معالم حياته
هذا هو إسماعيل صبري الذي وُلِدَ بمدينة القاهرة في ١٦ فبراير سنة ١٨٥٤، والتحق بمدرسة المبتديان في ٢٢ أكتوبر سنة ١٨٦٦، ثم بمدرستي التجهيزيَّة والإدارة، وأتمَّ دراسته بمصر في ٢٢ نوفمبر سنة ١٨٧٤، ثمَّ أُلحق بالبعثة المصريَّة إلى فرنسا، ونَالَ شهادة ليسانس في الحقوق من جامع إكس في ٢٠ مايو سنة ١٨٧٨.
ولمَّا عَادَ من فرنسا عُيِّن مُساعدًا للنيابة بمحكمة مصر الابتدائية المختلطة في ١١ يوليو سنة ١٨٧٨، ونقل بنفس الوظيفة إلى محكمة المنصورة المُختلطة سنة ١٨٧٨، ثمَّ إلى محكمة الإسكندرية الابتدائية المختلطة بالوظيفة عينها في ٢٩ أبريل سنة ١٨٨٠، ثم عُيِّنَ نائبًا في محكمة المنصورة المختلطة في ١٣ فبراير سنة ١٨٨٣، ثمَّ وكيلًا بمحكمة طنطا الأهليَّة في أول يناير سنة ١٨٨٤، ثمَّ رئيسًا لمحكمة بنها في ١٣ مارس سنة ١٨٨٦، ثمَّ رئيسًا لمحكمة الإسكندرية الأهلية في ٢٢ يونية سنة ١٨٨٦، ثمَّ عُيِّن قاضيًا بمحكمة استئناف مصر الأهلية في ٣٠ نوفمبر سنة ١٨٩١، ثمَّ وكيلًا لمحكمة استئناف مصر الأهليَّة في ٢٧ ديسمبر سنة ١٨٩١.
ثُمَّ أُضيفت إليه أعمال النَّائب العمومي لَدَى المحاكم الأهليَّة في ٢١ أبريل سنة ١٨٩٥، وكان أول مصري عُيِّن نهائيًّا في هذه الوظيفة في ٥ ديسمبر سنة ١٨٩٥، ثم عُيِّن مُحافظًا للإسكندرية في أول مارس سنة ١٨٩٦، ثمَّ وكيلًا لنظارة الحقَّانيَّة في ٦ نوفمبر سنة ١٨٩٩. واعتزل الخدمة في ٢٨ فبراير سنة ١٩٠٧، وانتقلَ إلى رحمة الله في ٢١ مارس سنة ١٩٢٣ بمدينة القاهرة، بشارع القصر العيني أمام كلية الطب.
هذه هي المعالم والتواريخ التي استقاها نَاشِرُو ديوانه من ملفِّ خدمته الموجود في دار المحفوظات المصرية، وهي معلومات جافَّة لا تُسْعفنا كثيرًا في التعرُّف على بيئته، وجوِّ أُسرته، والمؤثرات الأولى التي تحكَّمَت في تربيته وتوجيهه نحو الشِّعر، وإعطاء حياته ذلك الطَّابع الأرستقراطي الخاص الذي عَزَلَه عن عامَّة الشعب، وأَحاطَه ببيئة خاصَّة، حتى جاء شعره غير مُنفعل بأحداث مصر الكُبرى، وأحداث العالم التركي أو العالم العربي المتصلين بمصر على نحوِ ما نُشاهد عند وليِّ الدِّين يَكَن مثلًا، حتى إننا عند دراستنا له لم نحاول كما حاولنا في دِراستنا لولي الدِّين أن نبحث له عن آراء في السياسة أو الاجتماع، وعن شعر أو أدب يتضمَّن تلك الآراء.
فإسماعيل صبري أبعد ما يكون عن هذا الاتجاه، وكل شعره لا يكاد يخرج عن نوعين؛ إمَّا شعر تقليدي في المدح والتهاني لإسماعيل وتوفيق وغيرهما من ذوي الجاه والسلطان، يمدحهم ويُهنِّئهم و«يؤرِّخ» لهم في شعره، ويجري في مدحه وتهنئته على التقاليد القديمة المتوارثة، والقوالب والصِّفَات المتداولة، والمحسِّنَات اللفظيَّة المعروفة، من جناسٍ وطباقٍ ومُقابلةٍ وما إليها. وهو يبتدئ هذه القصائد بالغزل على نحو ما فعل في أول قصيدة كتبها تهنئةً للخديوي إسماعيل بعيد الأضحى سنة ١٨٧٠؛ أي والشاعر في السَّادسة عشرة من عمره طالبًا بمدرسة الإدارة والألسن؛ حيث يقول:
إلى أن يقول:
ثم يستمرُّ على هذا النَّهجِ في كافَّة قصائد المدح والتهنئة، ولا يُقلِعُ عن الطريقة التقليدية إلَّا في بعض المقطوعات الصغيرة.
وأمَّا النوع الثاني من شِعره فهو شعره الذَّاتي الذي يصدر فيه عن مِزاجٍ أصيلٍ، قد نستطيعُ التقاط ملامحه من ذلك الشعر نفسه، وإن كانَ من الشَّاق تفسيره. وهذا المزاج هو ما وصفه البعض بأنه مزاج قاهري، أو مزاج رجل الصَّالونات، أو مزاج النديم. وذَهَبَ البعض في تفسيره إلى أنَّه طبع جُبِلَ عليه إسماعيل صبري الذي وُلِدَ أنيقًا مُرهفًا، حتَّى لقد برع في فنِّ الخط وأوشك أن يتَّخذه مهنة، لولا أن صرفه عن ذلك علي مبارك باشا، الذي ضنَّ بمواهبه عن أن تقفَ عند هذه المهنة، فدفعه إلى السير قدمًا في الدراسة، ثمَّ في الحياة، ولكن التفسير بالطبع والجبلَّة لا يُعتبر في الواقع تفسيرًا، وإنما هو تسجيل لواقعة راهنة، ولذلك أخذ بعض النقاد يبحثون عن تفسير هذا المزاج الرقيق المرهف في بيئة القاهرة، ومجالس الظرفاء فيها، فقال الأستاذ العقاد: «إذا أُتِيحَ لَكَ أَن تحضرَ مَجلسًا من مجالس الظرفاء القاهريين في الجيل الماضي، خيِّلَ إليك أنَّكَ في حُجرة رجل نائم مريض، فالكلام همس، والخطو لمس، والإشارة في رفق، وسياق الحديث لا إمعان فيه … في هذه البيئة نشأ إسماعيل صبري الشَّاعر الناقد البصير بلطائف الكلام، فنشأ على ذوقٍ قاهريٍّ صادقٍ يعرف الرِّقَّة بسليقته وفكره، وليس يتكلَّفها بشفتيه ولسانه.»
ولكن هذه البيئة القاهرية ومجالس الظرفاء فيها لم تكن تضم إسماعيل صبري وحده، بل ضمَّت غيره ممَّن يُخالفونه مزاجًا وشعرًا مُخالفة كاملة مُطلقة؛ كوليِّ الدِّين يكن الذي عَاشَ مع إسماعيل صبري في نفس البيئة، بل وغشي معه مجالس مُشتركة مثل ندوة الآنسة مي، ومع ذلك أين ولي الدين الدَّائم الانفعال والعنف من إسماعيل صبري الهادئ الوديع المسالم الذي يقول:
كما يقول:
بل لقد ينساه النَّاس ولا يعودُ يذكره أحد، وكأنَّه حيٌّ ميِّتٌ، فلا يثورُ ولا ينفعلُ ولا يسخط، بل يعروه أسًى رقيق يعبِّر عنه بقوله:
وهذه النفس الهادئة المطمئنة لا يُخيفها الموتُ نفسه ولا تنفرُ منه، بل تدعوه أن يحثَّ الخُطى؛ حيث يقول:
ولا غَرَابَة في ذلك، فمزاجه الهَادِئ قد أوحى إليه بفلسفة مُمَاثلة عن الحياة والموت، فقال:
والواقع أنَّ كل مُحاولة للتفسير لا بدَّ أن تصلَ في النهاية إلى جوهر الشخصيَّة الإنسانية الذي لا يُمكن تفسيره، والذي به يتفاوت الأدباء والشعراء، بل ويتفاوت النَّاس قاطبة؛ ففي دَاخِل كل شخصية بشريَّة يُوجد ذلك الجوهر أو تلك النواة التي يتميَّزُ بها العنصر الأصيل في كلِّ فرد، وإنَّمَا تأتي العوامل الخارجية لتعزز الاتجاهات الفطريَّة، أو لتخفف من حدتها أو تخفي من مَعَالِمِها، وعلى هذا الأساس يُمكن أن نقبل ما يُقال في تفسير مزاج هذا الشاعر أو الأديب أو ذاك.
هذا، ولإسماعيل صبري قصيدة نشرها في سنة ١٩٠١ تحت عنوان: «لواء الحسن»، أكبر الظنِّ أنها كانت القصيدة التي وَجَّهت الباحثين والدَّارسين كل وجهة في دراستهم لإسماعيل صبري، ومُحاولة تفسير مزاجه، واكتشاف المؤثِّرَات التي سَاهَمَت في تكوين ذلك المزاج وتوجيه شعره. وها هي هذه القصيدة:
نعم، إنَّ هذه القصيدة هي التي طَغَت على كافَّة ما كُتِبَ عن إسماعيل صبري ومزاجه القاهري أو «الصالوني»، فكل مَن كتبوا عنه استندوا إليها لكي يُظهِرُوا أنَّ مزاج صبري لَيسَ مزاج شاعر حارٍّ مُنفعل، بل مزاج نديم، أو رجل صالونات، أو ظريفٌ من ظرفاء القاهرة، بل وذهب البعض إلى تفسير هذا المزاج بتأثير الأدب الفرنسي، أو على الأدقِّ الأدب اللامارتيني الذي تفاعل وانسجم مع قاهريَّة صبري، فقال الأستاذ العقاد: «ولمَّا تهيَّأ لإسماعيل صبري أن يتلقَّى العلم في فرنسا، ويطَّلِع على آدابها وآداب الأوروبيين في لغتها، كان من الاتِّفَاق العجيب أن اطَّلَع على الآداب الفرنسية وهي في حالة تُشبه حالة الذوق القاهري من بعض الوجوه؛ لأنها كانت تدين — على الأكثر الأغلب — بتِلكَ الرفاهية الباكية التي كان يمثلها لامارتين وإخوانه الأرقاء الناعمون.»
بل وتعسَّف التفسير بعض الأساتذة الباحثين، مثل الأستاذ عمر الدسوقي في الجزء الثاني من كتابه «في الأدب الحديث»، فعلَّقَ على بيت صبري:
بقوله: «وعجيبٌ من صبري المهذب الرقيق الحاشية، رجل النَّادي الذي اشتهر بأنه لا يفحش، أن يطلب من محبوبته أن تنزع الثوب عن جسمها أمام الندامى، لا بل أمام الملأ أجمعين ليروا تكوين سكان السماء! ولا شكَّ أن هذه فلتة من فلتات صبري ما فطن إليها.» ثم يشمل المقطوعة كلها بتعليقه فيقول: «إنَّ صبري شغل في هذه القطعة — مُقتفيًا أثر المدرسة الفرنسيَّة — بمحاسن المحبوب الظَّاهرة عن الكشف عن لواعج نفسه، ومكنون قلبه، وبثِّ لوعته وحُرقة فؤاده، فهو ينظُرُ إليها نظرة ماديَّة رخيصة؛ يريدها أن تُسفر لأن هذا الحسن لا يصحُّ أن يتوارَى، ويريدها أن تخطر بين النَّدامَى ويتمتعوا بهذا الجمال كأنهم في سُوقِ الرَّقيق، ويُريدها أن تتحدث وتبتسم، ويُعنَى كل العناية بحسنها ومفاتنها حتى لم يستطع إلَّا أن يطلُبَ منها أن تخلعَ ثيابها، ولا يُبَرِّئه ما وُصِفَ به ونَدامَاه من العفَّةِ ومِن أنها مَلَك. إنَّه تقليدٌ مزدوج للعرب القدماء وللمدرسة الفرنسية على السواء.»
ونحن نصف هذا التفسير بالتعسُّف، ولكنه في الواقِع خطأ في الفهم، فالبيت الخاص بنزع الثوب لا يُمكن فصله عن البيت السَّابق له وهو:
كما لا يُمكن فصله عن البيت الذي يليه وهو:
فالأبيات الثلاثة تكوِّن رؤية شعرية وَاحدة يزعم فيها الشَّاعر أنَّ الفتاة «روحانية» ليس حسنها من «طينٍ وماء»، وإنما هي «تمثالٌ مصنوع من ضياء»، وبه «جناحا ملك». وهو يريدُ منها أن تنزعَ الثوب لكي تثبت صِحَّة رُؤيته الشعريَّة، فلن يظهر عندئذٍ جسم بشري، بل «تمثال مصنوع من ضياء» هو «تكوين سكَّان السماء»، وبذلك لا تكونُ «فلتة» من إسماعيل صبري، ولا يكون هناك «سوق للرقيق»، ولا «عرض لجسمٍ عارٍ بين النَّدامَى»، وإنما هناك رؤية شعرية روحية.
وأمَّا عن المدرسة الفرنسيَّة التي حرص الأستاذ العقاد على أن يُحدِّدها بالمدرسة اللامارتينية، وجاء الأستاذ عمر الدسوقي فعمَّمَها على الأدب الفرنسي كله، واستندَ على البيتِ الخاص بنزع الثوب لكي يهاجم صبري ومِن خلفه الأدب الفرنسي كله، بدعوى أنَّ الأدب الفرنسي «لا يُعنى إلَّا بمحاسن المحبوبة الظَّاهرة دُونَ الكشفِ عن لواعج النفس، ومكنون القلب، وبثِّ اللوعة وحُرقة الفؤاد.» فكل هذا لا يمكن أن يقرَّه دارس للأدب الفرنسي؛ وذلك لأن الأدب الفرنسي لا نعرف أنَّه يُعنَى بمحاسن المحبوبة دُونَ الكشف عن «لواعج النفس وحرقة الفؤاد»، وإنما نلاحظ ذلك على فترة واحدة من فترات الأدب العربي لا الفرنسي، وهي فترة الأدب الجاهلي؛ حيثُ كان الشُّعراء يَحرِصُونَ على وصف محاسن المحبوبة دُونَ لواعج النَّفس؛ وذلك لأنَّ الأدب الجاهلي كله يمتازُ بالوصف الحسِّي لكافَّة ما كان يقع عليه بصر شعرائه.
وأمَّا عن المدرسة اللامارتينية، فالبون شاسع بينها وبين إسماعيل صبري، وإلَّا فأين عند صبري تلك «الرفاهة الباكية التي كان يمثلها لامارتين وإخوانه الأرقاء الناعمون.» فيما يقول الأستاذ العقاد.
وإنه لمن الغريب أن يشيعَ في بعض الأوساط المصريَّة والعربيَّة ذلك الفهم الخاطئ لطبيعة المزاج الفرنسي والشعب الفرنسي؛ حيثُ يتوهم البعض أنَّه شعبُ الميوعة وأدب الميُوعة. وهذا خطأٌ ضارٌّ؛ فالمزاج الفرنسي انفعالي حارٌّ لا رخوٌ مَائِعٌ، ولقد يدفعهم الانفعال الشديد إلى الحمق أو سوء التصرُّف، ولكنهم أبعد ما يكونون عن التخنُّث والنعومة. وعاطفة الحب عند لامارتين عاطفة حارَّة رفيعة تمتزِجُ بحبِّ الطبيعة، بل وبحبِّ الله في وقدة إحساس صوفي حار، يستطيعُ من لا يعرف الفرنسيَّة من أدباء العرب الإحساس بحقيقتها بمُطالعة قصَّة رافائيل، أو بعض القصائد التي ترجمت؛ مثل قصيدة البحيرة التي ترجمها الأستاذ أحمد حسن الزيَّات مُترجم «رافائيل»، حتَّى لقد سمَّى لامارتين نفسُه ديوانَه «بالتأملات».
وقصيدة «لواء الحسن» قد حمَّلَها — في الواقع — النُّقَّادُ والباحثون أكثر ممَّا تحتمل، أو غير ما تحتمل عندما استندوا إليها ليتخذوا منها مرآة لمزاج إسماعيل صبري ونفسيته، واستنبطوا منها أنَّه ليس بشاعرٍ ولا عاشقٍ مولَّه، وإنَّمَا هو نديمٌ فاتر لا يغارُ على محبوبته، ولا يودُّ أن يستأثِر بها دُونَ غيره.
هذا، ولعلَّ شَارِح الديوان الأستاذ أحمد الزِّين هو الذي يتحمَّل جانبًا كبيرًا من مسئولية تفسير قصيدة لواء الحسن على النَّحوِ الذي أَوضحناه ولا نُريدُ أن نقبله؛ وذلك لأنَّه قد قدَّم لهذه القصيدة، التي يؤرِّخها بسنة ١٩٠١، بقوله: «وقد قالها لتترجم إلى اللغة الفرنسوية ضمن مجموعة مُختارة من الشعر العربي القديم يُراد ترجمته إليها، وهو في هذه القصيدة يُخالف غيره من الشُّعراء في حبِّهم الاستئثار بالحسن، ويرغب إلى الحسناء أن تسوي بين مُحِبِّيهَا في التمتُّع بالنظر إلى حسنها الباهر.»
ولعله يكون من الصحيح تاريخيًّا أنَّه قد كَانَ هناك مشروع لترجمة مُختارات من الشعر العربي إلى اللغة الفرنسوية، ونحن نعلمُ أنَّ وَاصِف باشا غالي الذي أَقَامَ معظم حياته في فرنسا كان يقوم بمثل هذه الترجمة، كما نعلمُ أنه كان صديقًا لإسماعيل صبري، بل ونطالع في الديوان خطابًا أرسله واصف غالي من باريس إلى إسماعيل صبري، وفيه يطلب إليه أن يبذر بذور السكينة والوفاق بين الأقباط والمسلمين؛ وذلك على أثر اغتيال بطرس باشا غالي، وعقْد الأقباط في ٦ مارس سنة ١٩١١ مؤتمرًا بمدينة أسيوط للنَّظَرِ في حالهم مع المسلمين، ومُطالبة الحكومة بعدَّة مَطالِب للطائِفَة القبطيَّة، ثمَّ ردَّ المسلمون على هذا المؤتمر القبطي بمؤتمر مصري أو إسلامي عقدوه في مصر الجديدة في نفس العام.
وبالفعل أنشأ إسماعيل صبري قصيدة طويلة في هذا المعنى بعنوان «نداء إلى الأقباط»، ص١٨٠ من الديوان، بل ونجد في صفحة ٨٤ قصيدة بعنوان «إلى واصف غالي باشا»، يُشيدُ به فيها إسماعيل صبري، وقد ألقاها في حفلٍ أُقيمَ لتكريمه في فندق شبرد تحتَ رعاية الخديوي السَّابق عبَّاس حلمي الثَّاني سنة ١٩١٤، ويقولُ شارح الديوان: إنَّ هذه الحفلة التكريمية قد أُقِيمَت لواصف غالي «لمَا قام به من ترجمة بعض الشعر في كتابٍ سمَّاهُ «روض الأزهار»، ونُشِرَ هذا الكتاب في باريس، ولِمَا كان يقومُ به أيضًا من إِلقاء بعض المُحاضرات في باريس في الإشادة بفضل الشرق والشرقيين.»
كل هذه الوقائع التاريخية قد تُغرِي بالظنِّ بأنَّ قصيدة «لواء الحسن» قد أُعِدَّت أو صُنِعَت لتُتَرجَم إلى الفرنسية، أو ليُترجمها واصف باشا غالي بالذَّات، وإن كنَّا قد راجعنا كتاب «روض الأزهار» — الموجود بدار الكتب المصرية، والمنشور سنة ١٩١٣ — فلم نجد تلك القصيدة من بين ما يضمه هذا الكتاب.
وسواءٌ أكانت هذه القصيدة قد تُرجمت أو لم تُتَرجم إلى الفرنسيَّة، فإنَّ الذي نحرص على إيضاحه وتصحيحه هو تبديد ما يتوهمه البعض ممَّن لا يُلِمُّون بالشعر الفرنسي الإلمام الكامل، وبشعر لامارتين وغيره من الرُّومانسيين بنوعٍ خاص، من أنَّ هذه القصيدة تجري مجرى الشعر الفرنسي، وتتلاقى فيها روح ذلك الشعر مع الروح القاهرية التقاءً يتركَّز في روح الاستهتار بالحبِّ، وعدم تقديسه، وتجريده من تلك الوحدانية، بل الأثرة الطبيعيَّة التي تتميز بها تلك العاطفة في جميعِ الشعر الصَّادق الحار.
والواقع أنَّ لواء الحُسن أو المرأة الجميلة التي يَتَحدَّث عنها إسماعيل صبري في هذه القصيدة ليست امرأة مبتذلة، ولا نهبًا للأطماع، وإنَّما هي امرأة رُوحانية تقصر عن التطلُّع إليها شهوات النُّفوس. وليس في القصيدة أيَّة نَغَمة حِسِّيَّة أو مُستهترة أو مُبتذلة، وهي أبعد ما تكون عن روح الندماء ومجالس الظرف أو الخلاعة. وكل هذا يُغرينا بأن نرجِّح أنَّها قصيدة تعبِّر عن تجربة بشريَّة صادقة شريفة، بل وأن نميل إلى الاعتقادِ بأنها قيلت في الآنسة مي زيادة بالذات.
نعم، إنَّ هناك صعوبات في التواريخ؛ وذلك لأنَّ ناشر الديوان يقول: إنَّ قصيدة لواء الحسن قد نُشرت في سنة ١٩٠١، والدكتور منصور فهمي يرجِّح في المُحاضرات التي ألقاها في هذا المعهد عن الآنسة مي، أنها قد وُلدت بين عامي ١٨٨٥ و١٨٨٦، وإذا صحَّ هذان الخبران، فيكون معنى ذلك أنَّ إسماعيل صبري قد قال قصيدة لواء الحسن ومي في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة من عُمرها، ولكنَّنَا على أيَّة حال لا نستطيع أن نجزم بمدى صحة هذين التاريخين؛ فقد تكون القصيدة أحدث تاريخًا، وقد تكون مي أقدم ميلادًا.
وعلى أيَّة حال، فإنه إذا صحَّ تاريخ ميلاد مي السابق، وقورن بما هو مؤكَّد رسميًّا من ميلاد إسماعيل صبري في ١٦ فبراير سنة ١٨٥٤، يكون معنى ذلك أنَّ بينه وبينها من فارق السن ثلاثين عامًا على الأقل. ومع ذلك، فإنَّ في ديوان صبري بيتين ص١٢٨ يذكران مي بصريح اللفظ، وهما بيتان أرسلهما إليها في أحد أيام الثلاثاء التي كانت تعقد فيها ندوتها. وقد اضطر صبري في ذلك اليوم إلى التخلُّف عن حضورها بسبب بعض أسفاره، وهذان البيتان هما:
وفضلًا عن ذلك فإنَّ لدينا مقطوعة أُخرى تصدُرُ عن نفس الروح التي تصدر عنها قصيدة «لواء الحسن»، وقد أرَّخها الناشر بسنة ١٩٠٩:
وعلى أية حال، وسواء أكانت قصيدة لواء الحسن، وهذه القصيدة الأخيرة وأمثالهما ممَّا قد نجده في ديوان صبري قد قِيلت في الآنسة مي، أو في فتاة أو سيدة مُهذَّبة شريفة مثلها، فإنَّنا في كلتا الحالتين نستطيع أن نجزم بأنَّ هذه القصائد لم يقلها إسماعيل صبري متأثِّرًا بالأدب الفرنسي، بل قالها صَادرًا عن تجربة واقعية ومزاج خاص؛ وذلك لأنَّنَا لا نعرِفُ في الأدب الفرنسي غَزَلًا يُشبِهُ في روحه هذه المقطوعات، وإنَّمَا نعرفُ في الأدب الفرنسي أحد اتجاهين: إمَّا الاتجاه الرومانسي، وهو الاتجاه العاطفي الحار المنفعل الثائر أحيانًا كما هو الحال عند ألفريد دي موسيه، والرقيق المتأمِّل، بل والباكي أحيانًا كما هو الحال عند لامارتين، الذي يختلط عنده حبُّ الحبيبة بحبِّ الطبيعة — كما قلنا — بل وبحب الله أحيانًا، والتأمل فيه. ثمَّ الاتجاه البودليري الذي يمكن أن يُسمى بالأدب المكشوف، وهو لا يشبه مقطوعات صبري العفيفة في شيء. وإذا لم يكن بدٌّ من التماس شبيهٍ لهذا الاتجاه البودليري في الأدب العربي، فقد نجده عند الشَّاعر عمر بن أبي ربيعة، ثم بنوعٍ خاصٍّ عند بعض الجاهليين؛ مثل امرئ القيس، الذي لم يكن يتورَّع عمَّا يزعمه من أنه كان يلهِّي عشيقته عن مُرضعِهَا «ذي التمائم المحول»؛ حيث يقول:
كما قد نجده عند الشاعر المعاصر إلياس أبي شبكة.
ومع ذلك، فإنَّ من الظُّلمِ أن نُعمِّم الحكم على إسماعيل صبري فنتهمه بأنه لم يتحدَّث عن لواعج الحب وحُرقته وما تُثيره نكباته من أسًى في النفوس، وهو القائل ص١١٧:
بل وهو الذي تحدَّث عن أسى الحبِّ الضَّائع حديثًا يعتبر بلا شك من أجمل ما قيل في الأدب العربي قديمه وحديثه في مقطوعته الشهيرة:
هذا وقد علَّق الشاعر خليل مطران على قصيدة «لواء الحسن» بقوله: «كانت الغزليَّات قبل الآن فيها ما يمس الآداب العمومية من ذكر القدود والنهود، والضمِّ والعناق، ورقة الخصر وكثافة الردف. ولقد كان هذا من العام حتَّى في قصائد المديح للملوك والأمراء، وهو ما لا ترضاه الأذواق في هذه الأيَّام ويُنكره علينا أدباء الغرب. وقد سئل صاحب السعادة المفضال إسماعيل باشا صبري نظم أبيات تُنقل إلى اللغة الفرنسوية، وتُجعَلُ في كتاب يؤلَّف الآن في مُختار الشعر العربي قديمه وحديثه، فجادت قريحته الوقَّادة بهذه الأبيات التي جاءت على الطريقة الصوفية من حيثُ سموِّ الخيال، ونزاهة الشيمة، وغرابة الوضع، ولعلها أحسن ما جمع فيه بين الأسلوبين العربي والغربي في نظم الشعر.»
ولقد يكون من المبالغة القول بأن هذه المقطوعة قد جاءت على الطريقة الصوفية، ولكن هذه المبالغة لا تصل إلى حدِّ المبالغة المضادة التي تريد أن تصف هذه المقطوعة بالرقاعة أو ما يشبهها، وهي بعد تجريدها من هذه المبالغة تنمُّ عن حقيقة المقطوعة من حيث إنَّها لا تمتُّ بِصِلَةٍ إلى الغزل الحسي، أو غزل الندماء والسكارى، كما تدلُّ على أنَّ التمسُّك بالبيت الذي يدعو فيه الشَّاعر الفتاة الملائكية لنزع الثوب لكي يسفر عن «تمثال مصوغ من ضياء» للحكم على هذه المقطوعة بالحسيَّة الممجوجة تعسُّف بالغ، بل خطأٌ واضح تفضحه بقيَّة معاني القصيدة التي تُحدِّثنا عن الشعور الحقيقي للمعجبين بهذه الحسناء الملائكية التي كانت الصبوة تتعثَّرُ إزاءها بالحياء.
وأمَّا عن تأثُّر إسماعيل صبري بالأدب الفرنسي، فقد حاول الدكتور محمد صبري تلمُّسه في بعض المعاني التي جاءت في شعره، ولكن مثل هذه الأبحاث لا بدَّ أن تُؤخذ بالحذر الشديد، وهي شبيهة بالبحث عن السرقات عند نُقَّاد العرب القدماء؛ فالشعراء يستقون من منابع مُتشابهة هي الإنسان والطبيعة وما خلف الطبيعة والمجتمع أحيانًا، وكثيرًا ما تتوارَدُ الخواطر؛ ولذلك لا نستطيعُ الجزمَ بالأخذِ عن الغير إلَّا عندما تكونُ الفكرة أو يكون الإحساس قد اتَّخَذَ قالبًا تعبيريًّا أو تصويرًا بيانيًّا يضعُ عليه الطَّابع الخاص لقائله؛ وبذلك نستطيع أن نجزم بملكيته الأدبية له. ولعلَّنا نستطيعُ أن نضرب لذلك مثلًا بقول صبري:
وقد أشار الشَّارح صراحةً إلى ذلك في تقديمه لهذه المقطوعة؛ حيثُ قال: «استوحى هذه الأبيات من المثل الفرنسوي الذي ترجمته: «ليت الشباب يعرف، وليت المشيب يقدر».» كما أشار الديوان إلى أنَّ صبري قد استوحى مقطوعته عن الساعة ص١٨٨ من عبارة قرأها على عقرب إحدى ساعات كنيسة رمس بفرنسا؛ وهي: «كلهنَّ جارحات والأخيرة القاتلة.» وفيها يشكو السَّاعات وتعاقبها عليه بما يكره.
وكما ترجم شوقي بعض أقاصيص «لافونتين» التي كتبها على ألسنة الحيوانات، نرى صبري يترجم هو الآخر أقصوصة الثعلب والغراب ص١٣٧، ويستهلها بقوله:
وأما فيما عدا الترجمة أو الاستيحاء المعترف به، فيخيَّل إلينا أنَّ النقاد قد أخذوا يتعسفون عندما راحوا يلتمسون شبهًا قريبًا أو بعيدًا بين هذا البيت أو ذاك، وبين بيت عربي قديم أو بيت فرنسي على نحو ما فعل أحمد محرم في عدد سبتمبر ١٩٣٤ من مجلة أبوللو، وجاراه الأستاذ عمر الدسوقي في كتابه عن الأدب الحديث، بل وكما فعل أحيانًا الدكتور محمد صبري، والأستاذ مصطفى صادق الرَّافعي. ونضربُ لذلك مثلًا بقول إسماعيل صبري:
فالرافعيُّ يرى أنَّ هذا المعنى أصله لبشَّار في قوله:
فأمَّا عمَّا يقوله الأستاذ الرافعي، فإنه إذا كان هناك تشابه بين المعنيين اللذين عبَّر عنهما بشار وصبري؛ وهو شدَّةُ الالتصاق، فإنَّ التصوير البياني الذي يدمغ المعنى بملكية قائله يختلفُ اختلافًا مُطلقًا عند كليهما؛ فالالتصاق عند بشَّار لا يسمح بتسرُّبِ الخمر لو سُكِبَت بينهما، بينما صبري يقولُ: إنَّ العناق كان شديدًا حتَّى لكأنَّ الصديق قد تسرَّب خلال صديقه. وهذا تصوير يختلفُ تمامًا عن تصوير بشار.
وأمَّا عن الفيلسوف الفرنسي، فهو لم يقل عبارته في مجال العناق، وإنَّمَا وردت في مقالٍ شهيرٍ له عن الصداقة، تحدَّثَ فيه عن صديقٍ فقده هو دي لابويسيه ورثاه، وفصل القول عن مدى صداقتهما التي وصلت إلى حدِّ الامتزاج الكلِّي حتَّى ما كان يميز أحدهما نفسه عن شخصِ صديقه، وعن هذه الصداقة قال الفيلسوف الفرنسي: «لم أكن أدري أكان هو أم أنا.» بعد أن أوضح أنَّه كان يقتسم مع صديقه وهو حي كل شيء، حتى ليخيَّل إليه منذ مات أنه يسرق نصيب صديقه من كلِّ شيءٍ يأكله أو يتمتع به.
ومع ذلك، فإنه إذا كان من التعسُّف البحث عن جزئيات المعاني أو المشاعر التي يزعم بعض النقاد أنَّ صبري قد أخذها عن غيره من شعراء العرب أو الفرنسيين، فإنَّه من الثَّابت باعتراف صبري نفسه وبحقائق حياته أنَّه قد تأثَّرَ في روحه وفنِّهِ العام بشعراء بعينهم، تجاوبت معهم روحه، وذهبَ إليهم تفضيله؛ مثل عمر بن الفارض الذي نحس بروح مُشابهة لروحه في قول صبري:
بل ولقد نحسُّ في هذه المقطوعة، أيضًا، شيئًا من روح الشَّاعر المتدين الرقيق لامارتين، دون أن نستطيع الجزم بأنَّه قد أخذ أيَّة جزئية من جزئيَّات معانيه عن لامارتين أو غيره، كما زعم الدكتور محمد صبري.
وكذلك الأمر في البحتري الذي يقول صديقه وشارح ديوانه أحمد الزِّين: إنَّ صبري قد حدَّثه ذات مرَّة بأنه حين قرأ ديوان البحتري خُيِّلَ إليه أنه لم يقرأ شعرًا قبله، بل وأحسَّ نفس الشارح بشبه قوي بين الرَّائيَّة التي قالها صبري في تهنئة الخديوي عباس الثاني بعيد الفطر، وأولها:
وبين قصيدة البحتري الرَّائيَّة، أيضًا، التي قالها في تهنئة الخليفة المتوكل بعيد الفطر كذلك، وأولها:
وإن يكن الصديق الشارح لم يأخذ في التنقيب عن المعاني التي يمكن أن يُتَّهَم صبري بأنه قد أخذها عن البحتري، بل اكتفى بإيضاح الشبه بين الشاعرين «في حُسنِ التنسيق، وصفاء الديباجة، وسفور المعاني، وعُذُوبة الألفاظ وطلاوتها، وذلك الجمال الذي تراهُ شائعًا في شعره، مُترقرقًا في عباراته ترقرُقَ الظِّلِّ في السَّحر على أوراق الزهر.»
وبالرغم من كلِّ ما قد يكون في هذه الملاحظات من صدق، إلَّا أنَّنَا لا نميلُ إلى تركيز الاهتمام على هؤلاء الشُّعراء في تفسير مزاج إسماعيل صبري وروحه الشَّاعرية الخاصَّة، ونفضل أن ننظر إلى هؤلاء الشعراء لا على أنهم من عوامل تكوينه الشَّاعري، بل على أنه اختارهم وآثرهم بدافِعٍ من مزاجه الخاص الذي فُطِرَ عليه؛ وذلك أخذًا بالحكمة القديمة الصادقة التي تقول بأن اختيار المرء قطعةٌ من عقله.
وإذا كان قد حدَث بعد ذلك تجاوب بين صبري وابن الفارض والبحتري ولامارتين، فإنَّ تأثيرهم فيه لا يعدو أن يكون قد عزَّزَ اتجاهات نفسه، وساعد على نموِّ البذرة التي فُطرت فيها.
والواقع أنَّ إسماعيل صبري من أولئك الشُّعراء والأدباء الذين ينطبق عليهم إلى حدٍّ بعيد قول أحد كبار النقَّاد الفرنسيين: «إنَّ أسلوب الرجل هو الرجل نفسه.» وذلك على أن نفهم معنى الأسلوب بالمعنى الغربي؛ حيث نراهم لا يقصدون به طريقة التعبير اللفظي وخصائص ذلك التعبير اللغوية، بل يقصدون طريقة الكاتب أو الشاعر في مُعالجة الأمور، وفي النظر إلى الحياة ووجهة انفعاله بها، فيقولون: إنَّ هذا الأديب أو ذاك عاطفي الأسلوب، أو خَيَالِيُّه، أو ساخرُه، أو رقيقُه.
شعر إسماعيل صبري يُمَثِّل إذن أسلوبه في الحياة ومزاجه الخاص، حتَّى ليصح القول بأنَّ أسلوب صبري الشعري هو صبري نفسه، وأنَّه لم يستمد هذا الأسلوب من أحدٍ بقدر ما استمدَّه من أعماق نفسه. وإذا صحَّت هذه الحقيقة يُصبِحُ من العبث البحث عمَّا أخذه عن الغير، بل وعمَّا تأثَّرَ فيه بالغير، ويكفيه أصالة أن يكونَ أسلوبه الشعري مرآة لحياته، ولطبيعة نفسه. ونحن لا نعني بذلك أنَّه قد قصر شعره على أحداث حياته الخاصَّة وأحاسيسها، بل نعني طريقة التناول، بصرف النظر عن الموضوعات التي يُعالِجُها؛ ففي هذه الطريقة تظهر أناقته، وعذوبة روحه، ووداعة طبعه وميله إلى اليسر والتسامح واطمئنان النفس، والبعد عن الجلبة والعناد والعنف والتعصب للرأي، على نحو ما لاحظنا عند شاعر آخر كوَليِّ الدِّين يَكَن، شاعر الانفعالات الفكريَّة.
وأول ما نُلاحظه على إسماعيل صبري ولاحظه غيرنا: سلامة الذوق ورقته، ورهافة إحساسه اللغوي والموسيقي؛ ممَّا أحالَ شعره غناء، وجعل مُنتداه الأدبي في بيته سوق عكاظ، بل صالون شعر وَصَفَه حافظ إبراهيم بقوله:
كما تحدَّث مصطفى صادق الرَّافعي، في مُقتطف مايو سنة ١٩٢٣، عن ملكته الناقدة نقدًا يستندُ إلى سلاسة الطبع، ورقَّة العاطفة، وسلامة الذوق، فقال: «ولم يكن في مصر ممَّن يُحسن ذوقَ البيان، ويميز أقدار الألفاظ بعضها عن بعض وألوان دلالتها كالبارودي، وصبري، وإبراهيم المويلحي، والشيخ محمد عبده، رحمهم الله جميعًا، والبارودي يذوق بالسليقة، وصبري بالعاطفة، والمويلحي بالظرف، والشيخ بالبصيرة النفَّاذَة. وذلك شيءٌ ركَّبه الله في طبيعة صبري ولم يُحصِّله بالدرس أكثر ممَّا حصَّله بالحسِّ؛ ومن أجله كان يُفضل البحتري على غيره.»
ولقد روى الدكتور محمد صبري عنه أحكامًا مركَّزة عن شوقي وحافظ ومُطران؛ حيث قال: «شوقي ينظم، وحافظ يبني، ومُطران يبتدع.» وهذه عبارات تدلُّ على إحساس فنِّي صادق؛ لأنها تُبرِزُ الخاصيَّة الأساسيَّة لكلٍّ من الشعراء الثلاثة؛ فشوقي يتميَّز بروعة مُوسيقاه، وحافظ ببراعة سبكه، بينما يذهب مطران بالأصالة والابتكار حتَّى اعتُبر رائد التجديد في الشعر العربي المعاصر.
وسلامة الذوق ترجعُ — كما قال الرَّافعي — إلى طبيعة صبري، ورقَّة مزاجه، وسلاسة طبعه، ورفاهة إحساسه. وكل هذه صفات حدَّدَت منهجه الشعري الذي وصفه صديقه ومعاصره خليل مطران وصفًا دقيقًا صادقًا بقوله: «أكثر ما ينظم فلخطرة تخطُرُ على باله من مثل حادثة يشهدها، أو خبر ذي بالٍ يسمعه، أو كتاب يُطالعه.»
«ولمَّا كان لا ينظم للشهرة، بل لمجاراة نفسه على ما تدعوه إليه، فالغالب في أمره أنه يقول الشِّعرَ مُتمَشِّيًا، وربَّمَا قاله بحضرة صديقٍ وهو مائلٌ عنه بعنقه، وله بين حينٍ وحينٍ أنَّةٌ تتمثل ما تنطق به لفظة «إيه» مُستطيلة. ينظم المعنى الذي يعرض له في بيتين عادة إلى أربعة إلى ستة، وقلَّمَا يزيدُ على هذا القدرِ إلَّا حيثُ يقصد قصيدة، وهو نادرٌ. شديدُ النَّقد لشعره، كثير التعديل والتحويل فيه، حتى إذا استقام على ما يُريده ذوقه من رقَّة اللفظ وفصاحة الأسلوب أهمله ثمَّ نسيه، وهكذا يمرُّ به الآن بعد الآن فيجيش في صدره الشعر، فيرسل بيته إطلاق زوجي الطائر فيذهبان في الفضاء ضاربين من أشطرهما بأجنحةٍ مُلتمعة شاديين على توقيع العروض إلى أن يتواريا وينقطع نغمهما من عالم النسيان. ذلك هو الشعر للشعر.»
وهكذا لم يكن صبري يقول الشعر للشهرة، بل لمُجَارَاة نفسه على ما تدعوه إليه؛ ولذلك صحَّ أنَّ يُوصف منهجه بأنَّه الشعر للشعر، بل الشعر للغناء، وكان خير ما قال من شعر هو تلك المقطوعات والقصائد التي قالها للتعبير عن وجدانه الخاص، وهو الشعر الذي غلب عليه في مرحلة كهولته بعد أن نضجت ملكاته، واستوى منهجه، وتخلَّص من الشعر التقليدي ذي المحسنَّات البديعية، الذي كان يقوله جريًا على عادة عصره في صدر حياته في تهنئة الخديوي أو مدحه، أو في بعض المناسبات الكُبرى، بل ورأينَاهُ لا يكتفي بهذا الشعر الغنائي الفصيح فيؤلِّف للغناء مقطوعات عاميَّة يكادُ يُجمع مُعاصروه على أنَّها ارتفعت بالأغاني ارتفاعًا كبيرًا، وهذَّبَت الأذواق، حتَّى ليخيَّل إلينا أنَّه كان ذا أثرٍ واضحٍ في بعض شُعَرَائِنَا المُعَاصرين الذين اشتهروا بالأغاني مثل أحمد رامي. ولقد حرص جامعو ديوانه على أن يُذيلوه بطائفةٍ مُختارةٍ من أغانيه العامية الذَّائعة الصيت؛ مثل أُغنية:
وهذا الإحساس المرهف لم يكن بد من أن تصحبه عدَّة صفات أخلاقية، نُطالعها في شعره كما يرويها مُعاصروه عن واقع حياته، ومن بينها: سمو النفس، والاعتزاز بالكرامة، والبُعد عن مواضع المهانة والصَّغار، فهم يُحدِّثُونَنَا أنَّه قد كان من بين وُجَهَاء المصريين القلائل الذين لم يدخلوا قط دار اللورد كرومر، صاحب الحول والطول في ذلك الحين، رغم دعوته المتكررة له، وهو يصوِّر في شعره عزَّة النفس بقوله:
بل كان ينتقم لكرامته في دعة وسخرية باسمة، مثل قوله:
ومَن كانت تلك عزَّة نفسه كان من الطبيعي أن يزهد في الحياة ومغانمها الباطلة، ولا يرى في الموت كارثة يفرق لها، بل لعله يؤثِرُ الميِّتَ المستريح على ميِّت الأحياء؛ حيثُ يقول:
بل وكان يرى في الموت راحة لنفسه ومخلصًا من آلامه التي زادتها حساسيته حدًّة؛ حيث يقول:
على أنَّنَا لو تركنا شعره الذي يتحدَّثُ فيه عن نفسه وعن خوالجه الخاصَّة، ونظرنا في فنون الشعر التقليدية التي عالجها، وفي القصائد الموضوعية التي نظمها؛ لاتضَحَ لنا على نحوٍ أفصح دلالة ما قُلنَاهُ من أنَّ صبري ينطبق عليه بحق قول أحد الفرنسيين: إنَّ أُسلوب الرجل هو الرجل نفسه.
ففي الأغراض التقليدية لا نجدُ عُنفًا في الطَّبعِ، ولا حدَّة في المزاج، كما لا نجدُ سيرًا على الدروب المطروقة، بل تلوينًا لتلك الأغراض بمزاجه الخاص، واتجاهًا نحو الأسلوب الذي يستمده من طبيعته.
ففي الإلهيَّات نُطَالِعُ له عدَّةَ مقطوعات جميلة مؤثِّرَة لا يحسم فيها موقفه من الله وحقائق الدين؛ أي إنَّه لا يتعصب للإيمان كما لا يتعصب للكفر، بل ولا يتعصَّبُ للشَّكِ، بل يُصوِّر حالته النفسية الوديعة في غير تزمُّتٍ ولا عِنَادٍ ولا التزامٍ؛ حيثُ يقولُ مثلًا ص١٩٢:
كما يقول في نفس الموضع:
وكل هذا شعرٌ وادعٌ صادقٌ يصوِّرُ حقيقة نفسيَّة واقعة، ويصدر عن مزاجٍ خاص، فلا هو تصوُّف حارٌّ يُشبِهُ العشق، ولا هو شكٌّ عنيد، ولا هو إِسرافٌ في الإيمان، بل طبعٌ وادعٌ، ومزاج سلس، وشعرٌ صادق يُصوِّر أسلوب صاحبه في الحياة وما بعد الحياة تصويرًا أَمينًا.
وهو في فنٍّ تقليديٍّ كفنِّ الرِّثاء يُغلِّب النَّاحية العاطفية الطَّاغية على مِزاجه، فلا يجعل وَكْده مدح الميت على نحوِ ما كان يفعل أغلب العرب القدماء، وبخاصَّة عندما يرثون عظماء الرجال والحكام الذين لا تربطهم بهم وشيجة قُربَى خاصة، حتَّى قال بعض نقَّادِهِم: إنَّ الفرق بين المديح والرثاء هو أنَّ المديح للأحياء والرثاء للموتى.
ولعلَّنَا نستطيعُ أن نجد خير تدليلٍ على هذه الحقيقة عند صبري في رثائه للزعيم مُصطفى كامل؛ وذلك لأنه من الثابت تاريخيًّا أنَّ إسماعيل صبري كان من المُعجبين المؤيدين للزعيم الشَّاب، بل إنَّنَا لنذكُرُ أنه خَالَفَ رغبة الحكومة أثناء تولِّيه منصب مُحافظ الإسكندرية تأييدًا لمصطفى كامل، وحرصًا على تمكينه من أداء رسالته الوطنية عندما أراد أن يخطب أهل الإسكندرية، فأوعزت الحكومة إلى إسماعيل صبري، مُحافظ المدينة، أن يَحُولَ بينه وبين ما يُريدُ مُحتجَّة بالأمنِ أن يختلَّ نظامه، والقانون أن تُنتَهَكَ أحكامه، فَأَبَى صبري على الحكومة كلَّ الإباءِ، وخلَّى بين مصطفى وبين شعبه يخطبه كما يشاء، وقال للحكومة: «أنا مسئولٌ عن الأمن والنظام في مُحافظتي، ومُحتَمِلٌ ما تعقبه هذه الخطبة من تبعات.» ومع ذلك، عندما مات الزَّعيم الشاب ووقف إسماعيل صبري ليرثيه، لم يتَّجِه نحو المدح والإشادة بالوطنيَّة والوطنيين، بقدرِ ما أطلق لحزنه العنان، وَأَخَذَ يتحدَّث عن لوعته لفقد هذا الصديق العزيز أكثر ممَّا يتحدَّث عن عظمة الزعيم وقضيَّة الوطن؛ ممَّا دعا البعض إلى أن يظنَّ خطأً أنَّ إسماعيل صبري قد أخذ بالتقِيَّة، وتجنَّبَ في رثائه للزعيم الخوض في المسألة الوطنيَّة والجهاد ضد الاستعمار. وهم في ذلك جد ظالمين؛ وذلك لأن إسماعيل صبري لا يجوزُ أن يُتَّهم باصطناع الاتجاه العاطفي في رثائه للزعيم؛ لأنَّ هذا الاتجاه هو الغالب على شعره كله، وهو الجوهر الأصيل في نفسه، حتى ليحدثنا الرواة أنَّ إسماعيل صبري أراد إنشاء رثائه على قبر الزعيم يوم وفاته، ولكنه لم يكد ينشد البيت الأول حتَّى غلبه البكاء، فقطع إنشاده، ولم يُلقِ القصيدة كلها إلَّا في حفل تأبينه بعد مرور أربعين يومًا على وفاته، وفيها يقول (ص٢١٣ من الديوان):
•••
ففي هذه القصيدة نلاحظُ أنَّ أروع أبياتها وأكثرها تأثيرًا في النَّفسِ هي تلك التي يتحدَّثُ فيها عن حُزنِهِ ولوعته استجابةً لإحساسه الرقيق، وأمَّا الأبيات القليلة التي يستجيبُ فيها إلى العُرف الشعري المتوارث من ضرورة الإشادة بالميت في الرِّثَاءِ، فإنَّنَا لا نلبثُ أن نلمح فيها المعاني والقوالب التقليديَّة كالسيف اليماني، والرأي الذي يجلي اليأس والظلام … إلخ.
هذا، وفي باب المراثي من ديوان صبري مقطوعة صغيرة يرثي فيها عمر بن الشيخ علي يوسف، صاحب «المؤيد»، وقد قَالَها في سنة ١٩٠٨، ولم يكن في المجال محلٌّ للمديح أو للحديث عن العَظَمَةِ أو المسائل العامَّة؛ لأنَّه رثاءٌ لشابٍّ في مقتبل العمر؛ ولذلك جاء رثاءً عاطفيًّا خالصًا جارى فيه الشَّاعر مزاجه الرقيق، فأجادَ في تصوير ألم الثكل عند الوالدين، وأسى الحرمان من الولد؛ حيث قال (ص٢١٧ من الديوان):
ولعلَّ تحرُّر إسماعيل صبري من الانفعالات العنيفة هو الذي سَمَحَ لشاعريته بأن تصدر أحيانًا عن روح دعابة لاذعة يُسمِّيها الأوروبيون «بالهيومر»، ويرون فيها ميزة لكبار الأدباء، وهي روح لا تتَّفِقُ مع الانفعال العنيف، ولا مع السخرية الدَّامية، أو التهكُّم القاسي، أو الهِجاء المُوجِع والسخط العاتي، بل تنفذ إلى أغراضها بروح دُعابة لاذعة رقيقة دقيقة، تُظهِرُ المُفارقات، وقد تعبث بالأوضاع أو تقلبها. ومن أمثال ذلك مقطوعاته الصغيرة التي كتبها عندما استقالت نظارة مصطفى فهمي باشا سنة ١٩٠٨، وقد نشرها ممضاة باسم بنتامور، وهو الشاعر المصري القديم، وفيها يعبِّرُ عن طريق الفكاهة المعكوسة عن سخط الشعب على تلك الوزارة المُعَمِّرَة التي عَبَثَت بالوطن والمواطنين وقضاياهم، وصَانَعَت المستعمر، ورَاحَت بغضَبِ الشَّعب وسخطه البالغ.
ولنكتفِ مِن تلكَ المقطوعات بِمَا قاله على لسان مصطفى فهمي (ص٢٤٨ من الديوان):
ولقد يظهر في سنة ١٩١٠ مذنَّب هالي المشهور، فيتخذ ظهوره مُنَاسَبَة يصفُ فيها ما في النَّاسِ من نفاق ورياء وطَمَع بعضهم في بعض، واسترقاق قويِّهِم لضعيفهم، ويتمنَّى أن لو أهلك هذا المذنَّب جميع من في الأرض فيستريح بعضهم من بعض.
وها هي هذه القصيدة التي تُعتَبَرُ من خير مطولاته ص١٤٠:
فهذه القصيدة وإن تكن في الأخلاق، إلَّا أنَّنَا لو بحثنا عن أساس الأخلاق فيها لما وجدناه في الضمير الدِّيني أو الضمير الاجتماعي بقدر ما نجده في الضمير الجمالي، فهو لا يكره النفاق والغطرسة وبطش القوي بالضعيف لمنافاة كل ذلك للدِّينِ أو أُصُولِ المجتمع، بقدرِ ما يكرهه لما فيه من قُبحٍ ودمامَةٍ تتمثَّلُ في تلك الوجوه القبيحة بِشَرِّهَا قُبحًا يُذَكِّرُهُ بالأجداث.
وهو يكره كل إسرافٍ في الغرور والاطمئنان إلى إقبالِ الحياةِ؛ وذلك لما في كلِّ إسراف من قُبحٍ يذهب بمعَالِم الجمال في كلِّ حياةٍ مُنسَجِمَةٍ مُعتَدِلَةٍ مُنَسَّقَةٍ، وكأنَّنَا به يستمدُّ فلسفته الأخلاقية من أولئك الإغريق القدماء، الذين كانوا يجعلون من الحقِّ والخيرِ والجمالِ أقانيم مقدَّسَة مُتَّصِلَة يكادُ أحدها يُرَادِفُ الآخر، وإن كُنَّا على يقينٍ من أنَّه لم يستوحِ أساس الأخلاق عنده من أحدٍ، وإنَّمَا استوحاها على وعيٍ منه أو غير وعيٍ من طبعه الخاص، ومزاجه الجميل المنسجم.
هذا المزاج الوادع المتواضع الذي يودُّ أن لو اصطدَمَ مذنَّب هالي بالأرض فأبادها وأبادَ مَن فيها، حتَّى تستوي الأنوف فلا ينظر قومٌ قومًا على الأرض شذرًا، وحتَّى يُصبِحُ الصِّراع عِناقًا في الهيولى، ويصبح العبد حرًّا.
وهكذا تكتمل أمامنا الحلقة التي توضِّحُ أَصَالَة صبري في صدوره عن مزاجه الخاص وطبيعة نفسه فيما أَبدَى من رأيٍ، أو سَاقَ من خالِجَةِ وجدان، وفيما عَالَجَ من فنٍّ تقليديٍّ أو نظم من قصيدةٍ موضوعيَّةٍ؛ ففي كل هذا الشعر الذي قاله بعد أن نضجت شاعريته، وتخلَّص من الشعر التقليدي والدروب المطروقة التي سَاقَته إليها روح العصر في صدر شبابه، نجدُ شاعرًا يصدق عليه ما يُقال من أنَّ «أُسلوب الرجل هو الرجل نفسه»، وأسلوب صبري في الحياة هو أسلوبه في الفنِّ: مزاجٌ رقيقٌ، وحساسيةٌ مُرهَفَةٌ، ووداعة في الطبع، ولينٌ في العريكة. وكل هذه الصفات هي التي تحدِّدُ أصالته.
وبالرغم من هذا المزاج الخاص — بما فيه من يسر ووداعة — فإنَّ صبري لم يهمل قضايا وطنه، ولا واجهها ببرود، بل نراه يُعنى بهذه القضايا، ويتحدَّثُ عنها على النحو الذي يتَّفِقُ ومزاجه في غيرِ مُبالغة ولا طنطنة لفظية، أو استهواء للجماهير. ولعلَّنا نلمحُ هذه الرُّوح أوضح ما تكون في تلك القصيدة التي نشرها في سنة ١٩٠٩ على لسان فرعون، وفيها يستحثُّ الأمَّة المصريَّة على طلب المجد، ويُذَكِّرُها بماضيها فيقول:
إلخ …
•••
وهكذا نخرج من هذه النظرات السريعة في حياة إسماعيل صبري وشعره إلى ما هو واضحٌ من أنَّه قد مرَّ بمرحلتين:
مرحلة أولى كان يُقلِّد فيها شعراء عصره قبل نهضة البارودي؛ أي شُعَرَاء البديع.
ثم مرحلة ثانية، وهي تلكَ التي نضجت فيها شاعريته، وظهرت أصالته في صدوره عن مزاجه الخاص، وطبعه الوادع، ونزعته الغنائية التي جَعَلَت منه رَائدَ الغِنَاءِ الرَّقيق في أدبنا الحديث، بحيثُ يظهر في وضوحٍ أنَّه كَانَ عاملًا فعَّالًا في ارتفاعِ مُستوى الأغاني الفصيحة والعاميَّة على السَّواءِ، حتَّى ليُخيَّلُ إلينا أن لا بدَّ قد أثَّرَ في شعراء الغناء المعاصرين، من أمثال أحمد رامي وصالح جودت وغيرهما ممَّن هم أحدث جيلًا من إسماعيل صبري. ومع ذلك، لا نعدو الحق إذا قلنا: إنهم لا بد قد تأثَّروا بتلك النغمات العذبة الرقيقة التي لا نزالُ نشعرُ بها في «يا آسيَ الحي» أو «أقصر فؤادي».