في الغابة

 ميدلينح هتر بربل بالنمسا في ٧ من سبتمبر سنة ١٩٢٤

يوم الأحد … وقد أشرقت الشمس، واعتدل الجو، وأمسكت السماء صيبها بعد أن عبست وأمطرت مدرارًا في أيام هذا الأسبوع الماضية.

خرجت من الفندق قاصدًا الغابة القريبة، فانتهجت سبيلًا مطروقًا، ثمَّ عرجت في سبيل آخر إذ سمعت ثمَّت نغمًا موسيقيًا مطربًا.

ولما بلغت مفرقًا للطرقات، ألفيت هناك رجلًا مبتور الساق، يستند على شجرة وبين يديه آلة من آلات العزف يوقع عليها ذلك النغم الشجي. في مثل هذا اليوم الصحو يحج القوم إلى الغابات من أقصى المدينة والضواحي المجاورة نسوةً ورجالًا، وفتيانًا وشيبًا، وأطفالًا، ورضعًا. وفي مثل ذلك اليوم يقضي الناس شطرًا عظيمًا من نهارهم في حضن الطبيعة بين لفائف الأشجار، ليتنفسوا من نسيمها المجدد للدماء. وفي مثل هذا اليوم يكسب ذلك المنكود ما يجود به ذوو الشفقة وأهل الإحسان من هؤلاء المستريضين.

ذهبت كذلك لكي أمتِّع نفسي بما ليس في بلادنا من مناظر تلك الربى وتلك الغابات، ثمَّ اتخذت مكانًا غير بعيد من الموسيقى وغير بعيد من الطرقات التي يمر بها الرائحون والغادون. فمن أمٍّ وبنيها، ومن زوجٍ وزوجها، ومن غادةٍ هيفاءٍ تتأبط ذراع فتى مليح، وكثير من هؤلاء المستريضين يحملون أدوات يستخدمونها لطعامهم وشرابهم ولهوهم. وكأن هذه الطبيعة تسع في حيزها تلك المظاهر المختلفة التي يظهر الناس بها: فمن مظهر للبر إذ تجد أمًّا رءومًا تمتع صغارها بحاجاتهم من الرياضة واللعب، ومن شيخ وشيخة يشتركان معًا بين أحضان الطبيعة في جميل الذكريات وفي تحية الوداع لحياتهما الآفلة، ومن شاب وشابة يشتركان في المتاع بسكرة الحب والنسيب، ومن فاجر وفاجرة يعتزلان ناحية تحت خمائل الأشجار، ويتفننان في أساليب الخلاعة والفجور.

وكأن الكل لا يتناجون إلا همسًا في حضن تلك الغابة، حيث خيل إلي أن صفوف الأشجار الباسقات كأنها حراس شداد، وقفت خاشعة إجلالًا لهذه الطبيعة الواسعة الرحمة التي تفسح بين أحضانها مجالًا للبر والفجور.

أن الطبيعة وسعت كثيرًا، ورحمة الله وسعت كل شيء، ولكن عواطف الإنسان وعقله قيَّدتها تقاليد وشؤون، فما أضيق صدر الإنسان إزاء السعة الطبيعية والإلهية.

فكرت مليًا في معاني الحرية، وأخذت أنظر بين فهم الغربيين وفهم الشرقيين في تقدير الحياة، ثمَّ اعتراني تعب، فشعرت بحاجة الجسم إلى الراحة، فألقيت به على تلك الأرض المفروشة بالعشب الأخضر، وبما تساقط عليها من أوراق الشجر اليابسة، وحسبت أن جسمي قد حنَّ إلى أصله في الثرى، فوضعت صدري على أديم الأرض، ثمَّ بسطت ذراعي كأني أضم بهما تلك الأم الروم، وكأني كنت أقول إيه يا أمنا الأرض أن دمي ولحمي وعظمي وعصبي لفي حاجة إلى نفثة من تلك النفثات المنعشة التي تملئين بها ذرَّاتك، فتستحيل قوةً وحياةً، ثمَّ عدت فجلست وحدقت إلى ما كان يبدو من السحب من خلال تلك الظلال الوارفة، فوجدتها تتلبد رويدًا رويدًا، وأخذ القوم حينئذ يهيئون شؤونهم ليعودوا إلى حيث يلتجئون من غضب السماء إذا هي أمطرت، وأخذ الموسيقي المبتور يردد نغمات أخيرة خافتة، خلتها أنشودة الوداع لذلك الصفاء الذي متعت الطبيعة به القوم حينًا قليلًا …، ثمَّ تساقط الرذاذ …، ثمَّ تحوَّل مدرارًا.

ولقد كنت آخر من آب إلى مأواه في الفندق الذي أسكنه. ولما بلغته خلعت عني معطفي المبلل، ودخلت بهو المكان، فوجدت القوم ما بين عازف وراقص وسامر وصادح، فأيقنت أني في قوم يعلمون كيف يحيون حياة طيبة، ويستفيدون من أيام راحتهم سواء صحت الطبيعة أم غضبت.

حيَّا الله الحياة، وحيَّا الله قومًا يقدرون معنى الحياة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤