الفصل العاشر

نحو من النحو!

… نعلم ما كتبتموه عن العلاقة بين كبرياء المتنبي وولعه بالتصغير في الهجاء، وإنه أكثر ما يرى مصغرًا حين يهجو مغيظًا محنقًا، أو يستخف متعاليًا محتقرًا كما يقول عن كويفير والخويدم والنويبه والأحيمق والأعير والشويعر، وأهيل الزمان وأهيل العصر إلى آخر هذه الأمثلة التي كثرتم من ضربها.

وقلتم: «إنه إذا لم يصغر المهجوَّ باللفظ صغَّره بالمعنى، فكان أعداؤه اللئام عنده شيئًا قليلًا كما قال:

يؤذي القليل من اللئام بطبعه
من لا يقل كما يقل ويلؤم

وإنه قد يلعب بهذا الإحساس الماثل في نفسه على الدوام لعب المرء بعادة مغروسة فيه، فيتخذ منه نكته نحوية كقوله على ذكر ابني عضد الدولة:

وكان ابنا عدو كاثراه
له ياءي حروف أُنَيْسيانِ

يريد أن يقول: إذا كاثر العدو عضد الدولة بابنين كابنيه، فجعل الله ابني العدو كياءين تضافان إلى كلمة إنسان، فتزيدانه في عدد الحروف وتنقصانه في القدر.

ثم قلتم: وهذا غير غريب من رجل شديد الإحساس بالصغر، واعتاد التصغير باللفظ، وعرف عنه إدمان الاطلاع على كتب النحو.»

«وقد اطلعنا أخيرًا على مقالة في مجلة الثقافة لبعضهم يقول فيها: إن هذا من طغيان النفسانيات على الأدب، وإن التصغير في شعر المتنبي لم يكن لتكبره، وإنما هو أداة من أدوات الهجاء يعرفها شعراء هذا الفن في الأدب العربي وفي غيره من الآداب: أداة لصيقة بفن أدبي بذاته لا وليدة الطبيعة النفسية عند من يستخدمها، وليست هناك رابطة تلازم بين التكبر والتصغير حتى ولا في شعر المتنبي نفسه؛ لأنه قد يستخدمه للتعظيم كما قال:

أحاد أم سداس في أحاد
لييلتنا المنوطة بالتنادي

إلى آخر ما جاء في مقالة الثقافة.

فهل لكم أن تُدلوا برأيكم في تعقيب الكاتب؛ لأنه تفسير لرأيكم وفيه بيان لمسألة من مسائل النفسيات والأدب؟ إلخ.»

•••

والذي نراه في التعقيب الذي أشار إليه الأديب أن استعمال التصغير للتعظيم لا يبطل استعماله للتحقير، وأن صيغة التصغير ليست أداة لصيقة بكل هجاء، كما جاء في مقال الكاتب بمجلة الثقافة، فلا يزال استخدام المتنبي هذه الصيغة بتلك الكثرة التي لم تعهد في شعر غيره أمرًا يرجع إلى خلائقه الشخصية، ويرجع البحث فيه إلى النفسيات التي لا انفصال بينها وبين الأدب؛ لأن الأدب قبل كل شيء تعبير عن شعور، وليس أولى من النفسيات بالبحث في كل شعور.

فليست صيغة التصغير أداة لصيقة بالهجاء، ولم نرها قط بهذه الكثرة في أشعار الهجائين المنقطعين لهذا الباب، أو المشهورين به قبل سائر الأبواب.

والمتنبي لم يكن من شعراء الهجاء المشهورين به في اللغة العربية، وإنما اشتهر به شعراء آخرون كالحطيئة وجرير والفرزدق ودعبل وابن الرومي على التخصيص.

فلم لم يكثر التصغير في أشعار هؤلاء الهجَّائين؟

ولم كان المتنبي منفردًا بهذا الإكثار؟

مرجع الأمر إليه لا إلى الهجاء، وأقرب شيء أن يخطر على البال أنه استصغر؛ لأنه تكبر، وأنه صبغ هجاءه بصبغته النفسية فاختلف من هذه الناحية؛ لأنها هي ناحية الاختلاف بينه وبين غيره من الهجائين.

على أن الهجاء ضروب، وليس بضرب واحد في اللغة العربية، أو فيما عداها من اللغات.

ومرجع الأمر في تعدد ضروبه إلى تعدد النفوس، وتعدد الأمزجة، وتعدد الشعور الذي يشعر به الهاجي نحو من يهجوه.

فهناك هجاء الرجل الوضيع المهين.

وهناك هجاء الرجل المتكبر العزيز.

وهناك هجاء الرجل المهذب الشريف.

وهناك هجاء المتوقح البذيء.

وهناك هجاء التهكم والسخرية، وهجاء العنف واللدد، وهجاء النقد، وهجاء الإيذاء.

ومناط التفرقة بينها هو النفسيات، وما تشمله من فوارق الحس والعاطفة، وليس المرجع فيها إلى باب في علم النحو يتكلم على مواضع التصغير.

وأعجب شيء يقال هو أن المتنبي لم يستصغر لأنه متكبر، بل أكثر من التصغير لسبب آخر … ثم لا يدري أحد ما هو ذلك السبب الآخر! لم يمتنع الاستصغار بسبب التكبر؟ ولم لا يكون سببًا للاستصغار؟

أي عجب في ذلك؟ بل أي مخالفة فيه للمعقول والمعهود؟! بل أي شيء أقرب منه إلى الفهم والتعليل؟

أيمتنع هذا القول لأنه من النفسيات، وكل ما كان من النفسيات فهو ممنوع غير مقبول؟

أيمتنع لأن قرارًا مجهولًا لا نعرف نحن مصدره قضى بمنعه وتحريمه، وإقصائه من عالم الفرض والتقدير؟

إننا لا ننفي أن المتنبي كان متكبرًا مطبوعًا على الكبرياء، ولا ننفي أن المتكبر مطبوع على أن يستصغر الناس، ولا ننفي أن صيغة التصغير تستعمل للتصغير والتحقير، فلماذا ننفي أن ولع المتنبي بالتصغير مرجعه إلى طبيعة الكبرياء فيه؟

لماذا؟ للنفسيات التي يسمع باسمها من يسمع، فيظن أنها حجاب حائل بين المتنبي والاستصغار بصيغة التصغير؟

أما أن المتنبي قد استعمل التصغير للتعظيم والتكبير، فهو إذا صح لا يمنع أن التصغير يستخدم أيضًا للتصغير، بل هو الأصل والتعظيم مجاز عارض عليه.

يقول أحد: إنني رأيت المليمات في أيدي الفقراء، فيجيء سامع بالنفسيات — أو قل: سامع بالاقتصاديات — فيقول: كلا، كلا، هذا بعيد! هذا غير معقول!

هذا إقحام للاقتصاديات في شئون الحس والعيان! لأنني رأيت بعيني المليمات في خزانة المصرف الكبير، وفي خزانة الغني العظيم!

كلام ظريف!

نعم ظريف كذلك الكلام الذي يبطل باب التصغير للتصغير جملة واحدة؛ لأن التصغير قد استعمل حينًا في معنى التكبير …!

على أن البيت الذي قيل: إن المتنبي خالف فيه هذه السنة لا يدل بمعنى من معانيه على أنه قد نسي فيه الكبرياء، أو نسي عادة الاستصغار.

فهو يقول في وصف الليلة التي ضاق بها:

أحاد أم سداس في أحاد
لييلتنا المنوطة بالتنادي

ومن الميسور أن يلحظ القارئ لهجه التأفف في تصغير تلك الليلة المبرمة، كأنه يستكبر أن يعروه الضيق من ذلك الشيء الصغير، وإن لج به المطال.

وهبه مع ذلك كان ينوي التعظيم والتقديس لتلك الليلة المبرمة، ولا ينوي أن يتأفف منها ويستكثر عليها أن تبرمه وتثقل عليه، فهل كلمة في قصيدة واحدة تبطل عشرين كلمة في عشرين قصيدة؟! وهل يحصل كل هذا لأجل خاطر «النفسيات» قدس الله سرها وبارك في عمرها!

ولقد كان كثيرًا من كاتب المقال الذي أشار إليه الأديب صاحب الخطاب أن يزعم أن التحقير والتكبير في صيغة التصغير يتساويان! فأما أن يقول: إن التحقير هو الممتنع الذي لا يعقل، وإن الاستصغار من جانب المتكبر المطبوع على الكبرياء هو الغريب المريب، فتلك نفسيات لله درها من نفسيات! وفنون حماها الله من فنون!

وما نشك في أن الأديب «محمد جابر» رجل يريد أن يضحك، ولا يريد في الحقيقة تفسيرًا لما هو غني عن التفسير؛ فإن لم يجد شبعه من الضحك في طراز تلك النفسيات، ومعرض تلك الفنون، فغاية ما عندي من القول أن المتنبي — رحمه الله — لم يشرفني بأمانة سره، ولم يطلعني على دخائل صدره، فإذا كان قد ذكر لبعضهم أنه لم يولع بالتصغير لقصد التصغير، فهو وذمته فيما ادعاه، وللأديب عليه اليمين الحاسمة إن تردد في قبول دعواه! أما نحن فغاية ما نعلمه أن المتنبي كان رجلًا متكبرًا، وأن المتكبر يستصغر الناس، فلا عجب أن يولع بصيغة التصغير، وهذا حسبنا وحسب القارئ فيما زعمناه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤