فكر سجين

 القاهرة في ٢٨ من نوفمبر سنة ١٩٢٥

بعد يوم كد فيه الذهن ونصب، وبعد ليل قضيت بعضه في حوار عنيف، يثير في النفس همًّا، ويغريها بجهود. عدت إلى داري بنصيب من الحمَّى، لا أدري أهو عند أهل الطب ما يسمونه حمى الأوصاب، أم هو ضرب من ضروب الاضطراب؟ تلقيه إلى جنبات هذا الجسم أمواج في النفس، فتظهر ما في قرارها من عناصر الألم، والاشمئزاز، والثورة علي ما يغيظ ويوجع من حوادث هذا الوجود.

•••

عملت الحمَّى عملها من العبث براحتي، وصدت النوم عن جفون كانت في حاجة إلى أن تنطبق عليه. ولبعض أنواع الحمى نسيج من الذكريات والتفكيرات طالما تشابهت مع ألوان من الهذيان، دون أن تكون عناصرها حقًّا من الهذيان. لكنها أمور قد تكونت من آثار الحياة الواقعة، وتسربت إلى أعماق النفس، ثمَّ توارت في هذه الأعماق، واستكنت فيها زمنًا والعقل في غفلة عنها، ثمَّ طففت تحت تأثير عارض من الأعراض وكثيرًا ما تعين بعض أعراض الحمَّى علي ظهورها، وكثيرًا ما يكون القلم الدقيق أداة لاقتناصها.

•••

كان أول ما شعرت به طافيًا في النفس بعد غفوة من غفوات آخر الليل شبح الحرية، وصورة الحياة الحرة، واستدعت تلك الصورة معها ما قد يعتور الحرية من عقبات، تحول بينها وبين عشاقها وأنصارها، فظهرت أمامي تلك القيود التي تشد القلم وتثنيه عن الكتابة فيما يذهب إليه، ومثلت أمامي تلك العقد التي تعقد اللسان وتلويه دون قصده من الحديث فيما يريد، وصورت أمامي تلك الحواجز والاعتبارات التي طالما حالت بين الإنسان وبين ما ينزع إليه من أقوال وأعمال.

وما كان أفظعها من صور، وأنا في الليل وبين الوحدة والهم والألم!!

حوادث تمر علينا سراعًا والحياة تمضي سريعة، فوددت لو ظفرت بالأسباب التي تهيئ لي أن أسجل عن تلك الحوادث رأيًا. لكن ما في النفس من رأى يحتبس كما تحتبس الزفرات في عين المغيظ.

•••

تركت فراشي وأشعلت النور، وتحولت إلى حيث تكون الدواة والقرطاس، وجلست جلسة المتحفز للكتابة، وقلت في نفسي لن تثنيني قيود الوظائف، ولن تثنيني آراء الناس عن أن أكتب، وأن أتكلم، وأن أذكر ما يختلج في نفسي، وأن أظهر ما انطوى في الضمير، ثمَّ أخذت في الكتابة، وكان القلم مجدًا مسرعًا في كلمات تحوم حول ذلك المعنى: لم تقيدون الحرية ولا تحلونها ولا تشعرون بخيرها وبركاتها، وهى تسير في الأمم سير الحياة في النبت الزاهي، فتجعل في الوجود ابتسامًا؟

وبعد أن مضيت في الكتابة علي هذه النغمة عدت، فتذكرت أن للجرائد قيودًا، وأن للكتابة قيودًا، وأن ما أريد أن أكتبه قد يدخل في دائرة تلك القيود القاسية، فمزقت ما كتبت وعدت إلى سريري، ثمَّ قلت في نفسي: سأعقد اجتماعًا لأتكلم، وسأسير بلساني في المجالس، فأذكر ما أريد أن أذكر، وأبشر بما أريد أن أبشر به، وأدعو إلى ما أريد.

على أنني تذكرت أن في المجالس عيونًا طالما سعت بالناس إلى الشر، وطالما أساءت إلى البريئين من حيث لم يكونوا يحسبون لها حسابًا.

رباه، ولكن في النفس آراء محتبسة تريد أن تجد لها في الخارج متنفسًا، والخارج وا أسفاه تملؤه الحواجز والعقبات وتحده الحدود.

•••

ثم أخذت أحاسب نفسي، وأقول أهو حرص على مالي، أم هو حب في منصب، أم هو اندفاع في سبيل لذائد الدنيا، أم هو خضوع لحاجاتها وترهاتها، كل ذلك ألهانا عن أن نسير في الآفاق لتلمس الحياة الحرة حيث تكون.

ثم قلت في نفسي: إني أصبحت قادرًا على أن أباعد بيني وبين كل شيء، وأن أترك كل عزيز، وأباين هذه الدنيا، لكني تذكرت أربطة ذهبية ثقيلة تربط رجلي، وتجعلني أحن إلى حياتي التي عليها وفي سبيلها ألين.

•••

شعرت بضعفي الجسمي، وبالحرارة والاضطراب، وبالأفكار المحتبسة تضغط صدري، وكان الفجر على وشك أن يحين، وفي أفق السماء نجم متلألئ كأنه يشير إلى أن لا حرية في هذه الأرض، وكأني كنت أخاطبها قائلًا متى يا كواكب السماء وأنت تبدين لأبصارنا منيرة، ولآمالنا رموزًا لعوالم لا يشوبها الفساد، متى يا نجوم الليل تطلق نفوسنا السجينة من سجونها وقيودها ونعيش في عالم مرتفع حر شبيه بعالمك السماوي المنير؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤