منصور باهي

قُضيَ عليَّ بالسجن في الإسكندرية وبأن أُمضيَ العمر في انتحال الأعذار.

قلت ذلك لأخي وأنا أودِّعه، ثم ذهبت رأسًا إلى بنسيون ميرامار. فُتحت شُرَّاعة الباب عن وجه عجوز ذي طابع أنيق متعالٍ، رغم الكبر ورغم المهنة، فسألتها: مدام ماريانا؟

أجابت بالإيجاب، فقلت: منصور باهي.

فتحت لي الباب مُرحِّبة وهي تقول: أهلًا .. حدَّثني أخوك بالتليفون .. اعتبر نفسك في بيتك.

انتظرت عند الباب حتى وصل البوَّاب حاملًا الحقيبتين، ثم دعتني إلى الجلوس وجلست هي على كنبة تحت تمثال للعذراء: أخوك ضابط بوليس عظيم، كان ينزل عندي قبل أن يتزوَّج، وقد أقام في الإسكندرية عمرًا وها هو ينتقل إلى القاهرة.

تبادلنا نظرات مودَّة وهي تتفحَّصني بدقَّة وعناية ثم سألتني: كنت تقيم معه؟

– نعم.

– طالب؟ .. موظف؟

– مذيع في محطة الإسكندرية.

– ولكنك أصلًا من القاهرة؟

– نعم.

– اعتبر نفسك في بيتك ولا تحدِّثني عن الإيجار.

ضحكت مستنكرًا، ولكنِّي شعرت أنها على استعداد لقَبولي بالمجَّان لو أردت. حسن، العفن يجري في الهواء ولعله يصدر أصلًا من ذاتي أنا.

– وأي مدَّة ستقيم معنا؟

– غير محدودة.

– سنتَّفق على أُجرة مناسبة ولن أطالب برفعها في الصيف.

– شكرًا، لقد أرشدني أخي إلى ما يجب عمله وسوف أدفع في المصيف كالمصيِّفين.

انتقلت بلباقة إلى موضوع آخر فتساءلت: أعزب؟

– نعم.

– متى تفكر في الزواج؟

– ليس الآن على أيِّ حال.

فضحكت عاليًا وهي تسأل: فيم تفكِّر إذن؟

جاريتها في الضحك بلا روح، ودقَّ الجرس فقامت ففتحت الباب فدخلت فتاة حاملة لفَّةً كبيرة من البقالة أو غيرها ثم مضت إلى الداخل. من نظرة أدركت أنَّها خادمة وأنها جميلة. ثم عرفت — والمدام تخاطبها — أن اسمها زهرة. وهي في سِنِّ طالبة جامعية وكان ينبغي أن تكون كذلك.

قادتني المدام إلى إحدى الحجرتين المُطلَّتين على البحر وهي تقول: هذا الجانب غير مناسب للشتاء، ولكنها الحجرة الوحيدة الخالية.

فقلت بلا اكتراث: إني أحب الشتاء.

•••

وقفت في الشرفة وحيدًا. ترامى البحر تحتي إلى غير نهاية، ينبسط في زُرقة صافية بديعة، وتلعب أمواجه الهادئة بلآلئ الشمس. غمرتني ريح خفيفة في ملاطفة منعشة، ولم يكن في السماء إلا سَحابات متفرِّقة. كاد يغلبني الحزن ولكن سمعت حركة خفيفة في الحجرة فالتفتُّ مستطلعًا فرأيت زهرة وهي تفرش السرير بالمُلاءات والأغطية. عملت بهمَّة دون أن تنظر نحوي فتملَّيتها على مهل وسرعان ما أكبرت ملاحتها الريفية الباهرة. وقلت راغبًا في إنشاء عَلاقة ومودَّة: أشكركِ يا زهرة.

فابتسمت إليَّ ابتسامة تشرح الصدر، فطلبت فنجال قهوة فجاءتني به بعد دقائق معدودة. وقلت: انتظري من فضلك حتى أفرُغ.

وضعت طبق الفنجال على سور الشُّرفة ومضيت أحتسيه فاقتربت حتى وقفت عند العتبة رانية إلى البحر، فسألتها: تحبين الطبيعة؟

لم تُجِبْ، ولكنها لم تفهم. تُرى ماذا يشغل بالها؟ ولكن لا ريب أنها بالغريزة المرتوية من الأرض تتحفَّز للعمل الأول الذي تهتم به الطبيعة الخلابة. قلت: لديَّ في الحقيبة الكبرى كتب ولا صوان لها في الحجرة.

استعرضت قطع الأثاث بعينيها ثم قالت ببساطة: دعها في الحقيبة.

ابتسمت ثم سألتها: تعملين هنا من قديم؟

– كلَّا.

– والمكان أهو مناسب لراحتك؟

– نعم.

– ألا يضايقك الرجال الذين يجيئون ويذهبون؟

هزَّت مَنْكِبَيها ولم تُجِبْ بلا أو نعم، فقلت: إنهم مخيفون أحيانًا، أليس كذلك؟

تناولتِ الفنجال ثم قالت وهي تهمُّ بالذَّهاب: أنا لا أخاف!

أُعجبت بثقتها بنفسها. وإذا بي أعاني إحساسًا بالحسرة. وكعادتي جعلت أفكِّر فيما هو كائن وما ينبغي أن يكون. وتَهدَّدني الحزن مرَّةً أخرى.

تفقَّدتُ قطع الأثاث ثم قرَّ عزمي على شراء مكتبة صغيرة للكتب، أمَّا الترابيزة المستديرة القائمة بين صوان الملابس والشيزلونج فصالحة للكتابة.

•••

لبثت في دار الإذاعة بضع ساعات لتسجيل البرنامج الأسبوعي. تناولت الغداء في مطعم بترو بشارع صفيَّة زغلول. جلست في «على كيفك» لأحتسيَ فنجالًا من القهوة. مضيت أتسلَّى بمشاهدة الميدان المُغطَّى بمظلَّة من السُّحب. وقد انتشرت معاطف المطر المطوية على الأذرع. وفجأة دقَّ قلبي عندما مرَّ أمامي ذاك الرجل. فوزي! انحنيت إلى الأمام قليلًا حتى أوشك جبيني أن يمسَّ الزجاج لأتأكَّد من هُويَّته. كلَّا، ليس بفوزي، ليس بفوزي على وجه اليقين. ولكن ما أعظم التماثل بينهما، ودريَّة حضرت بالتداعي كما يقال. وهي تحضر بلا قانون إلا قانونها الأزلي. أجل دريَّة. ماذا لو كان هو فوزي حقًّا؟ وماذا لو تلاقت الأعين؟ إذا رأيت صديقًا حميمًا وجَبت عليك معانقته. وهو أيضًا بمنزلة الأستاذ. لتكن معانقة حارَّة وإن أَدْمَتك الأشواك. وادْعه إلى فنجال قهوة فبذلك تقضي آداب الضيافة.

– أهلًا .. أهلًا .. ماذا جاء بك إلى الإسكندرية في هذا الوقت من العام؟

– زيارة عائلية.

هذا يعني أنه جاء ليمارس نشاطًا ولكنه يخفيه عنِّي كما يَجْدُر به. على أنني قلت: أتمنَّى لك إقامة دائمة.

– لم نرَك منذ عامين، وبالدقة منذ تخرُّجك.

– بلى، فقد عُيِّنت في محطة الإسكندرية كما تعلم!

– أعني أنك هجرتنا تمامًا.

– بعض المتاعب .. أعني صادفَتْني بعضُ المتاعب.

– قد يكون من الحكمة ألَّا يستمرَّ الإنسان في عمل لا يناسبه.

اجتاحتني كبرياء عمياء فقلت: وقد لا يستمرُّ في العمل أيضًا إذا كفَّ عن الإيمان به.

تمهَّل كعادته ليزن كلماته ثم قال: قيل إن أخاك …

قاطعته باستياء: لست قاصرًا.

فضحك قائلًا: أغضبتك؟ .. معذرة.

توتَّرت أعصابي. دريَّة. وتساقط رذاذ فتمنَّيت أن ينهلَّ المطر ليخلوَ الميدان من البشر. عزيزتي، لا تصدِّقي. قديمًا قال حكيم إننا قد نكذب أحيانًا لنُقنع الآخرين بأننا صادقون. وعددت ألحظ صديقي المخيف فسألني: ألم تعد تهتمُّ بشيء؟

فضحكت. كادت تندُّ عني ضحكة. وقلت: ما دمت أحيا فلا بُدَّ أن أهتمَّ بشيء.

– مثل ماذا؟

– ألا ترى أنني حلقت ذقني وأنَّني أحكمت عَقْد الكرافتة؟

فسألني جادًّا: وماذا أيضًا؟

– هل شاهدت فيلم مترو الجديد؟

ابتسم ثم قال: فكرة .. فلنشاهد فيلمًا رأسماليًّا.

•••

زارتني مدام ماريانا في حجرتي زيارة مجاملة. ينقصك شيء؟ أي خدمة؟ كن صريحًا، كان أخوك صريحًا وكان شهمًا بكل معنى الكلمة، وهو قوي ضخم عملاق، أمَّا أنت فدقيق متناسق ولكنك قوي أيضًا، اعتبر البنسيون بيتك. واعتبرني صديقة، صديقة بكل معنى الكلمة.

ولكنها لم تأتِ في الحقيقة للمجاملة، أو لم تكن المجاملة إلا وسيلة فحسب، لقد جاءت أصلًا للاعتراف، أو لتحقيق الذات عن طريق شفوي. هكذا تطوَّعت برواية تاريخ حياتها، نشأتها الناعمة المُنعَّمة، حبها وزواجها الأول من كابتن إنجليزي، زواجها الثاني من ملك البطارخ وقصر الإبراهيمية، ثم فترة الانحدار، ولكن أي انحدار؟! كان بنسيون السادة، الباشوات والبيكوات، أيام الحرب.

ودَعَتْني إلى البوح بأسرار حياتي، طوفان من الأسئلة، امرأة غريبة ومُسلية ومُرهقة، امرأة عند الزوال، لم أشهدها وهي عروس الصالونات، ولكن يمكن تخيُّلها، على ضوء الفاتنات والطغاة يمكن تخيُّلها، ولكني لم أعرفها إلا وهي خرابة أثرية تتعلَّق عبثًا بأذيال الحياة.

وعلى مائدة الإفطار تعرَّفت بالنزلاء. أسرة متنافرة غريبة. وإني لفي حاجة إلى تسلية. إذا تغلَّبت على ما يشدُّني إلى الداخل فقد أنعم بصاحب أو بصديق. لِمَ لا؟ لنطرح جانبًا عامر وجدي وطلبة مرزوق فهما من جيل راحل. ولكن ماذا عن سرحان البحيري وحسني علَّام؟ في عينَي سرحان جاذبية فطرية وهو ودود فيما يبدو رغم صوته المزعج ولكن ماذا عن اهتماماته؟ أمَّا الآخر .. حسني علام .. فهو مثير للأعصاب، هكذا يبدو لأول وهلة على الأقل، متغطرس الصمت والتحفُّظ، غاظني بنيانه المُحكَم ورأسه الكبير المرتفع وتربَّعه على كرسيِّه كأنه حاكم، أجل حاكم ولكن بلا ولاية وبلا محتوى، ولعلَّه لا يتبسَّط في الحديث مع أحد إلا إذا وثِقَ من أنه أتفه منه. وقلت لنفسي: على الذي يرضى بهجر الدير أن يوطِّن النفس على معاشرة الأرذال. وكالعادة تملَّكني الانطواء حيال الغرباء. وقلت سيقولون .. سيظنون. وقديمًا خسرت بذلك الفرض حياتي.

•••

دهشتُ عندما رأيت سرحان البحيري داخلًا عليَّ في حجرة مكتبي بالإذاعة. تألق وجهه ببشاشة صديق قديم، ثم صافحني بحرارة وهو يقول: كنت مارًّا تحت الإذاعة فقلت أسلِّم وأشرب القهوة.

رحَّبت به، وطلبت القهوة، فقال: سأطالبك يومًا بإطْلَاعي على أسرار الإذاعة!

بكل سرور يا رجل المصطبة العتيدة التي لم أنعم بالجلوس عليها .. وبإيجاز حَدَّثَني عن عمله بشركة الإسكندرية وعضوية مجلس الإدارة وعضوية الوحدة الأساسية. وقلت له: يا له من حماس جميل يُعَدُّ درسًا للمتواكلين.

فنظر إليَّ بإمعان، ثم قال: إنه طريقنا للمشاركة في بناء عالمنا الجديد.

– آمنت بالاشتراكية من قبل الثورة؟

– الحق أني آمنت بها مع الثورة.

ودغدغني ميل إلى مناقشة إيمانه ولكني كبحته. وجرى الحديث إلى البنسيون فقال: إنه أسرة طريفة لا يشبع الإنسان منها.

فسألته بعد تردُّد: وحسني علَّام؟

– شاب ظريف هو الآخر.

– يبدو كأنه أبو الهول.

– في الظاهر فقط، ولكنه ظريف، وذو استعداد أصيل للعربدة.

ضحكنا معًا. لم يدرِ أنه يعرِّفني بنفسه أكثر مما يعرِّفني بالآخر. وعاد يقول محذِّرًا: إنه من الأعيان، بلا وظيفة، فيمكن القول إنه بلا شهادة، خذ بالك من هذه النقطة.

ثم واصل بلهجته الحكيمة المحذِّرة: إنه يملك مائة فدَّان، فهو يُخندق في الخطوط الأمامية، ولا يحمل شهادة علمية، وعليك أن تفهم البقية.

– ولماذا أقام في الإسكندرية؟

– إنه ولد حكيم، يبحث عن مشروع تِجاري ناجح.

فقلت ضاحكًا: عليه أن يغيِّر سَحْنته المتعجرفة وإلَّا هرب الزبائن. ثم خطر لي أن أسأله عمَّا يدعوه إلى الإقامة في بنسيون رغم أنه قديم عهد بالإسكندرية، فتفكَّر قليلًا ثم قال: فضَّلت بنسيونًا عامرًا بالناس عن شقَّة مُوحِشة داخل البلد.

•••

ليلة أمِّ كلثوم، ليلة الخمر والطَّرَب، فيها تزحزح النقاب عن أشياء من خبايا النفوس.

إلى سرحان البحيري يعود أكبر الفضل في إحيائها ولعلَّه تكلَّف أقلَّ نصيب من نفقاتها! استرقت نظرات إلى طلبة مرزوق لم يقرأ معانيها أحد. أجل، عاودتني ذكريات حميمة، أحلام دموية، صراعات طبقيَّة، كتب وتجمُّعات، بنيان من الأفكار راسخ الأساس. راعني ترهُّله وانكساره. وحركات شدقيه، وقبوعه فوق مقعده في استسلام، وتودُّده إلى الثورة بلا إيمان، وكأنه لم يكن من السلالة التي شيدت قلاعها من اللحم والدماء. أخيرًا جاء دوره ليمارس النفاق بعد أن خَلَفَ مجدَه المتهدِّم الذابل أُمَّة من المنافقين. وما حسني إلا جناح من النسر المهيض، لكنه جناح ما زال يرفرف ولا يخلو من قدرة على الطيران.

•••

– أقول إن تلك التناقضات قد مُحيت تمامًا.

– كلَّا .. إنها أُزيحت بتناقضات جديدة، وسوف تُثبت لك الأيام.

•••

أمَّا سرحان البحيري فسرى فينا كالروح بمرحٍ حارٍّ لا يفتر وهو طيِّب القلب، ومخلص، لِمَ لا؟ طموح بلا ريب، إنه التفسير المادي للثورة، وسرعان ما تبيَّن لي أن عامر وجدي هو أعظم الحاضرين فتنة وأحقُّهم بالتقدير والحب. عرفت أنه عامر وجدي الذي راجعت العديد من مقالاته عند إعدادي لبرنامج «أجيال من الثورة». لقد استولت عليَّ أفكاره المتطوِّرة بل والمتناقضة، وسحرني أسلوبه الذي بدأ بالسجع وانتهى إلى بساطة نسبية لا تخلو من فخامة وجزالة. وقد سُرَّ باطِّلاعي على مقالاته سرورًا دلَّ على عمق إحساسه بالزوال والنسيان والجحود، فأثَّر ذلك في نفسي تأثيرًا حادًّا مُحزنًا. وقبض على القشَّة التي ألقيتها إليه في الماء فمضَى يقصُّ عليَّ تاريخه الطويل، جهاده المستمر، التيارات التي لاطمته، والأبطال الذين آمن بهم.

•••

– وسعد زغلول؟ .. لقد عبده الجيل السابق عبادة.

– ما قيمة المعبودات القديمة؟ لقد طعن الرجل الثورة الحقيقية وهي في مهدها.

•••

ولكن ما بال طلبة مرزوق يرمقني بحذر؟ لقد ضبطت عينيه المرتابتين الكارهتين في مرآة المِشْجَب. لا يهم. ومثله خليق بأن يخاف خياله. وقد صببت له كأسًا فشكرني فسألته عن رأيه في نظرات عامر وجدي التاريخية، ولكنه قال كالمعتذر: ما مضى قد مضى، دعنا نتهيَّأ للسماع.

أُعجبتُ بزهرة وهي تقوم على خدمتنا ولكنَّها لا تكاد تبتسم إلَّا للنادر من نكاتنا، وتجلس عند البارفان لتراقبنا من بعيد بعينين جميلتين غير مبينتين. وقد سألها حسني علَّام وهي تقدِّم له شيئًا: وأنتِ يا زهرة .. هل تحبين الثورة؟

فتراجعت في حياء عن دائرة المعربدين، ولكن المدام أجابت عنها إجابة شافية. وقد بدا أنه يُحيِّيها بسؤاله ويدعوها إلى المشاركة في الحديث، ولكني لمحت في أعماقه ضيقًا يداريه فقلت: إنها تحبها بالفطرة.

ولكنه لم يسمعني أو أنه — الوغد — تجاهلني. وقد اختفى قبل نهاية السهرة، وأخبرت زهرة بأنه غادر البنسيون، وقد أُعجبت بعامر وجدي الذي ظلَّ ساهرًا يسمع ويطرب حتى مطلع الفجر. وسألته وقد نهضنا للنوم: هل سمعت في ماضيك صوتًا كهذا الصوت؟

فأجاب باسمًا: إنه الشيء الوحيد الذي لا نظير له في الماضي.

•••

رجوتها أن تجلس ولكنها لبثت واقفة مُستندة إلى صوان الملابس، تنظر معي إلى الأفق المُلَبَّد بالغيوم من زجاج الشرفة المغلق، وتنتظر أن أفرغ من احتساء الشاي. وكنت أعطيها قطعة من البسكوت الذي أحتفظ بقَدْرٍ منه فتَقْبلها عربونًا لصداقة نامية. إن قلبها الأبيض يشعر بمودَّتي واحترامي وإعجابي وكنت بذلك سعيدًا. وتساقط رذاذ، فانسابت قطراته على الزجاج فاهتزَّت صورة العالم الخارجي. سألتها عن بلدتها فأجابت. خمَّنتُ السبب الذي اقتلعها من أرضها، ولكني قلت: لو بقيت في قريتك لسارع إليكِ ابن الحلال.

فقصَّت عليَّ قصة ضارية، عن الجَدِّ والزوج العجوز .. ثم قالت: وهربت.

انزعجت للخبر فقلت: ولكنكِ لن تسلمي من الألسنة.

فقالت باستهانة: إنه خير مما هربت منه!

أُعجبت بها لحدِّ الإكبار، ولكن أشجتني وحدتها، غير أنها كانت تقف مليئة بالثقة كمَعْدِن غير قابل للكسر. وكان الرذاذ قد نقش الزجاج بالغبش فاختفى العالم أو كاد.

•••

قنبلة؟ صاروخ؟ فكرة جنونية. كلَّا إنها سيارة، الأحمق، يا لَلشيطان! إنه حسني علَّام. ماذا يدفعه إلى الطيران؟ سر لا يعلمه إلا هو، كلَّا .. فإلى جانبه تجلس فتاة، كأنها صونيا، أهي صونيا؟ صونيا أو غيرها فليذهب إلى الجحيم.

وما كدت أجلس في مكتبي حتى لحق بي زميلي وهو يقول: قُبض على أصحابك أمس.

غشيتني لحظة غيبوبة. خجلت من أن أعلِّق بكلمة واحدة فقال: والسبب فيما يقال …

قاطعته بحدَّة: لا أهمية لذلك.

– ثمة همس عن …

– قلت لا أهمية لذلك.

اعتمد على مكتبي بذراعيه الممدودتين وقال: كان أخوك حكيمًا.

فقلت وأنا أنفخ: نِعْمَ الحكيم أخي!

وقلت لنفسي لا شكَّ أن حسني علَّام قد بلغ الآن أقصى الأرض، وأن صونيا ترتعد من الخوف واللذَّة.

•••

– ولا كلمة، سأقتلعك من الوكر!

– ولكني لم أعد طفلًا.

– ألم تُسرع بأمِّك إلى القبر؟

– اتَّفقنا على ألا نذكر ذلك الماضي البعيد.

– ولكني أراه حاضرًا، ستذهب معي إلى الإسكندرية ولو اضطررت إلى أخذك بالقوة.

– عاملني كرجل من فضلك.

– إنك ساذج، أتظننا غافلين، لسنا غافلين.

وتفرَّس في وجهي بقوة ثم قال: إنك غِرٌّ جاهل، ماذا تحسبهم؟ أبطالًا .. هه؟ إني أعرفهم خيرًا منك، وستذهب معي طَوْعًا أو كَرْهًا.

•••

فتحت لي الباب. كنت خافقَ القلب، جافَّ الحلق، مشتَّت الفكر. برز لي وجهها من الدهليز القاتم أبيض شاحبًا. حدَّقت فيَّ بعينَين جامدتَين، لم تعرفني أول الأمر، ثم اتسعت عيناها لوقع مفاجأة غير متوقَّعة، وهمست: أستاذ منصور!

تنحَّت جانبًا فدخلت وأنا أقول: كيف حالك يا دريَّة؟

تقدَّمتني إلى حجرة الجلوس، وقد أضفى منظرها الحزين على كل شيء كآبة وتجهُّمًا. جلسنا على مقعدَين متقاربَين، وعلى الحائط أمامنا صورته تُطِلُّ علينا من إطار أسود وهو يسدِّد إلينا الفوتوغرافيا كأنما يلتقط لنا صورة، تبادلنا نظرات صامتة حزينة، ثم سألت: متى جئت إلى القاهرة؟

– جئت من المحطة رأسًا.

– إذن علمت …؟

– أجل، في مكتبي، ثم أخذت ديزل الساعة الثانية مساءً.

ونظرت إلى صورته وأنا أتشمَّم رائحة التبغ الذي يُدخِّنه وهي مستكنَّة ما تزال في جوِّ الحجرة، ثم سألت: هل قُبض عليهم جميعًا؟

– أظنُّ ذلك.

– وأين ذهبوا بهم؟

– لا أدري.

تشعَّث شعرها في إهمال، وشحبت بشرتها البيضاء، وضعضعت عينيها نظرة ذابلة مسهَّدة.

– وأنتِ؟

– كما ترى.

وحيدة بلا مورد. كان أستاذًا مساعدًا بكلية الاقتصاد ولكن بلا مُدَّخَرات. كل شيء واضح وضوح الكآبة التي تخنق المكان كلَّه.

– دريَّة، أنتِ زميلة قديمة، وهو صديق، أعزُّ صديق رغم كل شيء.

ثم استجمعت شجاعتي وواصلت: أنا موظَّف، ولي إيراد لا بأس به أيضًا، ولست مسئولًا عن أحد كما تعلمين.

حرَّكت رأسها في ضيق. تمتمت: ولكنك تعلم أنني لا …

قاطعتها بحرارة: لا أظنك ترفضين مساعدة تافهة من صديق قديم.

– الطبيعي أن أجد عملًا مناسبًا.

– عندما يتيسر ذلك، ولن يتيسر قبل مُضيِّ وقت.

ما زالت الحجرة مطبوعة بروحه. كعهدي بها في الأيام الخالية. الكنبة الاستديو ومكتبتها العامرة، المسجِّل، الجرامفون، التليفزيون والراديو، الفوتوغرافيا والأفلام وألبوم الصور، ولكن أين الصورة التي جمعت بيننا في أوبرج الفيوم؟ لا شك أنه رمى بها في لحظة الغضب. وكانت عينانا تلتقيان ثم تنفصلان في حذر، ولا شكَّ أن مشاعر متجانسة طاردتنا، وأنَّ ذكريات مشتركة ناوشتنا، وأن الماضي والحاضر والمستقبل يتمثَّل في صورة طريق مجهول. وسألتها: لديكِ خطة؟

– لم أجمع أفكاري بعد.

تردَّدت قليلًا ثم سألت: ألم تفكِّري في الكتابة إليَّ؟

تردَّدت قليلًا ثم أجابت: كلَّا.

– ولكن احتمال حضوري لا شكَّ خطر ببالك.

لم تُجب. قامت فغابت دقائق ثم رجعت بالشاي، وأشعلنا سيجارتين. خُيِّل إليَّ أني أسترجع رائحة قديمة مفتقدة. وكان لا بُدَّ مما ليس منه بُدٌّ، فقلت وعذاباتي القديمة تجتاحني: أظنك علمت بمحاولاتي الفاشلة في العودة.

لازمت الصمت فقلت: لم ألقَ أيَّ تشجيع، وهذا أخفُّ تعبير يمكن اختياره.

تمتمت برجاء: لننسَ الماضي.

– حتى فوزي نفسه تجاهلني!

– قلت لننس الماضي.

– كلَّا يا دريَّة.

ثم قلت بامتعاض وألم: ولست أجهل ما قيل عني، قالوا إنني أسعى للعودة لأعمل عينًا لأخي!

هتفت بتبرُّم وضيق: ألا يكفيني ما بي من حزن!

اعتذرت إليها بنظرة ذليلة وقلت: دريَّة، إنكِ تدركين شعوري تمامًا.

– إني ممتنَّة.

فهتفت كالملدوغ: أعني شعوري بأنني كان يجب أن أكون معهم.

فقالت بحزن: لا جدوى من تعذيب نفسك.

– أودُّ .. أودُّ أن أعرف رأيك فيَّ بصراحة؟

ساد الصمت فترة قصيرة مشحونة بالعذاب ثم تمتمت: لقد استقبلتك في بيتي، أو إن شئت في بيته، وفي هذا الكفاية.

تنهَّدت بصوت مسموع. لم يطمئنَّ قلبي تمامًا. وكنت على ثقة من أني سأُرَدُّ إلى الجحيم كما كنت، ولكن لم يكن الوقت مناسبًا لتبرير الأخطاء. وقلت: سأزوركِ بين حين وآخر، وعليكِ أن تكتبي لي لدى أي طارئ.

•••

أرهقني السفر ذَهابًا وإيابًا، فقرَّرتُ البقاء في البنسيون. انضممت إلى الجالسين حول الراديو في المدخل، ومن حسن الحظ أنهم كانوا أحبَّ أهل الدار إلى نفسي: عامر وجدي والمدام وزهرة. شغلتني أفكاري عن الحديث حولي حتى سمعت المدام وهي تقول لي: إنك دائمًا غائب عنا بأفكارك.

فقال عامر وجدي وهو يرمقني بمودَّة: ذاك شأن الأذكياء.

وظلَّ يرمقني بعينيه الغائمتَين ثم تساءل: ألا تفكِّر في استخلاص مادة كتاب من برامجك الثقافية؟

فقلت دون مبالاة بالحقيقة: إني أفكِّر في كتابة برنامج عن تاريخ الخيانة في مصر.

– الخيانة! .. يا له من موضوع غزير متشعِّب!

وضحك طويلًا ثم عاد يقول: عليك أن ترجع إليَّ، سأُمدُّك بالمراجع والذكريات.

•••

– أنا أحبكِ، وأنتِ تحبِّينني، دعيني أكلِّمه.

– إنك مجنون!

– إنه عاقل ومعقول وسيفهمنا تمامًا، وسيغفر لنا.

– لكنَّه يحبني، ويعُدُّك صديقه الأوحد، ألا تفهم؟

– إنه يكره الزيف، إني أفهمه تمامًا.

•••

واستمرَّ عامر وجدي قائلًا: برنامج عن الخيانة، يا له من برنامج! ولكن احرص في النهاية على أن تؤلِّف كتابًا وإلا نسِيَك الناس كما نسوني، لم يبقَ من الذين لم يُدوِّنوا أفكارهم إلَّا سقراط.

وكانت المدام تتابع أغنية يونانية طلبتها فيما يطلبه المستمعون، أغنية على لسان عذراء تُعدِّد المزايا التي تتمناها في فتى الأحلام أو هكذا قالت المدام. إن منظرها وهي تستمع إلى الأغنية مُغمضة العينين من الطرب منظر مؤثِّر حقًّا، خلاصة مبكية مضحكة لحبِّ الحياة.

وقال عامر وجدي: وقد خلد بفضل تلميذه أفلاطون. ولكن غريب أن رضيَ بتجرُّع السمِّ متجاهلًا فرص الهرب.

فقلت بمرارة: أجل، ورغم أنه لم يكن يعاني شعورًا بالإثم أو الخطأ.

– وكم من أناس إذا قارنتهم بسقراط اقتنعت بأنهم لا يمكن أن يرجعوا معه إلى أصل جنسيٍّ واحد.

فقلت بمرارة وجنون: أولئك هم الخونة.

ثمة حقائق وثمة أساطير، الحياة يا بني محيِّرة حقًّا.

– ولكنك من جيل الإيمان.

فضحك وهو يقول: الإيمان .. الشك .. إنها مثل النهار والليل.

– ماذا تعني من فضلك؟

فسكت لحظات ثم قال: أعني أنهما لا ينفصلان. وأنت يا بني، من أي جيل؟

فقلت بضجر: العبرة بما نعمل لا بما نفكِّر، وإذن فأنا مجرَّد مشروع.

وضحكت المدام قائلة: نعمل .. نفكر .. ما هذا؟!

وضحك العجوز أيضًا وقال: في كثير من الأحيان يُخيَّل إلى المفكر المرهَق أن أثمن ما في الوجود يتلخَّص في أكلة شهية وامرأة جميلة.

قهقهت المدام وقالت: برافو .. برافو.

وضحكت زهرة أيضًا، فسمعت ضحكتها لأول مرَّة، فانجابت عني الهموم إلى حين. وأعقب ذلك دقائق صمت فتجلَّى صوت الهواء وهو يدوِّي في الخارج ويلطم الجدران فتصطكُّ النوافذ المغلقة. وعاودني القلق والكآبة فقلت مخاطبًا عامر وجدي: أن تؤمن وأن تعمل فهذا هو المَثَل الأعلى، ألَّا تؤمن فذاك طريق آخر اسمه الضياع، أن تؤمن وتعجز عن العمل فهذا هو الجحيم.

– أجل، إنك لم تشهد سعد في شيخوخته وهو يتحدَّى النفي والموت.

نظرت إلى زهرة، المنفية الوحيدة، وهي تجلس مُفْعَمة ثقةً وأملًا فغبطتها، بل حسدتها.

•••

زُرت درية بعد مُضيِّ أسبوع من الزيارة الأولى. استعاد مسكنها أناقته المعهودة، وتبدَّت هي في مظهر لا تعوزه العناية، ولكني قرأت في عينيها السقم. أجل، وحيدة وبلا عمل أو أمل، قلت لها: أرجو ألا تضايقكِ زياراتي.

فقالت بصوت لم أتبيَّن فيه معنًى: على الأقل فهي تشعرني بأنني ما زلت على قيد الحياة.

تقبَّض قلبي ألمًا. تخيلت الحال على حقيقتها الخشنة الجرداء. وددت أن أعرب عن عواطفي ولكن الماضي عقد لساني. واتفق رأينا على أن في العمل النجاة من السقم، ولكن كيف؟ إنها تحمل ليسانس آداب في اللغات القديمة ولكن ثمة عقبات لا يُستهان بها.

– لا تحبسي نفسك في البيت.

– فكَّرت في ذلك، ولكني لم أتحرَّك بعد.

– لو كان في الإمكان أن أزورك كل يوم.

ابتسمت. تفكَّرت. ثم قالت: يحسن أن نتقابل خارج البيت.

لم أرتح لقولها ولكني اقتنعت به فقلت: فكرة مقبولة.

وتم اللقاء الثالث في حديقة الحيوان. طالعني وجه الزمان الأول عدا نظرة العين. بجماله ورونقه وإن خلا من رُوح المَرَح والبهجة. وسِرْنا دقائق إلى جانب السور المطلِّ على طريق الجامعة، طريق ذكريات مشتركة لا يمكن أن تُنسى. وقالت: إنك تكلِّف نفسك ما لا يُطاق.

– أنتِ لا تدرين كم أني سعيد بذلك.

أكان أجدر بي أن أصرِّح بالسعادة المزعومة؟ وعدت أقول: الوحدة يا دريَّة، إنها شرُّ ما يُبتلى به الإنسان.

قلت ذلك بنبرة المجرِّب، ربما عن قصد، فقالت: لم أزر الحديقة منذ أيام الجامعة.

فقلت دون مبالاة بجملتها الاعتراضية: إني وحيد أيضًا، وأعرف مذاق الوَحْدة.

بدت كالمحاصرة. ضايقني ذلك وزاد عواطفي تعقيدًا والْتواءً. ورغم ذلك أوشك الفيضان أن يجرف السدَّ. وعندما التقت عينانا خُيِّل إليَّ أنها جفلت. وإذا بها تقول: يحزنني أنني أتريَّض على حين أنه .. هناك.

ولحَظَت وجومي فتساءلت: ما لك؟

– لا أكاد أتحرَّر من الإحساس بالذنب.

– أخشى أن تجد في صحبتي مصدرًا للعذاب.

– كلَّا، ولكن ذلك الإحساس الجهنَّمي يتغذَّى على اليأس.

– علينا أن نجد في اللقاء شيئًا من العزاء.

– واليأس يدفع للتهور، ولأن يداويَ المريض الداء بالداء!

– ماذا تعني؟

– أعني …

تردَّدت قليلًا ثم واصلت: أعني … أن تعذِري حماقتي لو قلت لك يومًا تحت دفعة تيار جارف إني أحبك، كما أحببتك في زماننا الأول.

وأفقت من تهوُّري. أي حماقة، أي جنون، ما أبغي؟ كنت مندفعًا وراء غاية محدَّدة. كمن يُلقي بنفسه في الماء ليطفئ ملابسه المشتعلة. وقالت بعتاب: منصور!

فتراجعت كمن تلقَّى لطمة شديدة، وقلت بخذلان: لا أدري ماذا قلت، ولا كيف قلته. ولكن ثقي من أنني لا يمكن أن أسعى للسعادة.

وقلت لنفسي وأنا أستقلُّ الديزل: «في الرسائل يجد الإنسان شجاعة أكثر.»

•••

استيقظت على ضوضاء وصخب .. أهو صوت يندُّ عن الصراع الذي يتلاطم في باطني؟ كلَّا .. هناك صراع من نوع آخر في البنسيون. غادرت حجرتي فرأيت المنظر الأخير من معركة. أدركت من آثارها المطبوعة على الوجوه أن سرحان وامرأة غريبة وزهرة كانوا أبطالها أو ضحاياها. ولكن من المرأة؟ .. وما عَلاقة زهرة بالأمر كلِّه؟

وجاءتني زهرة بالشاي كالعادة، فراحت تقصُّ عليَّ الواقعة كما وقعت، باندفاع امرأة وراء سرحان وهو عائد إلى البنسيون، واشتباكها معه في عِراك. وكيف جُرَّت إلى العراك وهي تخلِّص بينهما.

– ولكن مَن المرأة يا زهرة؟

– لا أعرف.

– سمعت من المدام أنها كانت خطيبة لسرحان؟

تردَّدت مليًّا ثم قالت: ربما.

– ولِمَ انقضَّت عليكِ أنتِ؟

– قلت إني أردت التخليص بينهما.

– ولكن ذلك لا يبرر اشتباكها معكِ.

– حصل.

نظرت إليها برقَّة ومودَّة ثم سألتها: هل بينك وبين …؟

لكنها تجاهلت سؤالي فقلت: لا عيب في ذلك، وأنا صديق، وباسم الصداقة أسألك.

فأحنت رأسها بالإيجاب.

– إذن فأنت مخطوبة وتخفين عني؟

حرَّكت رأسها نفيًا. فقلت: لمْ تُعلَن الخطوبة بعد؟

وأقلقني سكوتها فسألت: متى تُعلَن؟

أجابت بثقة: كل شيء بأوانه.

هجس هاجس الخوف في صدري فقلت: لكنه هجر الأخرى كما رأيتِ؟

فقالت ببراءة: إنه لا يحبُّها.

– فلِمَ خطبها إذن؟

نظرت إليَّ بإشفاق ثم تشجَّعت قائلة: لم تكن في الحقيقة خطيبته، إنها امرأة ساقطة.

– الخيانة هي الخيانة على أيِّ حال.

وقع القول من مسمعي موقعًا غريبًا فاجعًا فوجدت له في فمي طعم السمِّ وعواقبه. وحنقت على سرحان ضمن حنقي على نفسي فلعنته ألف لعنة.

وعندما جاءتني في نفس الموعد بعد ذلك بأيام قالت لي بروح مرحة عالية: أستاذ .. هل أبوح لك بسر؟

نظرت إليها مستطلعًا، ومتوقِّعًا المزيد عن عَلاقتها بسرحان ولكنها قالت لي: سأتعلم.

لم أفهم في الواقع شيئًا، وظللت أنظر إليها مستطلعًا. فقالت: اتفقت مع جارتنا ست عليَّة محمد المُدرِّسة على تعليمي.

ذهلت .. وهتفت: حقًّا؟

– نعم .. اتفقنا على كل شيء.

شيء رائع يا زهرة، كيف فكَّرتِ في ذلك؟

قالت بفَخَار: فكَّرت فيه بنفسي.

– نعم .. ولكن ماذا جعلكِ تفكِّرين فيه؟

– قلت لن أبقى جاهلة إلى الأبد، ثم إن لي غرضًا آخر.

– غرض آخر؟

– نعم .. سأتعلَّم مهنة!

رمقتها بإكبار وسعادة وهتفت: رائع .. رائع .. رائع يا زهرة.

لبثت منفعلًا بالسعادة والإكبار وأنا منفرد بنفسي في الحجرة المغلقة. كان المطر يهطل، وهدير الأمواج يتتابع في دفعات مدوِّية متقطِّعة راطنًا بلغته المجهولة. ثم مضى الانفعال يهدأ وينخفض ويبرد حتى انداح في مستنقع من ماء آسن يغشاه زَبَد الكآبة. إن الصعود يذكِّر بالهبوط، والقوة بالضعف، والبراءة بالعفن، والأمل باليأس. وللمرة الثانية لم أجد مَن أصبُّ عليه جام غضبي إلَّا شخصية سرحان البحيري.

•••

اخترنا مجلسنا تحت شجرة كافور بكازينو الشاطئ. وكانت الشمس المائلة عن السمت تريق علينا شعاعها الدافئ فتذيب برد القاهرة القارص. وقالت وهي تتفادى طيلة الوقت مِن تلاقي عينينا: ما كان يجب أن أجيء.

فقلت بطُمأنينة: ولكنكِ جئت فحسم مجيئك التردُّد.

– لم يحسم شيئًا، ثق من ذلك!

نظرت إليها وبي تصميم على القفز إلى الهاوية: إني مقتنع بأنَّ مجيئك …

– كلَّا، المسألة أني لم أرضَ أن أبقى وحيدة مع رسائلك.

– لا أظنُّ أن رسائلي تتضمَّن جديدًا.

– ولكنك أرسلتها لشخص لا وجود له!

فلمست يدها المطروحة على المائدة كأنما لأثبت لها الوجود، ولكنَّها سحبتها وهي تقول: لقد أرسلتها بعد زمانها بأربع سنوات!

– إنها تتضمن أشياء تُجاوز بطبعها الزمان والمكان.

– ألا ترى أنني ضعيفة وتعيسة!

– وأنا كذلك، إني في رأي أصحابنا جاسوس. وفي رأي نفسي خائن. ولا ملجأ لي إلا أنت.

– أي دواء.

– لا يبقى غيره إلَّا الموت أو الجنون.

نفخت في توتُّر معذب ثم تمتمت: إني خائنة من قديم الزمان.

– بل كنت مثال الإخلاص الزائف.

– تعريف آخر للخيانة التي مزَّقتني.

فقلت بغضب: إننا نتمزَّق بلا سبب حقيقي، وذاك جوهر المأساة.

ونظرنا إلى النيل بلونه الرَّصاصي وأمواجه شبه الساكنة. ثم تسلَّلت يدي من وراء النافذة إلى يدها فاحتوتها بحنان، وشدَّت قليلًا لتُسكت مقاومتها الضعيفة. وهمست: لا يجوز أن نذعن لرواسب غير صحية.

فقالت بحزن: إننا نتدهور معًا بأكثر مما تصوَّرت.

– لكنا سنخرج من التجربة كالمعدِن النقي.

ووجدت رغبة طاغية تدفعني إلى الحضيض كأنما الحضيض غاية منشودة تُطلب لذاتها، أو كأنما الجحيم أمسى هدف الإنسان النَّهِم إلى السعادة.

•••

التقيت في محطة مصر بصديق قديم، صحفي وذي ميول تقدُّمية ولكنه لم يشتغل بالسياسة. جلسنا في البوفيه، أنا في انتظار الديزل وهو في انتظار شخص قادم من القنال. قال: عليَّ أن أشكر هذه الفرصة الطيبة فقد كنت أودُّ أن أقابلك.

حسن، ماذا يريد؟ إنني لم أرَه منذ تعييني في الإسكندرية. وإذا به يسألني: ماذا يجيء بك إلى القاهرة؟

حدجته بدهشة. أجل .. وكان يدرك أن سؤاله سيثير دهشتي .. فقال: لتشفع صداقتنا لصراحتي، يقولون إنك تجيء من أجل مدام فوزي.

لم أنزعج الانزعاج الذي توقَّعه. فقد ساورتنا — أنا ودريَّة — الشكوك من قبل، فقلت بفتور: إنها في حاجة إلى صديق كما تعلم.

– وأعلم أيضًا …

فقاطعته باستهانة: وتعلم أنني أحبها من قديم!

فتساءل بإشفاق: وفوزي؟!

– إنه أعظم مما يظن الآخرون.

فقال بضيق: إني — كصديق — غير سعيد بما يُقال.

– حدثني عما يُقال.

ولكنه سكت .. فقلت بعصبية: إنني جاسوس، إنني هربت في الوقت المناسب، ثم تسلَّلت إلى بيت الصديق القديم!

– لم أقصد إلَّا …

– وأنت تصدِّق ذلك؟

– لا .. لا .. ولن أسامحك إذا توهَّمت ذلك.

•••

تساءلت في طريق عودتي إلى الإسكندرية: هل أستحقُّ نعمة الحياة؟ إني أبحث عن حل لمتناقضات شتى، حل عسير فيما يبدو. فلِمَ لا يكون الموت هو الحل الأخير؟ وأردت أن أجلس بعض الوقت في التريانون، ولكنني لمحت في الخارج سرحان البحيري وحسني علَّام جالسَين يتحادثان فعافتهما نفسي وعدلت عن الدخول. كانت سُحب متقاربة الألوان تركض بسرعة ملحوظة وهي دانية، والهواء يهبُّ في دفعات منعشة. سرت والكورنيش متحدِّيًا وقد ارتفع الماء وتطاير رشاشه إلى الطريق. وقلت لو أنني كنت أملك أشياء ثمينة لحطمتها. وقلت إن التوازن لن يرجع إلى الأشياء إلا بزلزال شامل.

وجاءتني زهرة بالشاي. قالت لي باعتداد الواثق من اهتمامي بشئونها: جاء أهلي ليأخذوني ولكنني رفضت.

ورغم فتور مشاعري عامَّة فإن اهتمامي بزهرة لم يمت، فقلت لها: أحسنتِ!

– حتى الرجل الطيب، عامر بك، نصحني بالرجوع إلى القرية.

– إنه يخاف عليكِ، هذا كلُّ ما هنالك.

فرمقتني بإمعان ثم قالت: ولكنك لا تبتسم كعادتك.

ابتسمت إليها بلا روح فقالت: أنا فاهمة!

– فاهمة؟

– نعم، سفرك كلَّ أسبوع وانشغال بالك!

ضحكتُ على رغمي، فقالت بسعادة: أتمنَّى أن أشهد فرحك!

– ربنا يسمع منك يا زهرة.

وتم التفاهم على ضوء نظرة متبادلة. وأشارت بيدها كأنما تدعوني إلى المرح فقلت: هناك شخص ينغِّص عليَّ صفوي.

– من هو؟

– شخص خان دينه!

فحرَّكت يدها مستنكرة.

– وخان صديقه وأستاذه!

واصلت حركتها الاستنكارية فسألتها: هل يغفر له الذنب أنه يُحب؟

فقالت مستفظعة: حبُّ الخائن نجس مثله!

•••

انغمست في العمل. وكلما اضطربت أعصابي أو تشتَّت فكري سافرت إلى القاهرة. هنالك سعادة الحب. ولكن أي سعادة؟ لقد سعدت حقًّا عندما كفَّت عن المقاومة فتركت يدها في يدي. ولكني عانيت بعد ذلك شعورًا محمومًا قلقًا، وسيطرت عليَّ فكرة غريبة وهي أن الحب طريق الموت، وأنني بالإفراط في كل شيء قد أبلغ نهاية الطريق. وقلت لها مرة: أحببتك من قديم، إنك تذكرين ذلك، ثم فوجئت بخطوبتك.

فقالت بحزن: إنك تبدو متردِّدًا فيسهُل إساءة فهمك.

ثم قالت بنبرات اعتراف: قبلت فوزي تأثُّرًا بشخصيته. إنه كما تعلم يستحقُّ كلَّ إكبار.

وكان يجلس حولنا كثيرون من العشَّاق فسألتها: هل نحن سعداء؟

فحَدَجَتْني باستغراب وقالت: يا له من سؤال يا منصور!

– أعني ربما ساءك أنني جعلت منك حديث المجالس.

– لا يهمُّني ذلك، أمَّا فوزي …

أرادت بلا شك أن تردِّد ما قلته مرَّات عن سعة إدراكه وكبر قلبه ولكنها سكتت. وكرهت إدارة الأسطوانة من جديد. وإذا بي أسألها: دريَّة، هل داخلك الشك فيَّ كالآخرين؟

قطَّبت في استياء لأنها حذَّرتني أكثر من مرَّة من طَرْق ذلك الموضوع ولكني قلت برغبة مُلحَّة: لو فعلتِ لكان أمرًا طبيعيًّا.

تحوَّلت إليَّ محتجة وسألت: لِمَ تنبش عن العذاب؟

تراجعتُ باسمًا وأنا أقول: طالما أسأل نفسي عمَّا دعاك للخروج عن الإجماع؟

فقالت بضجر: الحق أنه ليس لك طبيعة الخَوَنة!

– وما طبيعة الخَوَنة؟ إني ضعيف، إذعاني لأخي ضعف لا شكَّ فيه، وإني أُرشِّح الضعفاء للخيانة.

تناولت يدي بين يديها وقالت برجاء: لا تُعذِّب نفسك .. لا تُعذِّبنا.

وقلت لنفسي إنها لا تدري أنها أداة من أدوات التعذيب.

•••

دخلت المدام حجرتي فأيقنت من أنني سأسمع أنباء. إنها تطير بالأخبار — كفراشة — من ناحية إلى أخرى. حسن. أما سمعت يا مسيو منصور؟! محمود أبو العباس بياع الجرائد خطب زهرة، ولكنها رفضته.

– هو الجنون نفسه يا مسيو منصور!

فقلت ببساطة: إنها لا تحبُّه يا مدام.

– قلبها سائر في طريق خاطئ.

وغمزت بعينها. وقلت لنفسي الويل له إذا غدر بها، وتملَّكتني بغتة فكرة غريبة، أو رغبة منحرفة، وهي أن يغدر بها لأُنزل به العقاب الذي يستحقُّه!

ومالت نحوي هامسة: انصحها من فضلك، ستعمل برأيك .. إنها تحبك.

وأثارني فعل الحب فبذلت أقصى جهدي لكي أكظم غضبي.

•••

– إنها من أصل طيِّب، شبه أرستقراطي، ولكنها لم تعد قدِّيسة، للعمل ظروفه القهرية كما تعلم، ولولاي لأُخليت شقَّتها وصودرت أموالها.

•••

الريح تسفع النوافذ بوابل المطر. هدير الأمواج يقتحم أعماقي. لم أشعر بدخول زهرة حتى وضعت قدح الشاي على الترابيزة أمامي. رحَّبت بها لتنتشلني من أفكاري السوداء. تبادلنا ابتسامة. قدَّمت لها قطعة البسكوت. وقلت ضاحكًا: ها هو ثاني عريس ترفضينه.

رمقتني بحذر فواصلت قائلًا: أتريدين رأيي يا زهرة؟ إني أفضِّل محمود على سرحان.

فقطَّبت قائلة: لأنك لا تعرفه.

– وهل عرفتِ الآخر كما يجب؟

فقالت بحدَّة: لا أحد يُصدِّق أنني كفء له!

– قولي ذلك لغير أصدقائك.

– إنه لا يفرِّق بين المرأة وبين الحذاء!

وضحكت فقصت عليَّ نادرة من تصرُّفاته وآرائه. فقلت: إنك تستطيعين أن تردِّي له التحية بأحسن منها.

ولكنها تحب سرحان وستظلُّ تحبه حتى يتزوج بها أو يغدر بها. وقلت: زهرة .. إني أحترم رأيك وفعلك، بودِّي أن أهنِّئك في القريب.

•••

تخلَّفت عن السفر إلى القاهرة لإنجاز أعمال عاجلة وهامَّة. اتصلت بي دريَّة بالتليفون مستغيثة من وحدتها المضنية. ولمَّا تلاقينا في الأسبوع التالي قالت لي بعصبية: جاء دوري لمطاردتك!

فقبَّلتُ يديها ونحن نستقلُّ بحجرة منفردة بفلورينا، ثم أوجزت لها أخباري المتضمِّنة عُذري. وكانت قلقة متوترة الأعصاب فأكثرت من التدخين، ولم أكن على حال أحسن. وقلت لها: كنت أدفن نفسي في العمل ولكني أطفو رغم إرادتي ويهمس لي صوت غريب بأنَّ ثمَّة خطأً في العمل، أو أنَّ أمرًا هامًّا فاتني تدبُّره، وكثيرًا ما أكتشف أنني نسيت شيئًا ضروريًّا في البنسيون أو في المكتب.

فقالت بلهفة: ولكنني وحيدة، ولم أعد أحتمل وحدتي.

– نحن في دوَّامة، ولا نُحرِّك يدًا لحلِّ مشكلتنا.

– والعمل؟

تفكَّرت قليلًا مطاوعًا المنطق وحده، ولكن أي منطق؟ لا منطق لمن تعتصره الانفعالات. كأنما كنت أُنقِّب عن تحدِّيات جديدة. قلت: لو سألنا العقل لأجاب بأنَّ علينا أن نفترق أو أن نسعى إلى الطلاق.

اتسعت عيناها الرماديَّتان في فزع، ربما لاستجابتها لا لنفورها، وهتفت: الطلاق!

فقلت بهدوء: ثم نبدأ حياة جديدة.

– تصرُّف خارق!

– لكنه طبيعي، وأخلاقي إن شئت.

أسندت رأسها إلى يدها ثم سكتت مُعْلِنةً إفلاسها، فقلت: ألم أقل إننا لا نحرِّك يدًا؟

ثم بعد فترة صمت: خبِّريني عن فوزي لو كان مكاني؟

فقالت بصوت متهافت: أنت تعلم أنه يحبني.

– ولكنه لن يُبقيَ عليكِ إذا علِمَ أنكِ تحبِّينني.

– ألا يتَّسم تفكيرك بطابع نظري جدًّا؟

– ولكني أعرف فوزي، وهذا واقع!

– تصور .. تصور أن يقول …

– إنكِ تخلَّيتِ عنه وهو في السجن، أليس كذلك؟ لا قيمة لذلك، تتخلَّيْن عنه لا عن مبادئه.

تخيَّلتُه وهو مستلقٍ على الكنبة الاستديو، يرمقني بعينيه اللوزيَّتَين السوداوَين، يُدخِّن غليونه، يُعالج همومًا لا حصرَ لها ولكنه لا يشكُّ في سعادته الزوجيَّة. وسألتني: فيم تفكِّر؟

فقلت: إن الحياة الحقَّة لا تجود بنفسها إلا للأكْفاء.

ثم تناولت يدها وأنا أقول: لنشرب كأسين ولنكفَّ عن التفكير.

•••

غبت عمَّا حولي. صهرني الغضب. مذ علمت بتهجُّم حسني علَّام على زهرة صهرني الغضب. كان يجلس معي في المدخل عامر وجدي والمدام، ولكني لم أسمع من حديثهما إلا وشًّا. وعلمت أيضًا بمشاجرة سرحان وحسني فتمنَّيت لو أنها استمرَّت حتى الموت، الموت لكليهما. تمنَّيتُ أيضًا أن أؤدِّب حسني ولكن لم يداخلني شكٌّ في قدرته على سحقي فكرهته حتى الجنون. وغادرت المدام المكان فنبَّهتني إلى ما حولي. نظرت إلى عامر وجدي فرأيته يرنو إليَّ باهتمام ومَحبَّة فتخفَّفت من انفعالات القتال المحتدِمة في صدري، وتلقيت فكرة عجيبة بأن الرجل العجوز كان صديقًا حميمًا لأبي أو لجَدِّي. وراح يسألني عن أحلامي فقلت باقتضاب: يُخيَّل إليَّ أنه لا مستقبل لي.

فابتسم ابتسامة مُجرِّب لكل شيء، وكأنما مرَّ به سخطي مرَّات بشتى الصور، ثم قال: الشباب عدوُّ الرضا، هذا كل ما هنالك.

– لقد استغرقني الماضي فبتُّ أعتقد أنه لا يوجد مستقبل.

قال بجِديَّة وقد زايل الابتسام وجهه: ثمَّة صدمة، عثرة، سوء حظ، ولكنك تستحقُّ الحياة بكل جدارة.

كرهت أن أناقش معه همومي، حتى المشروع منها، فتساءلت متهرِّبًا: ماذا عن أحلامك أنت يا أستاذ؟

ضحك طويلًا ثم قال: نوم الشيوخ يقلُّ للدرجة التي تنعدم فيها الأحلام، غير أني أتمنَّى ميتة رفيقة.

– إذن فالموت أنواع؟

– ما أسعد الرجل الذي نام عقب سهرة طيبة ثم لم يصحُ إلى الأبد.

فسألته مأخوذًا بلذَّة محادثته: أتعتقد أنك ستُبعث ذات يوم؟

ضحك مرَّة أخرى وقال: أجل، إذا جمعت برامجك في كتاب!

•••

يعجبني جوُّ الإسكندرية .. لا في صفائه وإشعاعاته الذهبية الدافئة .. ولكن في غضباته الموسمية .. عندما تتراكم السُّحب وتنعقد جبال الغيوم .. ويمتلئ رواق السماء بلحظة صمت مريب .. ثم تتهادى دفقة هواء فتجوب الفراغ كنذير أو كنحنحة الخطيب. عند ذاك يتمايل غصن أو ينحسر ذيل .. وتتتابع الدفقات ثم تنقضُّ الرياح ثمِلَة بالجنون .. ويدوِّي عزيفها في الآفاق .. ويجلجل الهدير ويعلو الزَّبَد حتى حافَّة الطريق .. ويجعجع الرعد حاملًا نشوات فائرة من عالم مجهول .. وتندلع شرارات البرق فتخطف الأبصار وتكهرب القلوب .. وينهلُّ المطر في هوس فيضم الأرض والسماء في عناقٍ نديٍّ .. عند ذاك تختلط عناصر الكون وتموج وتتلاطم أخلاطها كأنما يُعاد الخلق من جديد.

وعند ذاك فقط يجلو الصفاء ويطيب .. إذا انقشعت الظلمات .. وأسفرت الإسكندرية عن وجه مغسول .. وخضرة يانعة، وطرقات متألِّقة، ونسائم نقيَّة، وشعاع دافئ، وصحوة ناعمة.

عايشت العاصفة من وراء الزجاج. حتى نعمت بالصفاء. شيء حدَّثني بأن تلك الدراما إنما تحكي أسطورة مطمورة في قلبي .. وتخط طريقًا ما زال غامض الهدف .. أو تضرب موعدًا في غمغمة لم تُفهم بعد.

دقَّت الساعة الكبيرة فوضعت إصبعي في أذني حتى لا أعرف الوقت. ثم ترامت إليَّ أصوات غريبة. استمرَّت في إصرار وارتفعت. مشاحنة؟ .. شِجار؟ إن الأحداث التي تقع في البنسيون تكفي قارَّة بأكملها. وحدسَ قلبي بأنَّ زهرة محورها كالعادة. وفُتح باب بعنف فوضحت الأصوات تمامًا. زهرة وسرحان! وَثَبْتُ إلى الباب ففتحته. رأيتهما في الصالة وجهًا لوجه كديكين والمدام تحول بينهما.

وكان سرحان يصرخ في غضب هادر: أنا حرٌّ .. أتزوَّج بمن أشاء .. سأتزوَّج من عليَّة.

زهرة غاضبة كبركان، عزَّ عليها أن يعبث بها، أن تنهار آمالها ثم ترتدُّ وهي الخاسرة. إذن قد نال أربه ويريد أن يُولِّيَ وجهة أخرى. اقتربت منه ثم أخذته من يده عائدًا إلى حجرتي. كان مُمزَّق البيجاما في أكثر من موضع، دامي الشفتين. وراح يصيح: شريرة متوحشة!

فطالبته بالهدوء ولكنه تمادى في الغضب وهو يقول: تصوَّر .. تريد حضرتها أن تتزوج مني!

فعدت أنصحه بالهدوء فصاح: مجنونة فاجرة!

وضقت به فسألته: لِمَ أرادت أن تتزوج منك؟

– اسألها .. اسألها.

– إني أسألك أنت.

نظر إليَّ لأول مرَّة في انتباهٍ، فقلت: لا بُدَّ من سبب يبرِّر طلبها؟

تحوَّل الانتباه في عينيه إلى حذر ثم سألني: ماذا تعني؟

فقلت بغضب: أعني أنك وَغْد.

– أستاذ!

فبصقت في وجهه وأنا أصرخ: على وجهك، ووجه كل وَغْد، وكل خائن.

وسرعان ما اشتبكنا في عراك عنيف. بيد أن المدام اقتحمت الحجرة قبل أن يستفحل الضرب.

دخلت بيننا وهي تقول: من فضلكم. لقد ضقت بذلك كله. سوُّوا خلافاتكم في الخارج لا في بيتي.

وذهبت به خارج الحجرة.

•••

مُظلم الرأس، مُثقل القلب. مُشتَّت الفكر، هكذا ذهبت إلى دار الإذاعة. ولمَّا دخلت حجرتي رأيت امرأة جالسة أمام مكتبي. امرأة؟! دريَّة! أجل دريَّة دون غيرها. عقدت الدهشة لساني، تسمَّرت أمامها لحظات، ثم انجابت الظلمات عن رأسي فهتفت: دريَّة!

وابتسمت. يجب أن أبتسم، بل يجب أن أتهلَّل. وأخذت يدها بين يديَّ فضغطت عليها بحنوٍّ، واجتاحتني عاطفة ثرية بالفرح، اكتسحت القلق والمخاوف التي تنهش قلبي، وقلت: يا لها من مفاجأة! أي سعادة يا دريَّة!

قالت وهي تطالعني بوجه شاحب: كان يمكن أن أنتظر يومين حتى نلتقيَ ولكنني لم أستطع الانتظار، واتصلت بك تليفونيًّا فلم أجدك.

وساورني قلق لم أعرف كُنهه. جئت بكرسيٍّ فجلست قبالتها وأنا أقول: ليكن خيرًا ما جاء بك يا دريَّة.

قالت وهي تغضُّ البصر: بلغتني رسالة من فوزي عن طريق صحفي صديق.

خفق قلبي. إنَّه الصحفي الصديق. لا خير هناك على وجه اليقين. قالت: إنه يمنحني الحرية للتصرُّف في مستقبلي كما أشاء.

اشتدَّ خفقان قلبي. وضح الأمر بحذافيره ولكنِّي صمَّمت على تقطيره نقطة نقطة. والعجب أن الاضطراب شملني لدرجة لم أنعم فيها بأيِّ شعور مريح أو سعيد. بل خُيِّل إليَّ أنني غير سعيد. وسألت بعناد: ماذا يعني؟

– واضح أنه علِمَ بأمرنا.

– ولكن كيف؟

– بأيِّ طريق كان، ليس ذلك بالمهم.

تبادلنا نظرًا حائرًا. شعرت بأنني أُكبَّل بالحديد. وقلت لنفسي كان يجب أن أحظى بقدر من السعادة أو الارتياح، فماذا جرى؟ وسألت: تُرى هل غضِب؟

فقالت بعصبية: لقد تصرَّف على أي حال كما توقَّعت أنت!

أحنيت رأسي في تسليم ذاهل، فقالت: عليك الآن أن تمدَّني برأيك؟!

أجل، لا يبقى إلَّا أن أعطيَها إشارة البَدْء، أن تمضيَ الإجراءات في سبيلها، أن أبنيَ عُشَّ الزوجية كما اقترحت وتمنَّيت. ها هو الحلم يستأذنني ليتسرَّب إلى عالم الحقيقة. ولكنني غير سعيد، يجب أن أكون صريحًا مع نفسي، بل أبعد ما يكون عن السعادة. إني قلق وخائف. وليس ما بي شعور بالندم أو الخجل. إنه ملتصق بذاتي دون غيري. ملكي الشخصي. وإذا لم أكن في موقف دفاع عن سعادتي ففي أي موقف أكون؟

وقالت بنبرة لا تخلو من استياء: كلما فكرت وأمسكت عن الجواب، أشعرتني بأنَّني منبوذة في وحدة قاتلة!

ولكني كنت في حاجة إلى المزيد من التدبُّر. وكان الخوف والقلق قد بلغا بي مبلغًا لم أعد أكترث فيه لعواطفها أو حتى مجاملتها. أفقت من سحرها كأنَّ هِراوة صكَّت رأسي. تحرَّرت من سيطرتها. ارتفعتْ في باطني المضطرب القلق المذعور موجةٌ سوداء من النفور والتمرُّد والقسوة. لم أجد لذلك تفسيرًا إلَّا يكن الجنون نفسه.

وتساءلت هي بحِدَّة: لِمَ لا تتكلَّم؟

قلت بهدوء مخيف: دريَّة .. لا تقبلي هبته الكريمة.

حملقت في وجهي. حملقت في وجهي ذابلة غير مُصدقة تعيسة غاضبة، فقلت ممعنًا في وحشيَّتي: افعلي ذلك بلا تردُّد!

– أنت تقول ذلك؟!

– نعم.

– إنه لمضحك، إنه لمُبكٍ، إني لا أفهم شيئًا.

فقلت بيأس: فلنؤجِّل الفهم إلى حين.

– لا يمكن أن تدعني بلا تفسير!

– لا أملك أيَّ تفسير.

انبثق شعاع غضب من أعماق عينيها الرماديَّتين وقالت: إنك تجعلني أشكُّ في عقلك.

– أعتقد أنني أستحق ذلك.

فصاحت بحَنَق: أكنت تعبث بي طيلة الوقت؟

– دريَّة!

– صارِحْني .. أكنت تكذب عليَّ؟

– أبدًا.

– إذن هل مات حبُّك فجأة؟

– أبدًا .. أبدًا.

– إنك تصرُّ على العبث بي.

– ليس عندي ما أقوله، إني أكره نفسي، هذا ما يجب أن أصارحك به، وعليكِ ألا تقتربي من رجل يكره نفسه.

عكست عيناها المحملقتان هبوطًا في قواها الداخليَّة. ثم انتزعت بصرها من وجهي بازدراء وحَنَق. ولبثت فترة صامتة كأنما لا تدري ماذا تصنع بنفسها. ثم تمتمت وكأنما تحادث نفسها: إني حمقاء. وعليَّ أن أدفع ثمن حماقتي. لم تُشعرني بالثقة قط، ولا الأمان، كيف تجاهلت ذلك؟ لقد دُسْتَني في اندفاعك المجنون. أجل، إنك مجنون.

تخشعت كطفل مذنب مطيع. ولُذت بالصمت كذريعة أخيرة لإنهاء الموقف المعذب. تجنَّبت النظر نحوها. تجاهلت وَقْعَ عينيها، صَوْتَ أصابعها فوق حافَّة المكتب، نَفْخها المضطرم. تحوَّلتُ إلى جثة هامدة.

وجاءني صوتها متهافتًا: أليس لديك ما تقول؟

فثابرت على الموت. قامت بشيء من العنف فقمت بدوري. غادرت المكان فتبعتها حتى بلغنا الطريق. وعبرناه معًا. ثم أوسعَت خُطاها معلنة رفضها لمرافقتي فتوقَّفتُ. أتبعتها عينيَّ كمن ينظر في حلم. وتضخَّم الحلم وامتدَّ رواقه. وتراجع الواقع حتى توارى وراء الأفق. رنوت إلى مشيتها المألوفة المحبوبة بغرابة، وبحزن، وحتى تلك اللحظة الجنونية لم يغِبْ عني أن ذاك الكائن المخلخل المقهور الذي يختفي رويدًا في تيار السابلة. لم يغِبْ عني أنه حبِّي الأول وربما الأخير في هذه الدنيا. وباختفائها هويت إلى الحضيض. ورغم شقائي المؤكَّد فقد داخلني ارتياح غامض غريب.

•••

البحر يترامى تحت سطح أملس باسم الزُّرقة، فأين العاصفة الهوجاء؟ والشمس تهوي إلى المغيب مرسلة شعاعًا ماسيًّا يلتحم بأهداب سحائب رقيقة، فأين جبال الغيوم؟ والهواء يلاعب سعف النخيل في غابة السلسلة بمداعبات شفَّافة رقيقة، فأين الرياح الهوج المزلزِلة؟

ونظرت إلى وجه زهرة الشاحب، ودموعها الجافَّة على الوجنتين، ونظرتها الكسيرة الذابلة، فخُيِّل إليَّ أنني أنظر في مرآة، وأن الحياة تطالعني بفطرتها الخشنة الفظَّة الرهيبة، بإمكانيَّاتها المجرَّدة، بصمودها الصُّلب المغطَّى بالأشواك، بآمالها الخبيثة في قوقعة مسمومة الأطراف، بروحها الأبديَّة التي تجذب إليها المغامرين واليائسين فتقدِّم لكلٍّ غذاءه. لقد سُلبت الشرف وهُجرت بلا كبرياء. أجل، إني أنظر في مرآة.

رمقتني بتحذير وقالت: لا لوم ولا عتاب من فضلك.

فقلت بحزن: سمعًا وطاعة.

لم أكن أفقت بعدُ من تجربة دريَّة المريرة، ولا وجدت الوقت الهادئ لتحليلها وفَهْمها. ولكني كنت ممتلئًا بها حتى الجنون. وكنت على يقين من أنَّ العاصفة آتية لا ريب فيها، وأن ثمَّة ذروة للمأساة لم أبلغها بعد. وكان من المستحيل أن أبقى صامتًا فقلت مواسيًا: قد يكون الخير فيما حصل.

لم تنبِس .. فسألتها: ماذا عن المستقبل؟

تمتمت بلا روح: إني أحيا كما ترى.

– وأحلامك يا زهرة؟

– سأستمرُّ …

قالتها بعناد وإصرار ولكن أين الروح؟ قلت: سيذهب الحزن كأن لم يكن، وسوف تتزوجين وتُنجبين أطفالًا.

قالت بمرارة: خير ما أفعل أن أتجنَّب جنس الرجال.

ضحكتُ أول ضحكة منذ دهر. إنها لا تدري بالدوَّامة التي تعصف بي، ولا بالجنون الذي يتربَّص بي.

وخطرت لي فكرة، أخطرت فجأةً بلا مقدِّمات؟ كلَّا، لا شكَّ أنَّ لها جذورًا مطمورة لم أفطن لها. إنها جنونية ولذلك فهي مغرية. فكرة غريبة باهرة وأصيلة. وغير بعيدة أن تكون هي ما أبحث عنه. أن تكون البلسم لالتهاباتي المزمنة. نظرت إليها بحنان، وقلت: زهرة، لن تطيب لي الحياة وأنت حزينة.

اغتصبت من شفتيها ابتسامة شكر، فقلت وموجة الحماس ترتفع بي درجة جديدة: زهرة .. اطردي الأحزان .. كوني كما كنت دائمًا. خبِّريني متى أرى ابتسامة السعادة على شفتيك!

ابتسمت برأس حانٍ. ارتفعت موجة الحماس درجة جديدة. ها هي الفتاة المنفيَّة الوحيدة المهجورة المسلوبة الشرف. وقلت بانفعال غريب: زهرة .. لعلَّك تجهلين كم أنكِ عزيزة عندي .. زهرة .. اقبليني زوجًا لكِ!

التفتت نحوي بحركة سريعة، ذاهلة وغير مصدِّقة. انفرجت شفتاها لتتكلَّم، ولكنها لم تنبِس بحرف.

قلت وأنا واقع تحت سيطرة انفعالي الغريب: اقبليني يا زهرة .. إني أعني ما أقول.

قالت ولمَّا تُفِق من دهشتها: لا.

– فلنتزوج في أقرب فرصة.

تحرَّكت أصابعها القوية بعصبية وهي تقول: إنك تحب واحدة أخرى!

– لم يكن هناك حب، إنها حكاية اختلقها خيالك، فأسمعيني جوابك يا زهرة.

تنهَّدت .. تنهَّدت وهي ترمقني في ارتياب وقالت: أنت كريم نبيل، وعطفك يدفعك في طريقه بلا تفكير، كلَّا، لن أقبل ذلك، وأنت لا تعنيه، كلَّا، لا تَعُدْ إلى ذلك.

– إذن ترفضينني يا زهرة؟

– إني أشكرك، ولكن ليس هناك طلب حتى أرفضه أو أقبله.

– صدِّقيني، أقسم لكِ، امنحيني وعدًا .. أملًا .. وسأنتظر.

قالت بإصرار ودون أن تأخذ كلامي مأخذ التصديق الحقيقي: كلَّا، إني أشكر عطفك وأقدره، ولكنني لا أستطيع أن أقبله. عُدْ إلى فتاتك، إن كان هناك خطأ فلا شكَّ أنها هي المخطئة ولكنك ستسامحها.

– زهرة .. صدِّقيني.

– كلَّا .. لا تعد إلى ذلك من فضلك.

قالتها بإصرار رهيب، ثم تبدَّى الإعياء في أعماق عينيها وكأنما ضاقت بالموقف كلِّه، فشكرتني بإيماءة وهي تمضي خارجًا بتصميم قاطع.

ارتددت إلى الفراغ. نظرت فيما حولي كأنما أبحث عن غوث. متى يقع الزلزال؟ متى تهبُّ العاصفة؟ وماذا قلت؟ كيف قلته؟ ولمَ؟ أيوجد شخص آخر يتخذ مني وسيطًا له كلما شاء هواه؟ وكيف يمكن أن أضع حدًّا لذلك كله؟

•••

كيف يمكن أن أضع حدًّا لذلك كله؟

كرَّرت السؤال وأنا أغادر الحجرة بجنوني. رأيت في الصالة سرحان البحيري وهو يتكلَّم في التليفون. ولمحت حقيبته وراء الباب مؤذنة برحيله الأبدي. نظرت إلى مؤخَّر رأسه المائل إلى سمَّاعة التليفون بمقت. كأنما أنظر إلى عدوٍّ لدودٍ ورائي. إنه يملأ حياتي أكثر مما تصوَّرت. وإذا اختفى حقًّا إلى الأبد فماذا أصنع بحياتي؟ وكيف أعثر عليه مرَّة أخرى؟ إنه يشدُّني إليه شدًّا كالنور والفراشة. إنه الجرعة السامة التي قد أتداوى بها.

وارتفع صوته الرنَّان وهو يقول للتليفون: طيب .. الساعة الثامنة مساء .. سأنتظر في كازينو البجعة.

إنه يضرب لي موعدًا .. وربما يحدِّد لي هدفًا. إنه يدعو جنوني إلى الرقص. صوته الرنَّان يغريني بالانتحار. إنه يأمرني بأن أتبعه. وسيمنُّ عليَّ بانتشالي من الفراغ.

تراجعت إلى حجرتي خشيةَ أن أندفع مع عواطفي الجامحة. ولمَّا غادرت البنسيون لم يكن به أثر لسرحان.

ذهبت إلى أثنيوس. فكَّرت أن أكتب رسالة إلى دريَّة ولكن الجنون عصف برغبتي كما عصف بعقلي.

واتخذت مجلسي في ركن البهو الداخلي بكازينو البجعة، كمن قرَّر الهجرة فودَّع المدينة وهمومها جميعًا. وجدت شيئًا من الراحة وشيئًا من صفاء الذهن. توارى الركن وراء موائدَ مشغولةٍ برجال ونساء. وطلبت كأسًا من الكونياك ثم أتبعتها بأخرى وعيناي مصوَّبتان نحو المدخل. وقبيل الثامنة بربع ساعة جاء البطل المنشود. جاء يتقدَّمُه طلبة مرزوق. أكان هو الشخص الذي كلَّمه في التليفون؟ ومتى جمعت بينهما هذه الصداقة الطارئة؟ جلسنا على مَبْعَدة عشر موائد من مجلسي، وجاءهما الجرسون بكونياك كذلك. وتذكَّرت أنني وافقت صباحًا — على مائدة الإفطار — على اقتراح لطلبة مرزوق بأن نمضيَ سهرة رأس السنة في المونسنيير. أجل، وعدت بالاحتفال بليلة رأس السنة الجديدة. ومضيت أنظر إليهما من وراء وهما يشربان ويتبادلان الحديث والضحك.

•••

حرَصت على ألَّا يراني، ولكنه لمحني في المرآة. تجاهلته ومضيت وأنا ألعن سوء الحظ. كانت الطريق خالية تمامًا، وكنت أسمع أطيط حذائه ورائي. وأبطأت في السير حتى أوشك أن يدركني وكنَّا أوغلنا في الطريق الخالية، وحاذاني وهو يرمقني بارتياب. وتباطأ في السير حتى لا يعرض لي ظهره بلا دفاع، وقال: إنك تتبعني .. لقد رأيتك من البداية.

فقلت ببرود: نعم.

ازداد حذرًا وهو يتساءل: لماذا؟

نزعت المِقصَّ من مِعْطَفي وأنا أقول: لأقتلك.

تحجَّرت عيناه على المِقصِّ وهو يقول: أنت مجنون بلا شك.

وتوثَّب كلانا سواء للهجوم أو للدفاع، ومضَى يقول: لست بوليِّ أمرها!

– ليس من أجل زهرة .. ليس من أجل زهرة فقط.

– إذن لماذا؟

– لا حياة لي إلَّا بقتلك!

– ولكنك ستُقتل أيضًا، أنسيت؟

فاجتاحني شعور المهاجر الذي ودَّع المدينة بكافَّة همومها، وثملت به. وإذا به يسألني: كيف عرفت مكاني؟

– سمعتك في البنسيون وأنت تتكلَّم في التليفون.

– وعزمت عند ذاك على قتلي؟

– أجل.

– ألم تعزم على ذلك من قبل؟

ذهلت، لم أُجِبْ، ولكني لم أتراجع.

– إنك في الواقع لا تريد قتلي.

– بل أريده، وسأقتلك!

– هَبْكَ لم ترَني ولم تسمعني في تلك اللحظة.

– ولكني رأيتك وسمعتك .. وسأقتلك.

– ولكن لماذا؟

ذهلت مرَّة أخرى، ولكن تأكَّدت نيَّتي على القتل ورسخت إلى الأبد. وصِحْت به: لذلك أقتلك، خذ .. خذ.

•••

ترامت إليَّ ضحكة سرحان وهو يحادث طلبة مرزوق. وأكثر من مرَّة غادر مكانه ثم رجع إليه.

لعنت طلبة مرزوق وقلت إن مجيئه قد أفسد كل شيء. غير أنه قام بعد مضيِّ ساعة أو نحوها فصافح سرحان مودِّعًا وذهب. بقيَ سرحان وحده فتلهَّفت على اللحظة التي يمَّحي فيها العذاب. وواصل الشراب ولكنه لم يتلفَّت كثيرًا نحو مدخل المكان. ووضح في لفتاته التوتر والقلق. أينتظر شخصًا آخر؟ هل يجيء الآخر فيضيِّع الفرصة إلى الأبد؟

ودعاه الجرسون إلى التليفون فمضى مسرعًا ملهوفًا. غاب بعض الوقت ثم رجع إلى مجلسه واجمًا متجهِّمًا. رجع في الحقيقة متهدِّمًا. ماذا حدث؟ لم يجلس، دفع حسابه ثم غادر المكان. راقبته من الزجاج الفاصل بين البَهْو والداخل فرأيته متَّجِهًا نحو البار، ربما لمزيد من الشراب. تربَّصت به حتى فارق مكانه ماضيًا نحو الباب الخارجي، فغادرت مجلسي في هدوء وتمهُّل. ولدى خروجي كان قد عبَر الطريق. أحكمت المعطف حولي اتقاءً لهواء خفيف ولكن لاسع كالسياط. الطريق خالٍ تمامًا، وأضواء المصابيح متلفِّعة بهالات من الضباب، وهسيس النبات على الجانبين يخرق الصمت الشامل. سرت حذرًا، أكاد ألاصق الجدران، ولكنه بدا غائبًا في أفكاره ذاهلًا عما حوله منهمكًا بكلِّيَّته في عالم وحده، حتى إنه نسيَ المعطف مطروحًا على ذراعه. ماذا حصل؟ لقد ظلَّ طيلة الوقت يتحدث ويضحك، فماذا قَلَبَه؟ أمَّا أنا فقد تركَّزت في فكرة واحدة كأنما هي وجه الخلاص الوحيد لي. وإذا به يميل إلى الطريق الزراعي الموصل للبالما. طريق خالٍ ومظلم، مهجور تمامًا في تلك الساعة، ماذا يروم منه؟ وأي قضاء يتصرَّف كأنما ليسلِّم عنقه بين يدي؟! أسرعت قليلًا حتى لا أضلَّه وأنا ألامس سياج الحدائق، وقد غرقنا معًا في الظلام. وجعلت أتوثَّب وأنا أتابع شبحه، ولكنه توقَّف فجأة فوقفت عن التقدُّم وأنا أرتعد. سيقع شيء ما. ربما جاء شخص غريب، عليَّ أن أنتظر. وإذا بصوت يندُّ عنه كلمة .. إشارة صوتية. قيء! وتحرَّك ببطء مسافة قصيرة ثم سقط على الأرض. سكران مخمور. لقد شرب فوق طاقته وها هو يفقد الوعي. وانتظرت وأنا أرهف السمع ولكن لم يقع شيء. اقتربت منه حتى كدت أعثر به. انحنيت فوقه، أردت أن أناديَه ولكن صوتي انحبس. لمست جسمه ووجهه فلم يستجب، غرِق تمامًا في غيبوبة الخمر، وسوف يفارق العالم بلا ألم أو خوف، كما يتمنَّى عامر وجدي العجوز. هززته برفق فلم ينتبه، هززته بشيء من الشدَّة فلم ينتبه أيضًا، حرَّكته بعنف فلم تبدر منه بادرة أمل في إفاقة. انتصبت قامتي في حنق. دسست يدي لأستخرج المِقصَّ ولكني لم أجد له أثرًا. فتشت عنه في جميع مظانِّه عبثًا. أسَهِيَ عليَّ أن آخذه! كنت مضطربًا، متأزِّمًا، يائسًا، ثم جاءت المدام لتستطلع رأيي في سهرة رأس السنة. أجل، لقد غادرت الحجرة دون أن أحقِّق الغرض الوحيد من رجوعي إليها. تضاعف غضبي على نفسي، تضاعف غضبي على السكران المنعَّم بغيبوبة لا يستحقُّها. ركلته في جنبه. ركلته مرَّة أخرى بقوة أشد. ركلته الثالثة بعنف. وجُنَّ جنوني فانهلت عليه بطرف الحذاء في شتَّى أطرافه حتى أَفْرختُ غضبي وهياجي. تراجعت إلى السياج وأنا أترنَّح من الإعياء مردِّدًا: «لقد قضيت عليه.» كنت أتنفَّس بصعوبة وأشعر بتقزُّز، وسيطر عليَّ إحساس مضنٍ بأنني مجنون يمارس حركات جنونية عنيفة في الظلام، وتذكَّرت دريَّة. تذكَّرتها وهي تنظر في أعماق عينيَّ، وهي تضيع في زحمة الطريق.

ورجعت إلى البنسيون مشيًا على الأقدام. تخيَّلت زهرة وهي تغطُّ في نوم مرهِق ثقيل خانق.

وتناولت حبَّة منوِّمة ثم استلقيت على الفراش.

•••

دفعني بإصرار وهو يقبض على مَنْكِبي فصرخت غاضبًا: إنك تقضي عليَّ إلى الأبد!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤