دفاع عن جسَّاس

يروي الرواة أن كليب بن ربيعة التغلبي قاد حلفًا من عرب الشمال هزم به ملوك اليمن وعمالهم في معركة خَزَازى، ويجعلون ذلك في القرن الخامس الميلادي، ويؤكدون أن السبب في هذه الحرب هو ظلم ملوك اليمن وعمالهم لعرب الشمال.

وسواء أصحَّ الخبر أم لم يصحَّ، فالذي يعنينا أن ثورة الإنسان على ظلم غيره له فطرةٌ فيه، أما ثورته على نفسه حين يظلم غيره فتلك مسألة أخرى!

ذلك بأن الرواة الذين حدَّثونا عن بطولة كليب في مقارعة ملوك اليمن وعمالهم، عادوا يحدثوننا أن كليبًا أوقع الرهبة في قلوب العرب بعد انتصاره، واستطال عليهم، وأراد الانفراد بالرئاسة.

ثائر خلع ظالمًا ليحلَّ في محلِّه: قصة ليست بالغريبة.

قالوا: وكان كليب شجاعًا شديد المراس، وطمع في المراعي فاختار أجودها، وجعلها حمى له لا يجوز لأحد أن يدخله، وسيَّج حماه هذا بأعجب سياج، اتخذ كلبًا صغيرًا ينبح، فلا يجسر أحد أن يخترق الحدَّ الذي يبلغه نباح الكلب.

وزادوا فقالوا: إن كليبًا إنما سُمِّي باسم كلبه الصغير هنا، وضُرب المثل بحماه، فقيل: أمنع من حمى كليب.

وذكروا أنه طاف يومًا بهذا الحمى، فرأى فيه قبَّرةً على بيض لها، فطارت مذعورة، فتنحَّى حتى عادت إلى بيضها وأنشأ يخاطبها:

لا تحذري شرًّا ولا تستنكري،
خلا لك الجو فبيضي واصفري،
ونقِّري ما شئت أن تنقري.

لقد أعطاها الأمان!

ولكن السيد المهيب الذي رفق هذا الرفق بأحد الطير، كان يضيق صدرًا بأن ترعى ناقة عشبة في حماه، أو يبلَّ حيوان أو إنسان ظمأه برشفة من ماء بئره.

فحدث في يوم أن رجلًا من جَرْم، يقال له سعد بن خمر، نزل ببني مرَّة، وأقام عند عجوز منهم تُلقَّب بالبسوس.

وكانت لسعد هذا ناقة سمَّاها سرابًا، فخرجت ترعى حتى دخلت حمى كليب فأكلت عشبًا وشربت ماءً ووطئت عش القبَّرة.

فغضب كليب، ولقي جساسًا أخا امرأته، وأحد فتيان بني مرَّة، فصاح به: ما خبر هذه الناقة؟ اسمع إنها لضيف عند خالتك البسوس، فأقسم بأنصاب١ وائل،٢ لئن رأيتها بعد اليوم تطأ الحمى، وضعت سهمي في ضرعها، ما بالكم تجرأتم عليَّ يا بني مرَّة!

ردَّ جسَّاس: ما أرى الأمور بالغةً بك هذا المبلغ، تقتل ناقة لضيف خالتي، وعندك أختى الجليلة، فأنت صهرنا وقريبنا وحميمنا.

أجابه كليب: لن تشفع لكم الجليلة، إني قاتل هذه الناقة إن رأيتها تدخل حِماي بعد اليوم، فافهم عني ما أقول.

وافترقا على غيظ وجفوة.

وهاج كليب حين رأى الناقة تعود فتطأ حماه، وسدَّد سهمه إلى ضرعها، فانطلقت يشخب ضرعها دمًا ولبنًا حتى بركت في فِناء البسوس ولها عجيج وخوار شديد.

فخرجت إليها البسوس كاشفة الرأس تولول وتنشد أبياتًا سمَّتها العرب بالموثِّبات؛ لأنها وثَّبت قومًا على قوم، وكان أوجع الأبيات وأشدَّها إيقادًا لعاطفة الثأر قول البسوس لضيفها:

فيا سعد لا تغرر بنفسك وارتحل
فإنك في قوم عن الجار أمواتِ!

فصاح جساس لما سمعها: رويدك يا خالة، تعلمي أننا لسنا عن الجار بأموات.

وأقام بعد ذلك يتربص بكليب ويترقب خروجه إلى الحمى، حتى بلغه يومًا أن كليبًا ركب إلى حِماه، فجدَّ في أثره، فأدركه وقد دخل الحمى، فدقَّ سنانه في صلبه، وسقط كليب يفحص الأرض برجله ونادى: أغثني يا جساس بشربة ماء!

فأجابه: مُتْ بظمئك! ما عقلت استسقاءَك الماء قبل الساعة.

وثار الشر في بني وائل، ومشى التغلبيون يقودهم المهلهل أخو كليب إلى بني مرَّة، ثم إلى بكر جميعًا، وتساقى الفريقان الموت بالسيوف والرماح طوال نحو من أربعين سنة.

فكانت العرب إذا أرادت أن تبالغ في نعت شيء بالشؤم: أشأم من البَسوس وأشأم من جسَّاس!

وقصَّت العرب أخبار هذه الحرب في قصة شعبية مشهورة، ظهر فيها جسَّاس مظهر النذل والمثير للفتنة، وظهر فيها كليب مظهر الضحية للغدر، والبطل الذي قتل بناقة.

ولكن راوية في القرن العشرين ردَّ إلى هذه القصة معناها، فقال: وهل أوجد جساسًا غيرُ كليب؟ لولا غلوُّ الظالمين لم يكن غلوُّ الثائرين!

١  الأنصاب: الأصنام.
٢  وائل: قبيلة جامعة لتغلب وبكر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤