عام الفيل

حدَّث يمني وطني قال:

أفلح الأحباش في اكتساح اليمن، ولكن الخلاف نشب فورًا بين القائد أرياط وأبرهة.

وتحزَّب لكل منهما فريق، وانتظرنا وقوع فتنة تذهب بريح الأعداء وتُظهرنا عليهم.

ثم لم تلبث الفتنة أن ذرَّ قرناها، إلا أنها انفضَّت على وجه سريع، فقد تقدم أرياط وأبرهة للبراز، ولم أكن شاهدًا، غير أن رجلًا من شهود الحال أخبرني أن الجيش الحبشي اصطف فريقين متقابلين، تفصل بينهما ساحة في صنعاء، وخرج أرياط، وخرج أبرهة، وتصاولا ساعة من نهار.

وانتهز أرياط غفلة، فرمى خصمه بحربة شرمت أنفه وجانبًا من عينه، وكرَّ عليه يريد قتله، إلا أن أبرهة كان قد أكمن غلامًا له وراء عدوه، فعاجل الغلام أرياط بطعنة كانت القاضية.

وانبعث هياج عظيم، وأوشك الفريقان يتناهشان، ولكن حبشيًّا شيخًا انبرى فقال: هذا شيء مرجعه إلى النجاشي، ونحن في بلاد أعداء فاحقنوا الدماء.

وبات أبرهة وهو القائد الأعلى.

ثم أضاء لنا منفذ جديد من أمل، فإن النجاشي تسعَّر غيظًا لما علم بما صنعه أبرهة، وسمعنا بأنه أقسم ليجزنَّ ناصيته، وليريقنَّ دمه، وليطأنَّ الأرض التي يطؤها، فقلنا: إن الحرب لا شك واقعة بين الأعداء.

غير أن هذا الخبيث أبرهة كان داهية قارحًا في الدهاء، فما سمع بقسَم النجاشي حتى عمد إلى شعر ناصيته فجزَّه بيده وجعله في حُقٍّ، وفصد عرقًا من عروقه وملأ قارورة صغيرة، وبعث بذلك كله إلى النجاشي وكتب إليه يقول: أما ناصيتي فهاكها مجزوزة، وأما دمي فأرقْه من القارورة، وأما أرض اليمن ففي الكيس شيء منها فطأها بقدميك الكريمتين، وبعد فأنا عبد من عبيدك.

فطاب خاطر النجاشي، وصفا الأمر لأبرهة، وجعل على رأسه تاجًا.

وجاء يوم حان فيه موعد الحج واستعد كثير من الناس للرحلة إلى الحجاز.

فتساءل أبرهة: وأي جاذب هذا الذي يجذب الناس إلى الحجاز، فيتكبَّدون مشقة السفر، وينفقون الأموال في أرض ليست بأرضهم؟

فقيل له: في الحجاز مكة، وفي مكة الكعبة، وموسم الحج قيام بفرض، ومجتمع يتلاقى فيه العرب ويقضون مصالح تجارية.

فقال أبرهة: لأبنينَّ للناس في اليمن معبدًا عظيمًا يحجونه في كل عام، وقبَّح الوثنية، ولكنه كان يحلم بالدنانير التي ترجع عليه إذا هو استطاع أن يصرف الحج عن الحجاز.

وما طال الأمر حتى وقع اختياره على مكان طلق بديع في صنعاء، وزار مدينة مأرب فانتقى من خرائبها مواد البناء النفيسة، الفخمة، وحملها إلى صنعاء.

وكتب إلى النجاشي، وإلى قيصر، يستعين بهما على إنشاء المعبد العظيم، واجتمع لديه من الرخام والفضة والمرمر الشيء الرائع.

وإذا بالكنيسة تعلو جدرانها وتشمخ، وتلبس زينتها التي تدهش العقول.

وأصبحت «القليس» محجًّا يتوافد إليه الناس، وتحوَّل عن الحجاز رزق عظيم.

فغضب الحجازيون وسخط أكثرهم على «القليس» ونشطوا في مقاومة الحج إليها.

وثارت ثورة الأشرم، فأقسم ليحملنَّ على الحجاز، فيهدم الكعبة.

ولسنا ندري صحة ما سمعناه يومًا من أن «القليس» وُجدت صباح أحد الأعياد مقذَّرة، لوَّثها رجل من بني فقيم نكاية بأبرهة.

فكان ذلك آخر ما استطاع أن يطيق الحبشي، فساق جيشه في العام ٥٧١ شطر الحجاز، وجعل في مقدمته الأفيال، ومنها الفيل الذائع الصيت الذي أصبح العام ٥٧١ عامه في التاريخ.

قال اليمني مستأنفًا حديثه: فدبَّت في العرب يقظة وحمية للقتال، فخرجنا على أبرهة في طائفة يقودنا إنسان باسل سمَّيناه «ذا نفر» تضليلًا للعدو عن حقيقته، غير أن أبرهة هزمنا وأسر قائدنا، وأشهد أن الأفيال كانت شرَّ ما راعنا من الجيش الحبشي، ولكن كلما تقدَّم أبرهة وجد خارجًا عليه يساوره وينوشه، وآذته مصاعب الطريق ومهالكها، فلما أسر نفيل بن حبيب الخثعمي، وهو أحد الخارجين عليه، أكرهه أن يكون له دليلًا، ثم فاز من بني ثقيفٍ في الطائف بخائن يقال له أبو رغال، تطوَّع لإرشاده.

وأوشك أن يبلغ مكة، ورأى جماعة من جنوده إبلًا لعبد المطَّلب، من بني هاشم، من قريش، فأحاطوا بها واستاقوها.

وكان عبد المطلب شيخ البطحاء التي بمكة، فبعث أبرهة في طلبه، فأقبل ذا شيبة جليلة وطلعة وقور.

فامتلأت به عينا الحبشي واحتفل لقدومه، ثم قال له: إننا لم نأتكم وأنتم بغيتنا، ولكننا نريد أن نهدم هذا البيت الذي يحجُّ إليه الناس، فخلُّوا بيننا وبين البيت، وأنتم آمنون على أرواحكم وأعراضكم وأموالكم.

فقال عبد المطلب: إنما جئتك طالبًا ردَّ إبلي، وقد أحاط بها جنودك واستاقوها من المرعى.

فاشمأز الحبشي وقال: كنت أعظمتك في قلبي لما رأيتك أيها الشيخ، فوجدتك غير ما حسبتك، أفيكون الخطب خطب البيت المقدس عندكم، ثم تأتيني مطالبًا بشرذمة من إبل؟

فأطرق عبد المطلب وهو يقول: للبيت ربٌّ يحميه، أما الإبل فأنا صاحبها.

فأمر أبرهة بردِّ إبله، وبات الحبشي وهو عازم على دخول مكة.

قال اليمني: وكانت قلوبنا واجفة، وانصرف أكثر المكيين إلى مخارم الجبال، ولكننا سمعنا أمرًا عجيبًا: كان فيل من الأفيال في مقدمة الجيش الحبشي يأبى السير إذا وجَّهوه شطر مكة، فإذا احتثوه خطا خطوات حائرة، متقاعسة، دلَّت على أنه عَمِيَ عن موضع قدمه، فإذا حوَّلوه جهة اليمن نشط للسير وأضاءت عيناه.

ثم قال اليمني: وسمعنا بشيء أعجب من هذا كله، سمعنا بطيور صعدت في الجو وأقبلت من ناحية البحر فحوَّمت فوق الأحباش، وأفلتت حصًى صغيرًا كانت تحمله بأرجلها ومناقيرها، فكان الحصى لا يصيب موضعًا من لحم حبشي إلا هرأه، فمات.

وما لبث أن ذاع الخبر بأن أبرهة رأى أن ينقذ البقية الباقية من جنوده، فنكص على عقبيه إلى اليمن.

وقد سمعتُ من يقول: إن جيش أبرهة آذاه الخارجون عليه في طول الطريق، وأجهدته مشاق الزحف، فلما بلغ مكة كان منهوكًا ضعيفًا، وما عتَّم أن فشا فيه وباء خبيث، فجلا وتقهقر فلولًا محطمة، وهنأ كل وطني يمني نفسه بهذه الضربة التي أُصيب بها الأعداء.

انتهى حديث اليمني الوطني.

ونظر مؤرخ عصري في شأن الطيور التي قذفت الأحباش بالحصى من مناقيرها وأرجلها، فقال: يا للإنسان! لقد كان منذ القدم يحلم بالطائرات والقنابل والغارات الجوية!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤