امرأة فاتنة

«حقًّا، أأنت السيد …؟»

قالت عبارتها وفي عينَيها البُنِّيتَين العميقتَين تبدَّت دهشة يُخالطها سرور وينازعها تعجُّب، ثم حوَّلت بصرها إلى الصديق الذي قدَّمني إليها وعلى وجهها ابتسامة خلابة تنمُّ عن عدم تصديق يشوبه بعض الأمل.

أكَّد لها صديقي ضاحكًا: «هو السيد … بشحمه ولحمه»، ثم تركنا وانصرف.

أطلقت ضحكة صغيرة لطيفة قائلةً: «لطالما ظننتُ أنك رجل وقور في منتصف العمر»، ثم أضافت بصوت ناعم خفيض: «سعيدة جدًّا بلقائك».

كانت كلماتها عادية لكن صوتها تسلَّل إلى قلبي مثل لمسة ناعمة.

قالت وهي تجلس على أريكة صغيرة وتفسح لي مكانًا جوارها: «اجلس وتحدث معي».

جلست بجانبها شاعرًا بإحراج، وببعض الدوار، كما لو كنت قد أفرطت في احتساء الشامبانيا. كنت في مستهل مساري الأدبي، فلم أكُن قد نشرت سوى كتاب صغير وبضعة مقالات وآراء نقدية في دوريات متفرِّقة مغمورة. لذا عندما اكتشفت فجأةً أنني السيد فلان، وأني قد خطرت ببال تلك المرأة الفاتنة التي سرَّها التعرُّف عليَّ، اضطرب فكري.

تابعت حديثها قائلةً: «أنت إذَن مَن ألَّفتَ ذاك الكتاب العميق، وتلك الكتابات البارعة في المجلات والدوريات. حقًّا، ما أروع أن يكون المرء ذكيًّا!»

ثم أطلقت تنهيدة صغيرة آسفة مسَّت شغاف قلبي. وكي أواسيها، استجمعت طاقتي وشرعت أثني عليها لكنها أوقفتني بمروحتها. وسرَّني أنها فعلت ذلك؛ إذ أدركت، بعد تفكير، أنه كان من الأفضل التعبير عن إعجابي بعبارات مختلفة.

ضحكت قائلة: «أعرف ما ستقوله، لا داعي. فضلًا عن أني لا أعرف كيف أتقبَّل المجاملات من كاتب ساخر مثلك.» حاولت أن أبدو كما لو أني عادةً ما ألجأ إلى السخرية، لكن في حالتها لا يمكن أن أفعل ذلك.

تركت يدًا لا يغطيها القفاز تستقر على يدي للحظة. ولو كانت تركتها للحظتَين كنت سأركع على ركبتي أمامها، أو كنت سأقف على رأسي عند قدمَيها؛ أي كنت سأجعل من نفسي أضحوكة بطريقة أو بأخرى وسط غرفة تعج بالناس. لكنها ضبطت التوقيت بحيث تعبر لمستها عن مجاملة لطيفة لا أكثر.

ثم تابعت: «لا أريد منك أن تثني عليَّ. أريد أن نصبح أصدقاء. بالطبع أنا أكبرك سنًّا، ربما أكون في عمر والدتك.» (خمَّنتُ من طريقة حديثها أنها في الثانية والثلاثين من العمر، لكنها بدَت في السادسة والعشرين. وكنت أنا في الثالثة والعشرين، ويؤسفني أنني كنت أكثر حماقة مما يفترض في هذه السن.) وأردفت: «لكنك واسع الاطلاع، وتختلف عمَّن ألقى من الناس. إن المجتمع الراقي أجوف ومصطنع، ألا ترى ذلك؟ لا تتصوَّر كم أتوق إلى الهرب منه، كم أتوق إلى التعرُّف على شخص يمكنني التصرف معه على طبيعتي، شخص يفهمني. تعالَ لزيارتي، دائمًا ما أكون في البيت أيام الأربعاء. أعطِني فرصة للتحدُّث معك، ما رأيك؟ حينئذٍ يمكنك أن تخبرني بجميع الأفكار الذكية التي تدور في عقلك.»

خطر لي أنها ربما تودُّ الاستماع إلى بضع أفكار ذكية في التو واللحظة، لكن قبل أن أشرع في التعبير عن تلك الأفكار أتى أحد رجال المجتمع الراقي الأجوف وأعلن أن العشاء جاهز، فاضطرت إلى مغادرتي. وبينما كانت تختفي عن ناظري وسط الجموع، أدارت رأسها ناظرة إليَّ، نظرة تمزج بين السخرية والرثاء للذات فهمت القصد منها. كانت نظرتها تقول: «فلتشفق عليَّ، يجب أن أدع هذا الكائن السطحي التافه يملني بحديثه»، وقد أثارت شفقتي بالفعل.

بحثت عنها في جميع غرف المنزل قبل أن أغادر الحفل. كنت أرغب في التأكيد على تعاطُفي معها ودعمي لها. لكني علمت من رئيس الخدم أنها غادرت مبكرًا، بصحبة ذاك الرجل الأرستقراطي الأجوف.

بعد أسبوعَين، لقيت في شارع ريجينت أديبًا شابًّا من أصدقائي، وتناولنا طعام الغداء معًا في مقهى مونيكو.

قال لي: «لقيت امرأة فاتنة ليلة أمس، السيدة كليفتون كورتيناي، امرأة لطيفة حقًّا.»

هتفت: «حقًّا، هل تعرفها؟ أنا وهي أصدقاء قدامى. دائمًا ما تلح عليَّ كي أزورها. ينبغي لي زيارتها قريبًا.»

رد قائلًا: «لم أكُن أعلم أنك تعرفها.» بدا، بطريقة ما، أن معرفتي بها قلَّلت من أهميتها في عينَيه. لكنه سرعان ما استعاد حماسه لها.

فتابع حديثه: «امرأة ذكية جدًّا.» ثم أضاف: «أخشى أنني قد خيَّبتُ أملها بعض الشيء» بَيْد أنه نطق عبارته تلك بضحكة لا توحي بخيبة الأمل، ثم تابع: «فهي لم تصدِّق أنني الأستاذ سميث. بل تخيَّلت من كتابي أنني رجل متقدم في العمر.»

عن نفسي لم ألحظ شيئًا في هذا الكتاب يوحي بأن عمر مؤلفه يتعدى الثامنة عشرة. وبدا لي أن خطأها هذا ينم عن افتقار إلى الفطنة، لكن من الواضح أن هذا الخطأ سَرَّ صديقي أيَّما سرور.

واصل حديثه قائلًا: «أشفقت عليها كثيرًا. إنها سجينة في هذا المجتمع الزائف عديم الروح الذي تحيا فيه. حدثتني قائلة: «لا تتصوَّر كم أتوق إلى لقاء شخص أكون معه على طبيعتي؛ شخص يفهمني». سوف أذهب لزيارتها يوم الأربعاء.»

ذهبت معه. وتحدثت معها، ولم تكُن محادثتنا على انفراد كما توقَّعت؛ إذ كان حاضرًا بالغرفة، المؤهلة لاستيعاب ثمانية أشخاص، نحو ثمانين فردًا. لكني شرعت أشق طريقي بين الجموع بلا هدف طوال ساعة، شاعرًا بالحر والتعاسة، كما يحدث عادةً للشبان في تلك التجمعات التي لا يعرفون فيها سوى الشخص الذي جاءوا بصحبته ويعجزون عن إيجاده، حتى تمكنت من تبادل بضع كلمات معها.

حيَّتني بابتسامة أنستني على الفور ما تكبَّدتُه قبلًا من مشقة، ثم أراحت أصابعها للحظة على يدي، ضاغطة عليها برقَّة فاتنة.

قالت لي: «ما أطيب قلبك! لقد وفيت بوعدك. لا تتخيَّل كم مللت من هؤلاء الناس. اجلس هنا واحكِ لي آخر أخبارك.»

استمعت إليَّ نحو عشر ثوانٍ، ثم قاطعتني قائلةً: «وماذا عن صديقك المثقف الذي جئت بصحبته. لقد لقيته في منزل ليدي لينون الأسبوع الماضي. هل يكتب هو الآخر؟»

أجبت بأن له مؤلفات بالفعل.

قالت: «هلا حدثتني عنها؟ لا يُتاح لي سوى وقت قليل جدًّا للقراءة، وحينها لا أرغب إلا في قراءة الكتب التي ستفيدني.» ثم وجهت إليَّ نظرة امتنان معبِّرة أكثر من الكلمات.

حدثتها عن مؤلفاته، ولكي أوفي صديقي حقه، قرأت عليها بضع فقرات من كتابه؛ فقرات كنت أعلم أنه فخور بها.

بدا أن جملة بعينها استحوذت على انتباهها، جملة تقول: «إن ذراعي امرأة صالحة حول عنق الرجل هما طوق نجاة مرسل إليه من السماء.»

تمتمت: «ما أجملها من عبارة!» ثم أضافت: «هلا أعدتها؟» كررت الجملة مرة أخرى ورددتها ورائي.

عندئذٍ انقضَّت عليها سيدة عجوز مزعجة من حيث لا تحتسب، فاضطررت إلى الانزواء في أحد أركان الغرفة حيث حاولت التظاهر بأنني أقضي وقتًا ممتعًا دون نجاح حقيقي.

بعد قليل، بدأت أبحث عن صديقي؛ إذ شعرت أن وقت الرحيل قد حان، ووجدته يتحدَّث إليها في ركن الغرفة. اقتربت منهما ثم طفقت أنتظر. كانا يناقشان آخر جريمة قَتْل وقعَت في شرق لندن، والتي راحت ضحيتها امرأة سكيرة على يد زوجها، وهو حرفي كادح جُن بفعل الخراب الذي حلَّ ببيته.

كانت تقول: «حقًّا، إن المرأة قادرة على جَرِّ الرجل إلى أعماق الحضيض أو رفعه إلى قمة المجد. كلما قرأت عن قضية تورطت بها امرأة تذكرت تلك العبارة البديعة التي ذكرتها في كتابك: «إن ذراعَي امرأة صالحة حول عنق الرجل هما طوق نجاة مرسل إليه من السماء».»

•••

تباينت الآراء حول دينها وتوجُّهاتها السياسية. قال عنها قس الكنيسة الإنجيلية: «إنها امرأة مسيحية مخلصة، من النساء اللاتي يكرهن التفاخر وطالما كُنَّ من دعائم كنيستنا. إنني فخور بمعرفتها ويشرفني أن كلماتي البسيطة كان لها بعض الأثر في إبعاد قلب هذه المرأة الصادقة عن تفاهات الموضة، وتوجيه فكرها نحو قيم أكثر نبلًا. هي بالتأكيد امرأة صالحة من رعايا الكنيسة، بكل ما يحمله هذا الوصف من معنًى.»

أما القس الكاثوليكي الشاب، ذو الوجه الشاحب والملامح الأرستقراطية، فقد قال عنها للكونتيسة الفرنسية، وعيناه الغائرتان تتلألآن بحماس كبير: «أعقد آمالًا كبيرة على صديقتنا العزيزة. من الصعب عليها بتر الصِّلات التي تكوَّنَت عَبْر الزمن ورسختها مشاعر الحب. نحن البشر جميعًا ضعفاء، بَيْد أن قلبها يتحوَّل نحو الكنيسة الأصلية مثل طفل يتوق إلى حضن أمه، بعد سنوات قضاها بين أحضان الغرباء. لقد تحدثنا معًا، ويبدو لي أن شخصي المتواضع قد يكون الصوت الذي يهدي هذا الحمل الضائع ويعيده إلى القطيع.»

وكتب عنها السيد هاري بينيت، المحاضر الشهير ومعتنق الثيوصوفية، في خطاب لأحد أصدقائه: «إنها امرأة موهوبة حقًّا، ولديها توق واضح لبلوغ الحقيقة. امرأة محبة للحكمة. امرأة لا تخشى الفكر والمنطق، وقادرة على تولِّي زمام حياتها. لقد تحدثت معها كثيرًا في عدة مناسبات، ولاحظت أنها تستوعب مقصدي بسرعة بديهة لم أشهد مثيلًا لها في حياتي؛ وأعتقد أن الحجج التي ذكرتها أثناء حديثنا كان لها أعظم الأثر في نفسها. وعليه، أتطلَّع إلى انضمامها، عما قريب، إلى طائفتنا الصغيرة. أكاد أجزم، دون أن أفشي أسرارًا تخصُّها، أنَّ تحوُّلها مسألة مفروغ منها.»

وطالما وصفها الكولونيل ماكسيم بأنها «ركيزة لا تتزعزع من ركائز الدولة.»

فتحدث هذا العسكري المحنك عنها قائلًا: «لقد بات العدو حاضرًا بين صفوفنا، ومن ثَم أضحى واجبًا على كل رجل شريف، وكل امرأة شريفة، الاصطفاف دفاعًا عن البلاد؛ وها أنا ذا أعبِّر عن خالص احترامي وتقديري للسيدات النبيلات مثل السيدة كلفتون كورتيناي، اللاتي نحَّين جانبًا خجلهن الطبيعي من الشهرة، وتقدَّمن في ظِل هذه الأزمة الحالية كي يتصدين للعناصر الفوضوية والخائنة التي تفشَّت في أرجاء البلاد.»

ولما علَّق أحد المستمعين قائلًا: «بَيْد أني فهمت من جوسلين الشاب أن السيدة كلفتون كورتيناي تعتنق بعض الآراء التقدُّمية حول عدد من القضايا السياسية والاجتماعية.»

رد الكولونيل بنبرة ازدراء قائلًا: «كلام فارغ! ربما أفلح هذا الشاب في لَفْت نظرها بشَعره الطويل وخطابه الأجوف لفترة وجيزة. لكني نجحت، وبكل فخر، في إحباط خططه. ودليلي على ذلك أنها قبلت أن تشغل منصب الرئيسة الشرفية لفرع برمنزي التابع لرابطة بريمروز في العام القادم. ما رد جوسلين، ذلك الوغد، على هذا؟»

وكان رد جوسلين: «أعرف أنها امرأة ضعيفة. لكني لا ألومها، بل أشفق عليها. عندما يأتي زمن لا تعود فيه المرأة دمية تحرِّكها خيوط يمسك بها رجل أحمق، ولا تعود مهدَّدة بالنبذ الاجتماعي إذا تجرأت واتبعت صوت ضميرها بدلًا من صوت أحد أقاربها الذكور المحيطين بها، عندما يأتي هذا الزمن، وسوف يأتي قريبًا، يمكن حينها أن نحكم عليها. إني أنأى بنفسي عن إفشاء أسرار ائتمنتني عليها امرأة تعاني، لكن يمكنك أن تقول لهذا العجوز القادم من العصر الحجري، الكولونيل ماكسيم، إن بوسعه، هو وعجائز فرع برمنزي من رابطة بريمروز، انتخاب السيدة كلفتون كورتيناي رئيسة للفرع والاستفادة من ذلك إلى أبعَد الحدود؛ فهم لم يستحوذوا إلا على القشرة الخارجية لهذه المرأة. أما قلبها فهو ينبض على إيقاع الخُطا الواثقة لأصحاب الآراء التقدمية، وروحها وعيناها تتطلعان نحو شعاع الفجر القادم البَهيِّ.»

بَيْد أن جميعهم اتفقوا على أنها امرأة فاتنة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤