إلى الفتيات المبعوثات

 القاهرة في ٣ من أكتوبر سنة ١٩٢٥

… وكما أن الحاضر من الأيام يمثل لنا أحيانًا صورة من صور الماضي، فتكاد تحسبه الماضي دون أن يكونه، كذلك قد تمر بوجه السماء المشرقة سحابة، فتحسب أنك في فصل الغمام دون أن تكون فيه، وكذلك قد تذرف العيون دموعًا رطبةً، وقد يتهدج الصوت بنبرات متقطعة، فتحسبك محزونًا دون أن تكون كذلك حقًّا.

•••

تذكرنا الماضي البعيد حين ذهبنا إلى الثغر لنودع فتياتنا المبعوثات في سبيل العلم، فمثلت في خيالنا تلك الأيام إذ أرسلنا مع زملاء لنا في ذلك السبيل، وشهدنا صورة من تلك الصور التي شاهدناها بالأمس من مظاهر الدعوات الخالصة، والقبلات الطاهرة، والوداع الشديد، وسمعنا من الآباء مثل ما سمعنا بالأمس تلك الوصايا، يزود بها الأبناء والأبناء مطرقون احترامًا، وكأن رءوسهم تنخفض لما يلقى فيها من ذهب ثمين، وإن خلاصة ما شهدنا وسمعنا تنحصر في دائرة من المعاني، لا تخرج عن معنى الإيمان والشرف والوطن.

•••

لم أنس من ذكريات الأمس البعيد، شبح ذلك الشيخ الأسمر النحيف، يقدِّم عند الوداع لأحد أقربائه من زملائي كتاب دينه المقدس، فكأن آخر ما أوصاه به أن يذكر ربه، ولو نسى كل شيء، وقد رأيت بالأمس القريب آباء فتياتنا وأمهاتهن، يقدمون لهن المصاحف ويوصونهن بذكر الله، وما أجدر قلب الفتاة الطاهرة أن يعمره ذكر الله الكريم.

وقد سمعت بالأمس القريب، كما سمعت بالأمس البعيد، المودعين يذكرون فتياتنا بالخلق وبالشرف، وما أجدر نغمات الشرف، بأن تعمر أذن الفتاة، وما أجدر الشرف أن يذكره الذاكرون لمن نبتن في الشرق وعشن في نوره وآلامه.

وقد سمعت بالأمس القريب من الآباء كما سمعت بالأمس البعيد ذكر الوطن، وللوطن على أبنائه واجبات، وللوطن على أبنائه حقوق، ومرحى لمن يؤدي للوطن حقًّا، وهنيئًا لمن يقوم له بواجب.

•••

إن ذكر الله، ونجوى اسمه عند السفر وحيال النازحين أمر قديم قد عرفناه وألفناه، والوصية بحسن الخلق وكرم السيرة عند السفر، وحيال النازحين أمر قديم قد عرفناه وألفناه، وذكر الوطن والوصية بعزته ومجده عند السفر، وحيال النازحين أمر قديم قد عرفناه وألفناه. لكنا لم تألف قبل هذا الأمس القريب تلك الدموع الغالية ترسلها تلك العيون، وتلك الزفرات تفيض بها صدور يملؤها الحنين، لم نألف مرأى عرائس النيل المخدرات ينزحن في سبيل العلم والوطن.

إيه يا فتياتنا، إن الوطن المتحفز للحياة يرسل أبناءه في سبيله جيلًا بعد جيل، فتفنى الأجيال لرفعته، وهو خالد، ويرقى على مجهودات أبنائه التي تتكدس تحت قدميه وهو صاعد.

إيه يا بنات النيل سلام عليكن ما حفظتن للنيل عهده. وأديتن الأمانة وشرفتن الكنانة.

سلام كليكن ما قدَّرتن الشرف والوطن، وإن الوطن بمن فيه من فتيان وشيب فداء لشرف فتياته وأمهاته.

•••

لا تنسين تلك الأوراد التي قرأها، لكن الأمهات قبل أن تبرحن أرض مصر. ولا تحقرن تلك التمائم التي أوصاكن بها أمهاتكن الطيبات الصالحات، واتلون تلك الأدعية التي أوصيتن بتلاوتها!! أتدرين ماذا تفيد تلك الأوراد، ولأي شيء ترمز حقًّا تلك التمائم؟

إنها ستصرخ في آذانكن، بأنكن من قوم لهم ماضٍ وتقاليد وإن للماضي عليكن إن تطورنه، ولكن لا تحقرنه.

•••

يا فتياتنا المبعوثات من مصر ولخير مصر، إنكن ترسلن إلى بلاد طالما حاكى نساؤنا نساءها فيما لا ينفع، فحاكينهن أنتن فيما ينفع، وأقدمن إلينا بما يفيد.

قد نقنع منكن بالقليل من العلم الناضج الصافي، ولكن لا نرضى أن تقدمن إلينا إلا بالكرامة كلها، وبالشرف كله، فارجعن به كاملًا، أو متن في سبيله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤