قط ديك دنكرمان

كنت أنا وريتشارد دنكرمان صديقَين منذ المدرسة، إنْ جاز وجود صداقة تجمع بين طالب في الصف الثالث الثانوي، من الطبقة الراقية، يأتي إلى المدرسة كل صباح مرتديًا قبعة سوداء عالية وقفازَين، وطالب يأتي صباحًا مرتديًا قبعة اسكتلندية وله سُمعة سيئة بين طلاب الصف الثاني الثانوي. في تلك الأيام، ساد علاقتنا قدر من الجفاء، ترجع أصوله إلى قصيدة ألَّفتُها بنفسي وأنشدتُها في بعض المناسبات، تخليدًا لذكرى حادثة، قيل إنها مؤلمة، وقعت في اليوم الأخير من السنة الدراسية، وحسبما أتذكَّر، كانت كلماتها تقول:

ديكي ديكي دنك،
دائمًا في كرب،
لعب الخمر بعقله،
فزعق في صخب.

واستمرَّ هذا الجفاء بفعل نقده القاسي للقصيدة، والذي عبَّر عنه بضربي بركبته، بَيْد أن السنوات اللاحقة شهدت توطدًا وتحسنًا في علاقتنا. جذبني العمل الصحفي، في حين ظلَّ ديك لسنوات عدة محاميًا في القضاء العالي وكاتبًا مسرحيًّا، غير أنه لم يلقَ نصيبًا من النجاح في أيٍّ من المهنتَين. لكنه فاجأنا جميعًا، في ربيع إحدى السنوات، بكتابة مسرحية حقَّقَت نجاحًا ساحقًا؛ مسرحية كوميدية قصيرة تروي أحداثًا مستحيلة الحدوث، بَيْد أنها كانت تجسِّد مشاعر طيبة أصيلة وتعكس إيمانًا بالطبيعة البشرية. بعد بضعة أشهر من عرض المسرحية، عرفني ديك لأول مرة على «الأستاذ هرم».

كنت آنذاك واقعًا في حب فتاة، أظن أن اسمها كان نايومي، ورغبت في التحدُّث عنها مع أحدهم. كان ديك معروفًا باهتمامه الذكي بعلاقات الحب التي يخوضها الرجال الآخرون. كان يدَع العشاق يثنون على حبيباتهم أمامه طوال ساعات، ويدوِّن في أثناء ذلك ملاحظات مختصرة في دفتر سميك أحمر اللون يحمل عنوان «ملاحظات عامة». بالطبع علموا جميعًا أنه كان يستلهم تجاربهم في كتابة مسرحياته، لكننا لم نهتم طالما كان ينصت لما نقول. وهكذا اعتمرت قبعتي وذهبت لزيارته.

تحدَّثنا عن أمور تافهة لمدة ربع ساعة تقريبًا، ثم بدأت الحديث عن الموضوع الذي يشغلني. بدأت بالتغزُّل في جمالها وطيبة قلبها، وما إن فرغت حتى اندمجت في وصف مشاعري، فقلت إن قلبي لم يعرف الحب الحقيقي قبل لقائها وإنه من المستحيل أن أنظر إلى امرأة أخرى غيرها، وإني أتمنى أن يكون اسمها هو آخر ما أنطق به قبل أن أسلِم الروح؛ وعندئذٍ تحرَّك ديك. ظننت أنه قد وقف كي يجلب كتاب «الملاحظات العامة» كالمعتاد، لكنه اتجه عوضًا عن ذلك إلى الباب وفتحه فانساب منه قط أسود من أجمل وأضخم القطط التي رأيتها في حياتي. قفز القط على ركبتَي ديك مُصدرًا خرخرة ناعمة وجلس هناك رافعًا رأسه وأخد يتفرَّج عليَّ وأنا أواصل سرد حكايتي.

وبعد بضع دقائق، قاطعني ديك قائلًا: «ألم تقُل إن اسمها نايومي؟»

رددت: «أجل، هذا هو اسمها، لمَ تسأل؟»

أجابني: «خطأ بسيط، لقد أشرت إليها توًّا باسم إنيد.»

استغربت بشدة، فأنا لم أرَ إنيد منذ سنوات، وكنت قد نسيتها تمامًا. عاودت الحديث، بَيْد أن المحادثة فقدت جزءًا من رونقها بعد ذلك الموقف. وبعد دستة إضافية من الجمل قاطعني ديك مجددًا بسؤاله: «مَن جوليا؟»

بدأ الضيق يتسرَّب إليَّ. كانت جوليا فتاة تعمل صرافة في أحد مطاعم المدينة، وكادت تغرِّر بي وأنا شابٌّ يافع وتقنعني بخطبتها. صعد الدم إلى رأسي عندما تذكرت قصائد الغزل الحمقاء التي صببتها صبًّا في أذنَيها التي يتناثر فوقها مساحيق التجميل وأنا أمسك بيديها الناعمتين فوق طاولة المطعم.

أجبت بنبرة حادة بعض الشيء: «هل قلت جوليا حقًّا؟ أم أنك تمزح؟»

رد برفق: «لقد أشرتَ إليها باسم جوليا فعلًا. لكن لا تقلق، واصِل حديثك كما تحب وأنا سأعرف مَن التي تقصدها.»

لكن جذوة الحماس بداخلي انطفأت. حاولت إشعالها مجددًا، لكن كلما رفعت عينيَّ ولاقيت عينَي القط الأسود الخضراوين، شعرت بها تخمد من جديد. تذكرت الرجفة التي اجتاحت كياني كله عندما لمست يد نايومي يدي عفوًا في بيت النباتات، وتساءلت تُرى هل تعمَّدت ذلك. فكرت في مدى لُطفها وحُسن تعاملها مع أمها، وهي عجوز بلهاء رثة الملابس، وتساءلت تُرى أهي أمها حقًّا، أم امرأة استأجرتها كي تمثل دورًا. استعدت صورة شَعرها البُنِّي الغزير في آخر مرَّة رأيته فيها إذ كانت أشعة الشمس تقبِّل خصلاته المموَّجة، وخطر لي أنني أودُّ التأكد من أنه لم تلصق به بعض خُصل الشعر المستعار.

وما إن صرتُ قادرًا على كبح عنان حماستي وبدأت أفكر في أنني طالما آمنت أن المرأة الصالحة أكثر ندرة من الياقوت الأحمر، وأفلتت من لساني دون أدري عبارة: «من المؤسف أننا نحن معشر الرجال نعجز عن إخبار النساء بتلك الحقيقة»، حتى استسلمت تمامًا، وجلست أحاول تذكُّر ما قلته لها ليلة أمس، آمِلًا ألا أكون قد ورَّطتُ نفسي بأي شكل من الأشكال.

قطع صوت ديك تأمُّلاتي البغيضة قائلًا: «أجل، عرفت أنك ستعجز عن إكمال حديثك. لم يستطع أحدٌ منهم إكمال حديثه أيضًا.»

سألته: «عمَّ تتحدَّث بالضبط؟». كنت قد بدأت أشعر بالغضب من ديك ومن قط ديك، ومن نفسي ومن العالم كله.

رد عليَّ وهو يمسِّد رأس القط الناعم؛ إذ نهض الأخير وقوَّس ظهره: «لمَ تتحدَّث عن الحب أو عن العواطف عمومًا أمام السيد هرم العجوز؟»

قلت محتدًّا: «ما شأن هذا القط اللعين بالأمر؟»

رد قائلًا: «لا أعرف تحديدًا، لكنه يمتلك قدرة عجيبة. في إحدى الليالي زارني صديقي ليمان، وشرع في حديثه المعتاد عن إبسن ومصير العرق البشري والأفكار الاشتراكية، إلى آخر تلك الموضوعات التي يهواها، أنت تعرف أسلوبه. وكان هرم يجلس على حافة الطاولة هناك ويتطلَّع إليه، مثلما كان ينظر إليك قبل دقائق، وفي أقل من ربع ساعة توصل ليمان إلى استنتاج مفاده أن المجتمع سيصير حاله أفضل لو تخلى عن المُثُل العليا، وأن مصير البشرية هو التحوُّل إلى حفنة من التراب. ثم دفع شَعره الطويل للخلف وبدا لأول مرَّة في حياته شخصًا عاقلًا. وقال: «نحن نتحدث عن أنفسنا كما لو كنا مركز الكون. في بعض الأحيان أملُّ من سماع صوتي، تبًّا! على حدِّ علمي قد يفنى الجنس البشري عن آخره ويحل محله نوع آخر من الحشرات، مثلما طردنا نحن البشر عرقًا آخر سبق أن عاش قبلنا وأخذنا مكانه. تُرى، هل سترث جحافل النمل الأرض في المستقبل بعد فنائنا؟ إنها تستوعب مبدأ التآلُف، ولديها بالفعل حاسة إضافية لا نملكها. وإذا تطوَّرَت أدمغتها وأجسادها لتصبح أكبر حجمًا، مَن يدري ربما تصير منافسًا قويًّا لنا؟» أليس من الغريب أن تسمع صديقنا ليمان يتحدث هكذا؟»

سألت ديك: «لمَ سمَّيتَ القط «هرم»؟»

أجابني: «لا أعرف، أظن لأنه بدا عجوزًا جدًّا، خطر الاسم ببالي فجأة.»

انحنيت إلى الأمام ونظرت في عينَي القط الخضراوين الواسعتين، وبادلني الكائن النظر بعينيه اللتين لا تغمزان ولا تطرفان أبدًا، حتى شعرت أنني أغوص في غياهب الزمن. بدا كأن هاتين المقلتين الخاليتين من التعبير قد شهدتا عصورًا شتى، واطَّلعَتا على جميع رغبات البشر وآمالهم وشغفهم، ورأت حقائق أزلية يتكشَّف زيفها، وأديانًا بدا أنها ستنقذ البشر لكنها آلَت بهم إلى بئس المصير. أخذ الكائن الأسود الغريب يزداد حجمًا حتى صِرتُ أنا وديك مجرَّد ظِلَّين ينزويان في رُكن الغرفة.

أطلقت ضحكة مفتعلة، أبطلت مفعول السحر، وسألت ديك كيف حصل على هذا القط.

كان رده: «هو الذي قدِم إليَّ، في إحدى الليالي منذ ستة أشهر. كنت أمر بفترة عصيبة في حياتي وقتها. بعد أن أخفقت مسرحيتان من تأليفي الواحدة تلو الأخرى، وكنت أعقد آمالًا كبيرة على نجاحهما، أتذكرهما؟ لقد بدا لي أنه من المستبعد أن يُلقي أي مدير مسرح نظرة على ما أكتبه من مسرحيات بعدها. وأخبرني السيد والكوت أنه لا يصح في ظل هذه الظروف أن أُبقي ليزي مخطوبة لي، ويجب عليَّ أن أبتعد عنها وأعطيها فرصة لنسياني، وقد وافقته على كلامه. كنت وحيدًا وغارقًا في الديون. بدا الوضع ميئوسًا منه، فعقدت العزم على إنهاء حياتي برصاصة في الرأس في ذلك المساء ذاته. عبَّأت مسدسي، ووضعته أمامي على المكتب. كانت يدي تعبث به عندما سمعت صوت خدش عند الباب. لم أُعِر الأمر اهتمامًا في البداية، لكن الصوت استمر وازداد، وأخيرًا نهضت وفتحت الباب كي أضع حدًّا لذلك الصوت الخافت المزعج الذي أثار أعصابي بما يفوق احتمالي، وحينئذٍ دخل هو إلى الغرفة.

قفز فوق المكتب وجلس في الركن بجوار المسدس المحشو، منتصبًا ناظرًا إليَّ؛ أرجعتُ كرسيِّي إلى الوراء وجلست أنظر إليه. عندئذٍ وصلني خطاب جاء فيه أن رجلًا لم أسمع باسمه من قبل قتلَتْه بقرة في مدينة ميلبورن، وقد أوصى بإرث مقداره ثلاثة آلاف جنيه لقريب لي بعيد، بيد أن هذا القريب تُوفي بهدوء، ودون أن يترك ديونًا وراءه، قبل ثمانية عشر شهرًا، وكنت أنا وريثه الوحيد، وهكذا أرجعت المسدس إلى درج المكتب.»

سألته وأنا أمدُّ يدي كي أمسِّد القط الذي جلس يقرقر بصوت خفيض فوق ركبتَي ديك: «هل تظن أن الأستاذ هرم قد يأتي ليقيم معي لمدة أسبوع؟»

رد ديك بصوت خافت: «ربما يأتي إليك يومًا ما»، لكن قبل أن يرد كنت قد ندمت على نطق تلك الكلمات المازحة، لا أدري لماذا.

تابع ديك حديثه قائلًا: «صرت أحدِّثه كأنه بشر، وأناقش أمورًا معه. ومسرحيتي الأخيرة هي ثمرة التعاون بيننا، بل إنني أعدُّ مشاركته فيها تفوق مشاركتي.»

كنت سأظن ديك مجنونًا لولا أن القط كان جالسًا هناك أمامي ينظر في عيني. ومن ثَم زاد اهتمامي بقصته.

واصل حديثه قائلًا: «كانت مسرحية تهكمية متشائمة في البداية، تعكس صورة صادقة لقطاع معيَّن من المجتمع مثلما رأيته وعرفته. من المنظور الفني، شعرت أنها عمل جيد؛ لكن من ناحية الإيرادات لم أكُن واثقًا من نجاحها. أخرجتها من درج مكتبي في اليوم الثالث لمجيء هرم، وقرأتها من أولها لآخرها. وجلس هو على ذراع الكرسي ينظر إلى الصفحات إذ أقلِّبها.

كانت أفضل عمل كتبتُه في حياتي. كل سطر فيها عكسَ روًئ عميقة عن الحياة، ومن ثَم أحسستُ بالسرور وأنا أقرؤها مجددًا. وفجأةً سمعت صوتًا بجانبي يقول: «يا لها من مسرحية رائعة يا صديقي، بديعة حقًّا. كل ما عليك فعله هو قلب أحداثها رأسًا على عقب، بدلًا من تلك الخطب الصادقة المفعمة بالمرارة التي يُلقيها الأبطال، اجعلهم يتحدثون عن مشاعرهم النبيلة؛ دع نائب وزير الخارجية (الذي لم يكن شخصية محبوبة في المسرحية) يموت في الفصل الأخير بدلًا من ذلك الرجل من مقاطعة يوركشاير، وغيِّر مصير المرأة الفاسقة، دع حالها ينصلح بفعل حبها للبطل، ثم اجعلها ترتحل إلى مكان بعيد كي تساعد الفقراء مرتدية فستانًا أسود. إذا عدلتها على هذا النحو فربما تصلح للعرض على خشبة المسرح.»

استدرت في استياء لأرى مَن المتحدث. كانت تلك الآراء تشبه ما يقوله مديرو المسارح. لم يكن أحد بالغرفة غيري أنا والقط. من المؤكد أنني كنت أحدِّث نفسي، غير أن الصوت الذي سمعته كان غريبًا عليَّ.

أجبت محتدًّا وبنبرة ازدراء، فلم أصدِّق أنني أتجادل مع نفسي: «ينصلح حالها بفعل حبها للبطل! كيف يعقل هذا؟! إن شغفه المجنون بها هو ما أفسد حياته.»

رد الصوت: «وسوف يفسد المسرحية، من حيث الإقبال الجماهيري. إن البطل المسرحي الإنجليزي لا يملك عاطفة مشبوبة، ولا يشعر سوى بإعجاب مهذَّب وبريء ناحية الفتاة الإنجليزية الشريفة المرِحة. يبدو أنك تجهل مبادئ النوع الفني الذي تمتهنه.»

واصلت حديثي غير مكترث بالمقاطعة قائلًا: «فضلًا عن أن امرأة ولدت في بيئة تشجِّع على الرذيلة وعاشت فيها طوال ثلاثين عامًا لن ينصلح حالها.»

رد الصوت ساخرًا: «هذه المرأة بالذات لا بد أن ينصلح حالها. اكتب أنها سمعت عزفًا على الأرغن في إحدى الكنائس فتابت.»

اعترضت بقولي: «لكن بصفتي فنانًا …»

قاطعني الصوت سريعًا: «فنان فاشل، وستظل كذلك يا صديقي العزيز، أنت ومسرحياتك سوف يطويكما النسيان في غضون بضع سنوات، سواء كانت مسرحيات فنية أو غير فنية. فلتعطِ العالَم ما يرغب به، وسوف يُعطيك ما ترغب به. افعل ذلك رجاءً، إذا أردتَ أن تحيا.»

وهكذا جلست أعيد كتابة المسرحية وهرم بجواري على مدار أيام، وكلما شعرت أن حدثًا ما يبدو مستحيلًا تمامًا ومفتعلًا كتبتُه مبتسمًا. جعلت كل شخصية تنطق بهراء عاطفي فارغ وهرم جالس جانبي يقرقر، وحرصت أن تتصرَّف جميع الشخصيات تصرُّفات صائبة من منظور السيدة التي تمسك بالمنظار المقرب وتجلس في الصف الثاني في شرفة المسرح؛ وكانت النتيجة أن هيوسن، مدير المسرح، أخبرني أن المسرحية سوف تعرض لخمسمائة ليلة متتالية.

والأسوأ من هذا كله هو أنني لم أشعر بالخجل من نفسي، بل شعرت بالرضا.»

سألته ضاحكًا: «ما طبيعة هذا الحيوان في رأيك؟ أهو روح شريرة؟» وكان القط قد خرج من النافذة المفتوحة ودلف إلى غرفة أخرى، وبما أن عينيه الخضراوين الساكنتين والغريبتين لم تعُودا تجذبان عينيَّ نحوهما، شعرت بأنني أستعيد قدرتي على التمييز.

رد ديك بهدوء: «أنت لم تحيا معه طوال ستة أشهر، ولم تشعر بعينيه عليك مثلما شعرت. فضلًا عن أنني لست وحدي من مَرَّ بهذه التجربة. أتعرف كانون ويتشيرلي، الواعظ الشهير؟»

أجبته قائلًا: «إن معرفتي بتاريخ الكنيسة الحديث ليست مستفيضة. لكني سمعت اسمه بالطبع. ما خَطبه؟»

قال ديك: «كان راعي أبرشية فقيرًا ومغمورًا في حي إيست إند، وظلَّ لعشر سنوات يعمل بكدٍّ ويحيا حياة نبيلة بطولية، مثلما يحيا بعض الرجال هنا وهناك، حتى في عصرنا هذا. لكنه صار الآن نجم الدعوة المسيحية الجديدة والعصرية في حي ساوث كينسنجتون، وأصبح يذهب إلى منبر الوعظ في عربة يجرها زوج من الخيول العربية الأصيلة، وزاد وزنه حتى لم تعُد صديريته تتسع له. لقد زارني مؤخرًا نيابةً عن الأميرة … إذ يخططون لعرض إحدى مسرحياتي وتخصيص العائد لصالح صندوق يدعم القساوسة المعوزين.»

سألته بنبرة ساخرة بعض الشيء: «وهل أثناه هرم عن مسعاه؟»

رد ديك: «لا، على حدِّ علمي، وافق هرم على الخطة. لكن الأهم من ذلك هو ما حدث في اللحظة التي دلف فيها ويتشيرلي إلى الغرفة، فقد سار القط نحوه على الفور وتمسَّح بحب في قدمَيه. فوقف القس وشرع يمسِّد فراءه.»

ثم قال ويتشيرلي بابتسامة فضولية: «لقد جاء القط إليك إذَن، أليس كذلك؟»

ولم تكُن ثمَّة حاجة لمزيد من الإيضاح، فقد فهمت ما قصده بتلك الكلمات القليلة.

لم أرَ ديك لوقت طويل بعد لقائنا هذا، بَيْد أنني سمعت أخبارًا جيدة عنه، فقد كان نجمه يصعد سريعًا وبات على بُعد خطوة من أن يُصبح الكاتب المسرحي الأكثر نجاحًا في عصره، أما القط هرم فقد نسيت كل شيء عنه، إلى أن زرت في عصر أحد الأيام، رسَّامًا من أصدقائي، حاز الشهرة مؤخرًا بعد سنوات من الفقر والكفاح، وهناك رأيت زوجًا من العيون الخضراء تلمعان في ركن مظلم من أركان مرسمه.

سِرتُ عَبْر المرسم كي أُلقي نظرة مقربة على هذا الكائن، ثم صِحت مندهشًا: «عجبًا! لقد جاء قط ديك دنكرمان إليك.»

رفع وجهه عن حامل لوح الرسم ونظر إليَّ.

ثم قال لي: «أجل؛ فالمرء لا يستطيع أن يحيا على القيم المثالية فحسب.» فسارعت حينئذٍ إلى تغيير الموضوع إذ تذكرت ما جرى مع ديك.

منذ ذاك الحين، لقيت هرم في غرف الكثير من أصدقائي. كانوا يُطلقون عليه أسماءً مختلفة، لكني كنت واثقًا من أنه القط نفسه، فأنا أعرف هاتين العينين الخضراوين حق المعرفة. كان دائمًا ما يجلب لهم الحظ الحسن، لكنهم لم يعودوا أبدًا مثلما كانوا قبل أن يلقوه.

وأحيانًا أتساءل هل سأسمع يومًا صوت أظافره تخدش باب غرفتي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤