الفصل الأول

العالم الجديد

١

أخذ التغيير الجديد يُحرِّك خيوط العالَم على مدار عشرين عامًا. ورُغم أن الأشياء الجديدة كانت واضحةً جَلِيةً، فإنها كانت تَظهر رُوَيدًا رُوَيدًا ويومًا بعد يومٍ، ولم تكن مُباغتةً طَاغِيةً تُذهِبُ العقول. كانت هذه هي حالة أغلب البشر حينذاك، ولكن هُناك رجلًا انهَالَت عليه تراكُمَاتُ عقْدَين مِن أفعال طعام الآلهة مرَّةً واحدةً في يومٍ واحدٍ. ولَعَلَّ من المناسب في هذا المقام أن نَرجِع إلى ذلك اليوم لنَسرُد بعضًا مِمَّا هَالَه وأفزَعه. كَان هذا الرجل مُذنِبًا عُوقِب بالسجن مَدى حياته، وبعد أن قضى عشرين عامًا في السجن، ارتأى القانون أن يعفو عنه ويُطلِقه حُرًّا. ولا شأن لنا هُنا بما ارتكبَه من جريمة. ففي صبيحة أحد أيام الصيف، وَجَدَ هذا المخلوق التَّعيس نَفسه تَائهًا في حُرِّيته بعد أن نُزِع من يدَيه ما كان يُكبِّلُهما من عملٍ مُضنٍ وانضباطٍ شاقٍّ شَكَّلا نَمَط حياته داخل مَحبَسه الذي انقطع فيه عن العالَم وهو شابٌّ فَتِيٌّ قد زَادَ عمره عن العشرين بثلاثِ سنين. كانوا يُلبسونه ثيابًا لم يعتدها ويتركون له شعره ينمو لعدة أسابيع، وقد هذَّبه مُنذُ أيامٍ. خَطَا مُجدَّدًا أرضَ هذا العالَم في هيئةٍ رَثَّةٍ مُهلهَلَةٍ جَسَدِيًّا وعَقلِيًّا وتَطرِف عيناه كما تُرفرِف رُوحُه بالتَّأكيد في محاولةٍ لإدراكِ شيءٍ واحدٍ عُجَاب؛ وهو أنه قد رجع مرةً أخرى دون استعدادٍ ولمُدَّةٍ قصيرةٍ إلى أرض الحياة بما فيها من أشياء غريبةٍ تفُوق حدَّ التَّصدِيق. كان محظوظًا بما فيه الكفاية ليكون له أخ حملتْهُ تلك الذِّكريات التي طواها الزَّمن على القُدُوم ليستقبله ويَشُد عَضُده، ذلك الأخ الذي تغيَّرت ملامحه بعد أن تَرَكه صبيًّا صغيرًا، وهَا هُو الآن رجلٌ ناضجٌ ذو لحية. معًا؛ هو وذلك الغريبُ من عشيرته تَوجَّها إلى مدينة دوفر. وفي الطَّريق تبادلا من الحديث القليل، ولكن كان صدرُ كلٍّ منهما بحرًا جيَّاشًا من المشاعر والأحاسيس.

جلسا لبعض الوقت في إحدى الحانات حيث أجابَ كلٌّ منهما عن أسئلة الآخر عن هذا الشخص وذاك. استَعادَا في حديثهما آراءً ومواضيعَ قَديمة لم تَعد يُلقَى لها بالٌ، وتَجاهلا مئاتِ الأشياء والأحداث المُعاصِرة الجديدة. ثُمَّ حَانَ وقت الذَّهاب إلى محطة القطار ليصعَدا على متن الرِّحلة المُتَّجهة إلى لندن. ولا يهمُّنا في قصتنا هذه اسما هذَين الرَّجُلين ولا ما دَار بينهما من حديث، ولكن يهمُّنا ما قاستْه الرُّوح العائدة لهذا الرَّجلِ المسكينِ من غرائب وتغَيُّرات في نَواميس الكون الذي كان يومًا ما مألوفًا له.

أمَّا على أرض مدينة دوفر، فلم يسترعِ انتباهه الكثير، ولكن دَمَعَت عيناه في سرورٍ ما إن سُقِي نبيذ الشَّعير في قَدَحه القصديري. هذا النَّبيذ الذي لم يذُق مثله في حياته حتَّى قال وهو يَظنُّ أنَّه لا يُوجَد على الأرض ما هو أفضل منه: «يا لها من جِعَة! لم أذُق مثلها قط!»

وما كَادَ القطار يُجاوِز بِهِما قرية فُلْكستُون حتَّى تَسَنَّى للرجل أن يَرى ما جَاوز قُدرة مشاعره على التَّعبير … فقد رأى ما حدث للعالمِ من تبديلٍ وتحوُّل. أطلَّ برأسه من النافذة وحمْلَق قائلًا للمرة الثانية عشرة: «الجوُّ صحوٌ ومُشمِس! لم أكن لأتمنَّى طقسًا أفضل من هذا!» ثم كان أن أدرك للمرة الأولى أنَّ هُناك اختلالًا غيرَ مألوفٍ في تناسُب الأشياء في العالم. انتَصَب جَسَدُه وصرخ بحيويةٍ بَدَت عليه لأول مرة: «يا إله السَّماوات! يا لتلك الأزهار الضَّخمة بأشواكِها المُرعِبة تنمو على الضِّفة بجانب ذلك النَّبات الأصفر الذي يُشبه رأس المِقَشَّة! أهذه حقًّا أزهار؟ أَم أصابَني الخَرَف؟!» كَانت تلك أزهارًا حقًّا، وكان ذلك النَّبات الأصفر هو العُشب الجديد … ووسط تلك النَّباتات، كانت هُناك فِرقة من الجُنُود الإنجليز، في حُلَّتِهم الحمراء كعادتهم، يتدربون على مُناوَشاتٍ تبعًا لكُتيِّب التَّمارين والمهارات الذي نُقِّح جزئيًّا بعد حرب «البوير». ثمَّ شَقَّ القطارُ النَّفق بعنفٍ وجَسَارةٍ، ومَرَّ بعدها على مفرقِ سَنْدلِنج الذي كان، على الرُّغم من مَصَابيحه التي كانت مُشتَعِلةً بكامل عددِها، كان مُظلمًا مَطمورًا بأجَمَةٍ هائلة الضَّخَامة من زهور الرَّدندرة زَحَفت من البساتين المُجاوِرة ونَمَت بإفراطٍ جاوز الحَدَّ لأعلى الوادي. كَان هُناك قطارٌ على خطِّ حديد سَنْدجِيت عَربَاته كُلُّها مُحمَّلة بأكوامٍ عظيمةٍ من أخشابِ زهور الرَّدندرة، وهُناك سَمِع مواطِنُنا العائد لأول مرَّة عن الطَّعام المُكَبِّر.

وكُلَّما تَوغَّلا مُجدَّدًا في الأراضي الريفية التي بَدَت كأنَّ يَدَ التَّغيير لم تَمَسَّها، كان الشقيقان يجِدان صعوبةً في تفسير ما يحدُث. كان أحدهما شغوفًا متلهفًا يطرح أسئلةً مُضجِرة، وكان الآخر لا يُلقي بالًا ولم يُجهِد عقله من قبل قطُّ ليدرك حقيقة الأمر؛ كَانت إجاباته تَلمِيحيَّة وغير مُباشرة. قال له مُبَسِّطًا الأمر إلى البديهيات: «هذه هي آثارُ الطَّعام المُكبِّر … ألم يُخبروك عنه؟ الطَّعام المُكبِّر؟ هذا الشيء المعروف، الذي تَدور حَوله البَرامج الانتخابية؟ هذا الشيء العِلمي؟ ألم يُخبرك أحدٌ عنه؟»

ظَنَّ الرَّجل أنَّ السجن قد جَعل من أخيه شخصًا مُروِّعًا بَلِيدَ الذهن لكونه لا يعلم بأمرٍ كهذا.

كَشَفَ كلٌّ منهما صَفحة صاحِبه بطريقة الأسئلة والأجوبة. وتَخلَّل فُتات المُحادثاتِ تلك فواصِلُ زمنية طويلة من التَّحديق من النَّافذة. في البداية كانت اهتماماتُ الرجل بالأشياء غامضةً وسطحية. كان عقله مشغولًا بالحال الذي قد يبدو عليه الرِّجال المُسنُّون في هذا الوقت وبالأشياء التي ربما يقولونها أو يتحدَّثون عنها، وكيف سيَحكي للجميع عن أشياء ستُسلِّطُ الضوء على مُدة سجنه. تعرَّض لعبارة «الطَّعام المُكبِّر» لأول مرة كمُصطلحٍ في فقرةٍ مُستهجَنةٍ بالصَّحيفة، ثم كانت جوهر مُعضِلةٍ فكريةٍ بينَه وبين أخيه، لكنَّه تَبَيَّن لاحقًا أن هذا الطَّعام المُكبِّر كان محور أي موضوعٍ حاول الحديث عنه.

كان العالَم في تلك الأيام في تغيُّرٍ مُستمر؛ كثَوبٍ مؤلَّفٍ من رقاعٍ مختلفة الألوان، وهكذا أتت عليه تلك الحقيقةُ الحديثة بعِظَمِهَا في سلسلةٍ من صدمات التناقُض. فلم تكن عجلة التَّغير العاتية تجري على نَسَقٍ واحد؛ فقد أخذت تتفَشَّى من مركزِ توزيعٍ لآخر. كانت بقاع الرِّيف مُتباينة؛ مناطق شاسعة يمضي الطَّعام المكبِّر في طريقه إليها، ومناطق أخرى تَغلغَل الطَّعام في أرضها وهوائها على نحوٍ متقطِّعٍ ومُعْدٍ. كان تيَّارًا جديدًا جسورًا يَزحَف ببطءٍ بين الأجواء العَتِيقة والرَّاسِخة.

كان التَّباين واضحًا بجلاءٍ على طول الطريق بين دوفر ولندن في ذلك الوقت. مرَّا على جانبٍ من الرِّيف كان قد عَهِده مُنذ طفولته؛ الحقول الصغيرة المُستَطيلة تفصلها عن بعضها البعض صفوفٌ من الشُّجيرات ومساحتها مُناسِبة لحصانٍ قزمٍ يحرُثها، ويقطعها. طُرقٌ صغيرةٌ عرضها يَسعُ ثلاثَ عرباتٍ متجاوراتٍ … يتناثر شجر الدردارِ والبلُّوطِ والحُورِ بين تلك الحقولِ مع عددٍ قليلٍ من أيْكات شجر الصَّفْصاف تُجاوِر جداول المياه. أكوامُ القَشِّ لا تعلو عن ارتفاع رُكبَتَي عملاقٍ، والمَنازلُ الصَّغيرة الدَّافئة ذات النَّوافذ المُتلألئة، ومصانع الطُّوب، والشَّوارع القرويَّة غير المُمَهَّدة، والبيوت الأكبر حجمًا التي تَقع على جانب قضبان القطار حيث تَنمو الأزهار لتبدو تلك البيوت أجمل بقليلٍ، ومحطات القطار المُقامة وسط البساتين وكل تلك الأشياء المُمَيِّزة للقَرن التَّاسع عشر المُندَثِر، والتي ما تزال صامدةً أمام التَّضخم والاتساع. هُنَا وهُنَاك تتبَعثَر كَومة أوراقٍ جَمَعَتها الرِّياح، أو شجرة شوكية عملاقة كَسَرتها الرِّياح ولكن تقف شامخةً أمام نَصل الفُئوس. هُنا وهناك تَرى قَلنسوة فطرٍ عملاقٍ طولها عشر أقدامٍ أو سُوقًا جَافةً لبعض العُشب العملاق الذَّابل. كَان كُل ذلك يُنذِرُ بقُدوم الطَّعام وما مَعه من غَرائِب.

لم يكن هُناك شيءٌ طوال قُرابة الأربعين ميلًا يَزيد غَرابةً عن غَرابة الحجم العملاق للقمح والعُشب الذي كان يتوارى عن ناظريه على بُعد ما يُقارب اثني عشر ميلًا من طريقه خلف تلال وادي تشيزينج آيبرايت. ثُمَّ بدأت آثار الطَّعام بالظهور. كان أولُ ما أذهله هو ضَخَامة ذاك الجسر الجديد في تُنبردج، حيث شارَف نَهر مِدواي الضَّيق على التَّحول إلى مُستنقعٍ بفضل تَشكِيلة عملاقة من الطَّحالب التي بدأت تتكاثر في مِياهه خلال تلك الأيام. ثم ظهرَ الرِّيفُ من جديد. وبينما بدأت تتجلَّى مدينة لندن بضخامتها وضبابيتها، أصبحت آثار معركة يخوضها الإنسان من أجل منع العَملَقة كثيرة ومُتلاحقة.

في ذلك الوقت بمنطقة جنوب شرق لندن تمامًا حيث عَاش كُوسَار وأبناؤه، ثار الطَّعام وفَارَ فَوَرانًا غامضًا لم يُعلَم سببه؛ كانت الحياة البسيطة تَمضِي وَسط نُذُر يومية ألِفها النَّاس واعتادوها شيئًا فشيئًا بحيث لم يعودوا يُبالون بها كثيرًا. ولكن أخذ هذا المُواطنُ العائد يُحملِق للمرة الأولى إلى صَنائِع الطَّعام المُكبِّر العجيبة والمُتفشِّية، والمناطِق المَهجورة والمُظلِمة وتلك الدِّفاعات الضَّخمة والتَّجهيزات التي لا تَسُرُّ النَّاظِر إليها، وهذه الثُّكناتِ وترسانات الأسلحة والذَّخائر التي أقحَمتها آثار الطَّعام المُستمِرة والمُرَاوغة في حياة البَشر.

على مقياسٍ أكثر ضراوة، تكرَّرت هنا أحداث وأهوال أول مزرعة تجريبية مرارًا. بدأت تباشيرُ ذلك تتجلى في الغثِّ من الأشياء وبمَحض المُصادفات في الأماكن المهجورة ومكبَّات النفايات. كان ظهورًا متقطِّعًا وعشوائيًّا ومُنبِئًا ببُزُوغ نواميس جديدةٍ تصحبُها عقباتٌ لم تُعهَد من قبل. كانت هناك ساحاتٌ وحظائر كبيرة تفوح منها رائحة شديدة السوء حيث نما فيها نوعٌ قاسٍ من الحشائش كثافته ككثافة الأدغال استخدمه النَّاس كوقودٍ للآلات العملاقة. (كان صِبية الأحياء الفقيرة في لندن يأتون لمُشَاهدة عملية تزييت الآلات وما يصحبها من صخبٍ مُقابِل نصف شِلِن يدفعونه للعمَّال.) كانت هناك طُرُقٌ ومَسَاراتٌ للمَركبات والعَربات الضَّخمة؛ طُرُقٌ مَحُوكةٌ من الألياف المُتَضخِّمة لنبات القِنَّب. كانت هُناك أبراجٌ عَلتْها صافراتُ إنذارٍ بُخَارية تُطلق إنذارًا فوريًّا مُحذِّرةً العَالم من حولها عند اقتراب أي هجومٍ للحشراتِ والهوام. أمَّا الأغرب من ذلك، فهو أبراج الكنيسة المَهِيبة التي جُهِّزَت بأجهزة إنذارٍ ميكانيكية لافتة للأنظار. كانت هناك أكواخُ لجوءٍ صغيرة عليها طلاءٌ أحمر، وثُكناتُ حَامِياتٍ عسكرية مُزوَّدة بمدفعٍ رشَّاشٍ مداه ٣٠٠ ياردة؛ حيث كان الرُّماة يتدرَّبون يوميًّا على ذخيرة يُسلِّطونها على أهدافٍ على هيئة فئران ضخمةٍ بَشِعَة المنظر.

حدثت هُنا سِتَّة اندلاعَاتٍ للفئران العملاقة مُنذ أيام سكينر، كُلُّ غَارةٍ كانت تأتي من بَالوعات جنوب غرب لندن حَتَّى صار الأمر مألوفًا ومُعتادًا تمامًا كما اعتاد النَّاس النُّمور في الدلتا القريبة من كلكتا الهِندية.

اشترى أخو الرَّجُل إحدى الصحُف من سَندلِنج وهو غير مبالٍ، وبهذا الفِعل تمكَّن شيءٌ ما، بعد عناءٍ، من جذب انتباه هذا الرَّجُل المُطلَق سراحه. أخذ يفتح الصفحات الغريبة التي بَدَت أصغر حجمًا وأكثر عددًا، ومختلفةً عن الصحُفِ التي كانت تصدُر في الماضي. أخذ يُقَلِّب صفحاتها ليجد نفسه أمام عددٍ مَهولٍ من صور الأشياء الغريبة التي بَلَغت بغرابتها حدًّا صارت معه لا تَبعثُ على الاهتمام، إضافةً إلى أعمدة صُحفية طويلةٍ مُعنونةٍ بعناوين كان مُعظمها لا يحمِل أيَّ معنى كما لو كان مكتوبًا بلغةٍ أجنبية. «خُطبةٌ عظيمةٌ للسيد كاترام» «قَوانين الطَّعام المُكبِّر.»

سأل الرَّجُل في محاولةٍ لبدء حوارٍ: «مَنْ هو كاترام، هذا الرَّجل المذكور هنا؟»

أجابه أخوه: «هو رجلٌ جَيِّد!»

ردَّ الرجل وقال: «أها! هو رجلُ سياسة، صحيح؟»

أجابه أخوه: «سيقلِب الحُكُومة رأسًا على عقِب؛ لقد أبلى بلاءً حسنًا في فِعل ذلك.»

تعجَّب الرَّجُل وقَال: «أها! أظنُّ أنَّ كل الأماكن التي كُنت أعرفها في الماضي؛ تشَمبَرلِن وروزبِري، كُل هذه الأماكن … ماذا؟»

جذب أخوه ذراعه وأشار بأصبعه خارج النَّافِذة.

قال: «هذا ابنُ كُوسَار!» تَبِعَت عينا السَّجين المُفرَج عنه الأُصبع ونظرتا بالاتجاه الذي يُشير إليه.

صرخ الرَّجل: «ربَّاه!» وللمرة الأولى عَلَت الدَّهشة ملامح وجهه وكان مذهولًا لدرجة أن الصَّحيفة سقطت من بين يدَيه تحت قدميه حيث ستُنسَى وتُهمَل إلى الأبد. كان يرى بوضوحٍ بين الأشجار، إنسانًا عملاقًا بطول أربعين قدمًا على الأقل، يقِف وَقفةً مُسترخِيةً مُباعدًا بين رجليه ويده تَقبض على كرةٍ كأنَّما يستَعدُّ لقذفِها. كان جَسده يَتلألأ من أشعَّة الشَّمس المُنعَكِسة على حُلَّته التي صُنعت من معدنٍ أبيض وعلى خصره حزامٌ عريضٌ من الصُّلب. استرعى هذا العِملاق كاملَ انتباه الرَّجل لمدةٍ قصيرةٍ، ثم تحوَّلت عيناه إلى عملاقٍ آخر على مسافةٍ أبعد يقف مُستعدًّا ليلتقط الكُرة، وبَدا أن منطقة هذا الخليج الفَسيح في التلال الواقعة شمال سيفينوكس مباشرةً قد خُصِّصَت بأكملها لصالح العمالقة.

كان هُناك منزلٌ يتوسَّط خندقًا عظيمًا حُفِرَ أعلى المَحجَر الطباشيري. كان منزلًا ضخمًا يُشبه مَنازل المصريين القدماء بناه كُوسَار لأبنائه عندما كانت حَضَانة العَمَالِقَة ما تزال تؤدي الغرض. خَلف هذا المنزل كانت هناك سَقيفَة مُظلِمة حجمها كحجم كاتدرائيَّةٍ أتى منها صوت طَرقِ جبابِرة يُصِمُّ الآذان ويُرَى لها وهجٌ مُتقطِّعٌ تَراه مع كل طَرقة. ثُمَّ تحوَّل اهتمامه إلى ذاك العملاق وهو يقذِف بيديه تلك الكرة الخشبية الضَّخمة المُطَعَّمَة بقِطع الحديد.

وقفَ الرَّجُلان وحدَّقا في الكرة التي بَلَغت ضخامتها ضَخامة برمِيل.

صرخ الرَّجل الخَارج لتوِّه من السِّجن عندما حجبت شجرةٌ ما العملاق القاذف الكرة: «أمسكها!»

مَرَّ القطار بجانب تِلك المَشاهِد في دقيقةٍ أو بَعض دقيقةٍ ثم ما لَبث أن مَرَق بجانب الأشجار ليعبُر نفق تشزِلهرست. قال السَّجين المُفرَج عنه عندما غَشِيت ظُلمة النَّفق القِطار: «يا ربَّاه! هذا الصَّبي كان طوله بارتفاع مَنزِل.»

ردَّ عليه أخوه وهو يهُزُّ رأسه مُلمِّحًا: «هؤلاء هُم أبناء كُوسَار! محور كل ما يدور من بَلبَلةٍ ومتاعِب.»

رأَيَا من جديدٍ مزيدًا من الأبراج التي تعلوها صافراتُ الإنذار ومَزيدًا من الأكواخ الحمراء، ثم أتى على مَرمى البصر بعد ذلك تجمُّع ﭬيلات الضَّواحي الخارجية. لم يَفقِد فَنُّ الإعلانات بريقه أثناء تلك المُدَّة التي سُجِن فيها؛ كانت دَعَوات الانتخابات الحَاشِدة ﻟ «الطَّعام المُكبِّر» بجميع توجُّهاتِها وأطيافِها مُنتشرةً تحمِلُها اللوحات الإعلانية العَالِية التي لا يُحصى عددُها، وملصُوقةً على جُدرَان المنازل والسِّياجات الخَشبية، ومُعلَّقةً على ما يَربو على مائة موقعٍ مُمَيَّزٍ. كانت هذه الإعلانات تحمِل عباراتٍ مثل: «كاترام» و«الطَّعام المُكبِّر» و«جَاك قاتل العمالقة» وكثيرًا ما كانت مصحوبة بمئات الرُّسومات السَّاخرة والمُشَوِّهة لتلك الكائنات البرَّاقة والضَّخمة التي لم تَمضِ بِضع دقائق مُنذ أن مرَّا بها.

٢

كان شُغلُ الأخ الأصغر الشَّاغِل هو الاحتفال بعودة أخيه إلى الحُرِّية مرة أخرى بعشاءٍ في أحد المطاعم الفاخرة التي لا غُبَار على جودتها. عشاءٌ تتبعه سلسلةٌ لها رونقها من الانطباعات تتركها في النَّفس قاعاتُ الموسيقى في تلك الأيام. كانت هذه الخُطَّة بما فيها من مَبَاهج الحُرِّية وملذَّاتِها كفيلة بنَفض الأترِبة التي خَلَّفتها زِنزَانات السِّجن، ولكن ما إن بدأ الجزء الثَّاني من الخُطَّة حتَّى تغيَّرت. مَرَّت فِقرَة العشاء بسلامٍ، أمَّا فِقرَة العُرُوض المُوسيقية، فقد كانت لدَيه رغبةٌ أكثر إلحاحًا من شهيته لمُشاهدة العُرُوض وأقوى منها لتُخلِّصَه من مَاضِيه وكَدَره الذي استحوذَ عليه. كانت هذه الرَّغبة هي الفُضُول الجَمُّ والغُموض المُحيط بما يُسمَّى بالطَّعام المُكبِّر والأطفال العمالقة؛ هذه العَملَقة المُريعة التي حَلَّت على العالم. قال الرَّجل: «أنا لا أفهم ماذا حدث لهم! لقد هَالَتْني رؤيتهم!»

كان لأخيه رَجَاحة عَقلٍ جعلته يُحسِن استقبال أخيه وضيافته. قال له: «هذه ليلتُك أيُّها العجوز العزيز! هيَّا نُحاول أن ننضم إلى الاجتماع العام في الدِّيوان الشَّعبِي.»

وفي النِّهاية حَالَفَ الحظُّ السَّجين السَّابِق ليجد نفسه وسط جَمهَرةٍ من النَّاس وهو يُحدِّقُ من مكانٍ بعيدٍ في بُقعةٍ مُضيئةٍ تقع تحت إحدى الشُّرفِ ومكان آلة الأُرجَن. كان عازف الأُرجَن يعزف مقطوعةً عذبةً جَعلت النَّاس يتوافدون على المكان حتَّى صَار لقَرعِ نِعالِهم دويٌّ يُسمَع، ولكن انتهى كُلُّ هذا الآن.

فلم يكد يستقر السَّجين السَّابق في مكانه بعد أن فرغ من شجاره مع رجلٍ غليظٍ نَكَزه بكوعِه، حتَّى ظَهَر كاترام. ظَهَر خارجًا من الظِّل باتجاه منتصف المِنَصَّة، كان يبدو ضئيلًا وقصيرًا من على بُعدٍ، وكان أسود البشرة تعلو وجهه صِبغَةٌ وَردِيةٌ، ذا أنفٍ صغيرٍ ومعقوفٍ مُمَيِّز لمظهره. أثَار هذا الشخصُ الضئيل بظُهوره مَوجةً عارمةً وغير مفهومةٍ من التَّهليل والهِتاف. بدأت هذه الموجة من التهليل والهتاف هناك ثم تنامَت وانتشرت. بدأت بمجموعة أصواتٍ متشرذمةٍ وما لبثت أن صارت طُوفانًا صوتيًّا اجتاح القاعة طولًا وعرضًا بما فيها من بشرٍ بداخلها وبشرٍ خارجها. كثُر هتافهم على نحو يُثير الدهشة، كانوا يَهتِفون: «مَرحَى! مَرحَى!»

لم يهتف أحدٌ في هذا الجَمع الغَفِير من النَّاس كهتافِ صاحبنا الخَارج من السِّجن؛ انهَمَك في التَّهليل والهتاف حتَّى ذَرَفت عيناه الدُّموع تَجري أنهارًا على خدَّيه، ولم يُوقِفه إلا حَشْرَجَةٌ أصابته بسبب بكائه. لن يستوعِب عقلك ولن تكون حتَّى قادرًا على استيعاب ما يَعنِيه أن ينهَمِك الرَّجل في جَمهَرةٍ من النَّاس حتَّى يبحَّ صوته إلا إذا قضيتَ في السِّجن دهرًا طويلًا كدهر صاحبنا هذا. (ومع كل هذا لم يخدع نفسه بأنَّه يدري لماذا يُظهِر كلَّ تلك العواطِف الجَيَّاشة) مَرحَى! يا إلهي! مَرحَى!

ثمَّ ساد ما يُشبِه الصَّمت لبُرهَة. تَحَلَّى كاترام بالصَّبر الجميلِ حيث كان مَن حَولَه مِن أتبَاعِه يفعلون أشياء رَسميةً لكن تَافِهة، ويقولون كلامًا غير واضِح. كان الأمر كمن يُحاول الإنصات وسط ضوضاء حفيفِ الأشجار في فصل الرَّبيع. «وُو وُو وُو وُو» أكان الأمر مهمًّا؟ كان النَّاس في الحَشدِ يتحدث بعضهم إلى بعض. استمَرَّت الضوضاء «وُو وُو وُو وُو وُو». ما الذي لم يكن لهذا الأخرق أشيب الرأس أن يفعله؟ أن يُقَاطِعهم؟ لقد كانوا يُقَاطِعونه. «وُو، وُو، وُو، وُو …» ولكن هل سنسمع صوت كاترام بوضوحٍ كما نسمع هذا الضَّجيج؟

في هذه الأثناء كان كاترام بَادِيًا للعِيان. كان يُمكن للواحد مِنَّا أن يقف ويَدرُس هذا الرَّجل العظيم الشَّأن وسِمَاتِه التي جعلته ينال هذه المكانة. كانت ملامِحه مُمَيَّزة حتَّى إنَّه ليُرسَم بسهولة ويُسر. اتَّخذه النَّاس موضوعًا للقراءة في أوقات فراغِهم على ضوء مصابِيح الكيرُوسِين ورُسِمَت صورته على أطباق الأطفال ونُقِشَت على الأوسِمَة والرَّايات المُعَادية للطَّعام المُكبِّر، وطُرِّزَت على حَواشي حَرِير وقُطن كاترام وعلى بِطَانة قلنسوة كاترام الإنجليزية. كان مَوضوع كل الرُّسومات الكاريكاتيرية في ذلك الوقت. كان أحدهم يَراه كبَحَّارٍ يقف على مدفعٍ عتيقٍ وفَتِيل الإشعال بيده وعليه لافتة مكتوبٌ عليها «قوانين الطَّعام المُكبِّر الجديدة» بينما هُناك في عرض البحر يتخبَّط هذا الوحش الضَّخم المُهَدِّد والقبيح؛ أو كفارسٍ يرتَدي درعًا يُغطِّيه من قمَّة رأسه إلى أخمَصِ قدميه وصليب القدِّيس جِرجِس مرسومٌ على دِرعه وخوذته، ويجلس هُناك على باب كهفٍ شَنِيعٍ وسط الأدناس مَسخٌ ضخمٌ وجبانٌ يُجَابِه قَبضة الفَارِس وقُفَّازه «تَشريعات الطَّعام المُكبِّر الجديدة»؛ أو تَراه هابطًا من السَّماء كأنَّه «بِرسِيوس» ليُنقِذ «أندُرُمِيدَا» الجميلة من قيودها (ومكتوبٌ بوضوحٍ حول حِزَامها «الحضارة») ومن بَرَاثِن وحش البِحار الذي كُتِب على رءوسه ومَخالِبه العديدة كلماتٌ مثل «الفُسُوق» و«غُرورٌ سَاحِق» و«المَذهَب الآلي» و«مَسْخ» وغيرها من الكلمات المُشابهة، ولكن العَامَّة كانوا يرَون أنَّ كاترام يُجَسِّد شخصية جَاك قاتل العمالِقة تجسِيدًا حقيقيًّا. ومِن هُنا فَهِم صاحِبنا من السِّجنِ ووَضَحَ له أمرُ تلك اللافِتة التي رآها؛ «جَاك قاتل العَمالِقة».

خَمَدت ضوضاء الحَشدِ فجأةً وسَادَ الصَّمت.

ها هو الآن يجلس. إنه كاترام بشحمِه ولَحمِه! وانطلق الهِتاف والتَّهليل: «كاترام! كاترام!»

لم يَكن الصَّمت الذي خيَّم على المكان بعد ذلك الهِتَاف المُتخَبِّط ليحدث لولا وجود جمهور غفير. رجلٌ وحيدٌ في البَرِّية؛ كان الصَّمتُ المُخيِّم صمتًا مترقِّبًا، ولكنه صمتٌ كان كاترام يسمع معه صوتَ أنفاسه وتحرُّكاته، كان يسمع معه كلَّ دبيبٍ حوله. هُنا، كان صوت كاترام هو الصوت الوحيد الذي تسمَعُه الآذان. كان صوتًا نقيًّا طَرُوبًا كصوت شَمعةٍ يحترق ضوءها في تجويفٍ من القَطِيفة السَّوداء. كنَّا نسمَعه! كنَّا نسمع صوته واضحًا جليًّا كما لو كان يبعُد عنَّا مَدَّ الذراع.

كانت إشاراتُ هذا القوام الضَّئِيل المُحاط بهالةِ ضوءٍ ويصدُر منه صوتٌ رخيمٌ ومؤثِّرٌ؛ كافيةً لينصَاع لها صاحِبُنا من السِّجن. ألقت الظلال ستارًا على مَلامِحه فكانت مخفيةً جزئيًّا، جَلس مُنَاصِروه خلفه على المِنَصَّة، وأمامه، كان قِطاعٌ عريضٌ من شتَّى الشَّخصيات والخَلفيات؛ حشدٌ غفيرٌ ينتظر ما سيُلقيه على أسماعهم. كان هذا القوام الضَّئِيل كأنَّه قد سَلَبَهم جميعًا قُدرتهم على الكلام.

تحدَّث كاترام عن مؤسَّساتنا القديمة، فعَجَّ الحَشد وصَاحوا: «لا فُضَّ فوك! لا فُض!» وشاركهم صاحبنا من السِّجن: «لا فُضَّ فوك! لا فُضَّ فوك!» ثُمَّ تحدَّث عن رُوح النِّظام والعَدَالة التي كانت سائدةً بيننا في القِدم؛ فهَاجت النَّاس ومَاجَت: «لا فُضَّ فوك! لا فُضَّ فوك!» وأخذ صاحبنا من السِّجن يصيح وهو منفعلٌ: «لا فُضَّ فوك! لا فُضَّ فوك!» تحدَّث عن حكمة أجدادنا وعن أعرَافِنا الجَليلة التي تكوَّنت ببطءٍ عبر الدُّهور، وعن الأخلاق والعادات الاجتماعية التي كانت تُوافِق طبيعة مجتمعنا الإنجليزي تمامًا كما وافق شَنٌّ طَبَقةَ. ثَار صاحبنا من السِّجن وصاحَ والدموع تَسِيل على خدَّيه: «لا فُضَّ فوك! لا فُضَّ فوك!» أمَّا الآن، فكلُّ هذه الأشياء في طريقها إلى الاندِثَار. نعم! في طريقها إلى الاندِثار! لأنَّه منذ عشرين سنةً مضت، رأى ثلاثة رجال في لندن مصلحةً في خَلطِ عدة أشياء معًا في بوتقة واحدة، خَلط كل النظُم والمبادئ والأشياء المقدسة من أجل صُنع شيء مروِّع لا مَعالم له. زَمجَر الحَشد وقال: «لا! لا!» إن كانت هناك رغبةٌ في ألَّا يحدُث إذن، فيجب عليهم أن يعملوا جاهدين لذلك. يجب عليهم أن يُودِّعوا التَّردد في اتخاذ القرار. وهنا سُمِع دويٌّ لموجةٍ صاخِبةٍ من الهتاف والتَّهليل. يجب عليهم أن يُودِّعوا التَّردد والرُّكون إلى أنصافِ الحلول.

أكمل كاترام خطبته: «لقد وَرَدَ إلى أسمَاعِنا أيُّها السَّادة أمرُ شجيرات القُراص التي صارت شجيراتٍ عملاقة. في البداية كانت شجيراتٍ طبيعية؛ نباتٌ صغيرٌ يُمكن ليدٍ ذات قبضةٍ مُحكمةٍ أن تنتزعها وتُلقِيها بعيدًا، ولكن إن تركتموها تنمو؛ إن تركتموها أيُّها السَّادة فستنمو نموًّا مؤذيًا حتَّى إنَّكم لتصيروا بحاجةٍ إلى فأسٍ وحِبالٍ، وكَدٍّ وشَقاءٍ وتعريض حياتكم وأنفسكم للخَطَر. يُمكِن لغُصنٍ مقطوعٍ من تلك الشُّجيرة أن يقتل رجلًا، بل أن يقتل رجالًا.»

أعرَب الحَشدُ عن امتعَاضِه في ضجيجٍ وبدأ بمُقاطعة كلمة كاترام، ولكن ما لبث أن سَمِع صاحبنا الذي خرج من السِّجن صوته مُجددًا؛ صوتًا رنَّانًا واضحًا وقويًّا: «لنتعلَّم عن الطَّعام المُكبِّر من الطَّعام المُكبِّر نفسه!» سَكَت هُنَيهةً ثم قال: «قَلِّمُوا شُجيراتكم قبل أن يفوت الأوان!»

توقَّف كاترام عن الكلام وأخذَ يمسح شفتَيه، ثم صَاح رجلٌ: «فكرة عبقرية!» ثم تَحوَّل الأمر إلى تلك الموجة الغَريبة من الهتافِ الهَادِر، حتَّى بدا أن العالَم بأسره يهتف ويُهلِّل.

خرجَ صاحبُنا من القاعة في النِّهاية وعلى وجهه أماراتُ الإثارة والحَمَاس؛ أماراتٌ تَراها على وجوه أولئك الذين حظوا برؤيةٍ في المنام. لقد عَلِم مثله كمثل الجميع ولم تعُد أفكاره غامضةً بعد الآن. لقد عاد إلى عَالَمٍ في مِحنَة، عاد في وقت اتخاذ قرارٍ حاسمٍ لمسألةٍ عَويصَة. يتَحَتَّمُ عليه الآن أن يُؤدِّي دوره في الصِّراع أداءَ الرِّجال؛ أداءَ الأحرار الجديرين بالثِّقة. كانت راياتُ الحربِ باديةً في الأفق. فريقٌ ضَمَّ هؤلاء العمالقة المُدَرَّعين الذين شاهدهم في الصباح، والذين أصبح ينظر إليهم الآن نظرةً مُغايرة. وفريقٌ آخر يقِف فيه هذا المخلوقُ الضَّئيل أسود البشرة وأضواء المِنَصَّة مُسلَّطة عليه ويُلَوِّح بيدَيه؛ هذا القزم بكلامه المُنَمَّق وألفاظه الرَّشيقة وصوته الرَّخيم الثَّاقِب؛ إنَّه «جون كاترام قاتل العمالِقة» يتَحَتَّم عليهم الآن أن يتَّحِدوا معًا ليتمَكَّنوا من شُجَيرة؛ القُراص قبل أن يفوت الأوان.

٣

كان أطولهم قامةً وأقواهم جسدًا وأكثرهم هيبةً أبناءُ كُوسَار الثلاثة. تلك الأرض الواقعة بالقُرب من سيفينوكس التي قضَوا فيها صباهم والتي كانت تبلغ مساحتها نحو ميلٍ أصبحت كثيرة الخنادق والحُفر كما أضحت مغطَّاةً بالسقائف ومُجسَّمات العمل الضخمة وجميع التأثيرات المادية الناجمة عن قواهم المُتنامية، حتى إنَّ المكان صار لا يُشبهه مكانٌ آخر على وجه الأرض. وكانت نتيجةُ ذلك أن ضاق بهم وأصبح لا يتناسب حجمًا مع الأشياء التي كانوا يسعَون لفعلها. كان الابنُ الأكبر مُصمِّمًا قويًّا للمُحركات المزوَّدة بعجلات؛ وقد صنع لنفسه دراجةً ضخمة لا يُوجد طريق يسَعُها في العالم كله ولا جسرٌ يتحمَّلها. كانت الدراجة ضخمة ذات عجلات ومُحركات كبيرة، كانت قادرة على السير مسافة مائتين وخمسين ميلًا. لم تكن تؤدِّي نفعًا سوى أنه كان يركبها من آنٍ لآخر متجولًا بصعوبةٍ في منطقة العمل هذه التي تكثر فيها العوائق. كان مقصده في الأساس أن يطوف بها حول هذا العالم الصغير؛ كانت تلك نيَّته عندما صنعها وهو لم يكن أكثر من مجرد طفل حالِم. الآن، أصابَ صدأٌ أحمر داكن يُشبه الجروح أشعة عجلاتها حيث تآكلت طبقة المينا التي طُليت بها.

قال له والده كُوسَار: «يا بُنَيَّ العزيز! عليكَ أن تُمَهِّد لها طريقًا أولًا قبل أن تفعل ذلك.»

أطاعه العملاقُ الصَّغير وذهبَ ذات صباحٍ هو وإخوته ليُمَهِّدوا طريقًا للدَّراجة حول العالَم. بَدَوا كما لو كانوا يجهلون ما سيعتَرِضُهم من مُقاومةٍ عمَّا قليلٍ، وكانوا يعملون بجهدٍ منقطعِ النَّظِير. سرعان ما عَلِم النَّاسُ بما يفعلونه؛ كانوا يَشُقُّون طريقًا مستقيمًا كحَدِّ السَّيف باتجاه القناة الإنجليزية، لكنهم كانوا قد انتهوا من تَمهيد وتسوية بضعة أميال من الطريق وقتئذٍ. أوقفهم قبل انتصاف النَّهار عن استكمال الطَّريق حشدٌ من النَّاس المُهتَاجِين؛ أصحاب الأطيانِ ووكلائهم، والسُّلطات المحلِّية، ومحامين، ورجال شرطةٍ وفوق ذلك كان هناك عددٌ من الجنود.

أوضحَ لهم الطِّفل الأكبر ماهية ما يفعلونه قائلًا: «نحن نشُقُّ طريقًا!»

ردَّ عليه كبيرُ المُحامين في الحَشد: «لا أحدَ يُنكر عليك شَقَّ الطريق، ولكن رجاءً عليك أن تحترم حقوق الآخرين من حولك. لقد تعدَّيت لتَوِّك على حقوق سبعٍ وعشرين مُنشَأة خاصَّة، فضلًا عن خَرقِ امتيازات ومُمتلكات مَجلِس المُقاطعة ومجالس تسع أبرشيات والمَجلِس المحلِّي ومصنعين للغاز وشركة سكة حديدية …»

تَعجَّب ابن كُوسَار الأكبر: «يا إلهي!»

«عليكم أن تتوقَّفوا عن هذا!»

«ولكن ألَا تريدون طريقًا مُمهَّدًا في هذا المكان بدلًا من تلك الأزِقَّة الرَّديئة كثيرة الحُفَر والأخاديد؟»

«مؤكَّدٌ سيكون هذا شيئًا حسنًا، ولكن …»

ردَّ الابن الأكبر لكُوسَار وهو يهمُّ بحمل أدواته: «إذن الطَّريق لم ينتهِ بَعد!»

قال المُحامي: «ولكن بلا شكٍّ ليس بهذه الطَّريقة!»

«بأيِّ طريقةٍ إذن؟»

كان ردُّ كبير المُحامين غامضًا ومعقدًا.

حَضَر كُوسَار ليرى ما فعله أبناؤه من مصائب. وبَّخهم توبيخًا قاسيًا ثم أخذ يضحك حتَّى القَهقَهة وقد بَدَت عليه سعادةٌ غامرة من هذا الأمر وقال صارخًا: «عليكم أن تتمهَّلوا قليلًا يا أولاد قبل أن تشرعوا بعملٍ مثل ذلك.»

«ولكن المُحامي أخبرَنا أنَّه علينا أن نُجَهِّز خُطة أولًا ونحضر مُعدَّات خاصة وكل هذا الهُراء. قال إن الأمر سيستغرق عدة سنوات.»

ردَّ كُوسَار بصوتٍ عالٍ وهو يصيح واضعًا يديه حول فَمِه: «سنُجَهِّز الخُطَّة قريبًا يا عزيزي، لا تقلق! أما الآن، فالأفضل أن تذهبوا لِلَّعب وتصنعوا مُجسَّماتٍ للأشياء التي تودُّون تنفيذها.»

فعل الأبناءُ ما أخبرَهم به أبوهم وامتثلوا لأمره.

ولكن كل هذا دَفَع أبناء كُوسَار لإمعَان التَّفكير في الأمر.

قال الطِّفلُ الأوسط لأخيه لأكبر: «حسنٌ جدًّا، ولكنِّي لا أريد أن أظلَّ ألهو وأخطط فقط، أريد أن أصنع شيئًا حقيقيًّا. أتفهمني؟! نحن لم نُخلَق في هذا العالَم بتلك القوة التي نحن عليها لنلهو في قطعة الأرض الصغيرة والفوضوية تلك، ولنذهب لنتمشَّى قليلًا على شرط ألَّا نقرَب المُدن.» — كانوا آنذاك محظورين من الاقتراب من أي مُقاطعة أو بَلدة. «الجلوس هكذا دون فعل شيءٍ أمرٌ سيئ. ألَا نستطيع أن نجد شيئًا يحتاجه أولئك البشر الصِّغار فنُنجِزه لهم في سبيل أن نحظى ببعض المَرَح؟»

أكمل الأخُ الأوسط كلامَه: «كثيرٌ منهم مُشرَّدون لا منازلَ تُؤْوِيهم، لنذهب ونبني لهم منزلًا جميلًا ومُريحًا قُرب لندن يَسَعهم زُمَرًا زُمَرًا. ولنَضرب لهم طريقًا مُمَهَّدًا يسعون فيه جميعًا لكسب أقواتهم؛ طريقًا مُستقيمًا جميلًا. سنجعل كلَّ شيء جميلًا ومُتقنًا لكيلا يضطَرُّوا للعيش في قذارةٍ وبحَيوانيةٍ كمعيشتهم الآن. سنُوفِّر لهم ما يحتاجون من الماء ليغتسلوا؛ أنت تعلم كم هم أوساخ قَذِرون؛ فتسعة من كل عشرة بيوتٍ لا يُوجد بها حوض استحمامٍ. يا لهؤلاء الأقزام المُنتِنين! وتعلم أيضًا أن هؤلاء الذين لدَيهم حَوض استحمام في منازلهم ينهالون بالسِّباب على أولئك الذين حُرموا منه بدلًا من أن يُساعدوهم ليمتلكوا واحدًا مثلهم؛ هم يُطلقون عليهم «الغَوغَائيون غير المُغتَسِلين». سنُغيِّر هذا الوَضع وسنُوصِّل لهم الكهرباء اللازمة للإنارة وسنطهو لهم الطَّعام وسنُنَظِّف لهم وسنفعل من أجلهم كلَّ ما يحتاجونه. أتصدِّق أنَّهم يُجبرون نساءهم؛ النساء الحَوامل اللاتي على بُعدِ أيامٍ من أن يصبحن أمهات، على أن يزحفن على أطرافِهن لتنظيف الأرضيات!

يُمكِننا أن نصنع غدًا أجمل. يُمكِننا أن نتَّخِذ واديًا من الوديان هناك في تلك السُّهول ونجعله بُحَيرة نُخزِّن فيها المياه، ونُقِيم هُنا محطةً كبيرةً لتوليد الكهرباء ويكون لدينا ببساطةٍ كُل شيءٍ نحتاجه. أليس كذلك يا أخي؟ ثُمَّ رُبَّما يتركوننا نفعل أشياء أخرى.»

ردَّ الأخ الأكبر: «أجل نستطيع أن نفعل كلَّ هذا الخير لهم!»

قال الأخ الأوسط: «إذن ماذا ننتظر، هيَّا بنا!»

ردَّ عليه الأخ الأكبر وقال وهو يبحث عن بعض المُعدَّات المُناسِبة: «هيَّا بنا!»

وكانت هذه مُقدِّمة لإزعاجٍ رهيب.

احتشدت الجُمُوع الغاضبة سريعًا، تُخبرهم تارةً أن يتوقَّفوا عمَّا يفعلونه ساردةً مئات الأسباب الدَّاعية لذلك، وتَارة تُريدهم أن يتوقفوا بلا أسباب. كانت جُمُوعًا صَاخِبةً وحائرةً أتتْ من كل حدبٍ وصوب. كان البيت الذي يبنيه أولاد كُوسَار عاليًا جدًّا؛ وكان علوُّه يؤكِّد أنه ليس آمنًا. كان البيت قبيحًا أيضًا؛ فقد بَرَز حجمه بين بقيَّة منازل الحي وعَارَض حجمها الطبيعي المُعتَاد. أفسدَ تَناغُم وانسِجام المنازل في الحي؛ فلم يكن بيتًا مُراعيًا للجِيرة. كان البيت مُخالفًا لضوابط البناء المحلية، كما انتهك حقَّ السُّلُطات المحلِّية في توصيل التيار الكهربي الباهظ التكلفة، وتَضارب أيضًا مع مصالح شركة المياه المَحلِّية.

هَبَّ موظَّفو مجلس الحكومة المَحَلِّي للتَّصدِّي لتلك العَراقيل التي تعوق مسيرة العَدَالة، وانتفَضَ ذلك المُحامي القصير مرة أخرى مُمَثِّلًا لعددٍ كبيرٍ من المَصَالح المُهَدَّدة، كما كان لمُلَّاك الأراضي المحلِّيين ظهورٌ في صف المُعارضة. ادَّعى بعض الناس ادِّعاءاتٍ غامضة بأنهم قد دُفِعَ لهم المالَ كي يلتزموا الصمت. اجتمعت النقابات العُمَّالية لكل مِهَن البناء على قَلبِ رجلٍ واحد، كما شَكَّل المتعاملون في كل مواد البناء سَدًّا منيعًا. جماعةٌ استثنائية وعجيبة من النَّاس يحمل كلُّهم تصوُّراتٍ مُرعِبة لذلك الجَمَال المزعوم، فهُرِعوا في حُشُودٍ ليُحافِظوا على طبيعة المكان الذي سيبني فيه العمالقة المنزلَ الكبير، وليحموا الوادي حيث يُخطِّطُون لجمع المياه به. كانت الفِرقَة الأخيرة من ذلك الجَمع هي الأسوأ في نَظَر أبناء كُوسَار، وفي لَمح البَصَر كان بيتهم الجميل ذاك أشبهَ بعصًا دُبَّت في عُشٍّ للدبابير.

قال العملاق الأكبر: «ليتنا ما فعلنا!»

وأتبَعَه أخوه الأوسط: «لا يُمكننا المُتابَعة!»

ثمَّ عَقَّب الأخ الثَّالث: «يا لهم من أقزامٍ عَفِنِين! لا يُمكننا فعل أي شيء!

حتَّى وإن كان يصُبُّ رأسًا في مصلحتهم وراحتهم. كان سيغدو بيتًا رائعًا لو أكملنا بناءه لهم.»

ردَّ العملاق الأكبر مُحاورًا أخاه: «يبدو أنَّهم يقضون حيواتِهم القصيرة والتَّافهة تلك في اعتراض مَسَاعِي بعضهم بعضًا. حقوقٌ وقوانين وضوابط وتشريعات ونذالات؛ يبدو الأمر في غاية الصعوبة. يا للعجب! على كلٍّ، سيمتدُّ مُكوثهم في تلك المنازل الضَّيقة والقذرة لوقتٍ أطول. من الواضح أنَّنا لا حِيلةَ لنا ولا يمكننا إكمال ما بدأناه.»

خَلَّف أبناءُ كُوسَار ذلك البيت العظيم وراءَهم غير مكتملٍ بناؤه؛ لا شيء إلا حفرة من الأسُسِ ومُستَهَل جدارٍ كان على وشكِ أن يُقام ورجعوا مُستائين إلى سَاحتهم الواسعة. بعد فترة، امتلأت تلك الحفرة ماءً راكدًا نبتت على سطحه الحشائش ونما العُشب، وهَامت فوقه الحشرات. كما انسَلَّ الطَّعامُ المُكبِّر إلى هُناك سواءٌ سقط من أبناء كُوسَار أم حملته الرِّياح إلى المكان، فقد جَعَل مُعدَّلات النمو تتضاعف وتتضاعف كما هي الحال دائمًا. دَاهَمت فئران الماء البَلدَة وخلَّفت أضرارًا لا تُعدُّ ولا تُحصَى. وفي يومٍ من الأيام لَمَحَ مزارعٌ قطيعه من الخنازير يشرب من مياه تِلك الحفرة، فأسرع وهو بكامل قواه العقلية وذبحهم جميعًا؛ فقد كان يعرف قصة خِنزير مدينة أُوكام. ومِن هناك من ذلك المُستنقعِ العميق، أتى البعوض. بعوضٌ مُرعِبٌ لكن كانت حَسَنَته الوحيدة أنْ دَفَع أبناء كُوسَار، بعد أن لم يعودوا يتحمَّلوا لدغاته، إلى أن يختاورا ليلةً كان القمر فيها منيرًا والأمن والنِّظام مُستَتِبَّين ليُفرغوا الحفرة من مياهها ويُريقُوها بعيدًا في النهر القريب من برُوك.

لكنهم تركوا الحشائش الضَّخمة وفئران الماء العملاقة وجميع الكائنات المُتعَملِقة الكريهة باقيةً تنمو في هذا الموقع الذي اختاروه سَلفًا لبناء المنزل الضَّخم؛ منزل هؤلاء الأقزام الذي كانوا سيجعلونه يرتقي ليُلامِس عنان السَّماء.

٤

كانت تلك أحداث طفولة هؤلاء الأطفال العمالقة، أمَّا الآن فقد كبروا وأوشكوا أن يصبحوا رجالًا. كبروا وكبر معهم حجم قُيُودهم وأغلالهم التي ما انفكَّت أن تزيد مع كُلِّ سنةٍ من نموهم. فكُلَّما زَاد عُمر هؤلاء العملاقة عامًا وانتشر الطَّعام المُكبِّر أكثر وتضاعفَ حجم الكائنات أكثر فأكثر، اشتَدَّت حِدَّة التَّوتر وزَادت الضُّغُوط. في البِداية، كان السَّواد الأعظم من البَشَر ينظرون إلى الطَّعام المُكبِّر كأنَّه أحد المُستحيلات، أمَّا الآن فقد أصبح واقعًا ودَنَا مِنهم حتَّى بَلَغ أعتَاب المنازل مُهدِّدًا ومُنذِرًا بتغيُّر نمط الحياة تغيُّرًا لا رجعة فيه. اعترض الطَّعام هذا السَّبيل وقَلب ذاك رأسًا على عَقِب، بَدَّل المُنتجات الطبيعية، وبتبديله ذاك رفع نسبة البطالة وسُرِّح مئاتُ الألوف من الرَّجال من أعمالهم. تَسلَّل الطَّعامُ عبر كل الحدود وجَعَل من عَالَمٍ تسوده العلاقات التِّجارية، عالمًا تملؤه الكوارث والنَّكبات. فكيف لا يكرهه البشر وقد أحالَ نعيمهم شقاءً.

وبما أنَّ الكائنات الحيَّة أسهل أن تُبغَض من الجمادات، والحيوانات أسهل في كراهيتها من النَّباتات، وأن يَمقُتَ الإنسان أخاه الإنسان أسهل عنده من مَقت الحيوانات؛ لذلك تَجَمَّعت كلُّ المَخاوِف تجاه شُجيرات القُراص العملاقة وسُوق العُشب ذات السِّت أقدامٍ طولًا، والمتاعِب التي خلَّفتها الحشرات المُخيفة والهَوَام التي تُشبه قَرصَتها عَضَّة نمر. تجمَّعت كُلُّ تِلك المَخاوِف والمتاعِب لتُشَكِّل قوةً هائلةً من الكراهية حدَّدت اتجاهها بسهولةٍ وصُوِّبَت نحو تِلك الشِّرذمة من البشر العمالقة؛ أطفال الطَّعام المُكبِّر. صارت تلك الكراهية هي القوة التي تتمحور حولها كلُّ الأمور السياسية. طُمِسَت الشِّعارات الحِزبية القديمة، ووُرِيَت تحت ضغطِ تلك القضايا المُستجدة. صَار الصِّراع الآن مع حزب المُمَاطلين؛ هؤلاء الذين يُنادون باستخلاف عدة رجال سياسيين ليُنظِّموا الطَّعام المُكبِّر ويتحكَّموا فيه، ومع حزب الدَّاعين لشن الحرب على الطَّعام الذي يُمَثِّله ويتحدَّث كاترام باسمه دائمًا بعباراتٍ فيها التباسٌ لئيمٌ؛ يُفصِح عن نَواياه في البداية بجملة فيها تهديدٌ ووَعيد مفادها أنه يجب على البشر الآن أن «يجتثُّوا تِلك النَّباتات الشَّوكيَّة من جذورها.» ثم يتلوها بأخرى مفادها أنه يجب علينا الآن أن نجد «دواءً للتَّضخُّم.» ثم في النِّهاية وفي عَشيَّة يوم الانتخابات يقول إنه يتعيَّن علينا أن: «نجتث شُجيرة القُرَّاص.»

في أحدِ الأيام، جلسَ أبناءُ كُوسَار الثلاثة، وقد صاروا الآن رجالًا، بين أنقاض أعمالهم المُخفقة وتحدَّثوا معًا عن كلِّ تلك الأشياء العقيمة التي صنعوها. كانوا قد انتهوا لتوِّهم من العمل طيلة النَّهار على مجموعة خنادق ضخمة ومعقَّدة كان أبوهم قد أسند إليهم مهمة تنفيذها. والآن وقد حان وقتُ غروب الشَّمس، وهم جُلُوسٌ في الحديقة الصَّغيرة أمام المنزل يستريحون ويتأمَّلون في الكون المُحيط بهم، نادى عليهم الخَدَمُ الأقزام في الدَّاخل ليُخبروهم أنَّ طعامَ العشاء جَاهِزٌ.

لن تُخطِئ عيناك تلك الأجساد العملاقة حين تراها؛ إذ كان يبلُغُ طول أقصرهم أربعين قدمًا. كانوا مُستَلقِين على بُقعَةٍ مُعشَوشِبةٍ بحشائش تبدو لرجلٍ طبيعي كأنها عيدان قصَب في طولِها. كان أحدهم قاعدًا يَطحَن الأرض من تحت نَعلِه الضَّخمة ومُمسِكًا بعصا حديدية غليظة بيده، بينما كان الثَّاني مضطجعًا على كوعه وكان الثَّالث يُقَلِّم شجرة صَنَوبَر جعلت الهواءَ من حولهم يفوحُ برائحة صمغ. كانوا لا يرتدون قماشًا بل لِباسًا داخليًّا من حِبالٍ مَحُوكَةٍ وعليها رداءٌ نُسِجَ من أسلاك الألومنيوم، وينتعلون ألواحًا خشبيَّة وحَدِيدِيَّة، أمَّا عُرَى الملابِس وأزرارها وحُزُمها، فقد كانت جميعها من الحَديد المَطلِي. كان البيتُ الذي يعيشون فيه ذا طابقٍ واحدٍ يُشبه في ضَخَامته معبدًا من معابد قدماء المصريين، بُنِي نِصفُه من قِطعِ الطُّبشُور الضَّخمة ونُحِت نِصفه الآخر في صُخُور التَّل. كانت واجهة البيت بعُلُوِّ مائة قدمٍ ووراءَها كانت المَدَاخِنُ وفتحاتُ التَّهوية، كما كانت رَافِعات وأغطية سَقَائِف العمل ترتفع بشُمُوخٍ وسط عنان السَّماء. ومن نافذةٍ دائرية في المنزل، كان هُناكَ أنبوبٌ يَقطِر معدنًا مُنصَهِرًا أبيض اللون بكمِّيَّاتٍ مُحدَّدة في وعاءٍ مُتَوارٍ عن الأنظار. كان المكانُ مُطَوَّقًا ومُحصَّنًا تحصينًا بدائيًّا بتلالٍ من التُّراب تدعمها عَوارِض حديدية على قِمم المُنخَفَضاتِ وعَبرَ مُنحَدَرات الوادي. ولتقرِيبِ الأمر، نحتاج إلى شيءٍ ما بالحجم الطبيعي حتَّى يَتِمَّ تَصَوُّر مِقياس الضَّخامة. ذاك القِطارُ الهَادِرُ الذي يأتي من سيفينوكس ويَمُرُّ عليهم ثُمَّ يَدلُفُ إلى النَّفق ليغيب عن نَظَرِهم، كان بالمُقَارنة بحجمهم لُعبَة أطفالٍ مُتَحَرِّكة.

قال أحدهم: «لقد ضَمُّوا كلَّ الغابات في هذا الجانب من آيتِم إلى الأراضي المحظورة علينا. كما نَقَلوا اللافتة الحمراء التي كانت هناك قُرب نُوكهولت مسافة مِيلين أو أكثر في هذا الاتجاه.»

ردَّ الأصغر بعد صمتٍ: «هذا أقل ما يمكنهم فعله؛ فهم يُحاولون سَحب البِسَاط من تحت أقدام كاترام لزعزعة ثقته.»

قال الثَّالث: «ما يفعلونه ليس كافيًا لتحقيق ذلك الغَرَض، وهو في الوقت نفسه أكثر مما نتحمَّل.»

«هم يحاولون عزْلنا عن أخينا ريدوود. فعندما ذهبتُ لزيارته مؤخرًا، كانت اللافتاتُ الحمراء قد زَحَفت مسافة ميلٍ في شتَّى الاتجاهات. الطَّريق إليه عبر الهِضاب ما هو إلا ممرٌّ ضيقٌ الآن.»

تساءَل المُتحدِّث: «يا تُرى ماذا حَلَّ بأخينا ريدوود؟»

قال الأخ الأكبر: «لماذا؟»

ردَّ المُتحدِّث وهو يقصِف غُصنًا من شجرة الصنوبر التي يمسكها: «لقد كان شَارد الذِّهن كما لو كان يحلُم. أظن أنَّه لم يكن يَعِي حديثي معه، كما أنَّه ذكر شيئًا عن الحُب.»

ضَرب الأخ الأصغر بعصاه الغَليظة على حذائه الفولاذي وانفجر ضاحكًا: «أخونا ريدوود تُرَاوِده الأحلام.»

اكتَنَفَهم الصَّمت مُدَّة، ثم قال الأخ الأكبر: «هذا التَّضييق والحِصَار ازداد ازديادًا لا أُطِيقه ولا أتحمَّله. أظنُّ أنهم في نهاية الأمر سَيرسُمون خطًّا حول أحذيتنا ويُخبروننا بأنَّ هذه هي المِسَاحة المسموح لنا بالعيش فيها.»

قَبَض الأخ الأوسط بيدٍ واحدةٍ على مجموعةٍ من أغصان شجرة الصنوبر وقَصَفها قصفةً واحدةً وقال وقد بَدَّل نَبرة حديثه: «ما يفعلونه الآن سيكون شيئًا طفيفًا مقارنةً بما سيفعلونه عندما يتَولَّى كاترام السُّلطة.»

قال الأخ الأصغر وهو يضرب الأرض بعصاه الغَليظة: «هذا إنْ تَوَلَّى السُّلطَة.»

ردَّ الأكبر وقال وهو يُحدِّق في قدميه: «سيتولَّى السُّلطة بلا شك.»

توقَّف الأخ الأوسط عن تشذيب شجرة الصنوبر وأخذ ينظر إلى تِلك الضفاف العظيمة التي آوتهم خلفها ثمَّ قال: «ثم ماذا بعد يا إخوتي؟ شبابنا سينقَضِي ويجب علينا كما قال ريدوود الأب منذ وقتٍ طويل؛ أن نَثبُت وأن نكون رجالًا أقوياء.»

قال الأخ الأكبر: «صَدَقت! ولكن ما الذي يَعنِيه هذا بالضَّبط؟ ما الذي سيَعنِيه حين يأتي يومُ المتاعب؟»

وَلَّى وجهَه هو الآخر إلى تِلك الخَنادق الواسعة والمَتَاريس الفَجَّة من حولهم، لا ناظرًا إليها بل ناظرًا مُتطَلِّعًا من بينها ومن فوق التِّلال إلى ما وراءها من حُشُودٍ غفيرة. وقتها، خطرَ شيءٌ ما ببال الأشقاء الثلاثة في آنٍ واحدٍ؛ رؤيا بأن جيشًا من الأقزام يزحفون كطوفانٍ مُعلنين الحرب، لا يَمَلُّون ولا يتعَبُون ويملأ الحِقد قُلُوبهم.

قال الأخ الأصغر: «هُم أقزامٌ، ولكنهم كُثُر؛ كحبَّات رملٍ على شاطئ البحر.

ولديهم جيوشٌ وأسلحةٌ صنعها لهم إخوتنا في سَندرلاند.

وأتساءَل يا إخوتي، فيما عدا الهَوَام وبعض الحَوادثِ مع الكائنات الشِّريرة، ما الذي يتَّهِموننا بقتله؟!»

ردَّ الأخ الأكبر: «لا أدري! ومع كل ذلك، نَحن ما نَحنُ عليه وما جُبِلنَا عليه. وعندما يحين يوم المتاعب، علينا أن نفعل ما يَجب علينا فِعله.»

غَمَد سِكِّينه في عُجَالةٍ؛ سكينٌ ذو نَصلٍ طُوله كطول رجلٍ، ثم تَعَكَّز على شجرة الصنوبر التي اقتلعها لتَوِّه لينهَض. اعتدَل واقِفًا ثم اتَّجه تِلقَاء المنزل الضَّخم والفسيح الذي يجثو كجبلٍ رَمَادي. انعكست أشِعَّة الشمس القِرمزية على دِرعه وعلى الزَّرَد الملفوف حول رقبته والأسلاك المعدنية الواقية المنسوجة حول ذراعيه، وفي عينَي أخيه، بَدا كما لو كان قد تَخَضَّب بالدماء.

وعندما وقف العملاقُ الصَّغِير، رأى قَامَةً سوداءَ بَاديةً في الأفقِ قُبَالة وَهجِ شَمس الغروب الخَافِت وفَوق السَّد الذي اعتَلَى قِمَّة التَّل. لَوَّحت ذِراعا تلك القامة السَّوداء تلويحًا غير رشيقٍ أوحى إلى العملاق الصغير أنَّ ثمَّة شيئًا من الاستعجال. ردَّ مُلَوِّحًا بجذع شجرة الصنوبر وملأ الوادي بصدى صوته قائلًا: «مرحبًا!» ثم قال لإخوته على عجلٍ: «هُناك خَطبٌ ما!» وانطلق يعدو عَدوًا سَريعًا ليُلاقي أباه ويُساعده؛ كان في عَدوِه يخطو خطواتٍ واسعةً، كُلُّ خطوةٍ تَفرِق عن أختها بعشرين قدمًا.

٥

تصَادف في الوقت نفسه أنْ كان هناك شابٌّ ليس بعملاقٍ يُفصِح عمَّا بصدره ويصب جَامَّ غضبه على أبناء كُوسَار، حيث كان هو وصديقه قد عَبَرا التِّلال المُترَامِية بعد سيفينوكس، وكان هو من يتَحَدَّث لا صديقه. وأثناء مرورهما بالسِّياج، سَمِعا صوت صُراخ مُستغِيث، وهَبُّوا لينقذوا ثلاثةً من أفراخ طائر القُرقُف من هجومِ نملتين عملاقتَين. كانت تِلك الحادثة هي ما دَفَعه ليتكَلَّم.

صَاح وقال عند رؤيته لبيت أولاد كُوسَار وسقائفهم: «أنا مع المُواجَهَة! مَنْ عساه أن يَرى كل هذا ولا يختار المُواجَهَة؟ انظر إلى ذلك المُرَبَّع من الأرض؛ تِلك البُقعة من أرض الله التي كانت في يومٍ من الأيام أرضًا طيبةً تملؤها البَرَكة، وهَا هي الآن وقد مُزِّقت إربًا ودُنِّسَت ومُلئت حُفَرًا! وانظر إلى تِلك السَّقائف، وإلى عجلاتِ الرِّياح العملاقة، وإلى تِلك الآلة الهَائلة ذات العجلات! انظر إلى تِلك الخَنَادِق وهؤلاء الوحوش الثلاثة يُقَرفِصُون هناك ولا أحدَ يعلم ما إذا كانوا يَحُوكُون خططًا شيطانيةً أم شيئًا آخر. انظر بالله عليك إلى كل تلك الأراضي!»

رَمَقه صديقه وقال له: «أكنتَ تستمع إلى كاترام مؤخرًا؟»

ردَّ الرَّجل: «بَل أنظر بعينيَّ فَأرَى سَلامَ المَاضي ونظامه ونحن نتركه وراءنا. هذا الطَّعام القَذِر هو صورةٌ جديدةٌ من صُور الشَّيطان الذي ما يزال مُتربِّعًا على أنقاض عالمنا. تَخَيَّل معي كيف كان هذا العالَم في زمن أجدادنا، ما الذي كان قائمًا عندما خرجنا من بطون أمهاتنا، ثمَّ انظر إلى العَالَم نفسه اليوم! تذكَّر أيامًا كان فيها النَّسيم يُداعِب سَنَابِل المحصول الذَّهبي في تِلك السُّهول. وكانت السِّياجَات التي تفصل بين أرض الرَّجلِ وأخيه مملوءة بالورود العَطِرة والأزهار الجميلة، وبيوت المُزَارعين تُرَقِّط الأرض بصِبغَتِها الحمراء، وصوت أجراس الكنيسة القَادم من تلك الأبراج البعيدة أيام الآحاد يدعو النَّاس جميعًا للصلاة حتَّى لا تكاد تسمع إلا هَمسًا! أمَّا الآن فها نحن نَرى حولنا في كلِّ عامٍ حشائشَ هائلة الحجم وحشراتٍ ضَخمة وأولئك العمالقة ينمُون جميعًا في تَزايُدٍ يمتطون أظهُرَنا غير عابئين بكُلِّ ما هو مُقَدسٌ ومُحكمُ الصُّنع في عالمنا. لماذا حدث كل هذا؟! انظر!»

أشار بإصبعِه وتبعت عَينا صديقه الخَطَّ الوَهمِي الذي رسمه هذا الإصبع الأبيض.

«أحد آثار أقدامهم. أتراه هُناك؟ أثرٌ مَغرُوزٌ في الأرض بعمق ثلاث أقدام أو يزيد يُمكن أن يكون شَرَكًا لجوادٍ وفارسه أو فَخًّا يقَع فيه سائرٌ غافل. أترى تلك الورود اليَاقُوتيَّة وقد سُحِقَت حتَّى ماتت، وهذا العُشب الأخضر وقد اجتُزَّ من جُذوره، ونَبات مشط الرَّاعي وقد جُرِفَ جانبًا. انظر إلى أنبوب صرف أحد المُزارعين وقد كُسِر، وإلى حافة ذلك الطَّريق وقد حُطِّمَت. دَمَارٌ ودَمَار! الدَّمار هو ما تقترفه أياديهم في جميع أرجاء العالم، وفي حقِّ جميع النُّظُم والقِيم التِّي وضعها البَشر على مَرِّ تاريخهم. إنَّهم يحطِّمون كلَّ شيء تحت أرجلهم. أتقول المواجهة؟! ماذا أيضًا؟!»

أجابَ صديقه: «أجل، المواجهة، ولكن ماذا في رأيك يمكن أن نفعل؟»

زَعَق به شاب مدينة أكسفورد قائلًا: «آمُل أن نوقِفهم قبل أن يفوت الأوان!»

«ولكن …»

زَعقَ الشَّابُّ الأكسفوردي وهذه المَرَّة بنبرةٍ أعلى: «الأمر ليس مُستحيلًا! نحن بحاجةٍ إلى يَدٍ حَازِمةٍ وخُطَّةٍ مُحكمةٍ، نحتاج إلى رجلٍ مقدامٍ. كُلُّ ما فعلناه حتَّى هذه اللحظة هو المُدَاهَنةُ والركون لأنصاف الحلول والقرارات العَبَثية والمُمَاطلة، بينما الطَّعام يزداد نموًّا على نمو. وحتَّى في هذه الأيام …»

تَوقَّف بُرهةً، ثم قال صديقه: «هذا صدى صوت كاترام.»

أكمل الرَّجل حديثه: «حتَّى في هذه الأيام ما يزال هناك أمل. بَل هناك آمالٌ كثيرة، شَريطة أن نَعقِد العزم على ما نريده حقًّا وما الذي نريد تدميره. الجماهير تُؤيِّدنا أكثر ممَّا كان عليه الحال منذ عدةِ سنوات، والقوانين في صَفِّنا؛ الدُّستور والنُّظم الاجتماعية، رُوح الأديان الرَّاسخة وتقاليد الجنس البشري وأعرافه تدعمنا، كُلُّ هذا معنا ضدَّ ذلك الطَّعام. لماذا إذن المُمَاطلة؟ لماذا الكَذب والخِداع؟ نحن نكره الطَّعام المكبِّر ولا نُريده، لماذا علينا إذن أن نتحمَّل وجوده بيننا؟ هل تريد أن نكتفي بالعويل دون هجومٍ وأن نكتفي بصدِّ الهجمات حتَّى ينفد منَّا الوقت؟»

توقَّف عن السَّير هُنَيهَة ونَظَر خَلفه ثمَّ قال: «انظر إلى شُجَيراتِ القُراص الكثيفة تِلك. في وسطها هُناك منازل مهجورة حيث كانت في يومٍ من الأيام تَعمُرها الأُسَر الطَّاهِرة وتملؤها بزَهو حياتهم النَّقِية.»

ثمَّ الْتَفت مرة أخرى حيث أبناء كُوسَار يُهَمهِمون بأخطائهم إلى بعضهم بعضًا، وقال: «وانظر هُناك أيضًا!

انظر إليهم! أنا أعرف أباهم؛ رجلٌ فَظٌّ وكائنٌ هَمَجيٌّ ذو صوتٍ عالٍ مُنَفِّر. صِناعته الهَندَسة، وكان يَمشي بيننا في عالَمنا المُتسَامِح لأكثر من ثلاثين سنة مَضَت وهو يستشيط غضبًا، مقللًا من شأن كل ما هو غَالٍ ومُقَدَّسٌ في مُجتمعنا. كان لا يأبه لشيءٍ مُطلقًا. لا يحترم تقاليد سُلالتنا ولا أعراف دولتنا ولا مؤسَّساتنا المرموقة ولا النِّظام المُتَّبع. تِلك القِيمُ التي تَراكَمت الفَينَة بعد الفَينَة لتجعَلَ من الشَّعب الإنجليزي شعبًا عظيمًا ومن تِلك الجزيرة جزيرة حُرَّة. تِلك كانت حِكايةً رَتِيبةً وهراءً قِيلَ وقد فرغنا منه. أمَّا الآن فبعض الهُراءِ عن المُستقبل يستحِقُّ التَّضحية بكل تِلك المُقَدَّسات. أتكلَّم عن رجلٍ لا يتوانَى أن يَمُدَّ طريق السِّكَّة الحديدية فوق قَبر أمِّه إن كان يَظُنُّ أنَّ هذا هو أقل الطُّرقِ تَكلفةً، وأنت تُحَدِّثني عن المُمَاطلة وتقديم خُطَط التَّسوية التي ستُتِيح لك أن تعيش كما يحلو لك، ولكن في الوقت نفسه ستعيش تِلك الآلات كما يحلو لها أيضًا؛ لذلك رأيي أنَّه لا أمل في ذلك. لا أمل. كأنَّك تكتبُ معاهدة مع نَمِر! هو يُريد الفَتك ونحن نُريده أن يكون وديعًا! الأمران سِيَّان!»

«ولكن ما الذي نستطيع فعله؟»

«الكثير والكثير! نضع نهايةً لذلك الطَّعام! هؤلاء العمالقة ما زالوا مُشَتَّتين ومُبَعثَرين، وما زالوا في طَور النمو. لنُصَفِّدهم ونُكَمِّم أفواهَهم. لنوقِفهم بأي ثمنٍ. أهو عالمنا أم عالمهم! لنضع نهايةً لهذا الطَّعام! ولنُوقِف أولئك الرِّجال الذين يُصَنِّعونه. افعلوا أي شيءٍ لإيقاف كُوسَار! يبدو أنكم لا تتذكرون؛ جيلٌ واحدٌ، جيلٌ واحدٌ فقط هو ما يحتاج لأن يصمُد ويَثبُت، بعدها يُمكننا أن نُسَوِّي تِلك الأكوام هُناك وأن نملأ آثار أقدامهم وما خلَّفته من حُفَرٍ. يُمكننا أن نُزِيل تِلك الصَّافِرات من أبراج الكنيسة وأن نُدَمِّر كلَّ ما لدَينا من البَنَادق الضَّخمة وأن نَرجِع مرةً أخرى إلى نِظام آبائنا وحضارة أجدادنا التي تُناسب طبيعتَنا البشرية.»

«سيُكَلِّف هذا جُهدًا طائلًا واستثنائيًّا!»

«جُهدٌ استثنائيٌّ لنهايةٍ استثنائية. ماذا إذن لو لم نُجِهد أنفسنا؟ ألَا تَرى نُذُر النِّهاية المَحتومة تَلُوح في الأفقِ أمامنا واضحةً كوضوح الشَّمس؟ سيكثُر عدد العمالقة ويتضَاعف في كلِّ مكانٍ، سيُنتِجون هذا الطَّعام ويَنشُرونه. سينمو العُشبُ في أراضينا نموًّا خارقًا كنُموِّ الحشائش في سياجاتنا، والهَوَام في البساتين، والفئران في المَصَارف. سينمو أكثر وأكثر؛ فهذه هي البداية ليس إلَّا. ستنقَلب مملكة الحشرات علينا نحن البَشر، كما ستنقلب علينا مَملكة النَّبات. ستُهاجم أسماك البحر وحيتانه السُّفن وتُغرِقها. ستنمو الأشياء من حولنا نموًّا هائلًا لتُخفِي منازلنا ولتُصمِت كنائسنا وتُدَمِّر كل نظامٍ عرفتْه قُرَانا ومُدُننا، وسنُصبح نحن مُجرَّد هوام ضعيفة تحت وَطأة هذا الوجود الجديد. ستَفنَى البشرية بشيءٍ صنعتْه بأيديها! وكُلُّ هذا مقابل لا شيء! الضَّخامة ثمَّ المزيد من الضَّخامة وهكذا دَوالَيْك! وهَا نحن ذا نَشقُّ طريقنا وسط بِدايَات العصر القَادم وكلُّ ما نفعله هو أن نُقطِّب حاجبَينا ونقول: «هذا مُرِيع!» … لا!»

ثمَّ رَفع يدَه.

«دَعهم يفعلوا ما يحلو لهم! وكذلك سأفعل أنا! أنا أختار المُواجَهة! مُواجهةً بَاسلةً جريئةً دون تَحَفُّظٍ أو خوف. إن كان أمر الطَّعام والقضاء عليه لا يُهِمُّنا، فماذا بَقِي في العالم لنَنْشغل به؟ لقد تَخَبَّطنا في طُرُقاتِ الحلول الوُسطَى طويلًا. وأنت! التَّخبُّط هو عَادَتك؛ هو دائرة من الدَّوائِر المِحورية لحياتك؛ هو أبعَادُك. أمَّا أنا، فلا! أنا ضدُّ الطَّعام المكبِّر قَلبًا وقَالبًا وبكل ما أوتيتُ من قوة.»

الْتَفتَ إلى رفِيقه عندما زمجر مُعتَرِضًا على ما سَمِعه وقال: «ما رأيُك في هذا الأمر إذن؟»

ردَّ صديقه وقال: «الأمر مُعقَّد …»

قال الرَّجُل الأكسفوردي بصوتٍ مرير وهو يُلَوِّح بكلتا ذِراعيه: «يا للأسى! أنت مُذَبذَب. صَدِّقني، الحلول الوُسطَى مَضيعةٌ للوقت ولا قيمة لها. إمَّا هذا وإمَّا ذاك. إمَّا أن تأكل من الطَّعام المكبِّر وإمَّا أن تُحارِبه. كُلْ منه أو حاربه! أهناك حلولٌ أخرى؟»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤