الفصل الثاني عشر

لو حدث ذلك أمامك وعلى مَقربة شديدة منك، لاستطعت أن ترى فيلالتا يزمجر في وجه الثور ويلعنه، وحين هجم الثور وثب إلى الوراء بثبات مثلما تفعل شجرة بلوط حين تهبُّ عليها الرياح؛ ساقاه مضمومتان معًا، والقماش الأحمر يُجرجِر على الأرض والسيف يتبع المنحنى الذي يُخلِّفه. بعد ذلك، سبَّ الثورَ وحرك القماش أمامه، ثم وثب متفاديًا الهجمة ورجلاه ثابتتان، وراح القماش ينحني ومع كل وثبة كان الجمهور يزأر.

حين بدأ في قتله، كان ذلك بالسرعة نفسِها. راح الثور ينظر إليه مباشرةً في عينَيه بكراهية. سحب السيف من ثنايا القماش الأحمر ووجهه إليه بحركة واحدة ونادى على الثور: «تورو! تورو! [تعال، تعال أيها الثور]» وهاجم الثور وهاجم فيلالتا وللحظة واحدة صارا كيانًا واحدًا. أصبح فيلالتا كيانًا واحدًا مع الثور ثم انتهى الأمر. فيلالتا يقف منتصبًا ومقبض السيف الأحمر يبرز بخفوت من بين كتفَي الثور. فيلالتا يرفع يده إلى الجمهور والثور يزأر دمًا، وينظر مباشرةً إلى فيلالتا بينما تستسلم ساقاه ويتهاوى.

تزلج عبر الريف

ارتجت عربة القطار المعلق مرة أخرى ثم توقفت. لم يُمكِنها المضيُّ قدمًا؛ إذ كان الثلج قد تكوَّم بغزارة على السكة الحديدية. إن الرياح العاصفة التي تصقل السطح الظاهر من الجبل كانت قد جرفت سطح الثلج فتكونَت على الثلج قشرةٌ ثلجية صُلبة. نِك الذي كان يجهز زلاجتَيه باستخدام الشمع في عربة الأمتعة، دفع فردتَي حذائه في واقيتَيِ الأصابع الحديدية وأغلق الإبزيم بإحكام. قفز من العربة بشكل جانبي على القشرة الثلجية الصلبة واستدار بقفزة، ثم جثا وانزلق بسرعة عبر المنحدر، وهو يُجرجر عصَوَيِ التزلج خلفه.

على الثلج الأبيض في الأسفل، هبط جورج وارتفع حتى اختفى عن الأنظار. الاندفاع والانزلاق المفاجئ عند سقوطه في تموُّج منحدر على جانب الجبل، قد سلبا لُبَّ نِك ولم يتركا له سوى ذلك الإحساس الرائع بالطيران والسقوط. ارتفع لكي يصعد قليلًا ثم بدا أنَّ الثلج ينزلق من تحته بينما راح يهبط باندفاع إلى الأسفل أكثر فأكثر، وأسرع فأسرع إلى المنحدر الطويل الشديد الانحدار الأخير. وبينما كان يجثو حتى كاد أن يصل إلى وضع الجلوس على زلاجتَيه، مُحاولًا الحفاظ على انخفاض مركز الجاذبية، وكان الثلج يتطاير كعاصفة رملية، كان يعرف أنَّ الوتيرة التي كان يسير بها سريعة للغاية. غير أنه قد حافظ عليها. لم يستسلم ويسقط. ثم جاءت رقعة من الثلج الناعم كانت الرياح قد جمعتها في منخفض؛ فأسقطته وراح يتدحرج ويتدحرج مع اصطدام الزلاجتَين بعضهما ببعض، وشعر حينها وكأنه أرنب جريح قد أُطلِق النار عليه، ثم عَلِق في مكانه؛ فتصالبت ساقاه وبرزت زلَّاجتاه إلى الأعلى وامتلأت أذناه وأنفه بالثلج.

كان جورج يقف أبعد قليلًا أسفل المنحدر ينفض الثلج عن معطفه الواقي من الرياح بضربات كبيرة من يده.

نادى نِك قائلًا: «لقد كنتَ رائعًا يا مايك. ذلك ثلج ناعم لعين. لقد نال مني بالطريقة نفسها.»

«كيف حال التزلُّج على الوادي الضيق؟» ركل نِك زلاجتَيه إلى جانبَيه وهو راقد على ظهره ونهض واقفًا.

«عليك أن تبقى على اليسار. إن الهبوط سريع ورائع مع ضرورة اتخاذ وضعية كريستي في القاع بسبب وجود سياج.»

«انتظر لحظة ولنقم بها معًا.»

«كلا، فلتبدأ أنت أولًا. أرغب في رؤيتك وأنت تتزلج على الوديان الضيقة.»

تقدم نِك آدمز أمام جورج، وقد كان ظهره الضخم ورأسه الأشقر لا يزالان معفرين قليلًا بالثلج، ثم بدأت زلاجتاه في الانزلاق على الحافة، وانزلق للأسفل وقد صدر عن حركته في مسحوق الثلج البلوري صفير، وبدا في صعوده وهبوطه على الوديان العميقة المتموجة وكأنه يطفو ويغرق. ظل نِك على اليسار، وفي النهاية بينما راح يندفع نحو السياج وهو يُبقي على ركبتَيه مضمومتَين عن قربٍ معًا ويستدير بجسده وكأنه يُثبِّت مسمارًا ملولبًا، أدار زلاجتَيه بحِدة إلى اليمين مثيرًا سحابة من الثلج وراح يتباطأ إلى أن توقف تمامًا بمحاذاة جانب التل والسياج السلكي.

نظر إلى أعلى التل. كان جورج يهبط متخذًا وضعية تِلِمارك جاثيًا؛ فكانت إحدى ساقَيه ممدَّدة إلى الأمام ومحنية، وثنى الأخرى إلى الخلف بينما عصَواه كانتا تتدلَّيان كساقَي حشرة رفيعتَين وتركلان هبَّات من الثلج إذ تلمسان السطح، وأخيرًا استدارت الهيئة الجاثية الزاحفة بأكملها في منحنًى جميل إلى جهة اليمين، ساق تمتد إلى الأمام والأخرى إلى الخلف، الجسم كله يميل عكس اتجاه الحركة، العصوان تُحددان المنحنى كنقاط من الضوء، كل ذلك في غيمة جامحة من الثلج.

تحدث جورج قائلًا: «كنتُ خائفًا من القيام بوضعية كريستي. كان الثلج عميقًا للغاية. لقد قمتَ بحركة رائعة.»

قال نِك: «لا أستطيع تنفيذ وضعية تِلِمارك بساقي.»

أخفض نِك الجديلة العلوية من السياج بزلاجته، وانزلق جورج من فوقه. تبعه نِك إلى الطريق. اندفعا مَحنيَّيِ الرُّكَب على الطريق المؤدي إلى غابة صَنَوبرية. أصبح الطريق جليدًا مصقولًا، ملطَّخًا باللون البرتقالي واللون الأصفر الشبيه بلون التبغ بسبب الحيوانات التي تنقل جذوع الأشجار. حافظ المتزلجان على مسارهما على جانب الطريق الثلجي. كان الطريق ينحدر بحدة إلى جدول، ثم يمتد مباشرة إلى أعلى التل. عبر الأحراج، استطاعا أن يريا مبنًى طويلًا منخفض الأفاريز قد أبلاه الطقس. عبر الأشجار، بدا أصفر باهتًا. ومن نقطة أقرب، بدَت أطُر النوافذ مطليَّة باللون الأخضر. كان الطِّلاء يتقشَّر. أرخى نِك الأبازيم بإحدى عصَوَي التزلج وخلع الزلاجتَين.

تحدث قائلًا: «ربما من الأحرى أن نحملها لأعلى من هنا.»

تسلق الطريق المنحدر وهو يحمل الزلاجتَين على كتفَيه، ويضرب بمسامير كعبَي حذائه في الممشى الجليدي. سمع جورج وهو يتنفَّس ويضرب بحذائه خلفه تمامًا. رصا الزلاجات على جانب النُّزُل ونفضا الثلج عن سروالَيهما، ودقَّا بحذاءَيهما على الأرض لتنظيفهما، ودخلا.

في الداخل كان الجو معتمًا بعض الشيء. أضاءت في ركن الغرفة مدفأةٌ كبيرة من البورسلين. كان السقف منخفضًا. واصطفَّت على جانبَي الغرفة مقاعدُ ملساءُ أمامها طاولاتٌ داكنة اللون ومبقعة بالنبيذ. كان هناك سويسريان يدخنان الغليون، وكان توجد زجاجتان من النبيذ الجديد العكر بجوار المدفأة. خلع الفتَيان سترتَيهما وجلسا أمام الحائط في الجانب الآخر من المدفأة. توقف صوت في الغرفة المجاورة عن الغناء، ودخلت من الباب فتاة ترتدي مئزرًا أزرق لترى ما يرغبان في شربه.

قال نِك: «زجاجة من نبيذ سيون.» ثم تابع: «أهذا يناسبك يا جيدج؟»

قال جورج: «بالتأكيد. إنك تعرف عن النبيذ أكثر مما أعرف. إنني أحب جميع أنواعه.»

خرجت الفتاة.

تحدث نِك قائلًا: «لا شيء يمكن أن يُضاهيَ التزلجَ على الإطلاق، أليس كذلك؟ ذلك الشعور الذي يغمرك حين تنزلق في البداية على منحدر طويل.»

قال جورج: «أوه، إنَّ الحديث يعجز عن وصف روعته.»

أحضرت الفتاة النبيذ، وقد واجها مشكلة مع الفِلِّينة. فتحها نِك أخيرًا. خرجت الفتاة وسمعاها تُغني بالألمانية في الغرفة المجاورة.

قال نِك: «إنَّ فُتاتَ الفلين الموجود بداخلها هذا لا يُمثِّل مشكلة.»

«أتساءل إن كان لديها أي كعك.»

«فلنسأل ونرَ.»

دخلت الفتاة ولاحظ نِك أنَّ المئزر يُخفي حملها ببراعة. قال في نفسه: لماذا لم ألاحظ هذا حين أتَت أول مرة؟

سألها: «ماذا كنتِ تُغنين؟»

«مقطوعة أوبرالية، مقطوعة أوبرالية ألمانية.» لم تبد راغبة في مناقشة الموضوع. «لدينا بعض ستردل التفاح إن كنتما تريدانه.»

قال جورج: «إنها ليست ودودة، أليس كذلك؟»

«حسنًا، إنها لا تعرفنا وربما ظنَّت أننا سنسخر من غنائها. إنها من هناك حيث يتحدثون الألمانية على الأرجح وهي شديدة الحساسية لكونها هنا، ثم إنَّ لديها ذلك الطفل الذي سيأتي وهي ليست متزوجة؛ لذا فهي شديدة الحساسية.»

«ما يدريك أنها غير متزوجة؟»

«إنها لا ترتدي خاتمًا. اللعنة! إن الفتيات في هذه الأنحاء لا يتزوجن إلا بعد أن يحملن.»

فُتِح الباب ودخلت منه مجموعة من قطاع الخشب من على الطريق، الذين راحوا يدقُّون بأحذيتهم على الأرض لتنظيفها، ودخلوا إلى الغرفة بوتيرة منتظمة سريعة. أتَت النادلة بثلاثة لترات من النبيذ الجديد للمجموعة، وجلسوا هم على طاولتَين يدخنون هادئين وقد خلعوا قُبَّعاتهم، واستندوا إلى الخلف على الجدار أو إلى الأمام على الطاولة. وفي الخارج كانت الجياد في عربات الجليد الخشبية تُصدِر في بعض الأحيان صوتَ رنين أجراس حادًّا، حين كانت تهز رءوسها.

كان جورج ونِك يشعران بالسعادة. كانا يُحِبان بعضهما. كانا يعلمان أنَّ عليهما العودةَ إلى بلدهما.

سأل نِك: «متى سيكون عليك العودة إلى المدرسة؟»

أجاب جورج: «الليلة. عليَّ أن آخذ قطارَ العاشرة وأربعين دقيقة من مونترو.»

«ليتك تستطيع البقاء حتى يتسنَّى لنا التزلجُ على جبل دنت دي ليس غدًا.»

قال جورج: «عليَّ أن أتلقَّى تعليمي. أوه، ألَا تتمنَّى يا مايك لو أننا فقط نتسكع معًا؟ نأخذ زلاجتَينا ونركب القطار إلى حيث المكانُ المناسب للتزلُّج ثم نذهب ونقضي بعض الوقت في الحانات ونتزلج في أوبرلاند ومنطقة فاليه وأنحاء وادي إنجادين ولا نأخذ معنا في حقيبتَي الظَّهر سوى عدة التصليح وبعض السترات وملابس النوم الإضافية ولا نعبأ بالمدرسة أو أي شيء غيرها.»

«أجل، ونعبر الغابة السوداء بالطريقة نفسِها. كم فيها من أماكن رائعة!»

«لقد ذهبت إلى صيد الأسماك فيها بالصيف الماضي، أليس كذلك؟»

«بلى.»

أكلا الستردل وشربا ما تبقى من النبيذ.

مال جورج بظهره على الحائط وأغمض عينَيه.

تحدث قائلًا: «النبيذ يجعلني أشعر بهذا دومًا.»

سأل نِك: «أهو شعور سيئ؟»

«كلا، أنا بخير، لكنه شعور طريف.»

قال نِك: «أعرف.»

قال جورج: «بالتأكيد.»

سأل نِك: «أنُحضِر زجاجة أخرى؟»

قال جورج: «ليس لي.»

جلسا هناك، نِك يميل بمرفقَيه على الطاولة، وجورج يسترخي بظهره على الحائط.

قال نِك وهو يتوجَّه بجسمه من الجدار إلى الطاولة: «أستنجب هيلين طفلًا؟»

«أجل.»

«متى؟»

«في أواخر الصيف القادم.»

«هل أنت سعيد بهذا؟»

«أجل. الآن.»

«هل ستعودان إلى الولايات المتحدة؟»

«أعتقد هذا.»

«أترغب في ذلك؟»

«كلا.»

«أترغب هيلين في ذلك؟»

«كلا.»

جلس جورج صامتًا. نظر إلى الزجاجة الفارغة والكأسَين الفارغتَين.

تحدث قائلًا: «إنها الجحيم، أليس كذلك؟»

قال نِك: «كلا. ليس إلى هذه الدرجة.»

«ولم لا؟»

قال نِك: «لا أدري.»

قال جورج: «هل ستذهبان يومًا للتزلُّج في الولايات المتحدة؟»

قال نِك: «لا أدري.»

قال جورج: «الجبال ليست كثيرة.»

قال نِك: «كلا. إنها صخرية بشدة. ويوجد بها الكثير من الأخشاب وهي بعيدة للغاية.»

قال جورج: «أجل، تلك هي الحال في كاليفورنيا.»

قال نِك: «أجل، تلك هي الحال في كل مكان ذهبت إليه.»

قال جورج: «أجل، تلك هي الحال.»

نهض الرجلان السويسريان ودفعا حسابهما وغادرا المكان.

قال جورج: «أتمنى لو أننا كنا سويسريين.»

قال نِك: «إنَّ جميعهم مصابون بتضخُّم في الغدة الدرقية.»

قال جورج: «لا أصدق هذا.»

قال نِك: «ولا أنا.»

ضحكا.

قال جورج: «ربما لن نذهب للتزلج معًا مرة أخرى يا نِك.»

قال نِك: «لا بد أن نذهب. إنَّ الأمر لا يستحق إذا لم تتزلج معي.»

قال جورج: «حسنًا، سنذهب.»

صدق نِك على كلامه قائلًا: «لا بد لنا من ذلك.»

قال جورج: «أتمنى لو أننا نقطع وعدًا على ذلك.»

نهض نِك. زرَّر سترته الواقية من الرياح بإحكام. انحنى من فوق جورج ورفع عصَوَيِ التزلج من مكانهما على الحائط. غرس إحدى العصَوَين في الأرض.

تحدث قائلًا: «ما من جدوى في قطع الوعود.»

فتحا الباب وخرجا. كان الجو شديد البرودة. أصبحت القشرة الثلجية صلبة للغاية. كان الطريق يمتد إلى أعلى التل ثم إلى أشجار الصَّنَوبر.

أخذا الزلاجات من حيث كانت تستند على جدار النُّزُل. ارتدى نِك قفازَيه. كان جورج قد بدأ التحرك صاعدًا على الطريق بالفعل، واضعًا زلاجتَيه على كتفه. الآن، سيشرعان في رحلة التزلج إلى البيت معًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤