقتصادية والأخلاقية. وسوف أعرض بعض الحجج المُتعلِّقة بالجانب الثالث. ولكنني الآن في هذه اللحظة، سأكون شديد التواضع في مقصدي؛ إذ سوف أقنع ببيان الأهمية الحاسمة للأسس المعلوماتية للمبادئ المتنافسة.

وسوف أُعقِّب في المناقشة التالية على كل من (١) المسألة العامة المتعلقة بأهمية الأساس المعلوماتي للأحكام التقييمية، و(٢) القضايا المحددة الخاصة بكفاية الأسس المعلوماتية لكل من بعض النظريات المعيارية عن العدالة والأخلاق الاجتماعية وبخاصة مذهب المنفعة العامة والنزعة التحررية libertarianism، ونظرية راولس Rawls عن العدالة Rawlsian theory. وإذا كان هناك الكثير جدًّا مما يمكن تَعلُّمه من خلال طريقة معالجة القضية المعلوماتية في هذه النُّهُج الرئيسية المتبعة والفلسفة السياسية، إلا أن هناك من يُؤكِّد علاوة على هذا أن كل أساس من الأسس المعلوماتية التي تستخدمها — صراحة أو ضمنًا — نَزْعَتا المنفعة العامة والتحريرية ونظرية راولس عن العدالة؛ تشوبُه عيوب وأوجُه قصور خطرة، إذا ما اعتبرنا الحريات الفردية الموضوعية أمرًا مهمًّا. وجدير بالذِّكْر أن هذا التشخيص يُحفِّزنا إلى مناقشة نَهْج بديل في التقييم، وهو نهج يركز مباشرة على الحرية؛ إذ ننظر إليها في صورة قدرات فردية على أداء أمور لدى المرء المبرر ليراها أمرًا قيمًا.

وجدير بالإشارة أن هذا الجزء البنائي الأخير من التحليل هو الذي نستخدمه بتوسُّع في بنية الكتاب. وإذا لم يكن القارئ معنيًّا كثيرًا بوجهات النظر النقدية للنُّهُج الأخرى «والمزايا والمشكلات الخاصة بكل من مذهب المنفعة العامة والنزعة التحريرية، ونظرية راولس عن العدالة»؛ فلن تكون هناك مشكلة بذاتها إذا ما تجاوزنا هذه المناقشات النقدية وانتقلنا مباشرة إلى الجزء الأخير من هذا الفصل.

المعلومات المتضمنة والمستبعدة

يمكن إلى حدٍّ كبير تحديد مَعالم أي نهج تقييمي وفقًا للأساس المعلوماتي؛ أي المعلومات اللازمة لإصدار أحكام عن طريق استخدام هذا النَّهج، وكذلك وبالقَدْر نفسه من الأهميةِ المعلوماتُ «المستبعَدة»، حتى لا يكون لها دور تقييمي مباشر في هذا النهج.١ إن الاستثناءات المعلوماتية مُكوِّنات مُهمَّة للنهج التقييمي؛ ذلك أن المعلومات المستثناة أو المستبعَدة غير مسموح بأن يكون لها تأثير مباشر في الأحكام التقييمية. وإذ يجري هذا عادة بطريقة ضمنية فإن طبيعة النهج المتبع يمكن أن تُؤثِّر فيه بقوة حالة فقدان الاهتمام بالمعلومات المستبعدة.
مثال ذلك أن مبادئ مذهب المنفعة تعتمد أولًا وأخيرًا على المنافع وحدها، ومع هذا فإن القدر الأكبر من الحساب الأداتي يمكن أن نستمده من الحوافز، ومن ثم فإن المعلومات الخاصة بالمنفعة هي التي نراها في نهاية المطاف الأساس الوحيد الصحيح لتقييم الأمور أو لتقييم الأفعال أو القواعد والقوانين. وجدير بالذِّكر أن الصيغة الكلاسيكية لمذهب المنفعة كما استحدَثَه على وجه التحديد جيرمي بنتام، تحدد المنفعة بأنها اللذة أو السعادة أو الإشباع والرضا، وبذلك يدور كل شيء في فَلَك هذه الإنجازات الذهنية.٢ ولكنَّ أمورًا يمكن أن تكون حاسمة؛ مثل: الحرية الفردية، وإنقاذ أو انتهاك حقوق مُعترَف بها، أو مظاهر نوعية الحياة فهي أمور لا تَتبدَّى على نحو كافٍ في إحصائيات اللذة، ومن ثم لا سبيل لأن تكون عنصرًا من عناصر التقييم المعياري في هذه البنية النفعية. نعم يمكن أن يكون لها دور مباشر فقط، ولكن من خلال آثارها على أعداد المنفعة (أي إلى المدى الذي يمكن أن تؤثر فيه على الإشباع الذِّهني أو اللذة أو السعادة). علاوة على هذا فإن الإطار التراكمي لمذهب المنفعة لا يعنيه، أو لا يَأبَه ولا يتأثَّر بالتوزيع الفعلي للمنافع ما دام التركيز يَنصبُّ جملة وتفصيلًا على إجمالي منفعة كل فرد. ويُشكِّل هذا كله أساسًا معلوماتيًّا محدودًا للغاية، كما أن هذه اللامبالاة الشائعة تمثل قيدًا مهمًّا للأخلاق النفعية.٣
وغالبًا ما يبدو محتوى «المنفعة» مختلفًا في الصِّيَغ الحديثة لمذهب المنفعة؛ إذ لم تَعُد المنفعة لذَّة أو إشباعًا أو سعادة، بل تحقق رغبة، أو نوعًا ما يُمثِّل خيارًا سلوكيًّا لدى المرء.٤ وسوف أعرض أوجُه التمايز هذه الآن. ولكن ليس عسيرًا علينا أن نَتبيَّن أن هذا التعريف الجديد للمنفعة لا يلغي بذاته حالة اللامبالاة إزاء الحريات والحقوق، وهو ما يُعتبَر قسمة مُميزة لمذهب المنفعة العامة.
وإذا انتقلنا الآن إلى النزعة التحريرية libertarianism نجد أنها على عكس النظرية النفعية ليس لها اهتمام مباشر سواء بالسعادة أو بتحقيق الرغبة، ويتألف أساسها المعلوماتي بالكامل من الحريات والحقوق على اختلاف أشكالها. والمُلاحظ أنه حتى من دون النفاذ إلى الصيغ الدقيقة والمُحدَّدة التي يستخدمها مذهب المنفعة أو مذهب التحرير من أجل توصيف العدالة، يبدو واضحًا من مُجرَّد المقارَنة بين الأسس المعلوماتية لكل منهما أن كلًّا منهما لا بد أن تكون له نظرة إلى العدالة مغايرة تمامًا ومتناقضة.
وواقع الحال أن بإمكاننا أن نفهم إلى حدٍّ كبير «المقطع» الحقيقي لنظريةٍ عن العدالة من أساسها المعلوماتي: ما هي المعلومات التي نعتبرها — أو لا نعتبرها — وثيقة الصلة على نحو مباشر؟٥ مثال ذلك أن مذهب المنفعة الكلاسيكي يحاول الإفادة بمعلومات عن السَّعادة أو اللذة لدى أشخاص مختلفين (وينظر إليها في إطار المقارنة)؛ هذا بينما يطلب مذهب التحرير الامتثال لقواعد بعينها خاصة بالحرية واللياقة وتقييم الموقف تأسيسًا على المعلومات عن هذا الامتثال. إن كلًّا منهما يمضي في اتجاه مختلف مدفوعًا إلى حد كبير بنوع المعلومات التي يعتبرها كل منهما معلومات محورية للحكم على العدالة أو للحكم على مدى قبول السيناريوهات الاجتماعية المختلفة. والملاحظ أن الأساس المعلوماتي عن النظريات المعيارية بعامة، وعن نظريات العدالة بخاصة، له دلالة حاسمة ويمكن أن يكون بؤرة الاهتمام الفاصلة في حوارات كثيرة عن السياسات العملية (كما سوف يتضح في ضوء حجج كثيرة ستأتي لاحقًا).
وسوف ندرس دراسة فاحصة في الصفحات القليلة القادمة الأسس المعلوماتية لبعض النُّهُج المتمايزة في تناول العدالة بادئِين بمذهب المنفعة. ويمكن إلى حدٍّ كبير أن نفهم ميزات وقيود وحدود كل نهج في ضوء فحصنا النقدي لمدى وحدود أساسه المعلوماتي. وسوف تتحدد بإيجاز مَعالم نَهْج بديل إزاء العدالة تأسيسًا على المشكلات التي نُواجِهها في النُّهُج المختلفة التي شاع استخدامها في سياق عملية التقييم وصوغ السياسات. ويركز هذا النهج على الأساس المعلوماتي عن حريات المرء «وليس المنافع». بَيْدَ أنَّه يجسد مشاعر الحساسية والاهتمام إزاء النتائج المترتبة والتي تمثل، في رأيي، رصيدًا قَيِّمًا للمنظور النفعي. إنني سوف أدرس وأمحص هذا النهج الذي أسميه «نهج القدرة والكفاءة» capability approach إزاء العدالة على نحو تفصيلي وافٍ في جزء تالٍ من هذا الفصل والفصل التالي.

المنفعة كأساس معلوماتي

الأساس المعلوماتي لمذهب المنفعة المعياري هو إجمالي المنفعة في شئون المرء. وتفيد الصيغة الكلاسيكية لمذهب المنفعة عند بنتام بأن منفعة شخص ما رهن تقدير ما لِلذَّته وسعادته. وتقضي الفكرة هنا بأنْ نولي اهتمامًا لرفاهة كل شخص، وأن نرى بوجه خاص الرفاهة باعتبارها جوهريًّا خاصية ذهنية؛ أي ما يَتولَّد عنها من لذة أو سعادة. وطبعي أن المقارَنة بين سعادة الأشخاص لا يمكن أن تكون دقيقة تمامًا ولا حتى عن طريق مناهج علمية قياسية.٦ ومع هذا فإن غالبيتنا لا ترى أن من العبث (أو من الباطل) تحديد بعض الناس باعتبارهم حتمًا أقل سعادة وأكثر بؤسًا من آخَرِين.
وظل مذهب المنفعة هو النظرية الأخلاقية المهيمنة. وصاحبة النفوذ الأكبر كنظرية عن العدالة علاوة على أمور أخرى. على مدى زمن طويل يربو على القرن. وكان لهذا النَّهج السيادة زمنًا طويلًا على علوم الاقتصاد التقليدية المَعنِيَّة بالرفاه وبالسياسة العامة، وذلك منذ أن ظهر في صورته الحديثة على يدي جيرمي بنتام وتواصل من بعده على أيدي علماء اقتصاد عديدين من أمثال ستيوارت مل، ووليام ستانلي جيفونز، وهنري سيدجويك، وفرنسيس إيد جوارث، وألفريد مارشال، وإيه سي بيجو.٧
ويمكن تقسيم شروط التقييم النفعي إلى ثلاثة مكونات متمايزة. المكون الأول «مذهب العبرة بالنتائج» consequentalism (وهو اسم غير جذاب) ويعني أن جميع الخيارات (من أفعال وقواعد ومؤسسات وقوانين … إلخ) يتعين الحكم عليها في ضوء النتائج المترتبة عليها، أي ما تسفر عنه من حصاد. والملاحظ أن هذا التركيز على حالة الأوضاع وما تَئُول إليه إنما ينكر بوجه خاص ميل بعض النظريات المعيارية إلى اعتبار بعض المبادئ صائبة بغض النظر عن نتائجها. وواقع الأمر أنه يمضي إلى ما هو أكثر من اشتراط الوعي بالنتيجة ما دام يلغي إمكان القول بأن أي شيء آخر غير النتائج يمكن أن يكون موضوع اهتمام. وسوف يتعين علينا فيما بعدُ الحكم على مدى القيود التي يفرضها المذهب القائل بأن العبرة بالنتائج. ولكن ما يجدر ذكره هنا والآن أن هذا يعتمد بالضرورة جزئيًّا على ما هو متضمن وغير متضمن في قائمة النتائج (مثال ذلك ما إذا كان عملٌ ما يُؤدِّيه المرء يمكن النظر إليه باعتباره «نتائج» مترتبة على هذا الفعل والذي يبدو واضحًا أنه كذلك).
المكون الثاني لمذهب المنفعة هو: «نزعة الرفاه» welfarism التي تقصر الأحكام بشأن حالة ما على منافع كل حالة (من دون اعتبار لأمور أخرى؛ مثل: الوفاء، أو انتهاك حقوق، أو واجبات ما أو غير ذلك). وإذا جمعنا بين نزعة الرفاه، ونزعة العبرة بالنتائج فإننا نكون إزاء شرط يقضي بأن أي اختيار يَتعيَّن الحكم عليه في ضوء المنافع المُتولِّدة عن كل منها. مثال ذلك أن أي عمل نحكم عليه تأسيسًا على النتائج المُترتِّبة عليه (حسب نزعة العبرة بالنتائج)، كما نحكم على الوضع الناجم عن العمل في ضوء المنافع التي يحققها (حسب نزعة الرفاه).
المكون الثالث هو: «الإجمالي العام» sum-ranking الذي يقضي بأن نجمع حصاد منافع الناس على اختلافهم لنصل إلى إجمالي الميزات والاستحقاقات دون اعتبار لتوزيع هذا الإجمالي على الأفراد (بمعنى تقدير الحد الأقصى لإجمالي المنفعة بغضِّ النظر عن مدى التفاوت وعدم المساواة في توزيع المنافع). وتمثل هذه المكونات الثلاثة معًا الصيغة النفعية الكلاسيكية للحكم على أي اختيار في ضوء إجمالي المنافع المتولدة عن هذا الاختيار.٨

وحسب هذه النظرة النفعية يتألف الظلم أو اللاعدالة من إجمالي خسارة المنفعة مقارنًا بما كان بالإمكان إنجازه. إن المجتمع الظالم، حسب هذه النظرة، هو المجتمع الذي يكون أهله في ضوء نظرة شاملة، أقل سعادة مما هم في حاجة إليه. وجدير بالذِّكْر أن بعض الصيغ الحديثة لمذهب المنفعة أسقط التركيز على السعادة أو اللذة. وتحدد إحدى هذه الصيغ المنفعة بأنها تحقيق رغبة. وتقضي هذه النظرة بأن المهم هنا هو شدة الرغبة المتحققة. وليس كثافة السعادة المتولدة.

ونظرًا لشدة صعوبة قياس السعادة أو الرغبة فإن المنفعة تتحدد غالبًا في التحليل الاقتصادي الحديث بأنها شكل من التمثيل العددي لخيارات الشخص التي يمكن ملاحظتها. وتتضمن قابلية التمثيل هذه على بعض القضايا التقنية والتي يَتعيَّن ألا تَعوقَنا عن الاستطراد هنا. والصيغة الأساسية هي ما يلي: إذا ما كان لشخص ما أن يختار البديل «س» بدلًا من «ص»، فإن هذا الشخص الآن، والآن فقط له في «س» منفعة أكثر مما له في «ص». ويتعيَّن أن يمضي الترتيب التصاعدي للمنفعة حسب هذه القاعدة، من بين قواعد أخرى. والمُلاحَظ أنه في ضوء هذا الإطار لن يكون ثَمَّة فارق موضوعي حين نُؤكِّد أن شخصًا ما يحصد من «س» منفعة أكثر مما يحصد من «ص»، بدلًا من أن نقول إنه كان ينبغي على هذا الشخص أن يختار «س» إذا ما كان له أن يختار بين الاثنين.٩

مزايا النهج النفعي

إن إجراء عملية الحساب على أساس الاختيار له بعض المزايا العامة مثلما أن له بعض المثالب. وإن أحد العيوب الكبرى في سياق الحساب النفعي أنه لا يقودنا مباشرة إلى أي وسيلة لعمل مُقارَنات بين الأشخاص؛ نظرًا لأنه يركز على اختيار كل فرد على حدةٍ منفصلًا عن الآخَرِين. ويبدو واضحًا أن هذا لا يتلاءم مع مذهب المنفعة؛ حيث إنه ليس بإمكانه تسوية الفوارق داخل الإجمالي العام وهو الأمر الذي يستلزم عقد مُقارنة بين الأشخاص. وواقع الأمر أن نظرة المنفعة القائمة على أساس الاختيار جرى استخدامها أساسًا في سياق أساليب تعتمد فقط نزعتي الرفاه والنتائج. وهذا ضرب من الأساليب التي تتخذ النفع أساسًا للحكم من دون أن يكون مُعبِّرًا عن مذهب المنفعة بمعناه الصحيح.

وإذا كان بالإمكان أن تكون مزايا النهج النفعي موضوعًا للجدل على نحو ما، إلا أنه يكشف عن نفاذ بصيرة في مواضع بذاتها، نذكر منها على وجه الخصوص:
  • (١)

    أهمية أن نضع في الاعتبار «نتائج» التنظيمات والترتيبات الاجتماعية عند الحكم عليها (إن الاهتمام بالنتيجة أمر مستساغ للغاية، حتى إن بدَت لنا نزعة العبرة بالنتائج مُتطرِّفة للغاية).

  • (٢)

    الحاجة إلى أن نُولي اهتمامًا برفاه الناس عند الحكم على الترتيبات والتنظيمات الاجتماعية، والنتائج المترتبة عليها (الاهتمام برفاه الناس أمر له جاذبيته، حتى إن اختلفنا في الرأي بشأن طريقة القياس الذهني للحكم على الرفاه والمُتمركِزة على المنفعة).

ولبيان مدى صلة النتائج الوثيقة بالموضوع يكفي أن نفكر في أن الكثير من التنظيمات الاجتماعية تحظى بالتأييد بسبب ما لقسماتها التكوينية من جاذبية، من دون أي إشارة إلى الحصاد المُترتِّب عليها. ولنأخذ مثالًا حقوق الملكية. رأى البعض أنها تتمثل في الاستقلال الفردي، ومَضوا إلى حد المُطالبة بعدم فرض قيود على الملكية والإرث واستخدام الملكية، وبلغ بِهم الأمر حَدَّ رفض مُجرَّد فكرة فرض ضرائب على الملكية أو على الدخل. ولكنَّ آخَرِين على الجانب السياسي المعارِض رفضوا فكرة عدم المساواة في الملكية — أن يمتلك البعض الكثير والكثير جدًّا، بينما يمتلك غيرهم النزر اليسير — واشتطوا إلى حد المطالبة بإلغاء الملكية الخاصة.

ويستطيع المرء أن يضيف آراء مختلفة عن القسمات الذاتية الجاذبة للملكية الخاصَّة أو المنفِّرة منها. ويرى مذهب العبرة بالنتائج أن علينا ألا نَقصُر حُكْمنا على هذه القسمات وحدها. بل يجب دراسة النتائج المُترتِّبة على امتلاك. أو عدم امتلاك. حقوق الملكية. وواقع الأمر أن أقوى الدفاعات عن الملكية الخاصة تأتي على لسان مَن يُبرِزون نتائجها الإيجابية. ويُبْرِز هؤلاء حقيقة أن الملكية الخاصة أثبتت، في ضوء نتائجها، أنها مُحرِّك قوي للتوسع الاقتصادي وللرخاء العام. وحسب المنظور الذي يدعمه مذهب العبرة بالنتائج يتعين أن تحتل هذه الحقيقة موضعًا محوريًّا عند تقييم مزايا الملكية الخاصة. ونجد على الجانب الآخر، وتأسيسًا على النتائج أيضًا، أن ثمة دلائل وشواهد تدعونا إلى القول بأن الاستخدام غير المقيد للملكية الخاصة. أعني دون فرض قيود أو ضرائب. يمكن أن يسهم في خلق حالات من الفقر المدقع ويجعل من العسير الحصول على دعم اجتماعي لمصلحة مَن يتساقطون ويَحتلُّون المؤخِّرة لأسباب تخرج عن إرادتهم (من بينها العجز والشيخوخة والمرض والبؤس الاقتصادي والاجتماعي). ويمكن أيضًا أن يعيب هذا النهج قصوره عن ضمان حماية للبيئة وقصوره عن تطوير البنية التحتية للمجتمع.١٠

وهكذا فإن أيًّا من النَّهْجين لا يبرأ من النقد تأسيسًا على النتائج، ممَّا يوحي بضرورة الحكم على التنظيمات الخاصة بالملكية، ولو جزئيًّا، على أساس النتائج المترتبة عليها احتمالًا. وتتسق هذه النتيجة مع الروح النفعية حتى على الرغم من أن مذهب النفعية في صورته الخالصة سوف يصرُّ على اتباع نَهْج محدَّد بذاته للحُكم على النتائج وعلى مدى صلتها الوثيقة بالموضوع. ولا ريب في أن الوضع العام الذي يقتضي استبيانًا كاملًا بالنتائج عند الحكم على السياسات والمؤسَّسات يمثل شرطًا حاسمًا ومطلبًا مستساغًا. وحَظِي هذا بدعم كبير من جانب أنصار الأخلاق النفعية.

وبوسعنا أن نعرض حججًا مماثلة تُدعِّم وجهة النظر الداعية إلى ضرورة أن نضع في الاعتبار رفاهة البشر عند الحكم على النتائج، بدلًا من أن ننظر فقط إلى بعض السمات المُجرَّدة أو المَجَّانية وغير ذات الصلة بالوضع. وهكذا فإن تركيز الاهتمام على النتائج وعلى الرفاه معًا ينطوي على نِقاط تُدعِّم رأي النفعيين. وإن هذا الدعم — وهو دعم جزئي فقط — للنهج النفعي إزاء العدالة يرتبط مباشرة بأساسه المعلوماتي.

قيود وحدود المنظور النفعي

ويمكن أن نَتتبَّع مَواطن العجز في النَّهج النفعي وصولًا إلى أساسه المعلوماتي. وليس من العسير في الحقيقة اكتشاف الخطأ بشأن المفهوم النفعي عن العدالة.١١ ونذكر فيما يلي القليل من كثير ممَّا يبدو بعض مَظاهر القصور التي تشوب نَهْجًا نفعيًّا خالصًا:
  • (١)

    اللامبالاة في التوزيع: ينزع الحساب النفعي إلى إغفال مَظاهر عدم المساواة في توزيع العدالة؛ «إذ يعنيه فقط إجمالي الأمور، وليس مهمًّا مدى عدم المساواة في التوزيع». إننا قد تعنينا السعادة العامة، بَيْدَ أنَّنا يجب أن نُولي اهتمامًا لمدى انتشار مظاهر عدم المساواة بشأن السعادة، وليس أن نهتم فقط بالمقادير في تراكمها الإجمالي.

  • (٢)

    إغفال الحقوق والحريات وغيرها من اهتمامات ليست نفعية: لا يبدي النَّهج النفعي أي اهتمام أصيل بالمُطالبات بالحقوق والحريات (إذ يجري تقييمها على نحو غير مباشر فقط، وإلى مدى تأثيرها فقط على المنافع). إن من المفهوم تمامًا أن نُعنى بالسعادة، بَيْد أنَّنا لا ننشد بالضرورة أن نكون عبيدًا سعداء أو تابعين مُصابِين بالهذيان.

  • (٣)

    التكيف والاشتراط الذهني: ويبلغ الأمر حدًّا نجد فيه النظرة النفعية إزاء رفاهة الفرد ليست نظرة شديدة الجِدِّية والصرامة؛ حيث يسهل التحكم فيها عن طريق الارتباط الشَّرْطي الذهني والمواقف التكيفية.

النَّقْدان الأول والثاني أكثر مباشرة من النقد الثالث، وربما أعمد إلى التعقيب قليلًا على الثالث فقط. أعني مسألة الارتباط الشَّرْطي الذهني وأثره على الحساب النفعي. إن التركيز فقط على الخصائص الذهنية دون سواها (من مثل اللذة أو السعادة أو الرغبات) يمكن أن يكون عامل تقييد عند عقد مقارَنات بين الأشخاص بشأن الرفاه والحرمان. والمعروف أن رغباتنا وقدراتنا على الحصول على الملذات تتكيف مع الظروف، خاصة لكي نجعل الحياة أكثر احتمالًا عندما تكون الأوضاع معاكِسة. ومن ثم يكون حساب المنفعة بعيدًا كل البعد عن الإنصاف بالنسبة إلى من يعانون حرمانًا مزمنًا. مثال ذلك من اعتادوا حياة الظلم والاضطهاد داخل مجتمعات طبقية، والأقليات المقهورة أبدًا في مجتمعات لا تعرف التسامح، والمزارعون بالمحاصَّة الذين يعيشون تقليديًّا حياة محفوفة بالمخاطر داخل عالَم لا يعرف اليقين، والعاملون في المؤسَّسات الصناعية الصغيرة الذين أرهقهم الكدح وأَلِفوا الإهمال المستمر بسبب تنظيمات اقتصادية استقلالية، وربات البيوت اللائي يُعانِين القهر والبؤس بسبب ثقافات جنسية شديدة الصرامة والقسوة. والمعروف أن المحرومين من البشر ينزعون إلى التوافق مع حرمانهم بحكم دافع البقاء كضرورة حياتية. ويمكن، نتيجة لهذا، أن تَعوزَهم الشجاعة للمطالبة بأي تغيير جذري. بل يمكن أن يُلائموا رغباتهم وتوقُّعاتهم مع ما يرونه مجديًا وإن كان عاطلًا من أي طموح.١٢ معنى هذا أن القياس الذهني للذة أو للرغبة قياس شديد المرونة والطواعية؛ بحيث لا يصلح دليلًا ثابتًا واضحًا على الحرمان والأذى.

لذلك ليس من المهم فقط أن ندرك حقيقة أن حرمان مَن عانى الحرمان أبدًا يمكن أن يطمسه ويحجبه سُلَّم تقدير درجات المنافع، وإنما يتعين أن ندرك كذلك ضرورة خلق الظروف التي تهيئ للناس فرصًا حقيقية للحكم على نوع الحياة التي ينشدونها. إن العوامل الاجتماعية والاقتصادية؛ من مثل التعليم الأساسي، والرعاية الصحية الأولية، وتأمين العمالة وغيرها هي عوامل مُهمَّة، ليس فقط لأنها هي مهمة في ذاتها، ولكن أيضًا لِمَا لها من دَور في تهيئة فُرص للناس للتعامل في شجاعة وحرية مع العالَم من حولهم. وتستلزم هذه الاعتبارات أساسًا معلوماتيًّا أرحب وأعم، ويُركِّز بوجه خاصٍّ على قدرة الناس على اختيار الحياة التي ينشدونها ولديهم مبرر تقييمها.

جون راولس وأولوية الحرية

أنتقل الآن إلى أكثر النظريات المعاصرة عن العدالة نفوذًا، وأكثرها أهمية من نواح كثيرة، وأَعْني بها نظرية جون راولس.١٣ وتشتمل نظريته على عناصر كثيرة، بَيْدَ أنَّني سوف أستهل حديثي عنها بشرط مُحدَّد سماه جون راولس «أولوية الحرية». والمُلاحَظ أن صياغة راولس نفسه لهذه الأولوية صياغة معتدلة جدًّا. غير أن تلك الأولوية تأخذ صورة حادَّة صارمة في النظرية التحريرية الحديثة. وتُحاول هذه النظرية في بعض صياغاتها (على نحو ما نجد، كمثال، عند روبرت نوزيك Robert Nozick في صياغته المحددة بامتياز) أن تعرض فئات شاملة للحقوق — تتراوح بين حريات شخصية وحقوق ملكية — باعتبار أن لها أسبقية سياسية كاملة على السعي لتحقيق أهداف اجتماعية (من بينها القضاء على الحرمان والمسغَبة).١٤ وتأخذ هذه الحقوق صورة «ضغوط جانبية» يتعين ببساطة انتهاكها. وثمة إجراءات متصورة لضمان الحقوق والتي يمكن قبولها بِغضِّ النظر عن النتائج المترتبة عليها. وليست هذه الحقوق (كما تذهب الدراسة) على قدم المساواة مع الأمور التي يمكن لنا الحكم عليها بأنها أمور مرغوب فيها (المنافع والرفاه، وتساوي النتائج أو الفرص … إلخ). ومن ثَمَّ فإن القضية في هذه الصياغة ليست الأهمية النسبية للحقوق بل أولويتها المطلقة.
وثمة صياغات أقل تدقيقًا وإحكامًا عن «أولوية الحرية» تَعْرِضها نظريات ليبرالية (خاصة في كتابات جون راولس) نجد فيها أن الحقوق ذات الأسبقية أقل شمولًا بكثير وتتألَّف بوجه خاص من حريات شخصية مختلفة. وتتضمن بعض الحقوق المدنية والسياسية الأساسية.١٥ بَيْدَ أنَّ الأسبقية التي تحظى بها هذه الحقوق الأكثر محدودية تعني أنها كاملة تمامًا. وبينما تكون هذه الحقوق أكثر تقييدًا من حيث المدى قياسًا بالحقوق في النظرية التحريرية فإنه ليس بالإمكان أيضًا تسويتها بأي وسيلة عن طريق قوة الضغوط الاقتصادية.
ويمكن الاختلاف في الرأي بشأن مثل هذه الأولوية الكاملة عن طريق إثبات قوة الاعتبارات الأخرى بما في ذلك قوة الضغوط الاقتصادية. ونسأل لماذا يتعين أن يكون وضع الضغوط، والمتطلبات الاقتصادية الشديدة، والتي يمكن أن تكون مسألة حياة أو موت، أدنى من ضغوط ومتطلبات الحرية الشخصية؟ ولقد أثار هذه القضية بقوة في صيغة عامة هربرت هارت منذ زمن طويل مضى (في مقال شهير له عام ١٩٧٣م). واعترف جون بقوة هذه الحجة في كتاب تالٍ له بعنوان «الليبرالية السياسية»، واقترح وسائل لملاءمتها داخل بنية نظريته عن العدالة.١٦

وإذا شئنا أن تكون «أولوية الحرية» مستساغة حتى في سياق البلدان التي يعضها الفقر الشديد، فلا بد أن يكون محتوى هذه الأولوية، حسبما أعتقد وأؤكد، واضحًا تفصيلًا من حيث طبيعة خصائصه. بيد أن هذا لا يرقى إلى حد القول بأنه لا يتعين ألا تكون للحرية أولوية، بل نقول إن صيغة وشكل هذا الطلب حري به ألا يؤدي إلى التغاضي بسهولة عن المَطالب والحاجات الاقتصادية. ولنا أن نمايز في حقيقة الأمر بين: (١) اقتراح راولس في صيغته الصارمة عن الحاجة إلى أن تكون للحرية أسبقية طاغية عندما نكون في حالة نزاع، و(٢) إجرائه العام لفصل الحرية الشخصية عن أنماط المزايا الأخرى بشأن المعالجة الخاصة. ويتعلق المطلب الثاني، وهو الأكثر عمومية، بالحاجة إلى تقييم وتقدير الحريات على نحو مختلف عن المزايا الفردية للأنواع الأخرى.

وأؤكد أن القضية المحورية ليست هي الأسبقية الكاملة، بل هي ما إذا كان ينبغي أن تحظى حرية شخص ما بنفس نوع الاهتمام (لا أكثر) الذي تحظى به الأنماط الأخرى للمزايا الشخصية؛ من مثل الدخل والمنافع … إلخ. والسؤال على وجه التحديد هو ما إذا كانت أهمية ودلالة الحرية بالنسبة إلى المجتمع يُعبِّر عنها بصدق الاهتمام الذي يوليه الشخص نفسه لها عند الحكم على مجمل مصلحته الخاصة. إن القول بِتفوُّق وتَميُّز الحرية (بما في ذلك الحريات السياسية والحقوق المدنية الأساسية) يثير الشكوك في الاعتقاد بأنه يكفي للحكم على الحرية أنها مصلحة وفيرة (شأن أي وحدة إضافية إلى الدخل) يتلقاها المرء ذاته من تلك الحرية.

وحتى نَحول دون أي سوء فهم أرى لزامًا أن أوضح أن المقابلة ليست مع القيمة التي يضفيها المواطنون — ولديهم الحق في ذلك — على الحرية والحقوق في أحكامهم السياسية. وإنما على العكس تمامًا: إن ضمانة الحرية يتعين أن ترتبط في نهاية المطاف بالقبول السياسي العام لأهميتها. ومن ثم فإن المقابلة هنا هي مع المدى الذي تؤدي إليه زيادة الحرية أو الحقوق إلى زيادة الميزة والمصلحة الشخصية للفرد والتي هي جزء فقط من المحتوى المتضمن. وإن الدعوى هنا هي أن الأهمية السياسية للحقوق يمكن أن تتجاوز كثيرًا مدى تعزيز المصلحة الشخصية للحائزين على هذه الحقوق عندما ينالونها. كذلك فإن مصالح الآخَرين متضمنة أيضًا (نظرًا إلى تداخل وتشابك حريات الناس على اختلافهم)، كما أن انتهاك الحرية هو انتهاك وتعدٍّ إجرائي لنا كل الحق في مُقاوَمته كشيء كَرِيهٍ مرذول في ذاته. معنى هذا أن ثمة عدم تماثُل إزاء المصادر الأخرى للمصلحة الفردية، من مثل الدخول التي ينبغي تقييمها بعامة على أساس كيفية ومدى مُساهمتها بالنسبة إلى المَصالح الشخصية لكلٍّ. إن ضمانة الحرية والحقوق السياسية الأساسية حَرِي أن تكون لها الأولوية الإجرائية المترتبة على هذا الوضوح العاطل من أي تماثل.

وهذه مسألة مهمة بوجه خاصٍّ في سياق الدور التكويني للحرية وللحقوق السياسية والمَدنية لكي يصبح بالإمكان تَوفُّر خِطاب عام وتأسيس تواصُل بشأن مَعايير وقِيَم اجتماعية مُتَّفق عليها. وسوف أتناول هذه المسألة الصعبة بتفصيل أكثر في الفصلين السادس والعاشر.

روبرت نوزيك والنَّزعة التحريرية

أعود الآن إلى مسألة الأولوية الكاملة للحقوق، بما في ذلك حقوق الملكية، حسبما وردت في أكثر الصيغ تدقيقًا للنظرية التحريرية. مثال ذلك أن نظرية نوزيك (كما عرضَها كتاب الفوضى والدولة واليوتوبيا) تفيد بأن «الصلاحيات» التي تَوافرَت للناس من خلال مُمارَسة تلك الحقوق لا يمكن بوجه عام ترجيحها بسبب نتائجها — مَهما كانت هذه النتائج غثَّة — وثَمَّة استثناء واحد يقول به نوزيك ويتعلق بما يسميه «مَظاهر الذُّعر الأخلاقي الكارثية». بَيْدَ أنَّ هذا الاستثناء ليس مندمجًا تمامًا مع بقية النَّهج الذي التزم به نوزيك، كما أن هذا الاستثناء غير مصحوب بتبرير صحيح؛ «إذ يظل مقتصرًا على الفرض المشار إليه». إن الأولوية المُطلَقة للحقوق التحريرية يمكن أن تمثل إشكالية محددة؛ حيث إن النتائج الفعلية المترتبة على تفعيل هذه الصلاحيات يمكن جدًّا أن تتضمن نتائج مروعة؛ إذ يمكن أن تُفْضِي بخاصة إلى انتهاك الحرية الموضوعية للأفراد في إنجاز أمور لديهم كل الحق في أن يولوها أهمية كبرى بما في ذلك الإفلات من موت يمكن تَجنُّبه أو أن يَحظَوا بتغذية جيدة وصحة جيدة، وأن تتوافَر لهم قدرة على القراءة والكتابة والحساب … إلخ. إن أهمية هذه الحريات لا يمكن إغفالها على أسس الإيمان بفكرة «أولوية الحرية».

مثال ذلك. وكما أوضحت في كتابي «الفقر والمَجاعات»، يمكن حتى أن تقع مجاعات مروعة دون حدوث انتهاك للحقوق التحريرية (بما في ذلك حقوق الملكية) لأي إنسان كان.١٧ إن المُعْوزين من أمثال المتعطلين أو مَن أصابهم الفقر يمكن أن يَتضوَّروا جوعًا، لا لشيء سوى أن «صلاحياتهم» — وهي صلاحيات مشروعة — لا تُوفِّر لهم طعامًا كافيًا. ويمثل هذا حالة خاصَّة لما يُسمَّى «الذعر الأخلاقي الكارثي». ويمكن أن نوضح كيف أن مظاهر الفزع أيًّا كانت درجة خطرها. من مثل المجاعات شديدة الوطأة، وحتى نقص التغذية المزمن، والجوع المتوطن — ولكن دون إفراط — تتلاءم مع نظام لا يشهد انتهاكًا للحقوق التحريرية لأي فرد من أبنائه. كذلك بالمثل فإن الأشكال الأخرى من الحرمان (من قبيل نقص الرعاية الطبية للأمراض التي يسهل علاجها والشفاء منها) يمكن أن تَتعايش مع إشباع جميع الحقوق التحريرية (بما في ذلك حقوق الملكية الخاصة).
وجدير بالذِّكْر أن اقتراح نظرية عن الأولوية السياسية ومُستقِلَّة عن النتائج يعيبها حالة من اللامبالاة الشديدة إزاء الحريات الموضوعية التي تَتوافَر أو لا تتوافر للناس في نهاية المطاف. وكم هو عسير علينا قبول قواعد إجرائية بسيطة دون اعتبار للنتائج. مَهما كانت هذه النتائج مُفزِعة وغير مقبولة بتاتًا بالنسبة إلى حياة الناس ممن يَعنِيهم الأمر. ويمكن في مُقابل هذا أن يُولي التفكير المعني بالنتائج اهتمامًا كبيرًا بإنجاز أو انتهاك الحريات الفردية، «بل ويمكن أن يوفر لها معالجة خاصة ملائمة» دون إغفال للاعتبارات الأخرى بما في ذلك التأثير الفعلي للإجراءات الخاصة بكل منها على الحريات الموضوعية التي يتمتع بها الناس فعليًّا.١٨ ومن ثم فإن إغفال النتائج بعامة، بما في ذلك الحريات التي يحظى بها الناس لممارستها، أو لا يحظون بها، يستحيل أن يكون أساسًا كافيًا لصوغ نظام تقييمي مقبول.

إن النزعة التحريرية كنهج للتعامل تمثل، في ضوء أساسها المعلوماتي، نزعة شديدة المحدودية والتقييد؛ ذلك أنها لا تغفل فقط تلك المُتغيِّرات التي تُوليها نظرية المنفعة ونظرية الرفاه أهمية كبرى، بل ولأنها تغفل أيضًا أكثر الحريات أساسيةً التي لنا كل الحق في أن نَعتَز ونطالب بها. وإننا حتى إن افترضنا أن الحرية وضْع خاص، فليس مِن المستساغ أبدًا الزعم بأنه لا بد أن تكون لها أولوية مُطلَقة على النحو الذي تُصِر عليه النظريات التحريرية. إننا بحاجة إلى أساس معلوماتي أعم وأشمل عن العدالة.

المنفعة والدَّخل الحقيقي والمقارَنات بين الأشخاص

يتحدد معنى «المنفعة» في الأخلاق النفعية التقليدية بأنها السعادة أو اللذة، وأحيانًا أخرى بمعنى تحقيق الرَّغبات. والملاحظ أن هذه الطُّرق في تعريف المنفعة على أساس معايير قياسية ذهنية «عن السعادة أو الرغبة» لم يقتصر استخدامها على فلاسفة رُوَّاد من أمثال جيرمي بنتام، بل استخدمها أيضًا علماء اقتصاد نفعيون؛ مثل فرنسيس إدجورث، وألفريد مارشال، وإيه سي بيجو، ودنيس روبرتسون. وكما ناقَشْنا في مَطلع هذا الفصل نلحظ أن هذا المعيار القياسي الذهني معرَّض لتشوشات نتيجة حالات التَّكيُّف النفسي مع الحرمان المزمن. ويمثل هذا في حقيقة الأمر قيدًا مهمًّا على مصداقية النزعة الذاتية للمعايير القياسية الذهنية من مثل اللذات والآلام. تُرَى هل يمكن خلاص المذهب النفعي من هذا القيد؟

وجدير بالذِّكْر أن نظرية الاختيار المعاصرة، نأتْ إلى حد كبير في استخدامها الحديث «للمنفعة» عن مطابقتها باللذة أو تحقيق الرغبة في محاولة لبيان أن المنفعة مُجرَّد تمثيل عددي لاختيار الشخص. وأود أن أوضح أن هذا التَّغيُّر لم يَحدُث كاستجابة فقط لمشكلة التكيف الذهني، بل حدث أساسًا كرد فعل إزاء انتقادات كل من ليونيل روبنس وغيره من الوضعيين المنهجيين؛ إذ رأى هؤلاء أن المقارَنات بين الأشخاص بشأن العقول المختلفة للناس أمر «غير ذي معنى» من وجهة نظر علمية. ودفع روبنس «بأنه ليست هناك وسيلة لإنجاز مثل هذه المقارَنات». ومضى أكثر من ذلك وروى الشكوك التي عَبَّر عنها لأول مرة — ويوافق هو عليها — دبليو إس جيفونز الأب الروحي النفعي الذي قال: «كل عقل هو لغز غامِض إزاء أي عقل آخر، وليس بالإمكان وجود قاسم مشترك للمشاعر.»١٩ واقتنع الاقتصاديون بأن ثمة خطأ منهجيًّا حقيقيًّا في استخدام أسلوب مقارَنة المنافع بين الأشخاص. وما إن تحقق هذا حتى تَهاوَت الصيغة الأصلية للتراث النفعي وحلَّت محلها أساليب مختلفة للتسوية والوصول إلى حل وسط. وثمة حل وسط توفيقي مُحدَّد شاع استخدامه الآن ويقضي بألا نَعتبِر المنفعة أي شيء آخر سوى تعبير عن الأفضلية لدى الشخص. وكما ذكرنا في السابق فإننا إذ نقول، حسب هذه الصيغة لنظرية المنفعة، إن شخصًا ما له منفعة في الحالة «س» أكثر مما له في الحالة «ص». فإنه قول لا يختلف عن قولنا إنه كان على الشخص أن يكون في الحالة «س» بدلًا من الحالة «ص».
وميزة هذا النهج أنه لا يشترط علينا إجراء الممارسة الصعبة المتمثلة في المقارَنة بين الأوضاع الذهنية (من مثل اللذات والرغبات) بين أشخاص مُختلفِين. إنه يُغلِق الباب تمامًا أمام إمكان عَقْد مُقارَنة مباشرة بين الأشخاص بشأن المنافع (المنفعة هي القياس المنفصل لتعبير الفرد عن أفضلياته)، وحيث إن المرء ليس لديه اختيار بأن يصبح شخصًا آخر، فإن المقارَنات بين الأشخاص من حيث المنفعة القائمة على الاختيار لا يمكن استنتاجها من خلال الاختيارات الفعلية.٢٠

وإذا كان لأشخاص مختلفين أفضليات مختلفة (تتجلى فرضًا في صورة المطالَبة بوظائف مختلفة) فلن تكون هناك، كما هو واضح، وسيلة لعقد مقارنات بين الأشخاص تأسيسًا على هذه الأفضليات المتباينة، ولكن ماذا لو أنهم يتقاسمون الأفضلية ذاتها، وكانت لهم الاختيارات ذاتها في ظروف متماثلة؟ واضح أن هذه حالة خاصة جدًّا (ذلك أنه، وكما قال هوراس، هناك أفضليات كثيرة بقدر عدد الناس). ولكن لا يزال من المهم أن نسأل عمَّا إذا كان بالإمكان عقد مقارنات بين الأشخاص في مثل هذه الحالة الخاصة جدًّا. نلحظ في حقيقة الأمر أن افتراض أفضلية مشتركة وخيار سلوكي مشترك أمر يحدث كثيرًا في التطبيق العملي لاقتصادات الرفاه ويجري استخدامه مرارًا لتبرير الفرض القائل بأن كل شخص لديه دالة المنفعة ذاتها. وهذه مطابقة أسلوبية مفرطة لمقارنة المنفعة فيما بين الأشخاص. تُرى هل هذا افتراض منطقي مقبول لتفسير المنفعة على أنها تمثيل عددي للأفضليات؟

الإجابة، للأسف، بالسلب. إنه لصحيح يقينًا أن افتراض أن كل من له دالة المنفعة نفسها سوف تكون له الأفضليات ذاتها والخيار السلوكي ذاته شأن الجميع. ولكن هذا هو الحال بالنسبة لافتراضات كثيرة أخرى. مثال ذلك لو أن شخصًا حصل بالضبط على نصف (أو ثلث أو واحد على مائة أو واحد على مليون) من المنفعة من كل حزمة سلع حصل عليها شخص آخَر، فإن كلًّا منهما سيكون له الخيار السلوكي ذاته ودالة الطلب ذاتها. ولكن، كما هو واضح، لن يكون نفس مستوى المنفعة من أي حزمة سلع. وأكثر من هذا رياضيًّا أن التمثيل العددي للخيار السلوكي ليس فريدًا، ذلك أن كل خيار سلوكي يمكن أن تمثله مجموعة واسعة من الدالات النفعية الممكنة.٢١ إنَّ توافق الخيار السلوكي لا يستلزم تطابقًا في المنافع.٢٢

وهذه ليست مجرد «مشكلة» ظاهرية أو صورية تتعلق بالنظرية الخالصة، وإنما يمكن أن يترتب عليها فارق ضخم جدًّا في الممارسة العملية أيضًا. مثال ذلك أنه لو وصل الأمر إلى حد أن شخصًا ما محبطًا أو عاجزًا أو مريضًا توافرت لديه مصادفة دالة الطلب ذاتها بشأن حزم سلعية التي لدى شخص آخر لا يعاني الحالة المرضية نفسها فسوف يكون من العبث تمامًا الإصرار على أن له المنفعة ذاتها (أو الرفاه أو نوعية الحياة ذاتها) من حزمة سلعية شأن المنفعة التي يمكن أن يحصل عليها آخر. مثال ذلك أن شخصًا فقيرًا يعاني داء طفيليات المَعِدة ربما يفضل الحصول على كيلوجرامين من الأرز بدلًا من كيلوجرام واحد وهو ما يمكن أن يفعله شخص آخر فقير مثله ولكنه لا يعاني من الداء نفسه. ولكن سوف يكون عسيرًا التأكيد أن الاثنين سوف ينتفعان بالقدر ذاته من كيلوجرام الأرز. وهكذا فإن افتراض الخيار السلوكي ذاته ودالة الطلب ذاته (وهو ليس بافتراض مسبق واقعي أبدًا) لا يهيئ لنا أي مبرر لكي نتوقع دالة المنفعة ذاتها. معنى هذا أن المقارنات فيما بين الأفراد مسألة متمايزة تمامًا عن تفسير الخيار السلوكي، ولا يمكن المطابقة بينهما إلا من خلال تشوش وخلط مفاهيمي فقط.

وغالبًا ما يكون مصير هذه المشكلات الإغفال فيما يُعْرف بِاسْم مقارَنات المنفعة القائمة على أساس اختيار السلوك والذي يرقى، في أحسن صوره، إلى مقارنات بين «دخول حقيقية» فقط، أو مقارنات الأساس السلعي للمنفعة. ولكن الملاحظ أنه حتى مقارنات الدخل الحقيقي ليست سهلة عندما تكون لأشخاص مختلفين دالَّات طلب متباينة، وهو ما من شأنه أن يحد من المبرر العقلاني لِمثل هذه المقارَنات (بل وحتى بالنسبة للأساس السِّلَعي للمنفعة، ناهيك عن المنافع ذاتها). وغني عن البيان أن قيود مُعالَجة مقارنات الدخل الحقيقي باعتبارها مقارَنات منفعة مفترَضة هي قيود شديدة الصرامة. ويرجع هذا جزئيًّا إلى الوضع التحكمي الكامل (حتى وإن تلاقت دالات الطلب عند أفراد مختلفين) لافتراض أن الحزمة السلعية الواحدة لا بد وأن يتولد عنها مستوى المنفعة ذاته لدى الأشخاص المختلفين. ويرجع أيضًا إلى صعوبات في الاستدلال واستبيان حتى الأساس السلعي للمنفعة (عندما تتضارب دالات الطلب).٢٣

وربما نجد على المستوى التطبيقي أن المشكلة الأكبر في معالجة موضوع الرفاه على أساس نهج الدخل الحقيقي إنما تكمن في التباين بين البشر؛ ذلك لأن الاختلافات من حيث العمر والجنوسة والمواهب الخاصة، والعجز وقابلية المرض وغير ذلك، يمكن أن تهيئ لشخصين مختلفين أحدهما عن الآخر فرصًا متعارضة تمامًا من حيث نوعية الحياة، حتى وإن اشتركا معًا بالدقة في الحزمة السلعية نفسها. إن التنوع البشري من بين الصعوبات التي تحد من الاستفادة من المقارَنة على أساس الدخل الحقيقي عند الحكم على المزايا والمصالح النسبية بين أشخاص مختلفين. وسوف أبحث بإيجاز الصعوبات المختلفة في القسم الثاني قبل أن أشرع في بحث نَهْج بديل لمعالَجة مقارَنة المصالح والمزايا بين الأشخاص.

الرفاه: مظاهر التنوع وتَغيُّر الخواص

نستخدم الدخل والسلع كأساس مادي لرفاهنا. ولكن الاستخدام المتوقَّع أن نفيد به على التوالي من حزمة ما من السلع، أو على نحو أكثر تعميمًا، من مستوًى مُعيَّن من الدَّخل مقيد بشكل حاسم على عدد من الظروف الطارئة، الشخصية والاجتماعية على السواء.٢٤ ولَكَمْ هو يَسيرٌ أن نُحدِّد على الأقل خمسة مصادر مُتمايزة للاختلاف بين دخلنا الحقيقي والمزايا — الرفاه والحرية — التي نحصل عليها منه.
  • (١)

    الفوارق البنيوية الشخصية: يتصف الناس بخصائص مادية مُتبايِنة ترتبط بحالات العجز أو المرض أو العمر أو الجنوسة. وهذه الخصائص سبب في تبايُن احتياجات كلٍّ عن الآخَر. مثال ذلك، الشخص المريض ربما يحتاج إلى دخلٍ أكبر ليكافح المرض. وهو دخل قد لا يحتاج إليه شخص غير مريض. ونلحظ أن المريض، حتى في حالة توافُر العلاج الطبي، ربما لا يتمتع بنوعية الحياة ذاتها التي ييسرها مستوى مُعيَّن من الدخل لشخص آخَر؛ إذ ربما يكون شخص مُعوَّق في حاجة إلى أعضاء صناعية، أو شخص مُسِن في حاجة إلى مُسانَدة ودعم أكبر، أو ربما تحتاج امرأة حامِل إلى تناوُل المزيد من مصادر التغذية، وهكذا. معنى هذا أن التعويض اللازم عن «الأضرار» سوف يَتبايَن، علاوة على أن بعض الأضرار ربما لا يَتسنَّى «تصحيحها» بالكامل حتى مع توافُر الدخل.

  • (٢)

    مظاهر التنوع البيئي: مظاهر التباين في الأوضاع البيئية من مثل الظروف المناخية (اختلاف في درجات الحرارة، وفي سقوط المطر والفيضانات … إلخ) يمكن أن تُؤثِّر فيما يحصل عليه المرء من مستوًى مُعيَّن من الدخل. ونحن نعرف أن احتياجات الفقير من التدفئة والملابس في الظروف المناخية الباردة تتسبب في مشكلات ربما لا يشاركه فيها مَن يساويه في الفقر في مواقع دافئة. كذلك فإن وجود أمراض مُعْدِية في إقليم ما (ابتداءً من الملاريا والكوليرا حتى مرض الإيدز) من شأنها أن تُغيِّر نوعية الحياة التي يمكن أن يعيشها سكان هذا الإقليم. وهذا أيضًا هو الحال بالنسبة للتلوث وغيره من المُعوِّقات البيئية.

  • (٣)
    مظاهر التباين في المناخ الاجتماعي: إن تحويل الدخل والموارد الشخصية إلى نوعية للحياة يتأثر كذلك بالظروف الاجتماعية، بما في ذلك الترتيبات التعليمية العامة وشيوع أو اختفاء الجريمة والعنف في موقع بذاته. كذلك فإن قضايا الأوبئة والتَّلوث هي قضايا بيئية وتتأثَّر بالظروف والأوضاع الاجتماعية. والمُلاحَظ، علاوة على المنشآت والمرافق العامة أن طبيعة العلاقات السائدة داخل المجتمع المحلي يمكن أن تكون على غاية الأهمية، وهذا ما تنزع إلى تأكيده الأدبيات المعاصِرة عن «رأس المال الاجتماعي».٢٥
  • (٤)
    الفوارق من حيث الزوايا النسبية: إن المُتطلبات السِّلعية لأنماط سلوكية راسخة يمكن أن تختلف من مجتمع إلى آخر تأسيسًا على الأعراف والتقاليد والعادات. مثال ذلك أن يكون المرء فقيرًا نسبيًّا في مجتمع محلي غَنِي، يمكن أن يَحُول هذا بينه وبين إنجاز بعض «المهام» الأولية (مثل المشاركة في حياة المجتمع)، حتى إن كان دخله، حسب التقديرات المُطلَقة، أعلى كثيرًا من مستوى الدخل الذي يحصل عليه أبناء مجتمعات أفقر حالًا، ويمكن بوساطته أداء تلك المهام بنجاح وسهولة كبيرة. مثال ذلك أن تكون لدى المرء قُدرة على الظهور بين الناس دون أدنى خجل، ربما يَستلزم توافُر مستويات أرقى من الملبس وغير ذلك من مَظاهر الاستهلاك المُظهرية في مجتمع غني أكثر مِمَّا تقتضيه الحال في مجتمع فقير (وهذا هو ما أشار إليه آدم سميث منذ قرنين).٢٦ وجدير بالملاحظة أن هذه القابلية ذاتها للتَّغيُّر وفقًا للمعايير والمقاييس يمكن أن تَصدُق على الموارد الشخصية اللازمة للوفاء بالاحترام الذاتي للمرء. ويُعْتَبر هذا أساسًا نوعًا من التباين فيما بين المجتمعات قبل أن يكون تباينًا بين الأفراد داخل مجتمع بذاته. غير أن المَسألَتين دائمًا ما تكونان متشابكتين.
  • (٥)
    التوزيع داخل الأسرة: الدخول التي يحصل عليها فرد أو أكثر من أبناء الأسرة يتقاسمها الجميع. سواء منهم مَن يعمل أو لا يعمل. وهكذا تصبح الأسرة الوحدة الأساسية للتفكير في الدخل من زاوية استخدام الدخل والإفادة به. وطبعي أن رفاه أو حرية الأفراد في أسرة ما سيكون رهن الكيفية التي تَستخْدِم بها الأسرة دَخْلَها من أجل تطوير ودعم مَصالح وأهداف مختلف أبناء الأسرة. معنى هذا أن توزيع الدَّخل داخل الأسرة يمثل متغيرًا معياريًّا حاسمًا لربط الفُرص والإنجازات الفردية بالمستوى الشامل لدخل الأسرة. ولا ريب في أن قواعد التوزيع التي تلتزم بها الأسرة (من مثل ما يتعلق منها بالجنوسة، أو العمر، أو الاحتياجات المنظورة) يمكن أن تتسبب في ظهور فارق أساسي بين ما يحققه المرء من أبناء الأسرة من إنجازات أو يواجهه من إعسار.٢٧

وواضح أن هذه المصادر المختلفة للتباين في العلاقة بين الدخل والرفاه من شأنها أن تجعل الوفرة — بمعنى ارتفاع الدخل الحقيقي — مَعْلمًا محدود القدرة للكشف عن الرفاه ونوعية الحياة. وسوف أعود ثانية إلى الحديث عن هذه التباينات وأثرها (خاصة في الفصل الرابع). ولكن يتعين قبل ذلك بَذْل محاولة للإجابة عن السؤال التالي: ما البديل؟ وهذا هو السؤال الذي سوف أتناوله فيما بعدُ.

الدخول والموارد والحريات

القول بأن الفقر ما هو إلا نقص في الدخول، قول شائع وراسخ في الأدبيات المُتعلِّقة بهذا الموضوع. وليس هذا بالقول الساذج؛ نظرًا لأن الدخل. إذا ما تَحدَّد معناه بدقة. له أثره الكبير فيما يمكن وما لا يمكن أن نفعله. وغالبًا ما يكون نقص الدَّخل العلة الكبرى لمظاهر الحرمان التي نقرنها قياسيًّا بالفقر، بما في ذلك الجوع والمجاعات. وتتضمن الدراسات عن الفقر حجة متميزة تقضي بأن نستهل بما لدينا من معلومات عن توزيع الدخل، خاصة الدخول الحقيقية المنخفضة.٢٨
ولكن ثَمَّة حجة مقنعة بالقدر نفسه تدعونا إلى ألا نقنع فقط بتحليل الدخل؛ إذ ها هو جون راولس في دراسته التحليلية عن «المنافع الأولية primary goods» يُقدِّم لنا صورة أعم عن الموارد التي يحتاج إليها الناس بِغَض النظر عن غايات كل منهم. وتشتمل هذه الموارد على الدَّخْل ولكن بالإضافة إلى «وسائل» أخرى ذات غرض عام. وإن المنافع الأولية هي وسائل غرض عام تساعد أي فرد على النهوض بأهدافه وتشتمل على «الحقوق والحريات والفُرص والدخل والثروة والأسس الاجتماعية لاحترام الذات».٢٩ وجدير بالملاحَظة أن التركيز على المنافع الأولية في إطار فكر راولس يرتبط بنظرته عن الميزة الفردية في ضوء الفرص التي يحظى بها الأفراد لمتابعة وتحقيق أغراض كل منهم. ورأى راولس هذه الأغراض على أنها السعي من أجل تحقيق «مفاهيم المرء عن الخير والنفع»، وهو ما يختلف من شخص إلى آخر؛ إذ على الرغم من أن كل امرئ يملك نفس السلة من المنافع الأولية شأنه شأن الآخَرِين (أو حتى لو كان يملك سلة أكبر) فإنه يشعر في نهاية المطاف بأنه أقل سعادة من غيره (كأن تكون لديه على سبيل المثال ميول ونوازع مسرفة)، ومِن ثم لا حاجة للقول بأن هذه اللامساواة في حَيِّز المنفعة بحاجة إلى أن تشتمل على ظلم. ويؤكد راولس بأن على المرء أن يكون مسئولًا عن أفضلياته.٣٠
بيد أن توسيع بؤرة المعلومات من الدخول إلى المنافع الأولية غير كافٍ لمعالجة جميع التباينات ذات الصلة في العلاقة بين الدخل والموارد من ناحية، وكذا بين الرفاه والحرية من ناحية أخرى. والحقيقة أن المنافع الأولية ذاتها هي في الأساس أنماط متباينة من الموارد العامة، كما أن استخدام هذه الموارد لتوليد القدرة على أداء أمور قيمة إنما يكون عرضة، إلى حد كبير، للقائمة ذاتها من التباينات التي عرضنا لها في الجزء الأخير ضمن سياق استعراضنا للعلاقة بين الدخل والرفاه: مظاهر التغاير الشخصية، ومظاهر التباين البيئية، ومظاهر التباين في المناخ الاجتماعي، واختلافات المنظور النسبي واختلافات التوزيع داخل الأسرة.٣١ ونعرف على سبيل المثال أن الصحة الشخصية، وقدرة المرء على أن يكون في حالة صحية جيدة تتوقف على مؤثرات كثيرة ومتنوعة للغاية.٣٢
والبديل عن تركيز الاهتمام على وسائل الحياة الطيبة هو التركيز على الحياة الفعلية الواقعية التي يعمد الناس إلى تحقيقها (أو لنتجاوز هذا، ويكون التركيز على حرية إنجاز حياة فعلية واقعية يمكن أن يتوفر للمرء المبرر للشعور بقيمتها). وشهد علم الاقتصاد المعاصر محاولات كثيرة في الواقع للاهتمام مباشرة «بمستويات العيش» والعناصر المكونة لها وكذا بالقدرة على الوفاء بالحاجات الأساسية. وغير هذا على الأقل بداية من إيه سي بيجو وما بعده.٣٣ وجدير بالذِّكْر أنه ابتداء من عام ١٩٩٠م، وتحت قيادة رائدة لمحبوب الحق (عالم الاقتصاد الباكستاني المبرز الذي وافته المنية فجأة عام ١٩٩٨م) بدأ البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة (UNDP) في نشر تقارير سنوية عن «التنمية الإنسانية» التي ألقت بانتظام ضوءًا على الحياة الفعلية التي يعيشها الناس خاصة المحرومين نسبيًّا.٣٤
وغني عن البيان أن الاهتمام بالحياة التي يحياها الناس فعلًا ليس بالأمر الجديد في علم الاقتصاد (كما أشرنا في الفصل الأول). ولقد كان اهتمام أرسطو في الحقيقة بالحياة البشرية الصالحة (كما تناقش مارثا فوسبوم) مقترنًا صراحة بضرورة «التشديد أولًا على وظيفة الإنسان»، ثم الانتقال بعد ذلك إلى استكشاف «الحياة بمعنى النشاط»، باعتبار هذا الدعامة الأساسية للتحليل المعياري.٣٥ كذلك، وكما أشرنا سابقًا، تَجلَّى بقوةٍ الاهتمام بظروف المعيشة في الكتابات الخاصة بالحسابات القومية والرخاء الاقتصادي التي كَتَبها الرواد من المحللين الاقتصاديين من أمثال وليام بيتي، وجريجوري كنج، وفرانسوا كويزناي، وأنطوان — لورنت لافوازييه وجوزيف — لويس لاجرانج.
وهذا أيضًا نهج عُنِي به كثيرًا آدمُ سميث؛ إذ كان آدم سميث، كما ذكرنا سابقًا، معنيًّا بالقدرة على الأداء باعتبارها «قدرة على الظهور في المجال العام دون خجل» (وليس فقط بفضل الدَّخْل الحقيقي أو حزمة السلع المملوكة).٣٦ وإن ما يعتبره مجتمع ما «ضرورة» يَتعيَّن تحديده، في ضوء تحليل آدم سميث، على أساس حاجة المجتمع إلى توليد بعض من الحريات اللازمة في حدها الأدنى؛ من مثل القدرة على الظهور في المجال العام، دون شعور بالخجل، أو القدرة على المشاركة في حياة المجتمع المحلي. وعرض آدم سميث القضية على النحو التالي:
«الضرورات لا أفهم منها فقط السلع التي لا غنى عنها لدعم الحياة، بل كل ما تعتبره أعراف وعادات البلد أمرًا غير لائق بذوي الاعتبار والتقدير من الناس، بل حتى أدنى الناس مرتبة. إن قميصًا من الكتان، كمثال، لا يمثل على سبيل الدقة والتحديد ضرورة من ضرورات الحياة. وعندي أن اليونانيين القدماء والرومان عاشوا حياة هنيئة للغاية على الرغم من أنهم لم يعرفوا الملابس الكتانية. ولكننا في أيامنا هذه، وفي القطاع الأكبر من أوروبا، نجد عامل المُياومة المحترَم يخجل من الظهور بين الناس من دون قميص من الكتان؛ ذلك لأن افتقاره إليه يعني أن الفقر بلغ به درجة تقارب الشعور بالعار؛ بحيث إن مَن يعاني مثله لا بد أن يكون سلوكه سيئًا إلى أقصى الحدود. كذلك ترى الأعراف الاجتماعية جَعلَت من الأحذية الجلدية ضرورة من ضرورات الحياة في إنجلترا، ولهذا فإن أفقر الناس من ذوي الاعتبار سواء كان ذكرًا أم أنثى يخجل من الظهور بين الناس من دونها.»٣٧

ونقول بالطريقة نفسها إن الأسرة في أمريكا المعاصرة أو في غرب أوروبا قد يَشُق عليها أن تُشارِك في حياة المجتمع إذا لم تكن تملك بعضًا من سلع بذاتها (من مثل الهاتف أو التليفزيون أو السيارة) والتي لا تُعتَبر ضرورة للحياة في المجتمعات الفقيرة. ومن ثم، وفي ضوء هذا التحليل، يَتعيَّن أن ينصبَّ الاهتمام على الحريات التي تُولِّدها لنا السلع وليس على السلع ذاتها.

الرفاه والحرية والقدرة

حاولت أن أدفع فيما سبق بأن «الحيز» الملائم، ولأسباب تقييمية كثيرة، ليس حَيِّز المنافع (كما يزعم دعاة الرفاه) ولا حيز المنافع الأولية (كما يطالب راولس)، بل حيز الحريات الموضوعية — القدرات — لاختيار المرء حياة لديه المبرر لإضفاء قيمة عليها.٣٨ وإذا كان الهدف هو التركيز على الفرصة الحقيقية المتاحة للفرد من أَجْل السعي وإنجاز أهدافه (كما يوحي راولس صراحة) فإن الاهتمام لن يكون منصبًّا فقط على المصالح الأولية التي يُعنى بها ويجنيها الفرد، بل سوف يَنصبُّ أيضًا على الخصائص الشخصية وثيقة الصلة التي تحكم تَحوُّل المصالح الأولية إلى قدرة للشخص على النهوض بأهدافه وتطويرها. مثال ذلك أن شخصًا ما مصابًا بحالة عجز ربما يَحوز سلة أكبر من المنافع الأولية، بينما فرصته من أجل العيش حياة سوية عادية، «أو فرصته للسعي ولإنجاز أهدافه» أقل من فرصة شخص صحيح البنية لديه سلةً أصغر من المصالح الأولية. كذلك الحال لو أن شخصًا مُسنًّا أو عرضة للإصابة بالمرض يمكن أن يعاني، بالمعنى العام، أضرارًا أكثر مع حيازته على حزمة أكبر من المصالح الأولية.٣٩
وإن مفهوم «الأداء الوظيفي» وهو مفهوم له جذور أرسطية مميزة، يعكس مختلف الأشياء التي يمكن للمرء أن يراها ذات قيمة ليؤديها أو ليحياها.٤٠ وإن المهام الوظيفية التي يؤديها الشخص عن إيمان منه بقيمتها يمكن أن تَتبايَن من كونها مهام أولية؛ مثل أن يتناول غذاء كافيًا، وأن يكون حرًّا من حيث قدرته على تَجنُّب المرض،٤١ إلى أنشطة شديدة التعقيد أو حالات شخصية؛ مثل كونه قادرًا على المشاركة بنصيب في حياة مجتمعه، وضمان احترام الذات.

وتشير «قدرة» الشخص إلى المجموعات البديلة المؤلَّفة من عمليات الأداء الوظيفي التي يراها الشخص مُجدية له. وهكذا تغدو القدرة نوعًا من الحرية: الحرية الموضوعية لإنجاز مجموعات بديلة من عمليات أداء المهام الوظيفية (أو لنصفها بصورة أقل شكلية، الحرية في إنجاز أساليب حياة متباينة). مثال ذلك الشخص الميسور الذي يصوم ربما يسعى لإنجاز أداء وظيفي مُماثِل من حيث الطعام أو التغذية مثله مثل المُعْوِز الفقير الذي تُجبِره ظروفه على التضور جوعًا. ولكن الشخص الأول لديه بالفعل «قدرة» مُغايرة لقُدرة الآخر «إذ إن الأول بإمكانه أن يختار طعامًا جيدًا، وأن يحظى بتغذية متميزة لجسده، وهذا ما لا يستطيعه الشخص الثاني».

ويمكن أن يدور جدال موضوعي بشأن عمليات بذاتها من عمليات الأداء الوظيفي التي يَتعيَّن أن تتضمنها قائمة الإنجازات المهمة والقدرات المقابلة لها.٤٢ وإن هذه المسألة التقييمية لا فكاك منها عند مُمارَسة عملية تقديرية من هذا النوع. وإن من أهم مزايا هذا النهج ضرورة مُعالَجة هذه القضايا التحكيمية بأسلوب صريح واضح بدلًا من إخفائها داخل إطار ضمني.
وليست هذه هي المُناسَبة التي تسمح لنا بالمُضي قُدُمًا أكثر من ذلك في تقنيات تَمثيل وتحليل عمليات الأداء الوظيفي والقدرات. ذلك أن كَم أو مَدى كل عملية للأداء الوظيفي التي يقوم بها شخص ما يمكن أن يمثلها عدد حقيقي، وبعد أن يتحقق هذا يمكن أن نعتبر الإنجاز الفعلي لهذا الشخص القوة الموجهة للأداء الوظيفي. وسوف تتألف القدرة من القوى الموجهة للأداء الوظيفي البديلة التي يمكن للمرء أن يختار من بينها.٤٣ وبينما تعكس مجموعات الأداء الوظيفي للشخص إنجازاته الفعلية فإن القدرة تمثل حريته في الإنجاز: المجموعات البديلة للأداء الوظيفي التي يمكن للمرء أن يختار من بينها.٤٤
وإن التركيز التقييمي لهذا النَّهج المعنيِّ بالقدرة يمكن أن ينصبَّ إما على عمليات الأداء الوظيفي المُتحقِّقة في الواقع (أي ما يستطيع شخص ما أداءه بالفعل) أو القدرات المتوافرة في بدائل تملكها (أي الفرص الحقيقية المتاحة للشخص). ويفيد الاثنان نَمطَين مختلفين من المعلومات؛ النمط الأول عن الأشياء التي يفعلها امرؤ ما، والثاني عن الأشياء التي يكون المرء موضوعيًّا حرًّا في أن يفعلها. وجدير بالذِّكْر أن كلًّا من هذين النهجين عن القدرة مُستخدَم في أدبيات الاقتصاد، بل وحدَث أن جمع الباحثون بينهما أحيانًا.٤٥
ويفيد تراث راسخ في علم الاقتصاد بأن القيمة الحقيقية لمجموعة من الخيارات تَتمثَّل في الاستخدام الأفضل الممكن لها، وكذا الاستخدام الفعلي لها من حيث أن يبلغ السلوك أقصى مداه مع انتفاء الشَّكِّ وعدم اليقين. ومن ثَمَّ فإن القيمة الاستعمالية للفرصة تَعتمِد على قيمة أحد عناصرها (بمعنى الخيار الأفضل أو الخيار الذي تَحقَّق فعلًا).٤٦ والملاحظ في هذه الحالة أن التركيز على قوة مُوجِّهة للأداء الوظيفي وقع الاختيار عليها يتطابق مع التركيز على بنية القدرة؛ حيث إننا في نهاية المطاف نحكم على هذه الأخيرة تأسيسًا على الأَوْلَى.
ويمكن استخدام الحرية التي تَتجلَّى في بنية القدرة بأساليب أخرى مُغايِرة ما دمنا لا حاجة بنا دائمًا إلى مطابقة قيمة بنية مع قيمة العنصر الأفضل فيها، أو العنصر المختار. وإن بالإمكان أن نُضْفي أهمية على توافُر فُرص لم تَجرِ الاستفادة بها بعدُ. وهذا اتجاه طبيعي يمكن أن نمضي فيه إذا كانت العملية التي تتحقق لنا النتائج من خلالها مهمة في ذاتها.٤٧ ولنا في الحقيقة أن نعتبر «الاختيار» أداءً وظيفيًّا قيمًا، كما أن وجود «س» في حوزتنا، وليس ثمة بديل عنه أمرٌ مختلف ومتميز عن اختيارنا «س» مع وجود بدائل موضوعية أخرى.٤٨ إن الصوم غير الجوع الاضطراري القسري. أن يكون للمرء خيار في أن يأكل فهذا هو ما يُضْفِي على الصوم قيمة ويسبغ عليه معناه؛ أي اختيار عدم تناوُل الطعام مع قدرة المرء على تناوُل الطعام إذا شاء.

الأهمية والتقييم والاختيار الاجتماعي

يمكن لعمليات الأداء الوظيفي الفردية أن تفضي إلى مُقارَنات بين الأشخاص أسهل من المُقارَنات بين المنافع (أو السعادة أو اللذاذات أو الرغبات). كذلك فإن الكثير من عمليات الأداء الوظيفي وثيقة الصلة — وتحديدًا الخصائص غير الذهنية — يمكن الفصل بينها وبين التقييم الذهني لها دون أن تدخل ضمن «التكيف الذهني». والملاحَظ أن قابلية تَغيُّر عملية تَحوُّل الوسائل إلى غايات (أي إلى حرية من أجل إنجاز غايات) تَبدَّت عمليًّا في المدى الذي يمكن أن تأخذه تلك الإنجازات أو الحريات ضمن قائمة الغايات.

بَيْدَ أن المقارنات بين الأشخاص بشأن مجمل المزايا تستلزم أيضًا «جمعها» علاوة على المُكوِّنات المغايرة. وغني عن البيان أن منظور القدرة منظور تَعدُّدي دون جدال. أولًا: توجد عمليات مختلفة للأداء الوظيفي بعضها أهم من بعضها الآخَر. ثانيًا: ثمة مسألة تتعلق بمدى الأهمية التي نوليها للحرية الموضوعية (بنية القدرة) مقابل الإنجاز الفعلي (القوة المُوجهة المختارة للأداء الوظيفي). أخيرًا حيث لا يوجد مَن يزعم أن منظور القدرة يستنفد جميع الاهتمامات وثيقة الصلة بالأغراض التقييمية (إذ يمكننا، على سبيل المثال، أن نولي أهمية للقواعد والإجراءات وليس فقط للحريات والنتائج) فإن هناك مسألة أساسية تَتعلَّق بمدى الأهمية التي نضفيها على القدرات مُقارَنة بأي اعتبار آخر وثيق الصلة.٤٩

هل تُشكِّل هذه الكثرة عائقًا يحول دون الدفاع عن منظور القدرة لأغراض تقييمية؟ العكس تمامًا. إن الإصرار على وجود مِقدار متجانس واحد فقط لنقيمه يعني الخفض الجذري لنطاق تفكيرنا التقييمي. إنه ليس من دواعي الفضل للمذهب النفعي الكلاسيكي، على سبيل المثال، أنه يكتفي فقط بتقييم اللذة دون أن يعبأ بشكل مباشر بمسائل الحرية، أو الحقوق، أو الإبداع، أو الظروف المعيشية الفعلية. وإن الإصرار على مظهر الراحة الميكانيكية بأن نَحظى فقط «بشيء طَيِّب» متجانس إنما يعني إنكار إنسانيتنا ككائنات تُفكِّر بعقلها. فهذا أشبه بأن نسعى لكي تكون حياة رئيس الطُّهاة أيسر فنطالبه بأن يصنع شيئًا (وحده دون سواه) نحبه جميعًا (مثل السمك المدخن أو ربما طبق بطاطس محمر فرنسي) أو أن يطهو نوعية طعام يَتعيَّن علينا جميعًا أن نُفْرِط في تقديرها.

ويُعتَبر تغايُر العوامل المُؤثِّرة في المصلحة الفردية قسمة شائعة في التقييم الفعلي؛ إذ نستطيع أن نقرر إغماض أعيننا عن هذه المسألة قائمين فقط بافتراض أن ثمة شيئًا ما متجانسًا (من مثل الدخل أو المنفعة) يمكن في ضوئه الحُكم على إجمالي المصلحة العامة لكل فرد، فضلًا عن المقارَنة بين الأفراد على أساسها (وأن نستبعد اختلاف الحاجات والظروف الفردية وغير ذلك). بَيْدَ أنَّ هذا لا يحسم المشكلة وإنما نتحاشاها فقط. وقد يكون لتحقيق الأفضلية قدر واضح من الجاذبية عند التعامل مع الحاجات الفردية لشخص ما ولكن هذا، كما ذكرنا سابقًا، لا يفيد كثيرًا عند المقارنة بين الأفراد، وهو أمر محوري لأي تقييم اجتماعي. وجدير بالذِّكْر أننا قد نأخذ أفضلية كل شخص باعتبارها الحُكم الأخير بشأن رفاه هذا الشخص، مع إغفال أي شيء آخر (مثل الحرية) عدا الرفاه، وكذلك مع افتراض أن كل شخص له دالة الطلب ذاتها أو خارطة الأفضلية نفسها. ولكن حتى إذا ما فعلنا هذا فإن المقارَنة بين تقييمات السوق للحزم السلعية (أو وضعها النسبي في خارطة مُشترَكة لنظام السواء في الحيز السلعي) لن تفيدنا إلا قليلًا بشأن المقارنات بين الأفراد.

والملاحظ أن تقاليد التقييم المشتملة على تخصيص أكمل للمواصفات تسمح صراحة بقدر كبير من التغاير. مثال ذلك أن تحليل راولس للمصالح الأولية يعتبر متنوعًا في بنيته (إذ يتضمن الحقوق والحريات والفرص والدخل والثروة والأساس الاجتماعي لاحترام الذات). ويعالجها راولس في ضوء «مُؤشِّر» شامل لحيازات المنافع الأولية.٥٠ ونجد في كل من نهج راولس واستخدام أداء المهام الوظيفية أسلوبًا مماثلًا لممارسة الحكم على حيز مُشتمِل على خواص متغايرة. ولكن النهج الأول أفقر من حيث المعلومات؛ وذلك لأسباب سبقت مناقشتها. ويرجع هذا إلى تبايُن محددات قياس الموارد والمصالح الأولية مقابل الفرصة المتاحة لبلوغ حياة رفيعة المستوى.
بيد أن مشكلة التقييم ليست من نوع الكل أو لا شيء. إن بعض الأحكام التي تنطوي على قصور تنبع مباشرة من تحديد خصائص الحيز البؤري؛ إذ يتحدد مثل هذا البُعد البؤري عند انتقاء بعض عمليات الأداء الوظيفي باعتبارها مهمة، وتفضي علاقة الهيمنة ذاتها إلى تنظيم تراتبي مُنحاز للأوضاع البديلة. مثال ذلك لو أن شخصًا «س» أداؤه الوظيفي يَتَّسم بالأهمية ويفوق الشخص «ص»، فإن الكمية المُوجَّهة للوظيفة عند «س» تحظى بتقييم أعلى من «ص». ويمكن لهذا التنظيم التراتبي المنحاز أن «يمتد» عن طريق المزيد من عمليات تحديد مظاهر الأهمية المحتملة. وطبيعي أن مجموعة فريدة من مظاهر الأهمية سوف تكفي لإنتاج نظام تراتبي كامل، ولكن هذا ليس ضروريًّا. وإذا سلمنا بوجود نطاق لمظاهر الأهمية متفق عليه (أي يكون الاتفاق على أن يجري اختيار الأهمية من نطاق مُحدَّد المواصفات حتى إن لم يكن ثَمَّة اتفاق بشأن النقطة المُحدَّدة بالدقة على امتداد هذا النطاق) فسوف يكون ثمة نظام تراتبي منحاز قائم على تقاطع المراتب. وجدير بالمُلاحظة أن هذا التنظيم التراتبي سوف يمتد على نحو نَسقي كلما ضاق النطاق أكثر فأكثر. وسوف يكتمل النظام التراتبي المنحاز عند نقطة ما خلال عملية تضييق النطاق، وربما يتم ذلك قبل أن تكون مظاهر الأهمية فريدة الطابع.٥١
وطبيعي أن يكون من الأمور الحاسمة في أي مُمارَسة تقييمية من هذا النوع السؤال عن كيفية انتقاء الأهمية. وإن هذه الممارسة للحكم على القيمة لا يمكن حسمها إلا عن طريق تقييم عقلاني مبني على الأسباب؛ ذلك لأن انتقاء مظاهر الأهمية بالنسبة إلى أي شخص يحكم عليها سوف يستلزم منه تفكيرًا وتأملًا وليس اتفاقًا بين أشخاص، «أو توافق آراء». ولكن الوصول إلى نطاق «متفق عليه» للتقييم الاجتماعي (في الدراسات الاجتماعية عن الفقر كمثال) يستلزم بالضرورة توافُر نوع من «توافق الآراء» المبني على أسباب عقلانية بشأن مظاهر الأهمية، أو على الأقل بشأن نطاق مُحدَّد من الأهمية. وهذه ممارَسة «للاختيار الاجتماعي» تستلزم مناقَشة عامة وفهمًا وقبولًا على أساس ديمقراطي.٥٢ وهذه ليست مشكلة خاصة مقترنة فقط باستخدام حيز الأداء الوظيفي.

ونجد هنا اختيارًا مهمًّا بين «التكنوقراطية» و«الديمقراطية» في انتقاء الأهمية، وهو أمر ربما يجدر أن نستطرد قليلًا في مناقشته. إن إجراء الاختيار القائم على التماس الاتفاق أو توافق الآراء يمكن أن يثير حالة من التَّشوُّش المفرط. ويشعر الكثيرون من التكنوقراط بالضيق إزاء هذا الوضع، مما يجعلهم يَتوقَّون بشدة إلى إيجاد صيغة رائعة تُحدِّد لنا «الأهمية» في صورة جاهزة، وهي التي تتصف بالصواب. وطبيعي أن ليس ثمة صيغة كهذه موجودة؛ حيث إن مسألة تقدير الأهمية هي مسألة تقييم وحكم وليست مسألة تقانة لا شخصية.

وليس هناك، على أي حال، ما يمنعنا من القول بأن صيغة بذاتها — وليس أي صيغة بديلة — يمكن استخدامها للجمع، غير أن مكانتها في هذه المُمارَسة التي لا مناص منها للاختيار الاجتماعي رهن إمكان قبولها من الآخَرين. ومع هذا تَسود رغبة قوية لإيجاد صيغة «واضحة الصواب» والتي لا يمكن أن يعترض عليها عاقل. وتوافر لنا مثال جيد من خلال النقد القوي الذي قدمه تي إن سرينيفاسان، وانتقد فيه نهج القدرة (واستخدامه المُنحاز في تقارير التنمية الإنسانية لبرنامج التنمية للأمم المتحدة). ويُعبِّر في نَقدِه عن شعوره بالقلق إزاء «تباين أهمية القدرات المختلفة». واقترح نبذ هذا النهج وإبداله «بإطار الدخل الحقيقي» الذي «يتضمن قياسًا إجرائيًّا لتقدير أهمية السلع — قياس القيمة التبادلية».٥٣ تُرى إلى أي مَدًى يكون هذا النقد مقنعًا؟ هناك — يقينًا — قياس ما لتحديد القيمة السوقية ولكن ما الذي نفيده منها؟
وكما قلتُ سابقًا، فإن «القياس الإجرائي» للقيمة التبادلية لا يُوفِّر لنا مُقارَنة لمستويات الانتفاع بين الأشخاص ما دامت هذه المقارَنات لا يمكن استخلاصها من سلوك اختياري. ويسود بعض الخلط والتشوش بشأن هذا الموضوع بسبب القراءة الخاطئة لتراث نظرية الاستهلاك — وهي مفهومة في سياقها — والتي تأخذ المنفعة باعتبارها التمثيل الحسابي لاختيار شخص بذاته. وهذه وسيلة مفيدة لتحديد المنفعة عند تحليل سلوك الاستهلاك لكل شخص على حدة، بيد أنها وحدها لا تُقاوِم أي إجراء مَهما كان للمقارَنة الموضوعية بين الأشخاص. ويَتمثَّل الوجه الآخر للعملة في وجهة نظر بول صمويليسون التي تُقرِّر أن ليس ضروريًّا عند وصف التبادُل عمل مقارَنات بين الأشخاص بشأن المنفعة:٥٤ «ذلك أننا لا نعرف شيئًا خاصًّا بمقارنة المنفعة بين الأشخاص عند الالتزام بقياس القيمة التبادلية».

وكما ذكرنا آنفًا تظل هذه المشكلة قائمة حتى لو كان لكل فرد دالَّة الطلب نفسها، وتزداد شدة عندما تختلف دالات الطلب الفردية. وتصبح في هذه الحالة مقارَنات الأساس السلعي للنفع إشكالية غير محسومة. وليس ثمة شيء في منهج بحث تحليل الطلب، بما في ذلك نظرية الأفضلية الواضحة يعطينا أي قراءة عن المقارَنات فيما بين الأشخاص بشأن المنافع أو مَظاهر الرفاه المبنية على أساس اختيارات الحيازات السلعية، ومن ثم تكون مبنية على أساس مقارَنات بين الدخل الحقيقي.

والحقيقة أنه مع التسليم بالتنوع فيما بين الأشخاص، والمرتبط بعوامل؛ من مثل العمر، والجنوسة، والمواهب الفطرية، وحالات العجز أو المرض، فإن الحيازات السلعية ستفيدنا عمليًّا بمعلومات قليلة عن طبيعة الحياة التي يمكن أن يحياها كل فرد من الناس. وهكذا يمكن أن تكون الدخول الحقيقية مُؤشِّرات ضعيفة للدلالة على العناصر المهمة للرفاه ولنوعية الحياة التي يحق للناس أن يعتبروها حياة قيمة. ويمكن القول بوجه عام إنه لا مناص من الحاجة إلى أحكام تقييمية عند مقارنة الرفاه الفردي أو نوعية الحياة. علاوة على هذا فإن أي إنسان يَرى أن ثَمَّة قيمة في عملية الفحص الدقيق العام لا بد أن يكون ملتزمًا بتوضيح أن الحكم إنما يصدر تأسيسًا على استخدام الدخول الحقيقية لهذا الغرض، وأن مظاهر الأهمية المستخدمة ضمنًا لا بد أنها خضعت بالضرورة لعملية فحص تقييمي. وجدير بالملاحَظة في هذا السياق أن التقييم المبني على سعر السوق للمنفعة المستمَدَّة من حزمة من السلع يعطي انطباعًا خاطئًا — بالنسبة إلى البعض على الأقل — بأن ثمة قياسًا إجرائيًّا متاحًا انتُقِي مسبقًا — لاستخدامه للتقييم، وأنه يُشكِّل عامل تقييد لا عامل نفع. وإذا كان الفحص القائم على معلومات والذي يُجريه الناس أمرًا محوريًّا لأي تقييم اجتماعي (كما أعتقد أنا في هذه الحالة) فإن القيم الضمنية يَتعيَّن إبرازها لتكون أكثر وضوحًا بدلًا من إخفائها عن عملية الفحص بحجة زائفة تزعم أنها جزء من قياس «متاح مسبقًا»، والذي يمكن للمجتمع أن يستخدمه مباشرة من دون حاجة إلى مزيد من اللغط.

وحيث إن أفضلية التقييم المبني على سعر السوق قوي جدًّا بين كثير من الاقتصاديين؛ فإن من المهم أيضًا الإشارة إلى أن جميع المتغيرات فيما عدا الحيازات السلعية (وتشتمل على أمور مهمة؛ مثل الأخلاق، والحالات المرضية، والتعليم، والحريات، والحقوق المُعترَف بها) تكون أهميتها الضمنية هي صفر في عمليات التقييم المرتكزة فقط على نهج الدخل الحقيقي. ولا تحصل هذه على قدر من الأهمية غير المباشرة إلا إذا كانت تؤدي — وإلى المدى الذي تؤدي فيه — إلى تعظيم الدخل الحقيقي والحيازات السلعية. وغني عن البيان أن الخلط بين مقارَنة الرفاه بمقارَنة الدخل يستلزم ثمنًا باهظًا.

وهكذا نكون إزاء قضية منهجية شديدة التأثير تهدف إلى تأكيد الحاجة إلى أن نعزو أهمية تقييمية صريحة لمكونات مختلفة لنوعية الحياة «أو للرفاه». ثم يلزم مع هذا أن نطرح الأهمية المختارة للنقاش العام الصريح وللفحص النقدي. وجدير بالذِّكْر أنه في أي اختيار للمعايير بغية الوفاء بأغراض تقييمية لن يقتصر الأمر فقط على استخدام أحكام القيمة، بل غالبًا ما نستخدم بعض الأحكام التي لا يتوافر اتفاق كامل بشأنها. وهذا واقع لا فكاك منه عند ممارسة اختيار اجتماعي من هذا النوع.٥٥ والقضية الحقيقية هي ما إذا كان بإمكاننا استخدام بعض المعايير التي يمكن أن تحظى بمساندة عامة أكبر، لما تحققه من أغراض تقييمية، وتفوق بذلك المؤشرات الفجة التي غالبًا ما يوصي بها البعض تأسيسًا على حجج تقانية مزعومة من مثل مقاييس الدخل الحقيقي. إن هذه مسألة محورية للأساس التقييمي للسياسة العامة.

معلومات القدرة: استخدامات بديلة

يمكن استخدام منظور القدرة بوسائل جد متمايزة. ويَتعيَّن أن نُمايز بين أي استراتيجية علمية نستخدمها لتقييم السياسة العامة عن القضية الأساسية المتعلقة بأفضل طريقة للحُكم على المصالح الفردية وبيان المقارَنات فيما بين الأشخاص لتكون أكثر وضوحًا. والملاحظ على المستوى الأساسي أن منظور القدرة يحظى ببعض المزايا الواضحة (لأسباب أسلفناها) بالمقارنة بعملية التركيز على متغيرات أداتية من مثل الدخل. بَيْدَ أنَّ هذا لا يعني أن التركيز الأكثر إفادة وإنتاجًا للانتباه العملي سيظل دائمًا وأبدًا قياسًا للقدرات.

إن بعض القدرات قياسها أصعب من غيرها، كما أن محاولات إخضاعها «لمقياس ما» يمكن أن يخفي أحيانًا أكثر مما تكشف هي. والملاحظ غالبًا أن مستويات الدخل. مع قدر من التصويبات المحتملة لفوارق الأسعار وتباينات الظروف الفردية أو الجماعية؛ يمكن أن تفيد كثيرًا جدًّا كوسيلة لاستهلال تقييم عملي. إن الحاجة إلى البرجماتية ماسة للغاية عند استخدام الحافز الذي يرتكز عليه منظور القدرة، وذلك لاستخدام البيانات المتاحة لإجراء تقييم عملي وتحليل للسياسات.

وثمة ثلاثة أساليب عملية بديلة يمكن التفكير فيها لإضفاء صيغة عملية على الاهتمام الأساسي.٥٦
  • (١)
    النهج المباشر: يأخذ هذا النهج صورة فحص مباشر لما يمكن أن يقال عن المزايا النسبية، وذلك بفحص ومقارنة الكميات الموجهة للأداء الوظيفي أو للقدرات. ويعتبر هذا النهج من نواحٍ كثيرة الأسلوب الأكثر مباشرة والأصدق تمامًا لدمج اعتبارات القدرة في عملية التقييم. ويمكن استخدامه مع هذا بأشكال مختلفة. وتتضمن الأشكال المختلفة ما يلي:
    • (أ)

      المقارَنة الكلية وتشتمل على التنظيم التراتبي لجميع هذه الكميات الموجهة بعضها إزاء بعض على أساس الفقر أو عدم المساواة (أو أي موضوع كان).

    • (ب)

      التنظيم التراتبي المنحاز، ويتضمن التنظيم التراتبي لبعض القوى الموجهة مقابل أخرى، دون اشتراط اكتمال التنظيم التراتبي التقييمي.

    • (جـ)

      مقارنة متميزة للقدرة، وتتضمن مقارنة بعض قدرات محددة يجري اختيارها لتكون بؤرة الاهتمام دون النظر إلى اكتمال التغطية.

      واضح أن المقارنة الكلية أو الشاملة هي أكثر الوسائل الثلاثة طموحًا، وهي غالبًا شديدة الطموح. ويمكن لنا أن نمضي في هذا الاتجاه — ربما بعيدًا جدًّا — حين لا نصر على التنظيم التراتبي الكامل لجميع البدائل. ولنا أن نشهد أمثلة للمقارنة المتميزة للقدرات فيما نوليه من اهتمام مُركَّز لمتغير خاص بقدرة بذاتها؛ من مثل العمالة، أو طول العمر، أو تَعلُّم الأبجدية، أو الغذاء.

      ويمكن بطبيعة الحال أن ننتقل من مجموعة مقارنات منفصلة عن بعضها بين قدرات متمايزة إلى تنظيم تراتبي جامع لفئات القدرات. وها هنا يبرز الدور الحاسم لمظاهر الأهمية ليسد الثغرة بين «مقارنات القدرة المتميزة»، و«التنظيم التراتبي المنحاز» (أو حتى «المقارنات الكلية»).٥٧ ولكن من المهم أن أؤكد أنه على الرغم من التغطية غير الكاملة الناتجة عن مقارنات القدرة المتميزة، إلا أن هذه المقارنات يمكن أن تلقي ضوءًا كافيًا يفيد عمليات التقييم. وسوف تتهيأ فرصة لتوضيح هذه المسألة في الفصل التالي من الكتاب.
  • (٢)
    النهج التكميلي: نهج ثانٍ غير جذري نسبيًّا، ويتضمن استخدامًا متصلًا لإجراءات تقليدية للمقارَنة بين الأشخاص من حيث حَيِّز الدخل، ولكنه يستكمل هذه المقارَنات باعتبارات خاصَّة بالقدرة (وغالبًا ما يكون بوسائل غير رسمية). ويمكن لأغراض عملية توسيع قاعدة المعلومات حتى خلال هذا الطريق. كذلك فإن عملية الاستكمال يمكن أن تَنصبَّ على أحد أمرين: إما المقارَنات المباشرة لعمليات الأداء الوظيفي، أو على متغيرات أداتية مختلفة عن الدَّخْل والتي من المتوقَّع أن تؤثر في تحديد القدرات. وثَمَّة عوامل من مثل إتاحة الرعاية الصحية وإمكان تحقيقها، والدليل على الانحياز الجنوسي في عمليات التخصيص داخل العائلة، وتَفشِّي وتفاقُم البطالة، يمكن أن تُضاعف من الوضوح الانحيازي المترتب على المقاييس التقليدية في حيز الدخل. ويمكن لهذه التوسعات أن تثري الفهم الكلي والشامل لمشكلات عن الظلم والفقر بما تضيفه إلى حصاد معارفنا من خلال مقاييس عدم مساواة الدخول وفقر الدخل. وجدير بالملاحظة أن هذا النهج يشتمل جوهريًّا على استخدام «مقارنة القدرة المتميزة» كوسيلة لإنجاز عملية الاستكمال.٥٨
  • (٣)
    النهج غير المباشر: مسار ثالث لهذا النهج أكثر طموحًا من النهج التكميلي وإن ظل مُركِّزًا على الحيز الأسري للدخل الذي يجري توفيقه وتعديله على نحو صحيح. وهنا فإن المعلومات بشأن مُحدِّدات القدرات المختلفة عن الدَّخل يمكن الإفادة بها لحساب «الدخل المعدل». مثال ذلك أن مستويات دَخْل الأسرة يمكن تعديلها في اتجاه تنازُلي على أساس الأمية أو اتجاه صاعد على أساس المستويات العليا للتعليم. وهكذا بهدف جَعْلها مُتعادِلة تأسيسًا على إنجاز القدرة. ويتعلق هذا الإجراء بالأدبيات العامة المعنية «بجداول التكافؤ». ويرتبط كذلك بالبحث المعني بتحليل أنماط الإنفاق الأسري بهدف عمل تقييم غير مباشر للمؤثرات السببية التي ربما لم تتسن ملاحظتها (مثل وجود أو عدم وجود أنماط بذاتها من الانحياز الجنسي داخل الأسرة).٥٩
وتتمثل ميزة هذا النهج في واقع أن الدَّخْل مفهوم أسري، وغالبًا ما يسمح بعمل قياسي أكثر دقة وصرامة (ويمكن القول أكثر دقة من «المؤشرات» الشاملة للقدرات). وهذا من شأنه أن يهيئ فرصة أكبر للحركة، وربما يعطي تفسيرًا أكثر سهولة. وجدير بالذِّكْر أن حافز اختيار «قياس» الدخل في هذه الحالة يماثل اختيار إيه بي أتكنسون لحيز الدَّخل لقياس آثار عدم المُساواة في الدخل (وذلك في حسابه للدخل المتكافئ المُوزَّع بالتساوي)، بدلًا من حيز المنفعة الذي اقترحه في الأصل هوج دالتون.٦٠ ويمكن النظر إلى عدم المساواة حسب نهج دالتون في ضوء فُقدان المنفعة الناجم عن التفاوت، بينما التغيير الذي أحدثه أتكنسون تضمن تقييم الفقدان أو النقص الناجم عن عدم المساواة تأسيسًا على «الدخل المتكافئ».

وجدير بالذِّكْر أن مسألة «القياس» ليست أمرًا يمكن إغفاله، كما أن النَّهج غير المباشر حقَّق بعض الإيجابيات. ومع ذلك فإن من الضروري الاعتراف بأنه ليس «أبسط» من عملية التقدير المباشر. أولًا: إننا إذ نُجْري تقديرًا لقيم الدخل المتكافئ يَتعيَّن أن نفكر في الكيفية التي يؤثر بها الدخل في القدرات ذات الصلة؛ نظرًا لأن أسعار التحويل لا بد أن تعتمد على الحافز الأساسي لتقييم القدرة. علاوة على هذا فإن جميع قضايا المبادلات بين قدرات مختلفة (وتلك ذات الأهمية النسبية) يَتعيَّن التصدي لها في النهج غير المباشر تمامًا بنفس قدر التصدي لها من جانب النهج المباشر ما دامت وحدة التعبير هي فقط كل ما تَغيَّر جوهريًّا. وحسب هذا المعنى فإن النَّهج غير المباشر لا يختلف في الأساس عن النَّهج المباشر من حيث الأحكام التي يعمد إلى إنجازها بغية الوصول إلى مقاييس صحيحة وملائمة في حَيِّز الدخول المتكافئة.

ثانيًا: من المهم أن نُميِّز بين الدخل من حيث هو وحدة نقيس عليها حالة عدم المساواة، والدخل كأداة لخفض حالة عدم المساواة. والمُلاحَظ أنه حتى إذا ما تم قياس عدم المساواة في القدرات قياسًا جيدًا تأسيسًا على الدخول المتكافئة، فإنه لا يلزم عن هذا القول إن تحويل الدخل سيكون أفضل وسيلة لمعادَلة حالة المساواة القائمة. وجدير بالذكر أن مسألة سياسة التعويض أو الإنصاف تثير قضايا أخرى؛ «فعالية تغيير مظاهر التَّبايُن في القدرات، والقوة النسبية لتأثيرات الحافز وغير ذلك». ومن القضايا الأخرى المثارة أن «القراءة» السهلة لثغرات الدَّخل يَتعيَّن ألا نعتبرها إشارة إلى أن تحويلات الدخل المقابلة سوف تُعالِج مظاهر التفاوت بفعالية كبيرة. وليست هناك بطبيعة الحال حاجة إلى الوقوع في القراءة الخاطئة للدخول المتكافئة، ولكن وضوح وفورية حَيِّز الدخل يمكن أن يُغرِينا بذلك، وهو ما يجب مقاومَته صراحة.

ثالثًا: على الرغم من أن حيز الدخل يَتميَّز بقدرة أكبر على القياس والتمفصل فإن المقادير الفعلية يمكن أن تكون مضللة للغاية من حيث بيان القيم المتضمنة. ولنتأمل على سبيل المثال حالة ينخفض معها الدخل ويبدأ المرء يعاني الجوع، هنا يمكن أن يحدث انخفاض حادٌّ عند نقطة ما بالنسبة لفرص المرء للبقاء. ولكن مع هذا فإن «المسافة» الفاصلة في حَيِّز الدخل بين قيمتين متبادلتين يمكن أن تكون قصيرة (عند قياسها على أساس الدخل فقط) إذا ما أدَّى هذا التغيير إلى تَحوُّل درامي في فُرَص البقاء. ويمكن بعد ذلك أن يكون أثر هذا التغير القليل في الدخل تغيرًا كبيرًا جدًّا في حيز ما يهم بالفعل (وهو هنا القدرة على البقاء)؛ لهذا فإننا قد ننخدع حين نتصور أن الفرق فارق ضئيل حقًّا؛ نظرًا لضآلة فارق الدخل. والحقيقة أنه ما دام الدخل ظل مهمًّا من حيث هو أداة فقط فإننا لا نستطيع أن نعرف مدى أهمية ثغرات أو فروق الدخل دون اعتبار النتائج المترتبة على ذلك. إن خسارة معركة بسبب نقص مسمار (خلال سلسلة من الروابط السببية التي يعرضها الشعر القديم) فإن المسمار يكون سببًا في حدوث فارِق ضخم مهما كانت ضآلة حجمه في حيز الدخل أو النفقات.

إن كل نهج من الثلاثة السابقة له ميزته التي يمكن أن تَتغيَّر اعتمادًا على طبيعة الممارَسة، ومدى توافُر المعلومات والضرورة المُلحَّة للقرارات التي يتعين اتخاذها. ونظرًا لأن منظور القدرة يفسره البعض أحيانًا في عبارات فائقة البراعة (مقارنات كاملة بموجب النهج المباشر) فإن من المهم أن نؤكد على ما يتحلى به هذا النهج من سعة أفق وشمولية. وإن التأكيد على أهمية القدرات يمكن أن يتوازى مع عدد من الاستراتيجيات المتباينة الخاصة بالتقييم العقلي المتضمن حلولًا وسطًا عملية. وغني عن البيان أن الطبيعة البرجماتية للعقل العملي تتطلب هذا.

ملاحظات ختامية

يُرْوَى أن إقليدس قال لبطليموس: «لا يوجد طريق ملكي إلى الهندسة»، وليس واضحًا إن كان ثمَّة أي طريق ملكي لتقييم السياسات الاقتصادية أو الاجتماعية؛ ذلك أن هناك العديد من الاعتبارات المتباينة التي تَجذِب الانتباه كما يَتعيَّن إجراء التقييمات بحساسية شديدة لهذه المهام. والمُلاحَظ أن القسط الأكبر من الجدال بشأن أساليب التناول البديلة للتقييم ترتبط بالأولويات عند اتخاذ قرار بشأن ما الذي يَتعيَّن أن يكون لُب اهتمامنا المعياري.

وأكَّدنا هنا أن الأولويات المقبولة، ضمنيًّا في الغالب، في أساليب التناول المختلفة لدراسة الأخلاق واقتصاد الرفاه والفلسفة السياسية يمكن إبرازها وتحليلها عن طريق تحديد المعلومات التي تنبني عليها الأحكام التقييمية في كل نهج على حدة. وانصب اهتمامنا على هذا الفصل تحديدًا على بيان كيف تعمل هذه «القواعد المعلوماتية»، وكيف تستخدم المنظومات الأخلاقية والتقييمية المختلفة قواعد معلوماتية جد مختلفة.

وجدير بالملاحَظة أن التحليل الذي عرضناه في هذا الفصل انتقل من هذه القضية العامَّة إلى مناهج تقييمية بذاتها. نخص بالذِّكْر منها مذهب المنفعة والنزعة التحريرية والعدالة عند راولس. واتساقًا مع وجهة النظر القائلة بأنه لا يوجد في الحقيقة طريق ملكي إلى التقويم، فقد ظهر أن لكل من هذه الاستراتيجيات المكينة ميزات خاصة بها، وإن كان كل منها أيضًا تَعيبه حدود وقيود مُهِمَّة.

وبدأت مسيرة هذا الفصل في اتجاه فحص ودراسة آثار ودلالات تركيز الاهتمام مباشرة على الحريات الموضوعية للأفراد المعنيين. وحدد نهجًا عامًّا يركز على قدرات الناس على أداء أمور بذاتها. وعلى حريتهم في صوغ حياتهم. في ضوء أسباب لديهم تضفي عليها قيمة. وسبق لي أن ناقشتُ هذا النهج أيضًا في مكان آخر٦١ مثلما ناقشه آخرون غيري ووضحتُ للعيان ما به من ميزات أو قيود دون أي مغالاة. وتَبيَّن أن هذا النهج ليس قادرًا فقط على الإلمام مباشرة بأهمية الحرية، بل قادر أيضًا على أن يولي اهتمامًا موضوعيًّا بالحوافز الأساسية التي تسهم في توثيق الصلة بالنُّهج الأخرى. وأخص بالذكر أن المنظور القائم على الحرية يمكن أن يُعنَى علاوة على أمور أخرى، باهتمام المذهب النفعي برفاه البشر واهتمام النزعة التحريرية بعمليات الاختيار، وحرية التصرف، وكذا نظرية راولس التي تركز على الحرية الفردية وعلى الموارد اللازمة للحريات الموضوعية، وحسب هذا الفهم فإن نَهْج القدرة تَتوافر له سعة الأفق والحساسية، مما يهيئ مدى شديد الاتساع، ومما يسمح بأن نولي اهتمامًا لمجموعة اهتمامات متباينة ومهمة تفعل المناهج البديلة بعضها على نحو أو آخر. وتهيأ هذا المدى الواسع؛ نظرًا لإمكانية الحكم على حريات الأشخاص بالرجوع صراحة إلى النتائج وإلى العمليات التي ينشدونها ويرونها ذات قيمة لهم وفقًا لأسباب مُحدَّدة لديهم.٦٢

ونوقشت كذلك الوسائل المختلفة لاستخدام هذا المنظور المرتكز على الحرية، وقاومنا تحديدًا فكرة أنه لا بد أن يكون الاستخدام مبنيًّا على أساس قاعدة الكل أو لا شيء. والملاحَظ في كثير من المشكلات العملية أن إمكانية استخدام نَهْج مُرتَكِز صراحة على الحرية هي إمكانية محدودة نسبيًّا. ولكن مع هذا كله ثمة إمكانية للاستفادة مما يشتمل عليه النَّهج المرتَكِز على الحرية من استبصارات مثيرة واهتمامات معلوماتية، دون التعنت في إغفال الإجراءات الأخرى عندما يكون من النافع استخدامها في سياقات مُحدَّدة. وينبني التحليل التالي على هذه الشروط في محاولة لإلقاء الضوء على التخلُّف (منظورًا إليه بعامة في صورة غياب الحرية)، والتقدم (منظورًا إليه باعتباره عملية إزاحة مظاهر غياب الحرية، وتوسيع نطاق الحريات الموضوعية لمختلف الأنماط التي يرى الناس أن لديهم الحق والمُبرِّر لإضفاء قيمة عليها). إن بالإمكان استخدام نَهْج عام بوسائل مختلفة اعتمادًا على السياق وعلى المعلومات المتاحة. ولا ريب في أن هذا الجمع بين التحليل التأسيسي والاستخدام البرجماتي هو ما يهيئ لمنهج القدرة مداه الواسع الرهيب.

١  دور الاستثناء والشمول في المعلومات ناقشتُه في بحث لي بعنوان: Choice, Welfare and Measurement (Oxford: Blackwell; Cambridge Mass.: MIT Press, 1982).
٢  انظر: Jeremy Bentham, An Introduction to the Principles of Morals and Legislation (Oxford: Clarendon Press, 1907).
٣  نقرأ نقدًا لمذهب المنفعة في مقال لي في مجلة الفلسفة: سبتمبر (أيلول) ١٩٧٩م، ومقال «الرفاه والفعالية والحرية» في مجلة الفلسفة، إبريل (نيسان) ١٩٨٥م.
٤  عن أوجه التمييز، انظر: J. C. B. Gosling, Pleasure and Desire (Oxford: Clarendon Press, 1969).
٥  عن قضية منهج البحث الواردة، انظر مقالي: On Weights and Measures (1977) and Informational Analysis of Moral Principles (1979).
٦  كان ليونيل روبنز مقتنعًا تمامًا حين أكد احتمال عدم وجود أساس علمي لمقارَنة السعادة بين الناس، وكان لنقده دور فعَّال في تقويض مذهب المنفعة كنهج رئيسي في اقتصاد الرفاه.
٧  Bentham, An Introduction to the Principles of Morals and Legislation (1789); John Stuart Mill, Utilitarianism (London, 1861).
٨  هذه هي أبسط صيغة لمذهب المنفعة. لمن شاء صيغًا أعقد وأقل مباشرة، انظر:
R. M. Hare, Moral Thinking: Its Levels, Methods and Point (Oxford: Clarendon Press, 1981); and James Griffin, Well-Being: Its Meaning, Measurement, and Moral Importance (Oxford: Clarendon Press, 1986).
٩  القضايا الفنية الواردة وبعض القيود في تحديد المنفعة في الإطار الثنائي للاختيار ناقشتها في كتابي: Choice, Welfare and Measurement (1982), and more informally in On Ethics and Economics (Oxford: Blackwell, 1987).
١٠  انظر المفوضية المستقلة المعنية بالسكان ونوعية الحياة في: Caring for the Future (Oxford: Oxford University Press, 1996).
١١  عرضتُ تحَفُّظاتي بشأن مذهب المنفعة في: Collective Choice and Social Welfare (San Francisco: Golden-Day, 1970).
١٢  انظر: Sen, Inequality Reexamined (1992), and Martha Nussbaum, Sex and Social Justice (New York: Oxford University Press, 1999).
١٣  Rawls, A Theory of Justice (1971).
١٤  Nozick, Anarchy, State and Utopia (1974).
١٥  راولس، المرجع نفسه.
١٦  H. L. A. Hart, Rawls on Liberty and Its Priority, University in Reading Rawls, edited by Norman Daniels (New York: Basic Books, 1975); and Rawls, Political Liberalism (1993), lecture 8.
١٧  انظر كتابي: Poverty and Famines: An Essay on Entitlement and Deprivation (Oxford and New York: Oxford University Press, 1981).
١٨  تجد المزيد من المقترحات في بحثي:
Rights and Agency, Philosophy and Public Affairs n (1982); and Well-Being, Agency and Freedom: The Dewey Lectures 1984, Journal of Philosophy 81 (April 1985).
١٩  انظر: Robbins, Interpersonal Comparisons of Utility (1938), p. 636. ولِنَقْد هذا الرأي، انظر:
I. M. D. Little, A Critique of Welfare Economics (Oxford: Clarendon Press, 1950).
٢٠  يوسع جون هارساني من تعريف اختيار المنفعة إلى المقارَنات بين الأشخاص عن طريق حساب اختيارات الافتراضية John Harsanyi, Essays in Ethics, Social Behaviour, and Scientific Explanation, Reidel, 1976. ويعتمد منهجه في الحقيقة في دراسة اقتصاد الرفاه النفعي على تقييم التنظيم الاجتماعي من حيث تَوفُّر فرصة متساوية ليكون المرء شأن أي إنسان آخر في المجتمع. وهذه تجربة فكرية مفيدة إلى أقصى حد وتُمثِّل صيغة مُحدَّدة لنهج عام نحو النزاهة، وتَردَّد صداه كثيرًا في الدراسات الأخلاقية. ولكن مثل هذه الاختيارات ليس من اليسير استخدامها لمقارَنات فعلية عن المنفعة. والميزة الأساسية لهذا النهج مفاهيمية خالصة.
٢١  محتوى مجموعة الوظائف المحتملة للمنفعة المطابقة لسلوك اختياري مُحدَّد سوف يتوقف على نمط قابلية القياس المفترضة مسبقًا. وإن مقارنة المنافع بين الأشخاص تستلزم «ظروفًا ثابتة» ومفروضة على مجموعات وظائف المنفعة لدى أشخاص مختلفِين.
٢٢  عن هذه المسألة انظر:
Franklin M. Fishe, The Economic Theory of Price Indices (New York: Academic Press, 1972).
٢٣  يجد القارئ دراسة ومسحًا للنتائج الأساسية في الأدبيات المَعنية بمقارَنات الدخل الحقيقي في بحث لي بعنوان: «أساس الرفاه في مقارنات الدخل الحقيقي» في Journal of Economic Literature 17 (1979).
٢٤  التأثيرات المتنوعة على الرفاه الشخصي موضوع دراسة مُتعمِّقة في «الدراسات الإسكندنافية» عن مستويات المعيشة.
٢٥  انظر بوجه خاص: Glen Loury, A Dynamic Theory of Racial Income Differences, in Women, Minorities and Employment Discrimination, edited by P. A. Wallace (Lexington Books, 1977).
٢٦  آدم سميث، ثروة الأمم (١٧٧٦م).
٢٧  انظر دراستي: Gender and Cooperative Conflict, in Persistent Inequalities: Women and World Development, edited by Irene Tinker (New York: Oxford University Press, 1990).
٢٨  بعض السياقات تعرض مثل هذا التفسير للمجاعات (وتحليل السياسات الخاصة باتقاء المجاعات) ونقص الدخل لضحايا المجاعات المحتملين (واحتمال توليد دخول لهم)، وتحتل موضعًا محوريًّا في البحوث.
٢٩  انظر: Rawis, A Theory of Justice.
٣٠  دافع رونالد دووركين في دراسة تلتزم نهجًا وثيق الصلة عن «مساواة الموارد»، وعمد إلى توسيع شمول المنافع الأولية عند راولس لتتضمن فرص التأمين الحماية ضد تَقلُّبات أوهام الحظ. انظر مقاله: «ما هي المساواة؟» ج١، ج٢، في Philosophy and Public Affairs, 10, 1981.
٣١  انظر في هذا بحثًا لي بعنوان «مساواة في ماذا؟» في كتاب Tanner Lectures on Human Values, volume I, edited by S. McMurrin (Cambridge University Press, 1980). هناك بعض اللبس بشأن المحتوى الدقيق لعبارة «المنافع الأولية» كما حدَّدها راولس؛ ذلك أن بعض المنافع الأولية (من مثل الدخل والثروة) ليست أكثر من وسائل لغايات حقيقية (كما أشار أرسطو في ملاحظته الشهيرة في مستهل كتابه الأخلاق النيقوماخية). وهناك منافع أولية أخرى (من مثل «الأساس الاجتماعي لاحترام الذات» التي يشير إليها صراحة راولس) يمكن أن تتضمن جوانب من المناخ الاجتماعي حتى على الرغم من أنها وسائل ذات طبيعة عامة (ففي حالة «الأساس الاجتماعي لاحترام الذات» وسيلة لتحقيق احترام الذات). وثمة منافع أخرى (مثل الحريات) يمكن تفسيرها بوسائل مختلفة: إما وسائل (الحريات تسمح لنا بعمل أشياء تعلي من قيمة أدائها) أو مثل الحرية الفعلية لإنجاز نتائج مُحددَّة (الأسلوب الآخر للنظر إلى الحريات مستخدم في أدبيات الاختيار الاجتماعي). مثال ذلك في كتابي «الاختيار الاجتماعي والرفاه الاجتماعي» (١٩٧٠م) الباب السادس. ولكن برنامج راولس في استخدام المنافع الأولية للحكم على الميزة الفردية في كتابه «مبدأ الاختلاف» مدفوع أساسًا بمحاولته لتشخيص الوسائل المعنية بغرض عام، ومن ثم يكون عُرضة لتباينات فيما بين الأشخاص عند تَحوُّل الوسائل من الاتجاه إلى الحرية إلى وسائل لإنجاز غايات.
٣٢  انظر: Alan Williams, What Is Wealth and Who Creates It? in Dependency to Enterprise, edited by John Hutton et al. (London: Routledge, 1991); Paul Farmer, Infections and Inequalities: The Modern Plagues (Berkeley, Calif.: University of California Press, 1998); James Smith, Socioeconomic Status and Health, American Economic Review 88 (1998), and Healthy Bodies and Thick Wallets: The Dual Relationship between Health and Socioeconomic Status, Journal of Economic Perspectives 13 (1999).
٣٣  انظر: A. C. Pigou, The Economics of Welfare, 4th edition (London: Macmillan, 1952).
انظر أيضًا: Pitambar Pant et al., Perspectives of Development. Implications of Planning for a Minimal Level of Living (New Delhi: Planning Commission of India, 1961); Amartya Sen, On the Development of Basic Income Indicators to Supplement the GNP Measure, United Nations Economic Bulletin for Asia and the Far East 14 (1973); Mahbub ul Haq, The Poverty Curtain (New York; Columbia University Press, 1976); D. H. Costa and R. H. Steckel, Long-Term Trends in Health, Welfare and Economic Growth in the United States, Historical Working Paper 76, National Bureau of Economic Research, 1995.
٣٤  United Nations Development Programme, Human Development Report 1990 (New York: Oxford University Press, 1990), and the subsequent yearly reports. Mahbub ul Haq, Reflections on Human Development (New York: Oxford University Press, 1995). See also the applications and extensions illuminatingly presented by Nicholas F. R. Crafts, The Human Development Index and Changes in the Standard of Living: Some Historical Comparisons, Review of European Economic History i (1997). The United Nations Children’s Fund (UNICEF) has also been a pioneer in issuing annual reports on the lives of children; see UNICEF, The State of the World’s Children (New York: Oxford University Press, 1987), and other annual issues. Mention must also be made of the informationally rich World Development Reports produced by the World Bank, with its increasing attempt to cover more ground on living conditions. The health conditions received extensive attention in the World Development Report 1993 (New York: Oxford University Press, 1993).
٣٥  Aristotle, The Nicomachean Ethics, translated by D. Ross (Oxford: Oxford University Press, revised edition 1980), book i, section 7, pp. 12–14. On this see Martha Nussbaum, Nature, Function and Capability: Aristotle on Political Distribution, Oxford Studies in Ancient Philosophy (1988; supplementary volume).
٣٦  Smith, Wealth of Nations (1776), volume 2, book 5, chapter 2.
٣٧  المصدر نفسه.
٣٨  انظر مقالي: Equality of What? in Tanner Lectures on Human Values, volume I, edited by S. McMurrin (Cambridge: Cambridge University Press, 1981; Salt Lake City: University of Utah Press); reprinted in my Choice, Welfare and Measurement (1980); also in John Rawls et al.. Liberty, Equality and Law, edited by S. McMurrin (Cambridge: Cambridge University Press, and Salt Lake City: University of Utah Press, 1987), See also my Public Action and the Quality of Life in Developing Countries, Oxford Bulletin of Economics and Statistics 43 (1981); Commodities and Capabilities (Amsterdam: North-Holland, 1985); Well-Being, Agency and Freedom (1985).
٣٩  عن طبيعة شيوع هذه القابلية للتغير، انظر كتابي: Commodities and Capabilities (1985) and Inequality Reexamined (1992). On the general relevance of taking note of disparate needs in resource allocation, see also my On Economic Inequality, chapter I; Alessandro Balestrino, Poverty and Functionings: Issues in Measurement and Public Action, Giornale degli Economist! e Annali di Economia 53 (1994): Elena Granaglia, More or Less Equality? A Misleading Question for Social Policy, Giornale degli Economist! 53 (1994).
٤٠  انظر مقالي: Equality of What?; See also Keith Griffin and John Knight, Human Development and the International Development Strategies for the 1990 (London: Macmillan, 1990); David Crocker, Functioning and Capability: The Foundations of Sen’s and Nussbaum’s Development Ethic, Political Theory 20 (1992); Nussbaum and Sen, The Quality of Life (1993); Anthony B. Atkinson, Capabilities, Exclusion and the Supply of Goods, both in Choice, Welfare and Development edited by K. Basu, P. Pattanaik and K. Suzumura (Oxford: Clarendon Press, 1995); Stefano Zamagni, Amartya Sen on Social Choice, Utilitarianism and Liberty, Italian Economic Papers 2 (1995); Herrero, Capabilities and Utilities (1996); Nolan and Whelan, Resources, Deprivation, and Poverty (1996); Frank Ackerman, David Kiron, Neva R. Goodwin, Jonathan Harris and Kevin Gallagher, eds., Human Well-Being and Economic Goals (Washington, D.C.: Island Press, 1997); Prasanta K. Pattanaik, Cultural Indicators of Well-Being: Some Conceptual Issues, in World Culture Report (Paris: UNESCO, 1998).
٤١  أكثر من هذا أن الأداء الوظيفي الأولَى لضمان تغذية جيدة يَتضمَّن قضايا مفاهيمية وتجريبية مهمة، وانظر بشأنها: Nevin Scrimshaw, C. E. Taylor and J. E. Gopalan, Interactions of Nutrition and Infection (Geneva: World Health Organization, 1968); T. N. Srinivasan, Malnutrition: Some Measurement and Policy Issues, Journal of Development Economics 8 (1981); K. Blaxter and J. C. Waterlow, eds., Nutritional Adaptation in Man (London: John Libbey, 1985); Partha Dasgupta and Debraj Ray, Adapting to Undernutrition: Biological Evidence and Its Implications, and S. R. Osmani, Nutrition and the Economics of Food: Implications of Some Recent Controversies, in The Political Economy of Hunger, edited by Jean Dreze and Amartya Sen (Oxford: Clarendon Press, 1990); Partha Dasgupta, An Inquiry into Well-Being and Destitution (Oxford: Clarendon Press, 1993); S. R. Osmani, ed., Nutrition and Poverty (Oxford: Clarendon Press, 1993).
٤٢  ناقشتُ هذه القضايا في بحث لي بعنوان: Tanner Lectures included in my The Standard of Living, edited by Geoffrey Hawthorn (Cambridge: Cambridge University Press, 1987).
٤٣  عندما يستحيل العرض الرقمي لكل أداء وظيفي يصبح لازمًا أن يجري التحليل في ضوء الإطار الأعم لرؤية الإنجازات الفاعلة باعتبارها n-tuple، وكذلك مجموعة القدرة باعتبارها مجموعة n-tuples في المكان الملائم. وقد تكون هناك مجالات كبيرة ومهمة من حالات عدم الاكتمال والتشوش. انظر هذا في كتابي: السلع والقدرات، ١٩٨٥م. وجدير بالذِّكْر أن الأدبيات الحديثة عن «نظرة فئة الشواش» يمكن أن تفيد في تحليل تقييمنا لأداء مجموعات الموجهات والقدرات. انظر بوجه خاص: Enrica Chiappero Martinetti, A New Approach to Evaluation of Well-being and Poverty by Fuzzy Set Theory, Giornale degli Economist!, 53 (1994).
٤٤  الصلة الوثيقة لمنظور القُدْرة في مجالات كثيرة مختلفة تم اكتشافها بين أمور أخرى، في عدد من رسائل الدكتوراه في جامعة هارفارد، والتي كان لي حظ الإشراف عليها.
٤٥  انظر دراسة شاملة عن هذا أشرت إليها في كتابي: On Economic Inequality, (Oxford Clarendon Press, 1997) مع مُلْحق مهم كتبتُه بالاشتراك مع جيمس فوستر.
٤٦  يسمى هذا النهج «التقييم الأَوْلى» لفئة القدرة. وناقشت طبيعة ونطاق التقييم الأولى في كتابي «السلع والقدرات»، ١٩٨٥م. انظر أيضًا G. A. Cohen وحجته فيما يسميه midfare في مقال له بعنوان: On the Currency of Egalitarian Justice, Ethics, 99 (1989).
٤٧  ناقشت هذه المسائل بالتفصيل في كتابي الحرية والعقلانية والاختيار الاجتماعي.
٤٨  انظر كتابي: Commodities and Capabilities (1985) and Welfare, Preference, and Freedom, Journal of Econometrics 50 (1991). Patrick Suppes, Maximizing Freedom of Decision: An Axiomatic Analysis, in Arrow and the foundations of Economic Policy, (London: Macmillan, 1987); James Foster, Notes on Effective Freedom (1993).
٤٩  انظر في هذا الشأن كتبي: Commodities and Capabilities (1985); Inequality Reexamined (1992); and Capability and Well-Being (1993).
٥٠  انظر: Rawis, A Theory of Justice (1971) and Political Liberalism (1993). في موازاة فرضية الاستحالة الشهيرة التي قدمها كينيث أرو ظهرت فرضيات استحالة أخرى تتناول وجود مؤشرات كافية عن المنافع الأولية عند راولس. وتلعب القيود المعلوماتية جانبًا حاسمًا في الإسراع بهذه النتائج. وناقشتُ الموقف ضد مثل هذه القيود المعلوماتية في كتابي: On Indexing Primary Goods and Capabilities (mimeographed, Harvard University, 1991). حيث يحد من نتائج هذه الاستحالة المزعومة مع تطبيقها على إجراءات راولس.
٥١  التطابقات التحليلية بين التضييق المنهجي لنطاق الأوزان والتوسع الاطرادي للتنظيمات الجزئية الوليدة (تأسيسًا على تقاطعات التصنيفات المحتملة)، معروضة في كتابي: Interpersonal Aggregation and Partial Comparability (1970).
٥٢  هذه المسألة وعلاقتها بكل من نظرية الاختيار الاجتماعي، ونظرية الاختيار العام؛ ناقشتها في خطابي الرئاسي أمام الرابطة الاقتصادية الأمريكية تحت عنوان «العقلانية والاختيار الاجتماعي» American Economic Review 85, 1995.
٥٣  T. N. Srinivasan, Human Development: A New Paradigm or Reinvention of the Wheel? American Economic Review, 84 (1994). وعند عرض هذه الدراسة، اقتبس سرينيفاسان من روبرت سودجن «الرفاه والموارد والقدرات: عرض لدراسة أمارتيا صن، دراسة جديدة عن عدم المساواة». والمُلاحظ أن نزعته الشكية بشأن إمكانية تقييم القدرات المختلفة أقل حدة من الشك عند سرينيفاسان.
٥٤  Paul A. Samuelson, Foundations of Economic Analysis (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1947).
٥٥  حاولتُ تناوُل هذه القضية في خطابي الرئاسي للرابطة الاقتصادية الأمريكية عام ١٩٩٥م، وكذلك في محاضرتي بمناسبة حصولي على جائزة نوبل ١٩٩٨م.
٥٦  هذان النهجان نُوقِشا في الملحق الجديد الذي كتبته بالاشتراك مع جيمس فوسترا، الطبعة المزيدة (١٩٩٧م)، من كتابي عن «عدم المساواة الاقتصادية».
٥٧  إنه لأمر يستهوي النفس أن نبحث إجراءات وتدابير التوزيع في مجالات مختلفة (توزيع الدخل، متوسط طول العمر، محو الأمية … إلخ) ثم نضعها جميعًا معًا. بيد أن هذا إجراء مُضلِّل؛ حيث إن قدرًا كبيرًا سيتوقف على كيفية علاقة هذه المتغيرات ببعضها في الأنماط المشتركة بين الأشخاص. (وهو ما يمكن أن نسميه مسألة التغاير المشترك). مثال ذلك لو أن أصحاب دخول منخفضة يتجهون إلى أن تكون مستويات تعلمهم منخفضة أيضًا، إذًا سيدعم النوعان من الحرمان بعضهما. بينما إذا لم تكن هناك علاقة بينهما فلن يحدث هذا. وإذا كانت العلاقة بينهما علاقة تضاد فإن الحرمان في ضوء مُتغيِّر واحد سوف تخف حدته، ولو إلى حد ما، بفعل المتغير الآخر. ونحن لا نستطيع أن نقرر أي الاحتمالات سوف يتحقق بِمجرَّد النظر فقط إلى مؤشرات التوزيع المستقلة عن بعضها دون دراسة التغاير المشترك والمسار الخطى المشترك.
٥٨  هذا النهج التكميلي هو المستخدَم ومُطبَّق في غالب الأحيان في دراسة عن الفقر في إيطاليا، في السياق الأوروبي، أنجزها بنك إيطاليا بقيادة فابريزيو بركا.
٥٩  انظر: Angus Deaton, Microeconometric Analysis for Development Policy, Johns Hopkins University Press, 1997; Angus Deaton and Economics and Consumer Behaviour (Cambridge University Press, 1980).
٦٠  Hugh Dalton, The Measurement of the Inequality of Incomes, Economic Journal 30 (1920).
٦١  انظر بوجه خاص دراستي «السلع والقدرات»، ١٩٨٥م؛ «الرفاه والفعالية والحرية»، ١٩٨٥م.
٦٢  بحثتُ بعض القضايا الفنية في تقييم الحرية في دراستي: «الحرية والعقلانية والاختيار الاجتماعي»، يصدر قريبًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤